مقالات

تلك القصائد التي تدخل التاريخ عنوة!/ صبحي حديدي

ت

هنالك قصائد تدخل التاريخ، عنوة إذا جاز القول، وتستقرّ عميقاً في الذائقة والذاكرة معاً، ليس بسبب من أنها صنعت منعطفاً فارقاً في تجربة شاعرها، وليس بالضرورة لأنها تتصف بقيمة فنية عالية واستثنائية؛ رغم أنّ عوامل كهذه قد تتوفر فيها أيضاً، ولكنها ليست العامل الأوّل الحاسم في تخليد القصيدة. على سبيل المثال، من نموذج عربي حديث، تلك كانت حال قصيدة محمود درويش «عابرون في كلام عابر»، 1988، التي أثارت ضجة عارمة في دولة الاحتلال الإسرائيلي، إلى درجة أنّ رئيس حكومة الكيان يومذاك، إسحق شامير، أشبعها شتماً في الكنيست. كذلك وصلت «هستيريا القصيدة»، حسب وصف درويش، إلى المحاكم الفرنسية حين رُفعت ضدّ الشاعر دعوى قضائية تتهمه بالعداء للسامية، انتهت إلى تبرئته في محكمة الاستئناف، بعد ثلاث سنوات.

ولعلّ أحد أهمّ عناصر هذه «القضية»، من وجهة نظري شخصياً، أنّ درويش لم يدرج القصيدة في مجموعته الشعرية اللاحقة «أرى ما أريد»، 1990، بل أضافها إلى كتاب ضمّ مجموعة من المقالات صدر عن توبقال، في المغرب. ولا يُراد من هذه الملاحظة أنّ درويش لم يكن راضياً تماماً عن القصيدة بالمعنى الفني، أو أنّ خياراته السياسية والوطنية والأخلاقية التي عكسها النصّ قد تبدّلت؛ بل سعى، في ظنّي، إلى التشديد على طابع سجالي جوهري حكم ولادة القصيدة خلال انتفاضة 1988، وعلى البُعد السياقي المحوري الذي يتصدّر أسباب ولادتها، وفي هذا الكثير من أسباب استقرارها العميق في التاريخ والذاكرة والذائقة معاً.

وأمّا المثال الثاني، من الأدب العالمي هذه المرّة، وهو مناسبة كتابة هذا العمود أيضاً؛ فهو قصيدة «1 أيلول، 1939» للشاعر الإنكليزي ــ الأمريكي الكبير و. هـ. أودن (1907 ـ 1973)؛ التي مرّت بالأمس الذكرى الثمانون لولادتها، وتقع في تسعة مقاطع، يمتدّ كلّ مقطع منها على 11 سطراً، وتبدأ هكذا:

أجلس في إحدى الحانات المشبوهة

في الشارع الثاني والخمسين

حائراً وخائفاً

إذْ تتلاشى الأماني الحصيفة

لعَقْدٍ ذميم لئيم:

أمواج من الغضب والخوف

تتدافع فوق المشعّ

والمعتم من أصقاع هذه الأرض،

مستحوذة على حيواتنا الخاصة؛

ورائحة الموت المغْفَلة

تنتهك ليل أيلول.

وكما يشير عنوانها، كُتبت القصيدة عشية اندلاع الحرب العالمية الثانية واجتياح بولندا، وسطورها تتبادل إشارات متقاطعة بين الخراب الروحي والمادّي الذي يحيق بأوروبا، الموشكة على الدخول في حرب طاحنة؛ والذهاب إلى ألمانيا، والفكر الذي أنجب مارتن لوثر وأدولف هتلر؛ واستذكار قدماء الإغريق في شخص المؤرّخ ثوسيديديس والسياسي الأثيني الأبرز بيركليس، ومسائل الديمقراطية المعاصرة؛ ثمّ العودة مجدداً إلى الحانة («المشبوهة» لأنها غالباً مقرّ المثليين في أمريكا)، وناطحات سحاب نيويورك، وحياد الغرب في الحرب الأهلية الإسبانية الذي عبّد الدروب أمام الفاشية؛ ثمّ إدانة شرور الإمبريالية، والتلفّظ بذلك السطر الإشكالي: «علينا أن نحبّ بعضنا البعض، أو نفنى»، الذي سوف يستخدمه ليندون جونسون في واحد من أفلام الدعاية لحملته في الانتخابات الرئاسية لعام 1964.

«1 أيلول، 1939» نُشرت في مجلة New Republic بتاريخ 18 تشرين الأول/أكتوبر، 1939؛ ثمّ أضافها أودن إلى مجموعته «زمن آخر»، 1940؛ لكنه سرعان ما دخل في صراع مع القصيدة، ابتدأ بحذف المقطع الذي احتوى عبارة المحبّة أو الفناء، ثمّ صارح الناقد لورنس ليرنر: «بيني وبينك أنا أمقت هذه القصيدة»، حسب رواية أفضل نقّاده إدوارد مندلسون. في أواسط الخمسينيات أخذ يرفض منح الإذن بإدراج القصيدة في أية مختارات من أشعاره، حتى أنه أجبر روبن سكيلتون، محرر مختارات بنغوين من شعر الثلاثينيات، على وضع الملاحطة التالية في المقدمة: «كان السيد و. هـ. أودن بالغ الكرم في السماح لي باستخدام نصوص أولى من خمس قصائد لا يقرّ بها اليوم، وهو يعتبر أنها نفاية، ويشعر بالخجل لأنه كتبها»! وإلى جانب القصيدة موضوع هذه السطور، تحفظ أودن على «عريضة»، و«شيوعي يخاطب آخرين» و«إلى كاتب في عيد ميلاده» و«إسبانيا»؛ وجميعها قصائد سياسية، غنيّ عن الإشارة.

مختارات بنغوين هذه صدرت في سنة 1964، ويومها لم يكن أودن أحد كبار شعراء اللغة الإنكليزية، فحسب؛ بل كان شاعر التجديد الأشدّ جسارة في الموضوعات والأشكال، وكان أيضاً الأكثر إشكالية في الانتقال من يسار ثلاثيني صارم الالتزام، إلى نقائض شتى ليبرالية تارة أو يمينية تارة أخرى. وكان سلوكاً طبيعياً، والحال هذه، ألا يقبل إدراج قصيدة مثل «1 أيلول، 1939» في أية مختارات شعرية له من دون أن يتحفظ على مضمونها، وربما شكلها أيضاً بالنظر إلى أنها تحاكي قصيدة الشاعر الإرلندي الكبير و. ب. ييتس الشهيرة «عيد الفصح، 1916».

للتاريخ مكائده في المقابل، فما تحفظ عليه الشاعر عادت إليه الذاكرة والذائقة، فقفزت قصيدة أودن إلى الأذهان بعد ساعات من هزّة 11/9 التي أودت بالبرجين في نيويورك، وأعادت نشرها نصف دزينة من الصحف الأمريكية الكبرى، ووسائل الإعلام المرئية والمسموعة. وليس عجيباً أنّ يعود إليها اليوم مواطن أودن الإنكليزي إيان سانسوم، مؤلف روايات الجريمة ذات الطابع التاريخي؛ في عمل طريف، غير نقدي البتة، بعنوان «1 ايلول، 1939: سيرة قصيدة»!

القدس العربي

الأول من سبتمبر 1939/ و. هـ. أودن

(ترجمة: تمام التلاوي)

أجلسُ في إحدَى الحانَاتِ الرّخيصَةِ

في الشّارعِ الثاني والخمسين

مُرتبِكاً وخائِفاً

فيما الأماني الجميلةُ تلفظُ أنْفاسَها

في هذا العِقدِ الحقيرِ الكئيبِ من السنوات..

أمواجٌ من الغضبِ والخوفِ تغطّي الفرح

وتطغى بظُلمتِها على مساحاتِ الأرض

مُقلِقةً حياتَنا السريّةَ،

فيما نفحةُ الموتِ البغيضةِ

تنتهِكُ ليلَ سبتمبر.

بإمكانِ الدّارسِ المدقِّقِ

اكتشافُ الجريمةِ كلِّها

منذ ،/لوثر،/ حتى يومِنا هذا

ذاك الذي قادَ الثقافةَ نحو الجنون.

انظر ماذا حدثَ في ،/لِينز،/،

أيُّ صنيعةٍ يافعةٍ هائلةٍ

ذلك الربُّ السَيكوباتيّ:

نعلم أنا والناس

كل ما يتعلّمُه أطفالُ المدارس،

إنَّ أولئكَ الذين يُمارَسُ عليهِم الشرُّ

سيفعلونَ الشرَّ بالمقابل..

لقد عرَفَ ،/ثوسيديدز،/ المنفيُّ

كلَّ ما يمكنُ أنْ يقولَهُ

خِطابٌ ما عن الديموقراطية

عرَفَ ماذا يفعلُ الديكتاتوريون

أولئكَ العجائزُ حثالةُ الناسِ

الذين يتحدثون إلى قبرٍ باردٍ،

لقد حلَّلَ كلَّ هذا في كتابِهِ:

التنويرَ الذي سيق بعيداً إلى غيرِ رجعةٍ

الألمَ الذي أدمَنَّاه

الإخفاقَ وسوءَ التدبير:

كل هذا يجب أنْ نعانِيهِ مرّةً أخرى.

في هذا الهواءِ الحِياديِّ

حيثُ ناطحاتُ السحابِ العمياءُ تستخدمُ

كاملَ ارتفاعاتِها كي تنادي

بقوّةِ الرجالِ المتَّحِدِين،

وبكلِّ لغةٍ تتدفّقُ بعجرفتِها

وبازدحامِ الأعذار:

من الذي يستطيعُ العيشَ طويلاً

في حلمٍ سعيد!

وهما يحدّقانِ خارجَ المرايا:

وجهُ الإمبريالية

والخلَلُ العالميّ..

الوجوهُ على امتدادِ البارِ

ملتصِقَةٌ بأيّامِها العاديّةِ:

الأضواءُ يجبُ ألاّ تنْطفئ

الموسيقى يجبُ أنْ تبقى دائماً

إن كلَّ المعاهداتِ تتآمرُ

لجعلِ هذا المَعقِلَ مُتخَيَّلاً بأثاثِ الوطن

مخافةَ أنْ نرى أينَ نحن

-كما يجبُ أنْ نفعل-

نحنُ الضائعونَ في غابةٍ مسكونةٍ بالجِنِّ

نحنُ الأطفالُ الخائفونَ من الليل

الذينَ لم يكونوا يوماً سعداءَ أو بصحةٍ جيّدةٍ.

المقاتلونَ همُ القمامةُ المعرَّضَةُ للريح

والأشخاصُ المُهِمُّون يصرخون.

ألم يكنْ بسيطاً جداً كأمنياتِنا

ما كتَبَهُ ،/نيجينسكي،/ المجنونُ

حولَ ،/دياغيلف،/

كان صحيحاً بالنسبةِ للقلوبِ الطبيعيّةِ

أنَّ الخلَلَ يتناسَلُ في عِظامِ

كلِّ رجُلٍ وكلِّ إمرأة

وأنَّ القبورَ لا يمكنُها أنْ تحتوِيه،

ما مِنْ عشقٍ كونيٍّ

ما لمْ يكُنْ عِشقاً وحيداً.

من الظلامِ المُحافظِ

إلى الحياةِ الأخلاقيَّةِ

يأتي قادَةُ التغييرِ البُلَهاء،

مُكرِّرِينَ عهودَهم الصباحيّةَ،

،/ سأبقى مخلصاً للزوجة،

سأركّزُ على عمَلي أكثر..،/،

هؤلاء الحكّامُ العاجزونَ يسهرون

ليستأنفوا لُعبَتَهم مُجبَرينَ عليها..

من يستطيع أن يحرّرَهم الآن،

من يستطيع إسماعَ الأصَمّ،

من يستطيع التحدّثَ إلى الغبيّ؟

كلُّ ما أملكه هو الصوت

لأفكِّكَ الكِذْبةَ المعقودَةَ،

الكِذبةَ الرومانطيقيّة

في عقلِ الرجُل الشهوانيّ في الشارع

وكِذبةَ السُّلْطة

وكِذبة الأبنيةِ وهي تتلمَّسُ طريقَها إلى السماء:

ليس ثمّةَ شيءٌ يماثلُ الدولةَ

وليس هنالك مِنْ كائنٍ يعيشُ وحيداً،

فالجوعُ لا يتركُ خياراً آخرَ

للمواطنِ أو لرجُلِ الشرطة،

فلْيُحِبّ أحدُنا الآخرَ أو فلْيَمُتْ.

الإقتتالُ تحتَ جنح الظلام

والأكاذيبُ الباعثةُ على الخَدَرِ في عالمِنَا هذا،

ما تزالُ تومضُ في كلِّ مكان.

فيما النِّقاطُ القويّةُ للضوء

التي تومِضُ حيثُ يكونُ العَدل

تُبدِّلُ رسَائِلَهُمْ:

ترى هل أقدِرُ أن أكونَ مثلَ هذهِ الرسائل

مكتُوباً بالشّهْوةِ والغُبَار

مُحاصَراً بذاتِ الإنكار

وبذاتِ اليأس،

إنّما،

مُشتَعِلاً بالّلهَبِ الأكِيد..

http://alqasidah.com/edish85.php?item=poem8

ملاحظة من المحرر: القصيدة من ترجمة تمام التلاوي، فيما المقطع الوارد في المقال غالبا من ترجمة صبحي حديدي ويظهر فارقا كبيرا بين المقطعين، ولم نعثر على ترجمة لهذه القصيدة في المختارات التي ترجمها سركون بولص

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى