الناس

التعليم في سوريا، مسيرة نحو القاع/ أيمن الشوفي

يتعثر التعليم في سوريا بظلال يلقَاها أمامه، ليصير حبيسها. فهي تارة ظلال النزاع المسلح على مناطق سيطرة النظام، أو تلك التي خرجت عن سيطرته، وتارة ظلال التجريب لمكونات عرقية باتت تعيش في مناطقٍ تُديرها ذاتياً، أو ظلال التجريب الإيديولوجي الصرف كتودد النظام من “الإسلام المعتدل”، وهذا ظهر في تجربة المناهج التعليمية المعدلة قبل عامين. وفي كلتا الحالتين، ليس التعليم سوى أحد مظاهر السلطة أينما حلت، وانعكاسٌ مرئي لعلاقتها مع مجتمعاتها المحلية، فيصير طلاب العلم في سوريا أمثلة حية على تبعية المجتمع لحوامل السياسة في تجلياتها البراغماتية الثقيلة، وعلى استخفاف السلطة بربط مدخلات ومخرجات العملية التعليمية مع احتياجات سوق العمل، ومراجعة حركة هذه المعادلة الزَلِقَة بصورة دورية.

المناهج الجديدة، السلطة تُرهق أطفالها

تغيرت المناهج الدراسية في سوريا عام 2017 تغيراً استحث معه شهية نقدها من وجهات متعددة، بعدما دخل كتاب التربية الدينية إلى منهاج الصف الأول. وفي هذا اصطيادٌ سياسي للطائفة السنية، ومحاولة لاستمالتها باعتبارها المكون الاجتماعي الأكبر في سوريا، ولعله يفسر أيضاً ظهور “امرأة محجّبة” على غلاف كتاب اللغة العربية للصف الثاني الثانوي العلمي. وهذا ليس عيب أغلفة الكتب الوحيد، بل تُقدم أغلفة كتب أخرى مثل التاريخ والجغرافيا للصف العاشر العلمي، والجغرافيا للصف السابع أمثلة ساطعة على قبح المظهر، وتسويق موفق لمزايا التشويه البصري الذي يلازم الطالب كلما توجه إلى كتابه، كما لم تراعِ بعض أغلفة كتب مناهج مرحلة التعليم الأساسي، ولاسيما للتلامذة بين 6 -12 سنة، الخصوصية العمرية لهذه الفئة التي تحتاج رسومات ملونة أكثر بساطة، وأقل إيحاء، وتحتاج أيضاً مناهجاً أقل إرهاقاً من التي تم تعديلها.

تغيرت المناهج الدراسية في سوريا عام 2017 فدخل كتاب التربية الدينية إلى منهاج الصف الأول، في اصطياد سياسي للطائفة السنية، ومحاولة لاستمالتها باعتبارها المكون الاجتماعي الأكبر في سوريا، ولعل ذلك يفسر أيضاً ظهور “امرأة محجّبة” على غلاف كتاب اللغة العربية للصف الثاني الثانوي العلمي..

ولعل الإرباك المتأتي من وراء ذلك يمكن قياسه الآن: في صعوبة المواد العلمية الموجهة إلى صفوف المرحلة الأولى (6-12 سنة)، وفي افتقار الأطفال إلى المقدرات الذاتية للتعامل مع التمارين التعليمية التي يتطلب إنجازها عادةً زمناً أطول من الحصص المدرسية المقررة. وهذا أدى إلى ازدهار ما يسمى “دروس المتابعة” أو “المدرسة بعد المدرسة” ومعها يلتصق الأطفال زمناً إضافياً بكتبهم، بعد انقضاء ساعات انتظامهم الطويلة في مدارسهم، حيث يحلون بمعية أساتذتهم التمارين المرهقة الطويلة، وغالباً ما تكون دروس المتابعة تلك دروساً جماعية لعدد غير محدد من الأطفال، وقد يصل سعر الساعة الواحدة منها إلى أكثر من ألف ليرة سورية في المدن، ونصف هذه القيمة في الريف. بحيث باتت المناهج الجديدة تصادر كامل وقت الطفل، وتسلبه فضائل اللعب مع أقرانه. فهل يريد مدير “المركز الوطني لتطوير المناهج التربويّة” منذ العام 2015، وهو الطبيب البيطري المعروف، تأسيسَ جيلٍ فقير المخيلة، كثير الخضوع، مستلب الإرادة؟ فتلك مجتمعة يمكن أن تكون المرامي غير المباشرة للمناهج الجديدة.

مناهج بلغةٍ معزولة، وأخرى تنتظر المعونات

اختارت سلطة الإدارة الذاتية في القامشلي (شمال شرق سوريا) تدريس منهاج المرحلة الابتدائية باللغة الكردية منذ عام 2015، باعتبار أنّ الأكراد هم المكون الاجتماعي الأكبر في تلك المنطقة، والتي أعلنت الحكم الذاتي في تشرين الثاني / نوفمبر عام 2013. وفي العام الماضي، أعلنت سلطة الحكم الذاتي إصدار منهاج تعليمي باللغة الكردية للمرحلة الإعدادية. وتلك المناهج لا تعترف بها الحكومة السورية، وتحاول جاهدةً إيجاد تفاهمات مع الإدارة الذاتية الكردية من دون جدوى، بعدما خرجت أغلب مدارس الريف في مناطق السلطة الذاتية الكردية عن الخدمة الفعلية خلال العام الماضي (نتيجة القيود المفروضة على التعليم بغير اللغة الكردية) بحيث لم تفلح زيادة عدد المدارس داخل المناطق القريبة التابعة للدولة السورية في حل المشكلة. فتلك الزيادة خلقت ااكتظاظاً مدرسياً كبيراً فاق في حالاتٍ كثيرة المئة تلميذ في الغرفة الصفيّة الواحدة.

ووصلت نسبة التسرّب المدرسي إلى أكثر من 70 في المئة في بعض المدن الشرقية. وحيال ذلك وجد الكثير من السكان المحليين في خيار النزوح الداخلي حلاً لمشكلة تعليم أبنائهم، أو إكمال تعليمهم المتوسط والجامعي.

غير أنّ اللغة ليست هي مشكلة التعليم في مناطق سيطرة المعارضة السورية، التي تخضع لتقلبات المزاج العسكري للفصائل المسلحة المسيطرة، وندرة أو وفرة المعونات الخارجية من بعض الدول المانحة، ومقدار الشفافية في طريقة إنفاقها. وبحسب تقارير المعارضة، فإن 800 ألف طالب سوري يدرسون في مناطق سيطرتهم، بينما لم يتمكن قرابة 100 ألف طالب من مواصلة تعليمهم الجامعي. وتبدو تجربة مناطق المعارضة في افتتاح بعض الكليات والمعاهد المتوسطة، خجولة يصعب البناء عليها للخروج بمؤشرات جادة تفيد ربط السياسة التعليمية باحتياجات سوق العمل. فتلك التجربة يعوزها الكادر التدريسي، والتمويل اللازم، والاستقرار السياسي في بيئة تتبدل فيها القوى المسيطرة بصورة دورية تتوافق والتفاهمات الدولية الرخوة حول سوريا وباقي المنطقة.

الطالب والمدرّس صورتان لاستفاضة الحرب

تضررت ربع مدارس سوريا بفعل آلة الحرب، بحيث باتت تحتاج إلى 100 مليون دولار لإعادة تأهيلها بحسب تصريحٍ سابق لوزير التربية والتعليم السوري، كما ترافق النزوح الداخلي باتجاه المناطق الآمنة إلى ازدياد استيعاب الصف الواحد في بعض المدارس ليصل إلى مئة طالب (المتوسط قبل عام 2011 نحو 35 طالب)، وهذا سببٌ في تردي جودة العملية التعليمية، يضاف إليه “اقتصار التعليم على التعليم” وانحسار الدور التربوي للمدرسة والمدرس، وهذا ليس نتيجة لزيادة عدد المدرسين المنتدبين (التدريس بالساعات) على حساب قلة عدد المدرسين المختصين، بل لأن النظام يريد “تربية” المجتمع من جديد بعدما ثار جزءٌ منه، وتذكيره بفرضية “الأمان المجتمعي” التي كانت سائدة قبل العام 2011. وأدوات تلك التربية ليست فقط الاتكاء على مناهج مؤدلجة، بل هي اليوم في التراخي المقصود للدور التربوي داخل المدارس، الذي سمح بانتشار العنف بين الطلاب بصورة غير مسبوقة، وجعل الكثير منهم يتحسرون على “هيبة” المدرسة المفقودة، حين كان الحدّ الأقصى للعنف بين الطلاب هو مشاجرة بالأيدي سرعان ما يتم فضّها من قبل الإدارة، لا كما هي عليه الآن.

تضررت ربع مدارس سوريا بفعل الحرب، بحيث باتت تحتاج إلى 100 مليون دولار لإعادة تأهيلها (بحسب تصريحٍ سابق لوزير التربية والتعليم السوري). كما ترافق النزوح الداخلي باتجاه المناطق الآمنة إلى ازدياد الكثافة في الصف الواحد في بعض المدارس ليصل إلى مئة طالب.

وخلال العام الماضي وقعت جريمتي قتل في أوساط طلاب المدارس. الأولى في قرية “الهيجانة” التابعة لريف دمشق عندما قتل طالب زميلته إثر مشاجرة بينهما، وأعمارهما لا تتجاوز 12 سنة، والثانية في بلدة “الرحيبة” التابعة لمنطقة القلمون الشرقي حيث قتلت مجموعة من طلاب المرحلة الثانوية (أعمارهم 16 سنة) زميلهم بصورة متعمدة، وقاموا بإخفاء جثته لاعتقادهم بأنه “نذير شؤم” عليهم، إضافة إلى المشاجرات المتكررة في معظم المدارس التي يستخدم فيها الطلاب أسلحة بيضاء تدخل وتخرج معهم إلى مدارسهم بلا رقابة، وكأن الأجهزة الإدارية في المدارس تغض النظر عن دخول تلك الأسلحة مع الطلاب، أو أنها فعلياً عاجزة عن ضبط المسألة.. هذا إن لم يكن ذلك العجز “مقصوداً”، بهدف التذكير ب”زمن الأمان” قبل 2011.

حتى أنّ مفهوم الأمان اتسع نطاقاً ليشمل الأمان المادي، الذي صار مفقوداً هو الآخر بعدما ارتفعت نفقات معيشة الطالب الجامعي إلى نحو 25 ألف ليرة (تعادل نصف مرتب موظف من الفئة الأولى)، وهذا رقم يعجز عن تأمينه أغلب الطلاّب، إضافة إلى تراجع جودة التعليم الجامعي بعدما هجر نحو 10 في المئة من أساتذة الجامعات البلاد خلال السنوات الماضية، بحيث لا تملك بعض الكليات سوى عضو هيئة تدريسية واحد يحمل شهادة الدكتوراه، في وقت تُقدر فيه وزارة التعليم العالي في سوريا قيمة الأضرار التي لحقت بمؤسساتها بنحو 20 مليون دولار.

السفير العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى