سياسة

ماذا يجري في مصر؟/ نهلة الشهال

ما يحدث الآن في مصر هو بالضرورة، وتعريفاً، أمرٌ بالغ الأهمية أيّاً تكن نتائجه المباشرة أو تلك اللاحقة، وبغض النظر عن مصائر الحدث نفسه. فالأهمية مرتبطة بمكانة البلد، ودوره قبل سائر الاعتبارات والممكِنات.

ليس محمد علي هو الأساس. قد يكون المقاول والممثل (من الدرجة الثالثة، أو ما يقال له ” الترسو”) نوعاً من المهرّج، أو قد يكون مدفوعاً من أحد أجهزة السلطة النافذة. ولكن هذا لا يغيّر من حقيقة أولى تتعلق بمقدار السخط الموجود في نفوس المصريين بسبب الأوضاع التي وصلت إلى حدود غير محتملة: الأوضاع المعيشية أولاً، والإذلال الذي يقبع فيه الناس – ومعهم بلدهم – ثانياً، وخنق كل مساحات التنفس إن لم نقل الحرية.. ظهر ذلك السخط في انفلات الهجوم على سلطة السيسي، بداية على مواقع التواصل الاجتماعي عند ظهور فيديوهات محمد علي، ثم في الشارع.

تتصارع المخابرات العامة المصرية مع المخابرات العسكرية التي تحمي السيسي؟ هذا هام وخطير، لأنه يُظهِر التصدع في أجهزة الدولة – وليس فحسب تنافساتها المعتادة، كما في كل مكان– حاول السيسي فور وصوله، أن يبني حوله ركيزة، فاختار تكوين زمرة من داخل الجيش باعتبارها بديلاً عن حزب لا وجود له لديه، وعن تصورات برنامجية مفتقَدة تماماً. وقرر أن يستند إلى رضا السعودية والإمارات عليه، باعتبارهما أصحاب مال وفير ويسير، وإلى رضا الأمريكان وبالطبع جارة مصر إسرائيل، باعتبارهما أصحاب النفوذ. وقد شاءت الصدف أن يكون ترامب هو الذي يتربع على الحكم في واشنطن، مما يسهل المهمة. وراح السيسي يلجأ في كل ما يفعل إلى بعبع “الإخوان”، مستنداً في ذلك إلى ما انكشف من سخفهم وخوائهم إبان فترة حكم الرئيس مرسي القصيرة، وإلى افتضاح أمرهم حيث هم لا يمتلكون إلا برنامجاً للأسلمة دون سائر ما تحتاجه مصر، أو تنتظره من تصورات اقتصادية واجتماعية وسياسية، ومستنداً إلى اتجاه بعض تياراتهم إلى العنف المسلح كرد على الانقلاب على حكمهم، وعلى مجزرة رابعة العدوية الرهيبة، وإلى صعود “داعش” ومجموعات مرتبطة به أو تشبهه، في مجمل المنطقة. بعبع الإخوان ومحاربة الإرهاب إذاً. وبالطبع، فإن الأرضية الضابطة لكل ذلك هي إشاعة مبدأ “الخشية من الأسوأ” الذي يحمل الناس المنهَكين على قبول السيء مهما كان، وعلى فقدان الثقة بأنفسهم وبإمكان تغيير أحوالهم، ولاسيما في منطقة كانت تنحدر إلى قاع من البشاعات التي يجري خلطها ببعضها البعض وإظهارها كما لو كانت حصيلة السعي لتغيير القائم: ليبيا المحاذية لمصر، حيث لم تبقَ دولة في العالم، كبيرة أو صغيرة إلا وتدخلت للعبث ببلاد كانت عوامل هشاشتها كثيرة. أسلحة للفرقاء المتقاتلين كلهم، وتسليح مجموعات وعصابات وقبائل وطامحين، آخرهم الجنرال حفتر الذي تدعمه مصر وفرنسا وربما سواهما، بينما وبالمقابل تشترك تلك البلدان في رعاية آلية يفترض بها تحقيق وحدة البلاد واستقرارها… سوريا القريبة هي الأخرى والتي دمرت ثلاثة أرباع مدنها وتشرد نصف شعبها، لأن ديكتاتورها الذي باشر عند أول نأمة قمعاً مجنوناً يفوق كل تصور (بمبررات تتشابه، وتلك التي يعتد بها السيسي)، احتمى حين لم يتمكن لوحده من إدارة الأمر بقوى إقليمية ودولية عظمى حضرت بسلاحها وجيوشها إلى الميدان بمواجهة معسكر آخر إقليمي ودولي كان يلعب بعنف في ذلك الميدان: انتهت الانتفاضة أو حركة الاعتراض بسرعة كبيرة، ولم تتمكن من بلورة تصوراتها (كان مفترضاً أن تَحدث)، وحل صراع دولي وإقليمي على سوريا… ليس غريباً على تاريخها كله. وأما فوضى العراق فمصدرها العدوانات العسكرية المتكررة التي ترقى إلى حروب عالمية على هذا البلد المهم استراتيجياً بسبب الجغرافيا والنفط، والتاريخ والتكوين أيضاً.. وهي فوضى وتردي، وإن دفعا العراقيين للترحم على ديكتاتورهم (الدموي بشكل بشع ومتصاعد، ولكن مع تذكر أنه كان “مستنيراً” على الأقل في مراحله الأولى، فوفّر التعليم والصحة والكهرباء والتنقل والسكن للناس)، فالمؤكد أن ذلك الاستحضار لماضٍ مفقود ليس حجة لدعوة الشعوب إلى ارتضاء مصائر قاتمة..

ماذا بعدُ من حجج لا يُجدي الربط بينها ووضعها في سلة واحدة، واعتبارها تؤشر إلى قانون اللاجدوى؟

ولماذا لا تُذكر أمثلة أقل سوءاً، إن لم نقل أنها إيجابية: تونس التي بدأت مسارها بنفس الوقت مع “يناير 2011” المصري، واليوم السودان الذي تجاوز بسلام مرحلة التغيير الأولى، كذلك الإرهاصات الجارية في الجزائر. بل لماذا لا تُذكر أمثلة واعدة من بلدان إفريقيّة، ليست عربية، ولكنها مجاورة لمصر، وأولها أثيوبيا؟

ومن يشيع أن التغيير يحصل دفعة واحدة وبفضل صيغة سحرية واضحة وبسيطة، هو في أحسن الأحوال غبي وفي أسوئها كاذب. التغيير عملية صراعية عنيفة، والبدء برفض العنف الدموي كواحد من أدواتها هو شرط من شروط النجاح بتحقيقها، في الظروف القائمة في بلادنا على الأقل.

ومن يشيع أن وراء كل تحرك، مهما كان، سؤال وحيد هو :”من يمسك بالخيوط السرية”، كذلك غبي في أحسن الأحوال أو جاهل أو كاذب. صحيح أن منطقتنا مركزية، وأن حجم المؤامرات عليها وفيها يفوق ما هو قائم في أي مكان آخر من العالم (وحتى في أمريكا اللاتينية!)، وصحيح أن من يتمكن من قطف ثمار أي تململ هو من كان الأكثر تنظيماً وتماسكاً.. وخصوصاً خصوصاً، وأن القمع المستمر للناس منذ نصف قرن على الأقل أدى إلى تدمير نواة أي مبادرة ناشئة – حتى لو خصّت تعليم أطفال الشوارع كما حدث في مصر، أو عقد أندية للقراءة، أو إيجاد حلول جماعية أهلية في الأحياء والقرى لمسائل حياتية ويومية – وإلى سحق وتصفية البدائل السياسية، بالقتل والسجن وأيضاً بالاحتواء: مجموعة تقرر دراسة الترشح للانتخابات العامة في مصر، وطرح برنامج عمل تُعتقل فوراً لأن “خطة الأمل” ممنوعة، عبد المنعم أبو الفتوح يقول كلاماً نقدياً على قناة تلفزيونية عالمية فيُعتقل فوراً، وينكل به على الرغم من تقدمه بالعمر، ومن سبع جلطات قلبية أصابته حتى الآن خلال أشهر اعتقاله الماضية، المستشار هشام جنينة الرئيس السابق للجهاز المركزي للمحاسبات يُعتقل لأنه قال أن هناك فساداً موثّقاً، وهذا لأنه تجرأ على الترشح للانتخابات بوجه السيسي كما الجنرال سامي عنان، وذاك.. إلى آخر اعتقالات شاذة بتهم من قبيل “نشر أخبار كاذبة” (في سوريا كان اسم ذلك “السعي لوهن عزيمة الأمة” أو شيء من هذا القبيل)..

هناك خلال هذا الأسبوع، بين يومي الجمعة الحالي والفائت، ما تجاوز ألفي معتقل بحسب المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، بعضهم لم يكن أصلاً مشاركاً في التظاهرات. منهم أساتذة كبار (قدَراً وسناً كحسن نافعة) ومنهم قادة وكوادر أحزاب مرخص لها.. ويوقَف الشبان ويجري تفتيش هواتفهم ويجبرون على الكشف عن حساباتهم في فيسبوك، ثم يعتقلون على آرائهم.. شيء لم يخترعه أحد من المستبدين الدمويين من قبل، ربما لأن وسائط التواصل الاجتماعي جديدة. شبان يختفون ويعودون للظهور جثثاً تعرضت للتعذيب والتصفية. شبان وشابات يُختطفون من الشارع بواسطة رجال أمن بزي مدني، ويُنقلون إلى جهات مجهولة بميكروباصات مدنية هي الأخرى– هو ما لحق خلال هذا الأسبوع بالمحامية والمناضلة ماهينور المصري وبسواها – شيء يذكّر بأجواء الممارسات التي اتبعها الجنرالات والكولونيلات في تشيلي والأرجنتين، وقبلهما هتلر وغوبلز.. شيء مستلهَم من قواعد عمل العصابات وليس الدول.

وهي عصابة! تضع يدها على كل موارد البلد وتجيّرها لصالحها: البترول الغاز الحديد الرخام الجص العقاقير الزراعة المضاربات العقارية النقل.. وحتى حليب الأطفال!

الفساد هنا ليس سرقات فحسب، ولا تربّح غير مشروع من السمسرة والتوسط والرشوة. الفساد هنا هو أحد آليات اشتغال المجموعة الحاكمة حتى تتمكن من الحكم، بتعميم الزبائنية على كل المستويات: هو بنيوي إذاً وليس ظرفي. والقمع هنا ليس عنفاً اعمى فحسب. بل هو اعتباط مُنظّم غايته إشاعة الخوف العام بحيث يستبطن كل من كان يفكر أو يقول أو يبادر أنه معرّض للتوقيف وللاعتقال الإداري الممدد (كما في حال الفلسطينيين في إسرائيل التي تحتلهم) أو لنيل أحكام أقلها سنوات من السجن. وقد أحكمت العصابة السيطرة على جهازي القضاء والإعلام بالإقالات، الاعتباطية المنظّمة هي الأخرى، والإحلالات المناسبة لمنع أي تفلّت.

.. الاحتمالات دائماً عديدة، و”الطريق يُشق ويَرتسم أثناء السير فيه”.. بحسب الشاعر الإسباني الأندلسي انطونيو ماشادو.

السفير العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى