مقالات

سوق الأدب العربيّ بالغرب 8 أجزاء/ عماد فؤاد مع بعض الردود

سوق الأدب العربيّ بالغرب: أهلاً في “جنّة البرفورمانس” (1)

يُعرّف كثير من الدّارسين “فنّ الأداء” أو performance art بأنّه “الوجود التّزامني بين فنّاني الأداء والجمهور”. أو بحسب تعريف التشكيلي المصري محسن عطية فإنّ “جوهر الأداء الحي هو الاتصال المباشر ودون وسيط بين المؤدّين والجمهور، الأمر الذي يتطلّب التواجد الجسدي المشترك. ووفقاً لهذا الرأي، يتم تنفيذ العروض دائماً من قبل شخص/شخوص ما أمام جمهور معيّن، يعترف بمشروعيته ضمن الأداء، وغالباً ما يمنح الجمهور بحضوره المعنى لهذا الأداء”.

وتُعرّف ويكيبيديا “شِعر الأداء” Performance poetry بأنّه الشِّعر الذي كُتب خصيصاً من أجل أدائه أمام جمهور بدلاً من توزيعه مطبوعاً. وقد ظهر مصطلح “شِعر الأداء” في وقت مبكّر من ثمانينيات القرن الماضي، حين وصفت الصحف الأميركية في عام 1982 عرضاً قدمته الشاعرة الأميركية ذات الأصول البولندية هدويج غورسكي Hedwig Gorski (مواليد 1949) مصحوباً بالموسيقى أمام الجمهور بأنه Performance poetry، ليجد المصطلح صدى واسعاً فيما بعد بين أجيال الشعراء والموسيقيين والتشكيليين والمسرحيين في أوروبا وأميركا واليابان، لكن المصطلح – لسبب ما – لم يجد صدى في عالمنا العربي.

اليوم، وبعد ما يزيد عن 35 عاماً على وجود هذا الفن في الغرب، وتجاهل الشّعراء العرب له طوال ثلاثة عقود، وصل فنّ “الأداء الشِّعري” إلى عالمنا العربي مؤخراً على أيدي مجموعة من شعراء العراق الشباب، الذين يقدّمون أنفسهم تحت اسم “ميليشيا الثقافة”، ويشاركون عروضهم الأدائية في عديد من المهرجانات في فرنسا، هذا البلد الأوروبي الذي تنتشر فيه ظاهرة شعر الأداء منذ ثلاثين عاماً أو يزيد. ويبدو أن شعراءنا العراقيين الجدد وجدوا ضالتهم في شعراء فرنسيين شباب، ممن يقدّمون هذه العروض بنجاح في المهرجانات الفرنسية، مثل جوليان دبريجون وسيدريك ليريبل وسيرجي بيه وجان ريميه، فوطّدوا علاقاتهم بهم، وبدأوا في تصوير قصائدهم بالفيديو عبر طرق بدائية وغير احترافية في حقول الألغام وفوق السيارات المتفحّمة، ونشرها عبر وسائل التواصل الاجتماعي باعتبارها الإنجاز الأحدث لشعراء العراق الجدد، لتتلقّفها مدونات الشعراء الفرنسيين وينشرونها باعتبارها امتداداً لمشروعهم في فن “الأداء الشِّعري”.

عالم الحرب

والملاحظ أن جميع قصائد هؤلاء الشعراء لا تخرج عن عالم الحرب بكلّ ما تحويه من مفردات واشتقاقات لُغوية، فكلّهم بلا استثناء يكتبون عن الجثث المتفحّمة والأعضاء المبتورة والرّؤوس المهشّمة والرّصاصات التي تخترق الصّدور، الدّماء والأشلاء والأطراف المحترقة والعمليات التفجيرية والقتل على الهوية والنزاعات العرقية بين سنّة وشيعة وغيرهما. وسيجد القارئ صعوبة فعلية في تمييز نصوص هؤلاء الشعراء وتفريقها عن بعضها البعض، حتى ليتساءل عن سر هذا المعجم المشترك الذي يهيلون منه ويكتبونه جميعاً بذات الطريقة، وهو ما يتجلّى في عناوين أعمالهم الصّادرة حتى الآن: “رؤوس بلا جثث.. جثث بلا رؤوس” لمحمد كريم (2019)، “جثّة في بيت داكن” لمازن المعموري (2017)، “نزهة بحزام ناسف” (2016) و”نتقاتل للتّسلية” (2019) لكاظم خنجر، “سأتذكّرُ أنّني كلب وأعضّك أيّها العالم” لعلي ذرب (2016).

استقبلت السّاحة الثّقافية العربية شعراء “ميليشيا الثقافة” منذ العام 2015 بالكثير من الاحتفاء والتّرحيب والتّشجيع، على الرغم من تزامن ظهورهم مع الكثير من الحروب والتّلاسن ووصلات الرّدح التي سجلتها الصحف بين أعضائها (وأحيل القارئ هنا إلى مقالة بعنوان “أكلان النّعل في الشّعر العراقي: علي ذرب أنموذجاً” للعراقي مبين الخشاني، موقع الإمبراطور 10 أكتوبر 2017). وسرعان ما نشبت الخلافات بين شعراء “ميليشيا الثقافة” العراقية، وتفرّعوا إلى ثلاث مجموعات، كلّ منها تتمسّك بتسمية نفسها بذات الاسم، “ميليشيا الثقافة”، وكأنّ العراق ينقصه المزيد من الميليشيات!

ولكن ها هي هذه الأصوات تُختصر اليوم إلى أصوات معدودة، أصبح لها الحضور القوي في مهرجانات فرنسا الشِّعرية، ومن هؤلاء محمد كريم وعلي ذرب ومازن المعموري وكاظم خنجر. وهناك آخرون تم إبعادهم عن الميليشيا رغم قولهم إنّهم المؤسسون الحقيقيّون للتجربة، وعلى رأسهم الشّاعران أحمد ضياء وعلي تاج الدين. وهذا الأخير قال في حوار نشرته صحيفة “الرأي اليوم” العراقية في مارس 2016: “تعدّ ميليشيا الثقافة واحدة من أهمّ الحركات الشّعريّة في الوطن العربي إن لم تكن أهمّها على الإطلاق، وأنا أحد مؤسّسيها، أقمتُها على كتفيّ، رغم كلّ الآلام والمصاعب في العراق وفقدان الأحبّة والأقارب ودراستي للماجستير، فقد جعلتُها الهمّ الأوّل في حياتي”. وفي الحوار ذاته يستطرد تاج الدين فيقول: “ليس كلّ ما في الإعلام صحيحاً وصادقاً، الميليشيا ما زالت واحدة، ولا قائد لها منذ بدء تكوينها وإلى الآن، كلّ ما في الأمر أن كاظم خنجر قد تجاوز لأكثر من مرّة على أعضاء الميليشيا بالسبّ والضّرب فطردناه – حسب قوانيننا الدّاخلية – لئلّا تتعرّض سمعة الميليشيا للقذف، ولأنّنا ميليشيا ثقافة لا عنف، ولأنّ الثّقافة هي تغيير في سلوك الفرد وترويض الوحش الذي بداخله، وجدنا جرّاء أعماله الشّنيعة بالإضافة إلى تجاوزاته على باقي النّصوص الشّعرية والسّردية وانتهاكه لها، أنه لا ينتمي للميليشيا فطردناه، فخرج لكنّه خرج ومعه مَن معه، وعند أوّل مشروع لهم ظهروا دون ذكرهم لـ”ميليشيا الثّقافة”، معنونين مشروعهم تحت عنوان “شعراء في طائرات حربيَّة” دلالة عدم الانتماء للميليشيا، بل عدم الاكتراث لها، وما تركيزهم على لفظة “ميليشيا الثّقافة” حالياً إلا عناداً، ومحاولةً لتهميش وإقصاء باقي الأعضاء (المؤسِّسين) لا غير، وإذا ما قَبِلَ الآخرون بقيادة كاظم، فنحنُ لا نقبل بقيادة الصديق الشاعر أحمد ضياء ولا أحمد يَقبلُ أيضاً، فميليشيا الثقافة هي إحدى تمظهرات بعد ما بعد الحداثة التي تبتعد – كثيراً – عن مقولات ما قبل الحداثة”.

توهّم الأهمية

دعك عزيزي القارئ من عبارة “تعدّ ميليشيا الثّقافة واحدة من أهمّ الحركات الشّعرية في الوطن العربي إن لم تكن أهمّها على الإطلاق”، والتي يطلقها تاج الدين – هكذا مطمئناً وواثقاً – بعد عام واحد فقط من ظهور جماعة “ميليشيا الثقافة” على السّاحة العراقية! فتوهّم الأهمية حقّ مشروع للجميع. ودعك كذلك من إشارته إلى طرد زميل آخر لهم بسبب “قلّة أدبه”، فمثل هذه الأمور تحدث في أكثر الحركات طليعيّة، ولا ضير من بعض التّشويق والإثارة والضجّة الإعلامية التي تصاحب ظهور مثل هذه الحركات المستقبلية في الفن، ولكني سأتوقف أمام عدد من فيديوهات شعراء هذه “الميليشيا”، لنرى إلى أي مدى استطاعوا أن يصوّروا قصائدهم التي تتناول واقع الحرب في عراق ما بعد 2003.

ولنبدأ مع كاظم خنجر في هذا الفيديو:

“لن يقتلك الجوع أيها السُنِّي

يمكنك أن تأكل من تلال الجثث الشِّيعية

لن يقتلك العطش أيها الشِّيعي

يمكنك أن تشرب من برك الدم السنِّية

لن يقتلك البرد أيها السُنِّي

يمكنك أن تلتحف جلود أطفال الشِّيعة

لن يقتلك الأرق أيها الشِّيعي

يمكنك أن تنام على رؤوس أطفال السنِّة

لن يقتلكما الضّجر أيها السنِّي والشِّيعي

يمكنكما أن تتسلّيا بذبحنا كلّ يوم

كلّ يوم”.

هذه الكلمات نسمعها فيما نرى الشّاعر يمسك بمقصّ يمزّق به ورقتين كتب عليهما “سنّي”.. “شيعي”، المقصّ الذي ستحلّ محلّه السّكاكين في فيديوهات أخرى للشّاعر. وفي فيديو آخر لكاظم خنجر، نشاهده وهو ينطلق من خلف الكاميرا قائلاً: “القتلة يخافون الموت.. لذا لا يمكنهم تصوره.. لا يمكنهم تصوره”، متظاهراً أمام المشاهد الفرنسي أنه يعدو في حقل ألغام!

وفي أحد الحوارات الصحافية معه، يتساءل كاظم خنجر مستنكراً: “من هو الجمهور؟”، ويردّ سريعاً: “في هذه البيئة الخراب، الجمهور لم يعد معادلاً ذوقياً للعمل الفني، الجمهور هنا ميت أيضاً وبالتالي ما فائدة حضوره، وفي الغالب أعمالنا تقوم على التحدّي والخطر، وهذا يمثل خطراً علينا بالدّرجة الأولى وعلى الجمهور بالدّرجة الثّانية لو كان حاضراً، ونحن لا نودّ مقاسمة هذه الخطورة مع أحدهم”. لن أعلّق هنا على عبارة صديقنا خنجر التي يقول فيها بتعالٍ عجيب إنّ “الجمهور لم يعد معادلاً ذوقياً للعمل الفنّي”، بل سأشير إلى ما يوحي به إلينا شاعرنا من خلال كلماته هذه بأنّ ما شاهدناه في هذه الفيديوهات هي أمور صعبة ومخاطر حقيقيّة خاضها مع رفاقه معرّضين أرواحهم للخطر، ناسياً أنّنا لم نتوقّف لحظة عن الضّحك من هول هذه المخاطر أثناء مشاهدتنا له ولرفاقه من شعراء الحداثة العراقية الجدد على الشاشات. ولو كان الفيديو الأخير لم يقنعك عزيزي القارئ بالمخاطر التي يتحدّث عنها شاعرنا، فماذا لو استمتعت بهذه القصيدة لمازن المعموري أو هذه لأحمد ضياء أو تلك لوسام علي؟

ويكتب مازن المعموري في 2016 تحت عنوان “النزعة الشِّعرية لهويّاتنا المتقاطعة”، متقمّصاً روح المنظِّر الرّسمي والأكاديمي لحركة “ميليشيا الثّقافة” قائلاً: “إن هذا التّوصيف للسلوك يحوّل الظّاهرة الشّعرية من مرحلة التأمّلات الرّومانسية للكتابة القديمة إلى مرحلة أكثر خصوصية هي: العمل، حيث تكون الكتابة لدى الشّعراء (مازن المعموري، كاظم خنجر، علي ذرب، محمد كريم) جهداً وعملاً للبحث والتّقصّي عن حقائق ومشاهدات، دون تأويل أو انتماء فكري أو حزبي وحتى ذاتي”؛ وعلى الرّغم عزيزي القارئ من أنّني مثلك أجد صعوبة في العثور على هذا النّوع من الشّعراء الذين يعملون ويبحثون دون أن تكون لديهم القدرة على التّأويل أو ليس لديهم انتماء فكري أو حزبي أو حتى ذاتي! بتعبير صديقنا مازن المعموري، والذي يضيف قائلاً: “وعند ذلك وجدنا أنفسنا في تجربة “ميليشيا الثقافة” نعمل على تبيان

الحدث من أجل الكشف عن هوياتنا المبطّنة بالأقنعة، وكأنّنا نمارس فعل التّماهي والتّواصل مع موجوداتنا اليوميّة دون ماكياج أو تلوين قبحنا، فنحن لا نستعير مفاهيم غربية مثل (الإنسانية) لنغطّي وحشيتنا الحقيقيّة، لأنّنا ببساطة نشبه ما نراه إلى حدّ اللعنة، هكذا هو وجهنا الحقيقي وهكذا هي نصوصنا الشّعرية”.

يعتبر مازن المعموري مفهوم الإنسانية مفهوماً غربياً! ومن ثم فهم في “ميليشيا الثّقافة” لا يستعيرون هذا المفهوم لتغطية وحشيّتهم الحقيقيّة، لكنّه لم يخبرنا شيئاً عن استعارتهم نهجاً فنياً كاملاً (شعر البرفورمانس) لتقديم قصائدهم من خلاله، وتقليدهم الأعمى لشعراء فرنسا المشهورين في هذا المجال، ويبدو أن مشكلة التّمييز بين مثل هذه الأشياء البسيطة أصيلة لدى مازن المعموري، والذي يقول في إحدى قصائده:

“لا أميّز بين طائرة ورقيّة وملعقة

لا أميّز بين صباح مشمس ويد مقطوعة

لا أميّز بين صفرة الخريف وخرطوم فيل

لا أميّز بين عصفور يحلّق ودبابة تعطس”.

في مارس 2018 يكتب مازن المعموري، منظِّراً من جديد، مقالاً تحت عنوان “كيف يكون الشّعر العربي مُعاصراً؟”، يقول فيه بعد تقديمه نبذة عن تاريخ ظهور مصطلح الشّعر الأدائي: “هنا بدأ الانتقال من النّص المكتوب إلى النّص المرئي، وأصبح هناك تحوّل جذري في نمط العلاقة بين الشّاعر والجمهور، بما أن التّجريب قائم هنا على أساس إنتاج تفاعل مع المحيط الاجتماعي وخلخلة النّمطية. ففي فرنسا كان سيرجي بيه و(بيبيو) والجيل الجديد من شعراء النّص المرئي والقصيدة الصوتية مثل جوليان دبريجون، وسدريك وآخرين، وفي العراق قدّم مازن المعموري وكاظم خنجر وعلي ذرب ومحمد كريم مفازات جديدة للعمل تحت فضاء الشّعر الأدائي والقصيدة المرئية منذ عام 2015”.

لا أعرف كيف طاوع القلم صاحبه وهو يضع نفسه وأصدقائه في مثل هذه المقارنة (وهي – ويا للمصادفة ويا للتّواضع – المرّة الثّانية التي يصطفي فيها مازن المعموري الأسماء ذاتها، واضعاً اسمه في المقدّمة). بودّي هنا لو أسأل شاعرنا: هل المفازات الجديدة التي حقّقتها هذه الأسماء في الشّعر العراقي الحديث تختصر نفسها في تصويرهم قصائدهم بالفيديو وهم يصرخون أو يتظاهرون بأنّهم يركضون في حقول الألغام؟ هل الحداثة لدى شعراء العراق الجدد اختصرت في الوقوف أمام كاميرا الفيديو وقد رتّب كلّ شيء قبل انطلاق كلمة “أكشن” ليصرخوا جميعاً أمام الكاميرا تعبيراً عن جنون الحرب؟ هل التّجديد أن أكتب شعراً سياسيّاً زاعقاً بحجّة أنّني من ضحايا الحرب؟ وهل تتحقّق الثّورة في الشّعر بأن تلتقط الصوّر لعدد من الشّعراء يرتدون سترات داعش البرتقالية داخل قفص حديدي في الصحراء؟!

كثير من الأسى

عزيزي الشّاعر الموجود حالياً في بغداد أو بابل أو النّجف، في كركوك أو الحلة أو الموصل، في أربيل أو العمارة أو البصرة، الحالم بالوصول بشعرك الحديث إلى مهرجانات الشّعر العالمية، المسألة في غاية البساطة، لن يكلّفك الأمر في الحقيقة سوى لفّة من الأسلاك الشّائكة، وزياً برتقاليّاً كالّذي تلبسه داعش لضحاياها قبل ذبحهم، وبعض الأوراق التي تمسكها بيدك وتقطّعها بسكين وأنت تقرأها صارخاً معنفاً أمام الكاميرا. ولا تقلق فيما يخصّ الكتابة، يمكنك أن تكتب أيّ شيء، وحين يسألك أحدهم عمّا تقوله قل له هذه “سوريالية” أو “تفكيكيّة” أو قصيدة “ما بعد بعد حداثية”. اكتب “أيّ كلام”، المهم أن تصرخ وتعنّف أمام الكاميرات كي تعجب الجمهور، عبّئ قصيدتك “الحداثيّة” بكلمات: جثث، أشلاء، دماء، قتلى، انتحاريّون، إرهابيّون، أميركان، دبّابات، طائرات، قنابل. ولا تنسى الرؤوس المقطوعة والأجسام المتفحّمة والبيوت المهدّمة والدّيكتاتور. اخلع نعليك وعضّ عليهما وأنتَ منحن على الأرض، فالفرنسيّون لُطفاء يحبّون هذه الأمور. غطّ جسمك العاري ووجهك بالوحل والطّين، أو اسرق علبة مشابك الغسيل من شرفة زوجتك وعلّقها في أذنيك وحاجبيك وشفتيك واقرأ قصيدتك بصوت مكتوم وبطريقة مضحكة أمام الأجانب كي يصفّقوا. اذهب إلى الجزّار واملأ كيساً كبيراً بالعظام المتبقّية من الذّبائح وارفعها أمام الجمهور وأنت تصرخ فيهم: “هل تعرفون ما هذا؟ هذا هو كلّ ما تبقّى من الشّرق، هذا هو ما تبقّى من الشّرق”.

وصدّقني تماماً حين أقول لك عزيزي الشّاعر الحالم بالوصول إلى العالميّة، أنّ ما سيحدث حينها هو أحد أمرين؛ فإمّا أن ترى الجمهور الأجنبيّ ينظر إليك مندهشاً وأنت تهرول وسط النّاس في الشّارع رافعاً عظمة بيدك، وإمّا سيظنّك أحد العابرين معتوهاً فيصفعك أمام الكاميرات. كلّ هذا جائز يا صديقي، لكن المؤكّد أنّنا نحن الجالسين نشاهدك من خلف شاشات السوشيال ميديا، ونعرف جيداً كيف نفرّق بين ما هو شِعر وما ليس بشِعر، لن نصفّق لك.. ولن نصفعك. فقط سنضحك. سنضحك.. ونحن نشعر تجاهك بكثير من الأسى.

سوق الأدب العربيّ بالغرب: كيف تستثمر دور الضحيّة؟ (2)

في عام 2013 احتفت الصّحف الأوروبية فجأةً بظهور موهبة شعرية جديدة في الدّنمارك، شاب صغير لا يزيد عمره عن تسعة عشر عاماً، لكنّه عاش “حياة مديدة” كما وصفته الصّحف آنذاك، فكان لصّاً ومقتحماً للبيوت، تاجراً وموزّعاً للمخدّرات. واليوم هو شاعر يعيش تحت حماية السّلطات الدّنماركية خوفاً ممّن يهدّدونه بالقتل!

اسمه يحيى حسن، ولد عام 1995 في مدينة “آرهوس” الدّنماركية لأسرة لاجئة من فلسطين. أصدر ديوانه الأوّل تحت عنوان “قصائد” في 800 نسخة فقط، وسرعان ما اشتعل الدّيوان مثل النّار في الحطب، فوزِّع منه في الدّنمارك وحدها أكثر من 100 ألف نسخة، في الوقت الذي لا يوزِّع فيه أشهر شعراء الدّنمارك أكثر من 5 آلاف نسخة فقط؛ لينتقل الشّاعر بسرعة من لغة إلى أخرى: السّويدية والألمانية والإنكليزية والفرنسية والهولندية وغيرها، ولتستمرّ ظاهرة يحيى حسن عامين أو ثلاثة، قبل أن يختفي عن الأنظار كشاعر، وتملأ أخباره صفحات الجريمة، في صراعه ممّن يتوعّدونه القتل.

الحكاية أعلاه لطيفة ومُسليّة، من النّوع الذي يُعجب الآذان ويُسيل لُعاب مستثمري الظّواهر والفلتات الإعلاميّة في عالم الأدب، وما أكثرهم وأكثرهنّ اليوم. فأنّ تقدّم ديواناً جديداً لـ”شاعر مهاجر” ينتقد أصوله وثقافته ويقف منها موقف المحارب لهو شيء جديد ومختلف، بل ومطلوب إعلامياً في بلد ترتفع فيه أصوات اليمين المتطرّف بقوّة ضدّ المهاجرين.

ولدى قراءتنا قصائد الشّاعر الصّغير سنلحظ أنّه لم يكتب إلّا معاناته الشّخصية كطفل تربّى في أحد غيتوهات اللاجئين العرب في الدّنمارك، فيحكي عن أب يسوط أطفاله الصّغار بالحزام حتى يبولوا أمامه؛ عن مراكز التّأهيل التي أُجبر على دخولها هرباً من عتمة الشّوارع التي ألقي فيها؛ عن العالم السّفلي والتفكّك الأُسرّي؛ عن فلسطين المحتلّة وقنوات الأخبار العربية التي لا تكفّ عن الصّياح في بيتهم ليلاً نهاراً. ويهاجم المجتمع الإسلامي في الدّنمارك بشدّة ويمدح صوت فيروز. يدافع عن اختياره طريق الجريمة في صباه باعتبارها ثأره من “عدم قدرته على تحديد هويّته”، ويسخر من جيل والديه اللاجئين إلى الغرب ليعيشوا “عالة” على المنح المالية المخصّصة للعاطلين عن العمل بحسب تعبيره. وكما هو متوقّع، اختلفت الآراء النّقدية حول قيمة ما يقدّمه الشّاعر. فبينما رأى بعضهم فيه موهبة شعرية شابّة تمتلك شجاعة التّمرّد، رأى بعضٌ آخر أنّ نشأته وتربيته المشوّهتين هما سبب تمرّده وانتقاده الدّائم لسلوكيّات اللاجئين العرب في الغرب.

التمسّك بالظّاهرة

أياً تكن الآراء النّقدية حول ما يكتبه يحيى حسن، يمكننا أن نقول إنّ الشّاب الذي يحيا الآن تحت حماية المخابرات الدّنماركية بعد عشرات التّهديدات التي وصلته بالقتل من الجالية العربية في الدّنمارك، قدّم للجميع شيئاً للتّمسّك به بوصفه “ظاهرة”، فالأحزاب اليمينيّة المتطرّفة، ليس في الدّنمارك وحدها، بل في عموم أوروبا، اعتبرته مثالاً يجب أن يُحتذى بين الشّباب المسلم من اللاجئين العرب، بينما اعتبرته الأحزاب اليساريّة دليلاً على فشل سياسة الاندماج التي تنتهجها العديد من الدول الغربية تجاه اللاجئين.

ـ هل ما سردته الآن له علاقة بالأدب في شيء؟

ـ نعم.

ـ كيف؟

في محاضرة ألقتها الشَّاعرة المصريّة إيمان مرسال في الجامعة الأميركيّة بالقاهرة في فبراير 2019، وتحت عنوان “ترجمة الشِّعر العربيّ الحديث إلى الإنكليزية، أسئلة عن السّياق السّياسيّ والجماليّ”، خلُصت إلى “هيمنة الكيتش السّياسي والثّقافي والنّسوي على معظم التّرجمات التي تتمّ منذ عقود للشِّعر العربيّ الحديث إلى اللغة الإنكليزيّة”. وكمثال على هيمنة الكيتش في هذه التّرجمات ما وجدته مرسال من سرعة ترجمة الفلسطيني أشرف فيّاض بعد سجنه في المملكة العربية السّعودية. وهي التّرجمة التي أثمرت عنها حملات الدّعم الإعلامية التي قامت بها مراكز حقوق الإنسان الغربية والعربية للدّفاع عن الشّاعر وتحريره من سجنه.

وفي الإطار نفسه الذي ترصده مرسال في محاضرتها، يمكننا أن نشير هنا أيضاً إلى ظروف ترجمة العديد من الأعمال الأدبيّة العربيّة الجديدة إلى لغات أخرى على خلفية محاكمات مماثلة، وربما كان آخرها ترجمة رواية “استخدام الحياة” للمصري أحمد ناجي لأكثر من لغة، على خلفيّة المحاكمة التي تعرّض لها في القاهرة، بعد نشره فصلاً من الرّواية في صحيفة “أخبار الأدب” في أغسطس 2014. والفارق بين حالة يحيى حسن في الدّنمارك وحالتي أشرف فيّاض في السّعودية وأحمد ناجي في مصر، أنّ الأوّل يكتب مباشرة في لغة أوروبيّة ويهاجم مجتمعه وثقافته فيما يكتب. أمّا الثّاني والثّالث فيكتبان باللغة العربية وسجنا على خلفيّة قضايا تخصّ “حريّة التّعبير”، وبالتّالي فلا بدّ من الدّفاع عنهما لتحريرهما من السّجن ودعمهما بترجمة ما سُجنا لأجله. وهنا نعود إلى محاضرة إيمان مرسال من جديد، والتي توضّح في بدايتها رؤيتها لمفهوم “الكيتش” فتقول: “هل أستخدم كلمة “كيتش” هنا كحكم قيمة؟ لا، إطلاقاً. الكيتش ليس توصيفاً سلبيّاً ولا إيجابيّاً للتّرجمة، إنّه وصف لنقطة انطلاق النّص في ترجمته وتقديمه واستهلاكه. بل أذهب بعيداً فأقول إنّ الكيتش قد يكون ضروريّاً. إنّه أحياناً الطّريقة الوحيدة لسماع صوت من لا يسمعهم أحد”.

لن تختلف الحال كثيراً ونحن ننظر اليوم إلى التّرجمات التي تتمّ للأدب العربيِّ الجديد إلى لغات أوروبيّة أخرى غير الإنكليزية، وعلى رأسها الفرنسيّة والألمانيّة والهولنديّة والإسبانيّة وغيرها، عمّا رصدته مرسال في محاضرتها القيّمة. فما زالت حركة ترجمة الأدب العربي عموماً، والشِّعر خصوصاً، تتمّ، في غالبها، وفق النّظرة التي تنظرها البلدان الأوروبية، على اختلافاتها، إلى بلدان العالم العربي. وساهمت المؤسّسات الثّقافية الأوروبية بدورها في تأكيد هذه النّظرة، خاصة بعد مرحلة الثّورات العربية، فعملت على دعم الكثير من الكُتَّاب العرب الشَّباب الذين فرّوا من بلدانهم بعد نشوب الحروب فيها، وتُرجمت أعمالهم بسرعة مشابهة لترجمة ديوان فيّاض ورواية ناجي. وحرصت دور النّشر الأوروبيّة على تقديم هذه الأسماء العربية الجديدة إلى قرَّائها باعتبارهم “كُتَّاباً مضطّهدين”، أو “خرجوا من حروب طاحنة”، أو “يتمتّعون بحماية إنسانية من قبل مؤسّسات أوروبية ما”. وعن هذه النّقطة تحديداً تقول مرسال في محاضرتها، تعليقاً على الطّريقة التي قُدِّم بها ديوان فيّاض إلى قرّائه بالإنكليزية: “إن طريقة تقديم فيّاض كانت كفيلة بوضعه في صورة الشّاعر السّجين المضطّهد، وإنّ هذه التّرجمة جاءت ليست لجماليات النّص الشّعري الذي يكتبه، بقدر ما جاءت ضمن إطار ’حالات طوارئ التّرجمة’”. وتعتبر مرسال أن التّرجمة ما دامت جاءت لهدف نبيل هو إنقاذ حياة الكاتب، فهي قد أدَّت مهمّة أنبل من مجرّد أن تكون ترجمة عادية.

اللهاث خلف الاعتراف الأشقر

هذه الحالة من تبنّي المؤسّسات الثّقافية الأوروبية للعديد من الأسماء الجديدة في عالم الأدب المكتوب باللغة العربية في أوروبا، دفعت الكثيرين من شعراء العالم العربي إلى التّعبير عن استيائهم من سياسة الكيل بمكيالين التي تنتهجها هذه المؤسّسات تجاه الشّعراء اللاجئين في أوروبا من ناحية، وبين الشّعراء الذين لا يزالون يعيشون في العالم العربي من ناحية أخرى. وهو ربما ما دفع الشّاعرة الفلسطينية الأردنيّة جمانة مصطفى إلى أن تكتب مقالاً لاذعاً تحت عنوان “أوروبا وصناعة الشّعراء: لا أعمال خيريّة في الأدب”، نشر في فبراير 2019 في موقع “رصيف 22″، وتقول فيه: “أن تكون شاعراً عربياً له جمهور أوروبي يعني أن تُرضي رغبة المثقف الأبيض بالشّفقة عليك وعلى حضارتك، وأن تستبكيه على بلادك ونسائك وأطفالك، وتروي له قصصاً يفتقدها ويرفضها عن الاغتصاب والتّعذيب الجنسيّ، قصصاً تثير فيه الغريزة والغثيان. فرق كبير بين أن يكون إعجابك بما قّدمته أوروبا من معارف وفنون للحضارة هو إعجاب الندّ اللغوي للندّ اللغوي، وبين أن يكون لهاثاً زاحفاً خلف الاعتراف الأشقر، خلف اللجوء أو الهجرة باسم الأدب. هنالك أيضاً فرق لا يجدر تجاهله بين أن تؤمن بالقيم الإنسانية التي تبنّتها أوروبا وطبقتها وبين افتعال التّوافق القيمي لغايات براغماتيّة مرحليّة”.

وتضيف جمانة مصطفى فتقول: “الذّنب ليس فقط ذنب مُدِّعي الكتابة ممّن انتقلوا من الأمِّية إلى كتابة الشِّعر في غمضة عين، الذّنب الأكبر يقع على عاتق الأوروبي العامل في الثّقافة، الذي هيّأ له غروره أنّه قادر على تقييم شعر اللغات الأخرى باستخدام أدوات غير لغويّة وغير نقديّة، مثل موضوع القصيدة وخلفية الكاتب السّياسية وتعرّضه للاضطهاد، بهذا يكون المثقف الأبيض قد صنع سوقاً للرّداءة الأدبية. هذه السّوق كحال كل الأسواق يحكمها قانون العرض والطلب، والطلب مرتفع على قصص الحروب وبالتالي زاد العرض”.

ثقافة الاستسهال

إلى هنا وكلّ شيء جيّد؛ يتكوّن المشهد أعلاه من أضلاع رئيسيّة ثلاثة، هي: الكاتب، النّاشر، والجمهور. أو بقول آخر: الصّانع، التّاجر، والمستهلك. وكلَّما كان المُنْتَج جديداً ومختلفاً ومثيراً، كلَّما احتاجته السّوق وأقبل عليه المستهلك وربحت الأضلاع الثّلاثة. إضافة إلى ما يمكن لنا أن نسمّيه هنا “ما يخالف المتوقَّع” في هذا المُنْتَج، كما في حالة يحيى حسن الذي يهاجم مجتمع المهاجرين الذي خرج منه، أو كأن تدعم مؤسّسة ثقافية أوروبية كاتبة عربية محجّبة لا لشيء إلا لأنها تكتب قصائد إيروتيكية مثلاً، أو أن تروّج لكاتب مسلم لمجرّد أنه مثلي الجنس، أو أن تتبنّى صوتاً أدبياً وتروّج له على اعتبار أنه ناجٍ من حرب طاحنة في بلده، أو غيرها من مثل هذه الأمور. هذه الأضلاع الرئيسية تتدخّل جميعها في تحديد رواج أو كساد المُنْتَج الثّقافي والأدبي المراد ترويجه، ولكن.. ودعونا نقف قليلاً مع “لكن” هذه..

حينما يبرع صانع في صنع شيء ما، ويجد أنّ التّاجر ليس متحمّساً كفاية له، بل يريد “بضاعة بمواصفات معيّنة” لينجح في بيعها، فعلى الصّانع أن يتحلّى بالمرونة ليكسب المزيد من تجارته، وهذا بالضّبط ما يحدث اليوم في المشهد الأدبي العربي الراهن، خاصّة في أوروبا، والتي فتحت مؤسّساتها الثّقافية أذرعها لاحتضان المواهب الجديدة وسط اللاجئين، فأمدّتهم بالدّعم المادي لمساندة مشاريعهم الثّقافية والأدبية، وأصبحنا نرى كُتَّاباً عرباً يُصدرون أعمالهم الأولى في اللغات الأوروبية التي لجؤوا إليها قبل حتى نشرها في لغتهم الأصليّة، أدرك الكثيرون من هؤلاء الكُتّاب الشّباب أن أوروبا لا زالت تتعامل معهم من خلال نظرتها المعتادة إلى ما هو “كيتش” لدى الكُتّاب اللاجئين، وأيقنوا أنّ عليهم استثمار هذا “الكيتش” لأطول فترة ممكنة ليبقوا تحت الأضواء الأوروبيّة، ومن ثمّ اندلعت الحروب في الكواليس الخلفيّة للمشهد بين الطّامعين في المنح والاستضافات والتّرجمات والمهرجانات والجوائز والإقامات الأدبيّة وغيرها.

وربما تشير جمانة مصطفى في مقالتها صراحة إلى الجانب المعتم وغير المرئي للدّعم المؤسّساتي الأوروبي الموجّه لكُتَّاب العالم العربي اللاجئين حديثاً إلى أوروبا فتقول: “تحت مسمّيات خيّرية مضيئة وملهمة مثل “مساعدة الأقليّات” و”التّشجيع على الاندماج” و”مساعدة اللاجئين” و”دعم المرأة والشّباب” تتجاوز المؤسّسات الأوروبية عمليّة البحث الحقيقي عن الأدب بأخذها وتبنّيها لما هو قريب منها من الجاليات العربية المقيمة في أوروبا، ثقافة الاستسهال هذه هي الامتداد المخزي لما مارسته المؤسّسات الأوروبية المموّلة للثّقافة والفنون في بلادنا حين فضّلت من يجيدون الكتابة بالإنكليزية والفرنسية، واستنطاق طلبات الدّعم بحشو كلمات مثل “تمكين المرأة” و”حقوق الإنسان” فيها، متجاوزة المبادرات المحليّة الأصيلة والمشاريع الحقيقيّة التي تشبه مجتمعاتها الأم”.

الاستكتاب

ما ذكرته جمانة مصطفى أعلاه ليس تكهّنات، أو افتراضات وهمية، فالمؤكّد لدينا أنّ المؤسّسات الثّقافية الأوروبية لم تبخل على هؤلاء الصُّناع والكُتّاب اللاجئين الجدد بتوجيههم صراحة إلى تحديد نوعية النّصوص المطلوب منهم التّركيز عليها وكتابتها. ففي رسالة إلكترونية وجّهتها إحدى هذه المؤسّسات الثّقافية الأوروبية الدّاعمة إلى عدد من الشّعراء العرب اللاجئين في مارس الماضي، تقول فيها صراحة إنهم يفضّلون النّصوص المكتوبة من قبل الفئات التّالية: ناشطون مستقلّون ذوو خلفيّة يساريّة، أو نسويّة، أو أناركيّة، أصحاب البشرة الملوّنة، المهاجرون، المرضى النفسيّون، السّجناء السّابقون، ذوو الميول الجنسيّة المثليّة و”مجتمع الميم”، الأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن 30 عاماً وبدأوا للتوّ الكتابة بطريقة احترافيّة، الكُتّاب الذين ربّما تعرّضوا للتّمييز بسبب كبر سنّهم، الأشخاص الذين يعيشون في بيوت المسنّين ويشاركون وجهة النظر السّياسية للمؤسّسة، الذين يعانون من حرمان بسبب الخلفيّة الطّبقيّة، الذين يعانون من حياة غير مستقرّة، الأقليّات والإثنيّات العرقية كالغجر، اليهود والمسلمون أو الذين ينتمون إلى هذه الثّقافات، الأشخاص الذين لا تلتزم أجسادهم بالمعايير (معاقون)، مرضى العصاب.. إلى آخره..

في الحقيقة، لم تدهشني هذه القائمة الطّويلة من الشّروط والتّفضيلات التي تُمليها المؤسّسة الثّقافية الأوروبيّة على الكُتّاب العرب اللاجئين والطّامعين في الحصول على دعمها المالي، ولا أعتقد أنها الأولى من نوعها ولن تكون الأخيرة كذلك. لكنّها لسبب ما جعلتني أنفر من فكرة “الاستكتاب”، من فكرة أن يُملي عليك أحد ما شروطاً ليقبل كتابتك.

لكن، وفي الآن نفسه، جعلتني هذه القائمة أفهم لماذا تفتح أحياناً ديواناً لشاعر عربي لاجئ في أوروبا، لتجد أنّ جميع قصائده كتبت “تحت الطلب” من قبل هذه المؤسّسة الأوروبية أو تلك، أو لإحياء هذه الذّكرى العالميّة أو تخليداً لذكرى فلان أو علّان. وجعلتني أفهم أكثر لماذا تتشبّث بعض الشّاعرات العربيّات بارتداء أزياء بلادهنّ التقليدية في كلّ مرّة يلقين نصوصهنّ فيها أمام الجمهور الأوروبي. كما فهمت أخيراً لماذا يظلّ كاتب عراقي ما في الغرب لأكثر من 25 عاماً، وكلّما تحدّث أمام جمهوره الأبيض يحكي تفاصيل تعذيبه من قبل “زبانية صدّام حسين”… أدركت حينها أن الكيتش في الأدب صار تجارة من لا علاقة لهم بالأدب، وكأنّ لسان حال هؤلاء جميعاً يقول: هاي أوروبا.. هل تريدون الكيتش؟.. ها هو الكيتش!

سوق الأدب العربيّ بالغرب… شهادات ورؤى (3)

حين بدأنا التّفكير في سلسلة مقالات “سوق الأدب العربي بالغرب”، والتي شرعنا بنشرها في “ضفّة ثالثة” يوم التّاسع من حزيران/ يونيو الماضي، لم يكن يشغلنا سوى سؤال واحد: لماذا تحوّل الوسط الثّقافي العربي بشكل عام إلى ساحة من المجاملات “المكشوفة” في العلن، وساحات للحروب والصّراعات “المخجلة” في الخفاء؟ ما كنّا نسمعه يُحكى علانية في المجالس والتّجمعات الثّقافية العربية، وجدناه يتبدَّل سريعاً فيما كنّا نقرأه لاحقاً مكتوباً في الصّحف والمنشورات والمنابر.

كأنّ المثقف العربي اليوم صار يخاف من مجرّد التّعبير عن رأيه صراحة، حتى ولو في أعمال كُتّاب آخرين، سواء أكانوا أكبر منه سناً أو من مجايليه أو من اللاحقين عليه. فما بالك لو كان عليه خوض معركة نضاليّة أو فكرية في سبيل مبادئه وأفكاره التي يؤمن بها؟ معركة كتلك التي خاضها طه حسين بعد عودته من فرنسا وإصداره عمله الرّائد “في الشِّعر الجاهلي” سنة 1926 مثلاً، أو معركة كالتي خاضها نجيب محفوظ بسبب روايته “أولاد حارتنا”، أو معارك أخرى خاضها آخرون مثل نصر حامد أبو زيد، أو فرج فوده، أو حيدر حيدر، وسواهم. ربّما يبرّر لنا ما سبق غياب ظاهرة “المعارك الثّقافية” عن حياتنا الأدبيّة العربيّة خلال العقود الستّة الأخيرة، تلك المعارك الفارقة، التي طالما وضعت مجتمعاتنا الشّرقية في لحظات حاسمة من تاريخها على محكّ التّنوير والتّطور بصدامها مع السّائد والرّاسخ.

حدث مؤخّراً أن ناقشت ناشراً صديقاً في مستوى بعض إصداراته الشِّعرية الأخيرة، وصارحته بعدم إعجابي ببعض هذه الكتابات. إلا أنّه – للمفاجأة – أبدى ثورة غير مبرّرة وهو يدافع عن أهمّية هؤلاء الشّعراء “جميعاً” من وجهة نظره، وقال إنّ كلّ من أصدر له يعتبره “شاعراً عظيماً”، بل.. و”أهمّ منه شخصياً”! حاولت أن أشرح للصّديق العزيز أنّ دفاعه عن “شعرائه” ربما يكون مفهوماً لي بوصفهم “كُتَّابه” الذين ينشر لهم، أمّا أن يصادر رأيي في ما يكتبونه فهو ما لم أجد له محلّاً من الإعراب في مناقشتنا تلك. ويمكننا أن نقيس على هذه الحادثة الكثير والكثير من مفردات واقعنا الثّقافي العربي الرّاهن، فلو تجرّأ كاتب عربي اليوم وقال عن عمل ما لكاتب آخر أنّه “لم يعجبه”، أو أنّه ببساطة “رديء”، ستكون أسرع التّهم التي يُقذف بها صاحب الرّأي أنّه حاقد غيور! هكذا، دون مناقشة حقيقيّة للعمل الأدبي محلّ النّقاش، وكأنّ المثقف العربي تعوّد على استخدام علكة “الرّأي والرّأي الآخر” إلى أن يقترب النّقد منه، هنا فقط يتخلّى عن لُطفه و”علكته” التّاريخية قائلاً لك من تحت أسنانه: أنت حاقد!

هذه الحالة من “التّواطؤ غير المعلن” لإبقاء كلّ شيء على حاله، والابتعاد قدر الإمكان عن “أعشاش الدّبابير” الكثيرة والمتشابكة في الحقيقة، وكأنّنا لسنا هنا، وكأنّنا “لا نسمع ولا نبصر ولا ننطق”: صُمٌّ.. عُميٌ.. بُكْم؛ هي التي دفعتنا اليوم إلى طرح بعض التّساؤلات المتعلّقة بـ”سوق ترجمة الأدب العربي في الغرب” على عدد من الكُتّاب العرب المقيمين في المهجر؛ أولاً لأنّهم مطّلعون أكثر من غيرهم على مجريات الأمور في بلدانهم التي يحيون فيها؛ وثانياً لاختبار مدى التّواطؤ الذي سيتفاعلون من خلاله مع أسئلتي المطروحة، ولدهشتي كانت المشاركات التي حصلت عليها ملفتة على أكثر من مستوى، ربّما يكون أهمّها على الإطلاق أنّها بيَّنت لي أن المثقف العربي لا يزال قادراً على التّعبير عن رأيه صراحة، لكن مع كثير من الدّبلوماسيّة والحذر. كما أثبتت لي أنّ الجميع يعرفون جيّداً ماذا يحدث خلف الكواليس، لأنّه – ببساطة – لم يعد هناك ما يمكن إخفاؤه في لحظتنا هذه.

أحمد قطليش: أزمة شخصيّة

كانت البداية – إذاً – من ردود الفعل التي وصلتنا بعد نشر الحلقتين الأولى والثانية من هذه السّلسلة، فتعليقاً على مقال “كيف تستثمر دور الضّحية”؟، كتب الشّاعر السّوري المقيم بألمانيا أحمد قطليش مداخلة مهمّة يشرح فيها موقفه من احتضان المؤسّسات الألمانية للكُتَّاب العرب اللاجئين، قال فيها:

“هذا الموضوع شغلني على مرحلتين، قبل انتقالي إلى ألمانيا حيث “بدعم من إحدى المؤسّسات” بدأت قراءة بحثية حول الشِّعر السّوري في الخارج، وتغيّرت اتّجاهات هذه القراءة مع انتقالي والبدء بتصنيفي كأحد هذه الأسماء. “الخراب” الذي أشارت إليه مقالتك أو كتبت عنه الشّاعرة جمانة مصطفى هو شيء واقع ولا يمكن نكرانه. وهو ليس بالأمر الجديد، بل تمّ

إحياؤه كما بعد كلّ “كارثة” في العالم وما يتبعها من موجة لجوء. منذ مدّة كنت أقرأ في كتاب جمع مقالات سركون بولص، ووقفت كثيراً عند هذه الجملة له: “بعد كلّ مقْتلة يجري تزيين الجثّة، كلّ نظرية، كلّ أسلوب في الرّؤيا يخرج إلى الملأ، يتسلّمه متعهدو الثّقافة، ليتمّ تحنيطه وعرضه”.

ويمكننا أن نرجع إلى الوراء أكثر – والكلام لا يزال على لسان قطليش – لهجرة الكُتّاب الألمان أيام النّازية والحالة المعاكسة من الهجوم عليهم، عندما اتهم كاتبٌ بقي في ألمانيا خلال سنوات الحكم النّازي مَن غادروا بأنهم يستمتعون بـ”كنبات وكراسي الهجرة الوثيرة”. ردّ ألفريد دوبلن: “أن ترحل من بلدٍ إلى آخر، أن تفقد كلّ ما تعرفه، كلّ ما كان قد غذّاك، أن تكون في ارتحالٍ دائم، وأن تعيش لسنواتٍ كمتسوّلٍ فيما أنت لا تزال قوياً، ولكنّك تعيش في المنفى، هذا ما تبدو عليه كنبتي وكرسيّي في المنفى”. فمع اتّفاقي التّام مع كلّ المصائب التي نراها الآن ويعكسها مقالك أو مقال جمانة مصطفى، وأهميته.. إلا أنّه يضع جميع التّجارب في سلّة واحدة. ولا أريد الدّفاع هنا عن نفسي كشخص يحاول أن يستمرّ في العمل والتجريب في الكتابة. بل محاولة النّظر بعمق إلى ما يحدث.

ما رآه أحمد قطليش إشكالياً في مقالتي بحسب تعبيره هو أنّها: “تلغي فكرة أنّ العديد من الكُتّاب هنا ما زالوا في حالة تجريب وبناء. ومحاكمتهم بعيداً عن نصوصهم، وبتعميم مُطلق، يوقف أيّ فرصة للنّظر إلى التّجارب بكونها قابلة للتّطوّر والحكم عليها فقط لظهورها بمنصّات معيّنة بعد ترجمتها. مع أنّ المنصّة أيّاً كانت هي حقّ للمجرّب وللعامل على مشروعه، والإشكالية تتحقّق عندما يتوقّف التّطور أو يستسلم الكاتب لتلك الشّروط من المؤسّسات. وما أظنّه أنّ النّص والوقت هما ما سيكشفان المتاجر بقضيته والعامل على مشروعه. ولكن السؤال هنا: هل على كلّ الكتاب الموجودين في المهجر ألا يصمتوا حيال هذه التّساؤلات المحقّة إلى أن تنتهي هذه الموجة كما انتهت سابقاتها؟ والتي أراها الآن في نهايتها بطبيعة الحال. هذه الحال دفعتني مؤخراً إلى الحذر أو الانعزال الجزئي لأفكّر “بالخلاص الفردي” الذي يصاحبه الخوف من كتابة أو نشر أيّ نصّ تكون فيه إشارة أو عمل على تلك القضايا المتعلّقة من جهتي بسورية”.

ويستطرد قطليش فيقول: “ولكن من جهة أخرى فإنّ التّجربة الذّاتية التي عصفت بها كلّ تلك الأحداث شكّلت ذاكرة زاخرة لا يمكن إقصاؤها! والخوف من العمل عليها يوّلد الخوف من ظهور نصّ مرتبك أو مشوّه. ومع معرفتي واتّفاقي بما جاء في المقال عدا عن التّعميم.. أشعر أيضاً أنّ هناك نوعاً من الأبوّة أو الوصاية التي أصبح يمارسها العديد من الكُتَّاب “الكبار” أو الفاعلين من الجيل السّابق، والذين نأوا بأنفسهم عن هذه المتاجرات أو أنّهم لم يكونوا ضمنها بطبيعة الحال، لكنّهم يحاكمون كلّ من كان “زمكانياً” فيها”.

ويعتبر الشّاعر قطليش في نهاية مداخلته أنّ “هذه الوصاية تعكس بشكل ما صورة نمطيّة بأنّ من لم يشارك أو من ينقد هو بطبيعة الحال أفضل إبداعياً أو متفوّق فقط بسبب قراره لا بسبب منتجه الإبداعي. هذا الموضوع سبَّب لي أزمة شخصيّة كبيرة، أظنّ أنّني أتجاوزها الآن بالانشغال بالتّجربة رغم حقول الألغام سواء في الوسط الأوروبي أو في المواجهة مع الدّاخل”.

ياسر عبد اللطيف: الكاتب المُحتال

الكاتب المصري المقيم في كندا ياسر عبد اللطيف فضّل أن يبدأ حديثه بتناول حال التّرجمات العربية الجديدة إلى اللغات الأوروبية قائلاً: “لم يقم اختيار المؤسّسات الأوروبية لأيّ نصوص عربية للتّرجمة، سواء أكانت شعراً أم نثراً، على معايير أدبيّة أو جماليّة قطّ. هو دائماً اختيار مُسيّس، والأسماء التي نجحت في فرض نفسها خارج هذه المعايير (محفوظ ومحمود درويش مثلاً) لم يخل حضورها في السّياق الأوروبي من ذلك التّسييس. نحن كعرب، لم نترجم بورخيس مثلاً لأنّه يميني محافظ، ولا ترجمته فرنسا لأنّه من بلد في العالم الثّالث كان يعاني من الدّيكتاتورية العسكرية، لكنّك لن تستطيع تخليص صورة محفوظ أو الطّيب صالح، أو درويش بالأكثر، من الدّلالة السّياسية، حين يُترجمون ويسوّقون فيما يعرف بـ “الغرب”. المعضلة في نظري تخصّ وضع اللغة العربية والنّظر إليها من قبل المركزيّة الأوروبيّة. اخترت نموذج بورخيس للمقارنة لأنّه أتى من بلد لا يختلف كثيراً عن بلدان العالم العربي في أوضاعه الاقتصادية، والسّياسية أيضاً ولو حتى وقت قريب. لكنّه لُغوياً ينتمي للحضارة الأوروبية ذاتها، وإن كانت ثقافته عالمية وفي جانب معتبر منها “عربية”، صدِّق أو لا تصدِّق”!

كذلك يعتبر عبد اللطيف أن الأمر لن يختلف حتى لو استعانت المؤسّسات الأوروبية بمتخصّصين في الثّقافة العربية لاختيار من يستحقّون التّرجمة، ويوضّح ذلك قائلاً: “لن يختلف الأمر، فالذي يحكم الموضوع لا من يقوم بالاختيار أو التّرجمة ولا حتى من ينشر ويسوّق، ولكنّه شيء أعمق من هذا ومتجذّر في تصوّر الأوروبيّين وأحفادهم في العالم الجديد حيال كلّ ما يخصّ العالم العربي”.

ويستطرد صاحب “قانون الوراثة” فيقول: “لن ألوم كاتباً لاجئاً اتّجه لدعم منظّمات معنيّة بالمساعدات الإنسانيّة وإغاثة الضّحايا ليعيش، حيث لا توجد أيّة موارد أخرى يتعيّش منها بما يستطيعه وما يحفظ كرامته ككاتب وكإنسان. لكن المضحك هو تحوّل بعض اللاجئين إلى كُتّاب فجأة وعلى حين غرّة في المنفى، إذ يصبح ذلك بالنّسبة لهم أسهل سبيل للتعيِّش من مثل تلك المنح حين تنسد كلّ الطّرق الأخرى أو تصعب عليهم، وهذا الكاتب المحتال أيضاً لن ألومه، والعتب يقع على من يصدقه، فالقانون نفسه لا يحمي المغفّلين”!

نصر جميل شعث: اندماج نفعي

الشّاعر الفلسطيني المقيم بالنّرويج نصر جميل شعث اعتبر بداية أنّ: “الدّول الأوروبيّة ليست بيوتاً للشّعر، وهي لا تصنع الشّعراء العرب، كما قال شاعر ومترجم يقيم في إحداها. وهي ليست أعناقاً، وإن بدت لبعضهم، يُعلّقون فيها “عقودهم الفريدة” بنظرهم”.

ويواصل صاحب “خلعوا الليل من الشّجرة” فيقول: “صحيح أن الاحترام يصبغ وجود الكاتب في هذه البلاد الأوروبية، ويتيح له الفرص، لكن في متون هذه الممكنات ثمّة مصطلح المواطن أو لنقل المقيم الصّالح؛ وهو من يدفع الضّرائب للدّولة، أي من يكافح ليتجّنب أن يكون عبئاً عليها. المواطن الصّالح كمطلب رسميّ سيكون هو الأقوى، في خطاب الواقع المعيش الجديد، من نغمة “مَن يقدّم نفسه على أنّه ضحيّة” أجبرته الظّروف في بلاده على الهجرة واللجوء وطلب الحماية. نعم، لقد اضطرت الظّروفُ أصحابها لأن يدفعوا ضريبة معنوية. لكن الاعتبارات الإنسانية والسّياسية المصاحبة لبداية وجود الغريب على أراض جديدة وسعيدة أمنيّاً، لا تصمد طويلاً أمام واجب الاندماج وتحقيق المطلب السّابق. ثمّة من أعيتهم تحدّياتُ الاندماج فتحايلوا عليها بمزاعم اندماجٍ نفعيّ من نوع آخر؛ عبر ترويج أنفسهم في بلاد اللجوء كمنشدين أو كمؤدّين لكمّية ثقيلة من كلمات المعجم الحربي شارحين قضايا البلاد هناك؛ بطريقةٍ يصادق عليها ما تقوله السّرديات وما تبثّه الفضائيّات من ويلات. نماذج وجدت سهلاً ونافعاً أن تكونَ مجرد ضرورة بمحاذاة الأكَمَات التي سُلِب غموضُها وغمغماتها؛ تلك التي تجري من ورائها ومن أمامها وفي أوساطها الدّماء والأهوال. بل ثمّة منهم من كان يُجرّب الإقامة في بلاد جديدة قبل الأحداث الرّهيبة، ورفضَ حُجته قانون البلاد السعيدة؛ إلى أن قدّم له تدهور الأوضاع في بلده الثّانية التّعيسة، لاحقاً، الفرصة كمنطلق، وعلى طبق من ذهب. لقد حقّقت له الكتابة عن دمار البلاد النّجاة، واستمرّ على هذا النّحو، وتخصّص في ذلك. ولئلّا يظنّ البعض أّننا نغضّ النّظر، ونحن نتحدّث في هموم شعريّة، عن قصص الهاربين من معاناتهم التي لا تحتويها لغة – وقصص العاديّين أندى من قصصنا – نقول: إنّ الحُبّ، الخوف، الحسرة، وجملة الآلام في بلداننا خليقةٌ بأن تبرز صدق كَمّ المشاعر وألم المفارقة والانكسارات، صدق وحقيقة من يكتب عن الأمّ ليس في عيدها وحسب، بل وفي سائر الأيام”.

ويتناول شعث مسألة الكم والكيف قائلاً: “لكن ثمّة أسماء تقدّم الكمّ على الكيف والجلبة على تقطير عصارة الألم، لاستدرار تعاطف الآخر وأخذ المنح منه. محاكمة كثير من تلك الأسماء فنّيّاً من قبل قارئ عربيّ (هي لا تكتب له ولكن للمترجم بالمناسبة) ستؤكّد شقاءَ كلّ مُؤدّ على حدة بموضوعه، كما ستظهر، في الوقت ذاته، نقصاً في التّغذية الجمالية داخل نصوص الضّرورة. لا طريقة للّتحايل على قارئ يمجّ شقاء بعض النّماذج بأوهام أنّها خلّاقة على نحو غير مسبوق”.

وداد نبي: سوق التّرجمة

من ناحية أخرى تشتبك الشّاعرة السّورية المقيمة في ألمانيا وداد نبي في الحوار قائلة: “أعتقد أن قسماً كبيراً من هذه التّرجمات ذاهب إلى مكان خطأ ومصيره النّسيان. لا يمكنها أن تكون صالحة لأكثر من بضعة أعوام، ستنتهي فيها هذه الموجة من الاهتمام الأوروبي باللجوء والحروب والثّورات”. لكن نبي سرعان ما تستطرد فتقول: “دعنا لا ننسى أنّ هذه الإشكالية قديمة في التّرجمة الأوروبيّة للأدب العربي والشّرق أوسطي عموماً. النّظرة الأوروبية قديماً كانت تركّز على ترجمة الأدب الذي يلبّي الرّؤية الغربيّة الاستشراقيّة عن الشّرق والعرب: مجتمع الحريم وقضايا الجنس والدّين، هذا ما كان يقوم الغرب عبر عشرات السّنين بترجمته، ونادراً ما كانت تتمّ ترجمة الأدب الخارج عن هذا السّياق، بالاعتماد على حسّ المغامرة لدى المترجم القارئ حقاً. كما أن معظم التّرجمات كانت لأسماء مكرّسة لم تقدّم جديداً سوى كونها في أماكن ومناصب صحافية وثقافية كبيرة في العالم العربي”.

وتضيف نبي: “علماً أن تلك الأسماء نفسها لم تكن تسمح في منابرها للأصوات الجديدة بالظّهور، فأنا وجيلي عانينا كثيراً حتى نجد مساحة صغيرة في قسم الثّقافة بالصّحافة العربية التي كانت تقدّم المكرّس فقط. اليوم بعد 2011 تغيّرت الرّؤية، وأصبح المطلوب هو رؤية مفردات الحرب واللجوء والموت في الأدب، ليكون له فرصة قوية لدخول ساحة التّرجمة. الغرب يريد معرفة ما يحدث هناك، لا يصدّقون الأخبار، ولديهم تصوّر أنّ الأدب ربّما ينجح في نقل هذه الصّورة. لكن الصّورة واحدة حول موضوع واحد ومكرّر، الحرب والهروب واللاجئين. هذا كل ما هنالك، وإذا كان نصّ ما يحقّق “هذه الشّروط” فسيدخل “سوق التّرجمة”، دون اعتبارات جودة النّص وقوّته وأصالته”.

ومن خلال تجربتها الخاصّة تؤكّد وداد نبي: “قسم كبير ممن يقومون بالتّرجمات سواء أكانوا دور نشر أو مترجمين، لا يهتمون بجودة النّص بمقدار اهتمامهم بموضوعه، فذات مرّة طُلب مني ترشيح اسم شاعرة لفعالية ما، فقمت بترشيح اسم الشّاعرة السّورية مها بكر، لكنّهم اعتذروا لأنّهم ببساطة يريدون شخصاً (خارجاً من سورية أثناء الحرب)، هناك مواصفات مطلوبة للأسف آخرها قيمة المنتج الأدبي”.

خلف علي الخلف: تجارة الرّداءة الأدبيّة

الشّاعر والكاتب السّوري المقيم بالسّويد خلف علي الخلف بدأ اشتباكه معنا من نقطة غياب المعايير الأوروبية التي كان يظنّها صارمة، فيقول: “رثاثة النّهج والآليّات المعتمدة أو القائمة واقعياً في تقديم الثّقافة العربية لنفسها داخلياً، والتي تقوم على غياب معايير الجودة، المحسوبيّات، تشبيك العلاقات وأساليب أخرى يخجل المرء من ذكرها كتابة، جعلتنا نتوهّم أن دول العالم الأخرى، وخصوصاً دول الغرب المتقدّم، لديها معايير صارمة ومهنية في قطاع الثّقافة، لكن هذا كان مجرد توهّم. ما فعلته المؤسّسات الثّقافية الأوروبية في قطاع ترجمة الأدب المكتوب بالعربية إلى اللغات الأوروبية، جرّ قطاع الثّقافة إلى نموذج عمل منظمات الـ NGO’s الأوروبية، وهي في الغالب الأعم معدومة النتائج الحقيقيّة”.

ويشرح الخلف أضلاع الأزمة فيقول: “قامت المؤسّسات الثّقافية الأوروبية باللهاث لاقتناص حصّة من التّمويل الوافر نسبياً، والذي خصّصته الحكومات والمنظّمات الدّولية لدعم “ثقافة” الرّبيع العربي، فتأسّست منظّمات تقوم أهدافها على النّقاط التّالية: 1- توفير رواتب مجزية للعاملين الأوروبيين في أيّ مشروع ثقافي يتعلّق بالرّبيع العربي. 2- الاستعجال، فقد أصبح مصطلح Deadline أكثر مصطلح شائع في قطاع الثقافة. 3- البحث عن منفّذين في الجانب الآخر وفقاً لعلاقات الأوروبيّين القائمة مع الأشخاص في المنطقة دون أي معيار، فلا يشترط أن يكون القائمون على المشروع من الوسط الإبداعي أو لديهم خبرة في إدارة النّشاطات الإبداعية، بل قد يكونون لاعبي سيرك، أو لمجرّد أنهم يشتركون مع مدير المؤسّسة الأوروبية في هواية تربية السّلاحف، أو يجيدون الطّبخ اللذيذ! لكن الأهم أنّهم “تحت الطّلب” ولا يعرفون كلمة “لا”. 4- غياب الرّقابة والمحاسبة. 5- إعداد أوراق صرفية سليمة. 6- وبالتّالي غياب النتائج. هذا النّمط عمّمته المنظّمات الأوروبيّة التي تعمل في دعم التّنمية المجتمعيّة في دولنا المنكوبة. والثّقافة لم تكن استثناء، فتُرجمت قصائد وكتب، وأُعطيت منح لأشخاص لا تجد أسماءهم إلا في هذه المشاريع، وبالطّبع غالبها منتج رديء أو ذو جودة منخفضة. هذا دون أن نتحدّث عن الاشتراطات المعلنة والخفية لتلك المؤسّسات، والتي ذكرها كُتّاب آخرون، وأستطيع تلخيصها بأن المؤسّسات الثّقافية الأوروبية تبحث عن أيّ شيء يكتبه “معاقون” لترجمته، ومشكلة الكُتَّاب العرب الجيِّدين أنّهم أسوياء. إضافة لأولويّة الكاتب “الأقلوي” وفقاً لمعاييرهم أيضاً والتي تُقصي الكُتَّاب من الخلفيّات الأقلويّة الذين لا يقدّمون أنفسهم كذلك، بينما أكثريّة الكُتّاب هم من الأكثريات، وهذا قانون طبيعي تعانده المؤسّسات الأوروبيّة. إذاً أستطيع القول بضمير مرتاح فاتحاً عينيّ أن النّسبة الأعمّ ممّا ترجمته هذه المؤسّسات لا يصلح حتى للفّ سندويشات الفلافل”.

مستنقع العلاقات العامّة

تتّفق الشَّاعرة السّورية وداد نبي مع الكاتب المصري ياسر عبد اللطيف في أن الاستعانة بمتخصّصين في الثّقافة العربية لاختيار الأفضل للتّرجمة لن يجدي نفعاً، وتضيف: “لا أجد هذا حلاً حقيقياً على المدى البعيد. فالمترجمون مثلاً متخصّصون، لكن قسماً كبيراً منهم – وتحديداً في ألمانيا – ليس لديهم إطّلاع على الأدب العربي الجديد، لديهم معرفة بالأجيال الأدبيّة الأكبر سنّاً وتجربة، وهذا مؤسف بالطّبع، الحل في رأيي هو العمل المؤسّساتي، ويجب أن يبدأ من العالم العربي، ألا ننتظر اقتراحات واختيارات الأوروبيين لأدبنا، بل أن تكون هناك مؤسّسات مبادرة وفاعلة في هذا المجال، أن تكون هناك وكالات أدبيّة عربية تعمل بهذا الإطار أيضاً، حينها يمكن أن نقول إنّ عمل المؤسّسات المتخصّصة في العالم العربي، مع المؤسّسات ودور النّشر ووكالات الأدب الأوروبية، يمكنها أن تنتج أدباً حقيقياً ومغايراً عن الصّورة الضّعيفة والهشّة المقدّمة اليوم للأدب المكتوب باللغة العربية”.

كما تؤكّد نبي ما سبق أن أشار إليه عبد اللطيف من تحوّل كثير من اللاجئين إلى كُتّاب فجأة بعد خروجهم إلى بلدان لجوئهم، فتقول: “ألتقي أحياناً بأشخاص تقدّمهم المؤسّسات الألمانية على أنّهم شعراء معروفون في العالم العربي، ببحث صغير عن هؤلاء تجد أنّهم قبل لجوئهم كانوا بعيدين تماماً عن الأدب؛ أطباء، مهندسين، موسيقييّن، أو ناشطين في الثّورات، لكن موجة الاهتمام الإعلامي دفعتهم ليتبنّوا الأدب أيضاً كمهنة. الأمر مضحك طبعاً، لكن العبء يقع على كاهل المؤسّسات التي تترجم وتنشر كلّ ما يقدّم لها دون البحث عن قيمة المنتج الأدبي. لكن كما أشرت في البداية، هناك دائماً أشخاص عديمو الموهبة يستغلّون مناصبهم أو علاقاتهم ليترجموا إلى عدد أكبر من اللغات، والأمر ليس محصوراً اليوم فقط بموجة اللجوء إلى أوروبا، في كل مرحلة تاريخية كانت توجد هذه الفئات، فقط تختلف مبرراتها وظروفها من مرحلة تاريخية إلى أخرى”.

وتختم وداد نبي مداخلتها قائلة: “مشكلة الثّقافة العربية أنها غارقة في مستنقع قديم، نحتاج لتغيير بنية وآليات عمل هذه الثّقافة ككل، وليس فقط مشكلة التّرجمات التي تذهب لنصوص لا قيمة لها، هذا مستنقع تتحكّم فيه العلاقات العامّة وأصحاب المناصب الثّقافية وبعض الأسماء الفاعلة التي تدير دفّة الأدب دوماً تجاه بوصلتها، حتى وإن كانت بوصلة عاطلة عن العمل والإبداع”!

الجانب العنصري المستتر

من خلال معايشته للمجتمع الثّقافي السّويدي في السّنوات القليلة الماضية، يشير الشّاعر السّوري خلف علي الخلف إلى جانب عنصري مستتر في الشّخصية الأوروبية، فيقول: “بحسب معايشتي المديدة للمؤسّسات الثّقافية السّويدية مثالاً، والتي تحظى بسمعة دولية متقدّمة، لا يمكن إخفاء الجانب العنصري المستتر خلف ممارسات المؤسّسات الثّقافية الأوروبية، والتي تتحكّم فيها، إلى جانب نظريّة تفوّق العرق الأبيض بشكل أساسي، كراهية الإسلام والمسلمين، وبالتّالي تروّج كلّ من يشتم قومه ودين أهله حتى دون إبداع، وُيمنع ويُهمل كلّ من يقترب نقدياً من الثّقافة أو الحياة الأوروبية، وأستطيع التّأكيد بأدلّة بحوزتي أنّ المؤسّسات الثّقافية السّويدية تعتمد أسلوب كتابة التّقارير الأمنيّة الأدبيّة التي يكتبها “المخبرون الثّقافيّون” الذي ما زال شائعاً في المؤسّسات العربية، وكان شائعاً في عهد الشّتازي في ألمانيا الشرقية، لتقييم الأدب والكُتَّاب قبل إعطائهم منحة أو دعوتهم لنشاط. وإذا كانت المؤسّسات العربيّة تستبعد الكُتّاب “المعادين للنّظام” أو الذين “توهن كتاباتهم نفسية الأمّة”، فالمؤسّسات الثّقافية السّويدية كنموذج أوروبي لديها معايير متعلّقة بـ “النّظام الأوروبي” أو أيّ من مؤسّساته. فتُقصي أيّ ناقد لهذا النّظام أو أسلوب عمل مؤسّساته. باختصار هي لا تعترف بنديّة الثّقافة العربية ولا مثقّفيها، إنّها كالنّظم العربية في علاقتها بنا، تفضّل التّابعين سواء أكانوا مجرّد “معاقين” أو طبّاخين جيّدين مثلاً، وذلك بغضّ النّظر عن جودة إنتاجهم الأدبي”.

ويختتم الخلف حديثه قائلاً: “أمّا في قضايا الكُتَّاب اللاجئين والاندماج، فما حدث أمر أكثر من مخزٍ، فقد أسّس الكُتّاب الأوروبيّون تحت ستار دعم هؤلاء الكتاب “المساكين” مؤسّسات ثقافية كان هدفها الاستحواذ على كامل التّمويلات التي منحتها المؤسّسات والدّول الأوروبية لهؤلاء، مُطبّقين مبدأ الانتداب الأوروبي القديم نفسه، فنحن غير مؤهّلين لإدارة أنفسنا وثقافتنا، وما نتج عن هذا أنّهم أخذوا الأموال وأعطونا العواطف والدّموع وترجمات ونشاطات رديئة. لكلّ هذا ولكلّ ما لا يسع المجال لذكره، أرى أن التّعويل على المؤسّسات الأوروبية أمر غير ذي جدوى لنقل الثّقافة العربيّة الحقيقيّة والجديّة، فمعاييرها كلّها تقع خارج الأدب والثّقافة. وإذا كان ذلك ممكناً، فعلى مثقّفي العربية الذين أصبحوا يحملون الجنسيّات الأوروبية، تشكيل مؤسّسات مستقلّة محْكمة النّظام والتّنظيم والمعايير لنقل آدابهم”.

التّسول باسم الشِّعر

ومن السّويد إلى النّرويج حيث يرصد الشّاعر الفلسطيني نصر جميل شعث الواقع الرّاهن للأدب العربي في أوروبا اليوم فيقول: “أوهام هذه السّاعة الرّائجة في أوروبا بالجملة وبالمفرّق؛ توصّل أصحابها إلى درجة يقف عليها اهتمام الآخر بالموضوع لا بفنّ صاحبه. وهذا ينقلنا، بطبيعة الحال، إلى مناخ سوق تُعرض وتباع فيها الآلام كبيانات بعد تحسينها بالتّرجمات الارتجالّية، والسّعي وراء مترجمين ومصاحبتهم، وعبر شبكات العلاقات الشّخصية المبنيّة على وهم الصّداقات والشّراكات الأدبيّة، من باب “ضروري نفعل شيئاً من أجل البلاد”. والحال هذه، أسماء متواضعة كانت تتوسّل اعترافاً من الأوساط الأدبيّة في بلدانها؛ حصلت على ذلك الاعتراف، من المضيفين، بدعم من جملة الموضوعات والصّدمات المباشرة والصّائتة التي تركّز الكتابة عليها. وما من ناقد تناولها إلى الآن بترحاب كمعطًى جوهريّ له إشعاعه في حقل الجمالية الشّعرية، بل إنّ هناك مقالات تناوبت، ولا تزال تتناوب، على انتقاد هذا الخراب والابتذال والمعجم الفظيع، والتسوّل باسم الشِّعر، بل باسم الآلام أوّلاً. وقدّم الشّاعر والنّاقد السّوري محمد المطرود في مقالة بعنوان “شعر السّوريين الملائكة والشّياطين” (ضفّة ثالثة، 12 نوفمبر 2017)؛ تشخيصاً دقيقاً لطغيان بؤس الشّعر السوريّ الجديد اليوم. فنحن أمام “نصوص رجّاليّة تقتربُ من التّهديد، تظهر فيها الفحولة، ومسكُ قصبِ الأخلاقِ والانتماءِ للمقدّس، ليظهرَ الآخرونَ على الضّفةِ الأخرى لا أخلاقيين، ويتلظّون ناراً في المدنّس!”. وهنا، -على حدّ قوله- تنشأ الدّاعشية الشِّعرية، المُكفّرة، والدّاعية إلى تقسيمِ كُتّابِ الشعرِ على فسطاطين، أو ملائكة وشياطين، ليسَ هذا فحسب؛ فالطّرفان يتبادلانِ الأدوار، إذ تنشأ عند الطّرفِ الأقلِّ حيلة “المظلومية”، فيقتربُ كثيراً من الدّور الذي تمارسهُ “ملائكةُ الشّعر”، هذا التّبادل لا ينتمي إلى المنافسة وفرض الخيارات الجمالية الجديدة، إنّما إلى المعطّل، والذي سيخفي في عتمتهِ نصوصاً عظيمةً، لم تستطعِ المطاحشة والتدافعِ بالأكتافِ أو معرفةِ من أينَ تؤكل، ولا ينتمي أبداً إلى المقتضى الذي بيّنهُ (بورديو): “الحقلُ الأدبي هو ميدان صراع بين هؤلاء الذين قد احتلوا مواقعهم فيه.. وأولئك الذين يرغبونَ في طرقهِ والاستقرار فيه متى فرضوا اختياراتهم الجمالية”.

خاتمة

حين سألت الكاتب المصري ياسر عبداللطيف عن اقتراحاته لتصحيح منظومة الأوضاع الرّاهنة أوروبياً تجاه جديد الأدب العربي، قال: “أولاً ينبغي أن نتحرّر ككُتَّاب أو شعراء من فكرة أنّ الاعتراف الغربي هو قمّة ما نطمح إليه، في النّهاية تلك التّرجمات التي نتحدّث عنها قليلة القيمة والأهمية في سوق الأدب والشِّعر الأوروبية أو الغربية بشكل عام. والحل بالنّسبة لي هو إصلاح وضع اللغة العربية نفسها، أن يتعامل كُتابها كأنداد، لا من الموقع الأدنى. فهي لغة كبيرة قادرة على إنتاج أدب كبير، على الرّغم من تدنّي الأوضاع السياسيّة والأخلاقية للعالم النّاطق بها، وعلى الرّغم من رؤية “السّادة” المتغطرسين في الغرب لها كلغة “ميّتة” تنتمي لعالم متخلِّف”.

نعم..

ماذا لو تعاملنا مع لُغتنا وثقافتنا وأدبنا بشكل أكثر احتراماً وتبجيلا؟

ماذا لو تعاملنا مع هذا الغربي/الآخر/الأبيض/الأشقر/ بندّية واحترام متبادل.. ومن دون “قلِّة قيمة”؟ ندّية تؤكّدها ثقافاتنا وحضاراتنا وتاريخنا ولُغتنا الرّاقية، ندّية من يُنصت ليسمع، ويرفع كفّيه عن عينيه ليرى، ويباعد بين شفتيه لينطق!

سوق الأدب العربيّ بالغرب: ظروف نقل أدبنا للفرنسيّة (4)

على مدى عشرين عاماً كاملة، حفر المترجم اللبناني الدّؤوب أنطوان جوكي اسمه كأحد أبرز مترجمي الأدب العربي الحديث إلى اللغة الفرنسيّة، عبر وضعه ما يربو على الأربعين ترجمة لأعمال كُتَّاب وشعراء عرب كبار، من بينهم وديع سعادة، وعبد القادر الجنابي، وبول شاوول، وعباس بيضون، وسركون بولص، وسليم بركات، وأمجد ناصر، وغسّان زقطان، وهدى بركات، وغيرهم.

ولد أنطوان جوكي في بيروت عام 1966، واستقرّ في باريس منذ عام 1990 وحتى عام 2016، حين قرّر العيش بين مدينتي سيت الفرنسيّة ونيويورك الأميركيّة. وخلال هذه المدّة، نال جائزة “ماكس جاكوب” الفرنسيّة للشِّعر المُترْجَم مرّتين، عام 2011 ثم عام 2018. في الحوار الذي أجريناه معه ليكون الحلقة الرّابعة ضمن ملفّنا الموسّع حول “سوق الأدب العربيّ بالغرب”، يكشف لنا جوكي السّر وراء تميِّزه في التّرجمة من لغته الأم إلى لغته الثّانية الفرنسيّة، على عكس المعتاد. وبكثيرٍ من الصّراحة والوضوح، يفاجئنا سواء في مضمون حديثه عن الوضع الثّقافيّ العربيّ الذي يعرف أماكن قوته ومكامن ضعفه أكثر من غيره، أو في تعريته ظروف نقل أدبنا إلى الفرنسيّة. يفاجئنا أيضاً بتشديده على ضرورة تحلّي المترجِم بالتّواضع، حين نسأله عن الصّفات التي يتوجّب أن تتوفّر في المترجِم. التّواضع لأنّه: “مهما كانت معرفتنا كبيرة بأيّ لغة، يتعذّر علينا محاصرة غناها وعبقريتها كُليّاً”. ولا شكّ في أنّ تواضع جوكي الذي يفضّل لقب “عبّار” على “مترجِم” هو الذي يفسّر تصريحه لنا بالآتي: “أيّ نصّ أترجمه إلى الفرنسيّة، أخضعه لقراءة تقوم بها صديقة فرنسيّة تجاوزت السّبعين، وعملت مصحّحة لُغويّة طوال حياتها”.

هنا نصّ الحوار:

رحلة طويلة

(*) رحلة طويلة قطعتها في مجال التّرجمة من العربيّة إلى الفرنسيّة، كيف ومتى بدأت هذه الرّحلة، مع أيّ كتاب وكيف كانت ظروف ظهوره للنّور؟

من بين الأشياء الكثيرة التي أدين بها لصديقي الشّاعر العراقي الكبير عبد القادر الجنابي، دعوتي إلى المساهمة في ترجمة نصوص الأنطولوجيا الشّعرية التي وضعها بالفرنسيّة عام 1999 تحت عنوان “القصيدة العربيّة الحديثة”، وبالتّالي فتحه أمامي أفقاً كنت أجهل كلياً أنّه سيستهويني إلى هذا الحدّ ويلبّي رغبتي في الكتابة. هكذا انطلقتُ في التّرجمة. بعد ذلك، ودائماً بطلب من الجنابي، ترجمتُ وقدمّتُ مختارات للشّاعر اللبناني الرّاحل فؤاد رفقة، صدرت عام 2000 في كتاب عن دار “باريس ـ المتوسّط”. طبعاً، كنتُ مترجماً مبتدئاً آنذاك وساعدني الجنابي كثيراً في هذه المهمّة ومهمّات أخرى لاحقة أوكلني بها. أمّا ظروف صدور الكتاب المذكور، فكانت جيّدة نسبيّاً كونه حصد مقالات مديحيّة في لبنان وفرنسا، قبل أن يلقى مصير كتب شعريّة كثيرة مترجَمة، أي النّسيان.

(*) ترجمتَ الشِّعر كما ترجمتَ الرّواية، ويحفل رصيدك بالأسماء المهمّة في الأدب العربيّ الحديث: وديع سعادة، سركون بولص، هدى بركات، عباس بيضون، عبد القار الجنابي، بول شاوول، سليم بركات، وغيرهم، وصولاً إلى جيل أحدث مثل أمجد ناصر وغسّان زقطان وغيرهما. لكن يبدو لي أنّك اخترت الجانب الأصعب من المسألة، ألا وهي ترجمة الشِّعر، في الوقت الذي تؤكّد فيه مؤشّرات القراءة في العالم أجمع الإقبال المتزايد على الرّواية، هل يمكن أن نقول إنّ هناك قارئاً للشّعر يمكننا التّعويل عليه اليوم في فرنسا؟

طبعاً، هناك قرّاء للشّعر في موطن بودلير ورامبو ومالارميه، وإن كان عددهم متواضعاً مقارنةً بعدد قرّاء الرّوايات، وأفضل دليل على ذلك عدد المجلّات ودور النّشر الفرنسيّة التي تعنى اليوم بنشر الشِّعر حصراً. فلولا الطّلب على الشِّعر في هذا البلد لما كانت كلّ هذه المجلّات والدّور التي تُعدّ بالمئات! أمّا لماذا يتفوّق قرّاء الرّواية عدداً في فرنسا، كما في كل مكان، فلسببين بديهيّن: الأوّل هو أنّ الشِّعر كان وسيبقى نخبوياً، بخلاف الرّواية. والسّبب الآخر يعود إلى الجهد الكبير الذي يتطلّبه الشّعر من قارئه لفهمه، بخلاف الرّواية أيضاً. طبعاً، أتكلّم هنا بشكلٍ عام، إذ ثمّة نصوص شعريّة سهلة القراءة، ونصوص روائيّة لا يمكن ولوجها من دون جهدٍ جبّار.

النّطق الفرنسي الرّقيق

(*) عادة ما يقوم المترجمون بالتّرجمة من لغتهم الثّانية إلى لغتهم الأم، أمّا أنت فقد نجحت في إثبات اسمك كمترجم إلى لغتك الثّانية الفرنسيّة. كيف تفسّر ذلك؟ وما هي المعايير التي يجب أن تتوفّر في المترجم في رأيك كي يحفر لنفسه بصمته الخاصّة؟

فعلاً، معظم المترجمين ينقلون نصوصاً من لغتهم الثّانية إلى لغتهم الأم، وهذه مسألة طبيعيّة ومستحسنة، لأنّه مهما كانت معرفتنا كبيرة بلغتنا الثّانية، ثمّة دائماً أشياء فيها تنقصنا أو تفوتنا، بخلاف لغتنا الأم التي نتشرّبها ونحن على صدور أمّهاتنا. في ما يتعلّق بي، لطالما حاورتني أمّي بالفرنسيّة منذ نعومة أظافري، نظراً إلى شغفها بلغة موليير وإتقانها هذه اللغة بشكلٍ أفضل من العربية بسبب السّنوات الطّويلة التي أمضتها في مدرسة فرنسيّة داخليّة للفتيات، كانت الرّاهبات الفرنسيّات فيها يعاقبن أيّ فتاة تتكلّم العربيّة خلال الدّروس أو في الملعب. لذلك تآلفتُ باكراً مع اللغة الفرنسيّة وعشقتُ ما نسمّيه في لبنان “Le doux parler français”، أي “النّطق الفرنسيّ الرّقيق”، قبل أن يفتنني الأدب الفرنسيّ منذ سنّ المراهقة. وما ساهم في تعميق معرفتي بهذه اللغة، ممارستي باكراً الكتابة النّقديّة بها (منذ 1988)، وإقامتي في باريس منذ 1990. لكن مع كلّ ذلك، حين أترجم أيّ نصّ إليها، أخضعه لقراءة تقوم بها صديقة فرنسيّة تجاوزت السّبعين وعملت مصحّحة لُغويّة طوال حياتها. وبفضل هذه الصّديقة التي أعمل معها منذ 16 عاماً، ازدادت معرفتي كثيراً بالفرنسيّة.

وهذا ما يقودنا إلى الشّقّ الثّاني من سؤالك، أي المواصفات أو المعايير التي يجب أن تتوافر في المترجِم، وأوّلها في نظري هو التّواضع. ثمّة قول رائع في فرنسا هو التّالي: “اللغة تعرف دائماً أكثر منك”، ومعناه أنّه مهما كانت معرفتنا كبيرة بأيّ لغة، يتعذّر علينا محاصرة غناها وعبقريتها كُليّاً. بالتّالي، لا بدّ لأيّ مترجِم أن يتحلّى أولاً بصفة التّواضع، أي ألّا يدّعي معرفة كاملة باللغة التي ينقل إليها أيّ نصّ، كي يخدم هذا النّص وكاتبه على أفضل وجه، وإلا لَـ”وقع في الخطيئة بفعل كبريائه -pécher par orgueil”، وهو قولٌ فرنسيّ آخر. وفي حال توفّرت هذه الصّفة به، لا بدّ طبعاً من معرفة عميقة باللغتين، لغة النّص الأصليّة واللغة المستقبلة له، ومن موهبة كتابيّة في الأساس، إضافةً إلى إتقان تقنيّات التّرجمة الأدبيّة، وجميع هذه المعايير يمكن أن نتملّكها أو نتعلّمها بفعل الممارسة.. إلّا التّواضع. بعض الشّعراء العرب الكبار الذين نقلوا إلى العربية في السّتينيات والسّبعينيات أعمالاً أو مختارات من أعمال شعراء فرنسيّين أو أميركيين كبار وقعوا في فخّ الكبرياء، في نظري، على أهمية ترجماتهم. فحين نقرأ هذه التّرجمات، يخال لنا أنّنا نقرأهم هم أكثر مما نقرأ الشّعراء المُترجَمين. بالتّالي، المترجم الجيّد هو ذلك القادر على الانزلاق تحت جلد الكاتب الذي يترجمه، وتوظيف كلّ مهاراته ومعارفه في عملية التّرجمة، لكن من دائرة الظّل.

(*) إذاً ما هي الشّرارة الأولى التي تدفعك إلى ترجمة نصٍّ أدبي وتقديمه في كتاب لقارئ الفرنسيّة، وما هي الأساسيّات الماديّة والمعنويّة التي تحتاجها شخصيّاً للشّروع في التّرجمة؟

خلال قراءاتي أُعجَب بنصوص كثيرة، لكن تلك التي أرغب في ترجمتها هي النّصوص التي تصعقني بمدى تماثلها مع نظرتي للأشياء والعالم والأدب، أو بقدرتها على مساءلتي ومحاورة ما يشتعل داخلي. لا بدّ إذاً من علاقة حميمة مع النّص كي يضع المترجِم ــ أيّ مترجِم ــ كافّة إمكاناته ومهاراته وروحه في عمليّة نقله إلى لغة أخرى، وإلا لعانت ترجمته من نقصٍ أو حرارةٍ ما. لا بدّ أيضاً من مكافأة ماليّة لعمله، لأنّنا غالباً ما ننسى أنّ المترجم أيضاً إنسان يحتاج أن يأكل ويشرب ويدفع فواتيره، إضافةً إلى حاجة التّثقّف الملحّة لديه.. والمكلّفة!

(*) حصلتَ في العامين 2011 و2018 على جائزة “ماكس جاكوب” الفرنسيّة للشّعر المُترجَم، كيف ترى حال التّرجمة من العربيّة إلى الفرنسيّة اليوم، أو بمعنى آخر، ما الذي يجب أن يتغيّر في منظومة التّرجمة كي ننجح في نقل ما يستحقّ من أدبنا العربي الجديد إلى الفرنسيّة؟

بالنّسبة إلى الجائزة المذكورة، تجدر الإشارة إلى أنّني نلتها مناصفةً مع وديع سعادة أولاً، ثم مع سليم بركات. أمّا في ما يتعلّق بوضع التّرجمة من العربيّة إلى الفرنسيّة اليوم، فأراه جيّداً. والدّليل؟ توافُر ترجمات فرنسيّة لأعمال أبرز شعرائنا وروائيّينا. النّوع الرّوائي يحصد طبعاً حصّة الأسد في هذه العمليّة، لكن الشّعر غير مهمل إطلاقاً، وكذلك الأمر بالنّسبة إلى النّوع القصصي. وبما أنّ مترجمي أدبنا إلى الفرنسيّة وناشريه هم فرنسيّون بمعظمهم، فكلّ ما يمكننا أن نفعله لتعزيز اهتمامهم بأدبنا وتنشيط حركة ترجمته إلى الفرنسيّة، هو تقديم الدّعم المادّي لهم عن طريق مؤسّسات ثقافيّة تتوافر لديها الإمكانات للاضّطلاع بهذا الدّور. علينا ألّا ننسى أنّ المترجم غالباً ما يتقاضى أجراً بائساً على عمله، مقارنةً بدوره المحوريّ في حوار الثّقافات والحضارات، وأحياناً كثيرة يعمل مجاناً! مع الأسف، لا يمكننا أن نعوّل كثيراً على وزارات الثّقافة في بلداننا العربيّة لتأديّة الدّور المذكور، بخلاف ما يحصل في الدّول الغربيّة ودول كثيرة أخرى، حيث ينعم الأدب وكُتّابه بدعمٍ مادّيّ وترويجيّ من قِبل وزارات الثّقافة ومؤسّسات ثقافيّة رسميّة مختلفة.

السّعي المسعور

وراء التّرجمة

(*) كتبت مؤخّراً بوستاً لافتاً على صفحتك الشّخصيّة في موقع فيسبوك تعتذر فيه عن عدم قدرتك على تلبية طلبات الأصدقاء العديدة لترجمة نصوصهم إلى الفرنسيّة. ألا يضع هذا ثقلاً إضافياً على كاهل المترجِم، وفي الوقت ذاته يصنع منه مصدر قوّة وتأثير؟ كيف تتعامل مع هذه الإشكاليّة التي من المؤكّد أنّها توقعك في حرج أحياناً مع بعض الكُتّاب؟

صحيح أن خروج المترجِم من دائرة الظلّ يجعل منه مصدر قوّة وتأثير في المحيط الأدبيّ، لكن ذلك يجلب له أيضاً مشكلة كبيرة في عالمنا العربيّ تتمثّل، كما قلتَ، في تلقّيه طلبات لا تحصى من الكُتّاب لا هو قادر على تلبيتها، لاستحالة ذلك زمنيّاً، ولا هو يرغب أصلاً في تلبية معظمها، الأمر الذي يضعه في حالة إحراج لا يُحسَد عليها. إنّها لظاهرة غير طبيعيّة ومزعجة سعي كُتَّابنا المسعور وراء ترجمة نصوصهم، لأنّ المترجِم هو الذي يجب أن يطرق بابهم وليس العكس، من المنطلق الذي وضّحته سابقاً، أي شعوره برغبة مُلحّة في ترجمتهم لدى قراءة نصوصهم؛ رغبة ضروريّة كي يضع كافّة مهاراته في خدمة هذه النّصوص ويؤدّي مهمّته بأفضل طريقة وظرف ممكنين. إذاً، على الكاتب أن يكتفي بنصّه، وفي حال وضع نصّاً مهمّاً، سيجد مترجماً له عاجلاً أم آجلاً. في فرنسا، حيث أعيش معظم وقتي، أعرف الكثير من الكُتّاب، ومع ذلك لم يطلب مني يوماً واحد منهم ترجمة نصّ له إلى العربيّة، لأنّ جميعهم يحترم إرادتي ولا يكترث إلّا لقيمة النّص الذي يكتبه.

(*) بدأت مشوارك في التّرجمة بنصّ طويل لسليم بركات، ثم بعمل لفؤاد رفقة، فاثنين لعبد القادر الجنابي، أي لأسماء أدبيّة وشعريّة كبيرة. ما هي التّغيّرات التي يمكن أن ترصدها في نفسك خلال هذه الرّحلة الطّويلة، والتي أثمرت عمّا يقرب من 40 كتاباً حتى اليوم؟

معك حق، بدأتُ التّرجمة في الواقع مع نصّ لسليم بركات صدر في العدد الأوّل من مجلّة Autodafé الفرنسيّة، قبل أن أترجم له لاحقاً مختارات من شعره، لكنّي لا أعتبر هذا الّنص الرّائع انطلاقتي في التّرجمة، لسبب بسيط هو أنّني لم أكن قادراً آنذاك على نقله كما يجب إلى الفرنسيّة لولا مساعدة المترجم القدير فرنسوا زبّال، الذي طلب منّي أصلاً القيام بهذه المهمّة. وهذه الحقيقة تشكّل بطريقةٍ ما جواباً على سؤالك، بمعنى أنّ فعل التّرجمة هو ممارسة قبل أن يكون موهبة، ويتطلّب إذاً سنيناً طويلة من العمل وبذل جهدٍ جبّار خلالها، من أجل إتقان تقنيّاته وتطوير استراتيجيّات ناجعة لمزاولته باحتراف. لا أدري إن بلغتُ هذه النّقطة، بعد أربعين كتاباً ومئات النّصوص التي ترجمتها في إطار مهرجان “أصوات حيّة” الشّعري. الأكيد هو أنّني على الطّريق وأتعلّم كلّ يوم أشياء جديدة كنتُ أجهلها.

(*) تتعامل مع كثير من دور النّشر والمؤسّسات الثّقافية والمهرجانات الفرنسيّة، كيف توازن بين ذائقتك كقارئ ومترجم وناقد متخصّص في الأدب، وبين ما يتمّ اقتراحه عليك من قبل هذه المؤسّسات؟ وهل تضطرّ أحياناً إلى رفض بعض هذه الاقتراحات، أم تترجم أغلبها؟

نادراً ما يطرق ناشرٌ باب مترجم لنقل نصٍّ عربيّ إلى الفرنسيّة، لأنّ معظم النّاشرين الفرنسيّين لا يتقنون العربيّة ويتّكلون على المترجِمين في مهمّة تنويرهم عمّا يتوجّب ترجمته ونشره من أدبنا. ومن هذا المنطلق، معظم النّصوص التي ترجمتُها إلى الفرنسيّة وصدرت في فرنسا، كنتُ مقتنعاً كفاية بقيمتها الأدبيّة كي اقترحها على أحد النّاشرين. لكن هذا لا يعني أنّني لا أتلقّى عروضاً من دور نشر أو مؤسّسات ثقافية لترجمة نصوص ليست من اقتراحي. وفي هذه الحال، أعمد إلى تقييم هذه النّصوص قبل رفض أو قبول المهمّة. ذائقتي إذاً هي الحَكَم في هذه العمليّة. مع مهرجان “أصوات حيّة” الشّعري الذي أنتمي إلى لجنته الدّوليّة وفريقه المنظِّم منذ سنين طويلة، يختلف الأمر، لأنّني حتى عام 2017، لم أكن مسؤولاً عن اختيار الشّعراء العرب المدعوين، بل فقط عن ترجمة مختارات من نصوصهم إلى الفرنسيّة. ولذلك، كنت مضطرّاً أحياناً ــ كي لا أقول غالباً ــ إلى ترجمة نصوص لم أكن مقتنعاً بقيمتها. لكن هذه التّرجمات لم تكن مرصودة للنّشر، فغايتها كانت ــ وما تزال ــ إيصال صوت الشّعراء المدعوّين إلى جمهور المهرجان.

(*) السّؤال السّابق يحيلني إلى سؤال آخر: هل ثمّة فروق في جودة التّرجمة بين عمل اخترته عن قناعة أدبيّة شخصيّة، وبين عمل لم تكن متحمّساً له لكنَّك قبلت بترجمته تلبية لاقتراح إحدى هذه المؤسّسات؟

حين أتّخذ قرار ترجمة نصّ، أبذل كلّ ما يلزم من جهد لخدمته والوفاء لخصوصيّاته. لكن، كما سبق أن أشرت، سيستفيد هذا النّص أكثر من ترجمتي إن تمكّن من مَسّي في حميميّتي. لحسن الحظّ هناك، من جهة، المتعة المرتبطة بفعل التّرجمة، بغضّ النّظر عن طبيعة النّص الذي ننقله إلى لغة أخرى، ومن جهة أخرى، التّحدّي الملازم لهذا الفعل، والاثنان يحرّكان طاقات ومهارات المترجِم الشّغوف بعمله، ويساعدانه على أداء مهمّته.

أدبنا ينافس في المكتبات

(*) كيف ترى تفاعل القارئ الفرنسيّ مع النّصوص التي تنقلها إلى لغته اليوم؟ هل نستطيع أن نقول إنَّ ثمّة اتّجاهات معيّنة تجذبه داخل أدبنا، أو موضوعات يقبل عليها دون سواها؟ وإن كان الأمر كذلك، فما هي هذه الاتّجاهات؟

لطالما أثار إعجابي ودهشتي تفاعل القارئ الفرنسيّ مع كلّ ما يُنقل إلى لغته. تفاعُل يعكس فضولاً لا معادل له في أيّ بلدٍ آخر! والدّليل أنّ عدد النّصوص الأجنبيّة التي تُترجَم وتُنشَر سنويّاً في فرنسا هو ضعفا عددها في أميركا وبريطانيا.. مجتمعتين! والمثير أن أدبنا المترجَم إلى الفرنسيّة ينافس الأدب الألماني والرّوسي والصّيني على مستوى المبيعات في المكتبات! أمّا في ما يتعلّق بالاتّجاهات المعيّنة التي تجذب القارئ الفرنسيّ داخل أدبنا، فلا شكّ في أنّ

النّصوص التي تتناول بشكلٍ مباشر الأحداث الرّاهنة في منطقتنا تلقى اهتماماً كبيراً لديه نظراً إلى استفادتها من التّغطية الإعلاميّة اليوميّة لهذه الأحداث، ومن حصدها بالتّالي مقالات نقديّة أكثر من غيرها. وثمّة نصوص تلقى رواجاً لتسيير أصحابها فيها تلك الكليشيهات الرّائجة في فرنسا، والغرب عموماً، عن الإنسان العربيّ وعالمه. لكن الزّمن في فرنسا يغربل بسرعة جميع هذه النّصوص ولا يستبقي منها إلا تلك التي تتمتّع بقيمة أدبيّة حقيقيّة.

(*) في هذا الإطار، مَن من المترجمين الذين يترجمون إلى الفرنسيّة اليوم يلفت انتباهك، ولماذا؟

كما أشرتُ سابقاً، مترجمو أدبنا إلى الفرنسيّة هم فرنسيّون في غالبيّتهم العظمى، ومعظمهم يستحقّ منّا كلّ الاحترام، ليس فقط لاضّطلاعه بهذه المهمّة النّبيلة، بل أيضاً لقيمة ترجماته. على قارئ هذا الحوار أن يدرك أنّ هؤلاء المترجِمين لا يكتفون بترجمة نصوصنا، بل يؤدّون المهمّة التي، في معظم الأحيان، لا يؤدّيها ناشرو هذه النّصوص العرب، أي تصحيح الأخطاء النّحويّة وحذف التّكرار وشدّ اللغة وتحسين الأسلوب… وبقيامهم بذلك، تكسب هذه النّصوص قيمةً إضافيّة لدى انتقالها إلى اللغة الفرنسيّة. ومَن لديه شكّ في ما أقوله، أدعوه إلى مقارنة كلّ واحدة من هذه التّرجمات بنصّها الأصليّ!

أما مَن يلفت انتباهي من بين هؤلاء المترجمين، فكثر، أذكر منهم، على سبيل المثال فقط، لوك باربوليسكو، الرّوماني الأصل، نظراً إلى روعة ترجماته وهاجس الدقّة والوفاء للنّصّ لديه؛ إيمانويل فارليه الذي صعقني بترجمته المذهلة في جماليَّاتها لرواية سليم بركات “الرّيش”، وطبعاً الكاتب العملاق كريستوف كلارو الذي يترجم من الإنكليزيّة، ونقل بعبقريّة فريدة أخطر الأعمال الأدبيّة على مستوى التّرجمة، كروايات توماس بينشون وويليام فولمان، كي لا أسمّي غيرها.

أثر المُترْجِم

(*) يهمني فعلاً أن أستوضح منك هذه النّقطة، هل هذا يعني أنّ المترجم يضطرّ أحياناً إلى إعادة صياغة النّص العربي الذي يقوم بترجمته؟

نعم!

(*) لكن ألا تعدّ هذه إعادة كتابة للنصّ الأصليّ وليست ترجمة؟

النّص الأصليّ ليس قرآناً، خصوصاً مع كتّابنا العرب الذين يكتبون أحياناً كيفما اتفق. لا يمكن للمترجِم أن يحافظ على الأخطاء والرّكاكة في الأسلوب حين يقع عليها. لذلك، غالباً ما تكون التّرجمة أفضل من النّص الأصليّ.

(*) أتّفق معك، لكن هذا يعني وجود ترجمات مشبوهة فعلاً لأدبنا العربيّ، ويفسر تعجّبي من تحمّس جمهور أجنبيّ لنصٍّ عربيٍّ رديء في نظري. هنا كنتُ أتساءل عن دور المترجِم في خلق نصٍّ آخر مغاير عن النّص الأصلي في لغته الأم؟

طبعاً أنا لا أقصد إعادة كتابة كلّ النّص، بل فقط مكامن الرّكاكة والجمل المركّبة كيفما اتفق.

(*) إذاً بهذا المعنى فأنتَ – إلى جوار أنّك مترجِم – محرّر أيضاً للنّصّ الأصليّ في لغته الجديدة؟

مئة في المئة، أنا وسائر المترجِمين من العربيّة.

(*) أفليس من الأولى أن يوضع اسمك كمؤلّف أيضاً إلى جوار اسم كاتب النّص، وهذه حقيقة أقولها غير مازح.

كما قلت سابقاً، نحن نقوم بعمل النّاشر العربيّ الذي يكتفي بمهمّة طباعة النّص.

(*) لكن تبقى هناك ملاحظة مهمّة هنا، وهي أنّ الكاتب العربيّ الذي تُرجمتْ نصوصه إلى لغة رامبو، بتحرير وإعادة صياغة من قبل المترجِم الجيّد، لا يحقّ له التّباهي بجودة نصّه المُتَرجَم، لأنّ المترجِم له فضل كبير ينافس فضل كاتب النّص الأصليّ!

الأكيد هو أن التّرجمات الفرنسيّة رفعت من قيمة الكثير من النّصوص العربيّة.

(*) لكنّي أرى في ذلك جريمة تزييف بشكل أو بآخر، فالمترجِم هنا فضله على النّص أكبر من كاتبه!

أدبنا المعاصر بمعظمه قاصر ويحتاج إلى إعادة صياغة وتحرير. قليلون هم الكُتّاب العرب اليوم الذين لا تنطبق هذه الملاحظة عليهم. حتى الرّوايات المتوّجة بجوائز عربيّة “عريقة”، أجد في كلّ صفحة من صفحاتها أخطاء مخيفة وجمل لا تُصدَّق في بشاعة تراكيبها.

(*) مَن من الشّعراء العرب الذي لا زلت تحلم بنقل أعماله إلى الفرنسيّة، ولماذا؟

ما زال أمامي شاعران أرغب في ترجمتهما: بول شاوول وأمجد ناصر اللذان لم أفيهما حقّهما في الكتاب الذي ترجمته لكلّ منهما في الماضي، ولا يتضمّن سوى عدد قليل من القصائد بسبب صيغته المحدَّدة سلفاً من قبل النّاشر. أمّا لماذا هما تحديداً، فلأنَّ كلاً منهما، على طريقته، تمكّن من فتح أفقٍ جديد داخل الشّعر العربيّ المعاصر، وأيضاً من تجاوز نفسه وتجديد كتابته الشّعرية ومواضيعها من مجموعة إلى أخرى.

(*) نهاية، ماذا عن جديدك الذي لم يظهر بعد في عالم ترجمة النّصوص الشّعرية والرّوائية العربيّة إلى الفرنسيّة؟

قريباً ستصدر مختارات للشّاعر العراقي حيدر الفيحان عن دار “المنار”، تليها مختارات للشّاعر اللبناني محمد ناصر الدين عن دار “لامارتان”، فرواية الفلسطينيّ علاء حليحل “أورفوار عكا”، عن دار “أكت سود”، التي ستصدر فيها أيضاً مختارات واسعة من نصوص أمجد ناصر، ما أن أفرغ من ترجمتها. لكن أكثر ما يثيرني حاليّاً هو عملي على ترجمة جديدة لديوان بودلير “أزهار الشَّر”.

سوق الأدب العربيّ بالغرب: شهادة فاروق مردم بك (5)

سيكون على الثّقافة العربية، ممثّلة في مؤسّساتها الرّسمية وغير الرّسمية، أن تحتفل قريباً بمرور 25 عاماً قضاها الكاتب والمؤرّخ والنّاشر السّوري الكبير فاروق مردم بك (75 عاماً)، مشرفاً على سلسلة “سندباد” التي تصدرها دار “أكت سود”، أحد ألمع دور النّشر الفرنسيّة. وهي السّلسلة التي تولّى مردم بك مسؤوليتها منذ العام 1995 وحتى يومنا هذا، والمعنية بالدّرجة الأولى بترجمة الآداب العربية الكلاسيكيّة والمعاصرة إلى اللغة الفرنسيّة. جاءت مسؤولية سلسلة “سندباد” بعد عمل مردم بك مديراً لمجلة ” Revue d’études palestinienne” الفرنسيّة في الفترة من 1986، حتى 2008، كما عمل مستشاراً لمعهد العالم العربي في باريس بدءاً من 1987 وحتى 2008.

نحن إذن أمام أحد نسّاك الثّقافة العربية الذي وهب عمره لخدمة هذه الثّقافة ونقل إبداعاتها إلى لغة رامبو وموليير، ومن ثمّ كان لزاماً علينا أن نحاوره ضمن ملفّنا الموسّع حول “سوق الأدب العربي بالغرب”، فالرّجل، الذي يمكننا أن نطلق عليه لقب “سندبادنا في باريس”، يملك خبرة ما يزيد عن 30 عاماً في مجال ترجمة أدبنا المعاصر إلى الفرنسيّة، ويعرف أكثر من غيره المشهد الأدبي العربي في أوروبا الرّاهنة.

ولد فاروق مردم بك في دمشق سنة 1944، وتخرّج في كلية الحقوق في الجامعة السّورية سنة 1965. نشر بالفرنسيّة بالاشتراك مع سمير قصير كتاباً بعنوان “مسالك بين باريس والقدس، فرنسا والصّراع العربيّ – الإسرائيلي”، وبالاشتراك مع إلياس صنبر “أن تكون عربيّاً” أيضاً عن أكت سود 2007. كما أشرف على نشر العديد من الكتب الجماعيّة ذات الطّابع التّاريخي أو السّياسي أو الأدبي أو الببليوغرافي، منها “ساركوزي في الشّرق الأوسط”، التي أصدرتها أكت سود بالتّعاون مع مؤسّسة الدّراسات الفلسطينيّة؛ كما ترجم إلى الفرنسيّة أعمالاً لمحمود درويش وسعدي يوسف. وعن الثّورة السّورية، وضع مردم بك بالاشتراك مع صبحي حديدي وزياد ماجد كتاباً بعنوان “في رأس بشار الأسد” صدر في أواخر 2018. وقد قلّدته فرنسا وسام الشّرف من مرتبة “فارس” عن مجمل إسهاماته الأدبية. وهو الوسام الذي سلّمه له المؤرخ الفرنسي هنري لورانس في حفل مهيب أقيم بمعهد العالم العربي في باريس أواخر السّنة الماضية 2018.

هنا نص الحوار كاملاً:

(*) تُسهم منذ ما يزيد عن 30 عاماً بكثير من جهودك في تقديم الثّقافة العربية وترجمتها إلى اللغة الفرنسيّة، كيف بدأ مشوارك الطّويل في العمل الثّقافي بفرنسا؟

حين جئت باريس طالباً في أواخر 1965، لم يكن يخطر ببالي أنّي سأبقى فيها عشرات السّنين، ولا أنّي سأصبح في يومٍ من الأيّام ناشراً معنيّاً قبل كلّ شيء بترجمة الأدب العربي إلى اللغة الفرنسيّة. هذا، على الرّغم من ولعي القديم بالأدب، وخصوصاً بالشِّعر، ومن هوسي بالكتب الذي دفعني في أثناء دراستي الجامعيّة في دمشق إلى العمل في مكتبةٍ مُختصّةٍ ببيع المنشورات الفرنسيّة. ما جرى لي هو أنّي اضطررت، بعد سبع سنين قضيتها بين الدّراسة والنّشاط السّياسي وما كان لا بدّ منه من “بوهيميّة” الشّباب الأوّل، إلى البحث عن عملٍ يضمن لي على الأقلّ تجديد بطاقة الإقامة، فوجدته سنة 1972 في مكتبةٍ جامعيّةٍ عريقة، هي مكتبة معهد اللغات والحضارات الشرقيّة، موظّفاً متعاقداً بمرتّبٍ صغير لمدّة ثلاثة أشهر، ثمّ لسنة، ثمّ لسنةٍ أُخرى، ودام ذلك إلى أن استقلت في 1986 بدافع الملل. تعلّمت الكثير في غضون عملي في المكتبة، ولم أغادرها إلّا بعد أن لمست وشممت وتصفّحت جميع مُقتنياتها من الكتب العربيّة، وأغلب ما زخرت به من أعمال المستشرقين القدماء والمحدثين. وفي سنة 1980 أسّست مع صديقي إلياس صنبر داراً للنّشر أسميناها “كتابة”، وكنّا نتطلّع إلى مضاهاة ما يُطبع في فرنسا لهواة “الكتب الجميلة”، وقد نشرنا بالفعل، بالعربيّة وبالفرنسيّة، بالتّعاون مع صديقنا العزيز محيي الدّين اللبّاد، ستّة كتب من التّراث العربي يتضمّن كلٌّ منها صفحاتٍ مصوّرة من مخطوطٍ قديم. ولو توفّر لنا آنذاك بعض الدعم المالي لما اقتصر إنتاجنا على العلبة السّوداء الأنيقة التي ضمّت الكتب الستّة، ومعها كتابٌ سابع يُعرّف بها وبكتّابها بقلم المستعرب الكبير أندريه ميكيل. وفي 1981 كنت أحد مؤسّسي مجلّة الدّراسات الفلسطينيّة بطبعتها الفرنسيّة، وكانت تتميّز، حتّى عددها الأخير في حزيران/ يونيو 2008، بانفتاحها على الإنتاج الفكريّ والثقافيّ. وممّا أعتزّ به أنّها شاركت، بقدر المُستطاع لمجلّةٍ سياسيّة، في حركة ترجمة الأدب العربي، إذْ خصّصت زاوية للشِّعر والقصّة القصيرة.

(*) وكيف ومتى بدأت رحلتك مع سلسلة “سندباد” الأدبيّة والمعنيّة بترجمة الآداب العربيّة إلى الفرنسيّة؟

كانت حركة التّرجمة هذه قد انطلقت في 1972 بفضل دار سندباد التي نشرت في السّبعينيات والثّمانينيات ترجمات لبعض أعمال نجيب محفوظ، ويوسف إدريس، والطيّب صالح، وغسّان كنفاني، وبدر شاكر السيّاب، وأدونيس، وصنع الله إبراهيم، وعبدالرحمن منيف، وغيرهم. ومن مآثرها في نظري اهتمامها بالتّراث الشِّعري والنّثري، من مجنون ليلى إلى أبي نوّاس، ومن الجاحظ إلى ابن حزم، وكذلك بمؤلّفات كبار الصّوفيّين مثل الحلّاج والجُنيد وابن عربي. تعرّفت إلى صاحبها بيير برنار غداة تأسيس “كتابة”، وتداولت معه في منتصف الثّمانينيات عن

مشاريع لم يُكتب لها النّجاح، واشتركنا في 1990، بعد أن عُيّنت مُستشاراً ثقافيّاً في معهد العالم العربي، في تنظيم معرض الكتاب العربي– الأوروبي. وعندما توفّي في 1995، انتقلت ملكيّة دار سندباد إلى أكت سود، وكنت قد تولّيت قبل سنة مسؤوليّة سلسلتها “عوالم عربيّة”، فكلّفتني بالإشراف على فرعها الجديد، وهذا ما كان حتّى اليوم.

عدم رضى

(*) باعتبارك أحد الذين أخذوا على عاتقهم أن يكونوا جسراً بين الثّقافة العربيّة والفرنسيّة، كيف ترى حركة ترجمة الأدب العربي اليوم إلى الفرنسيّة، وكيف تقارنها بما كان يحدث في ثمانينيات القرن الماضي؟

نشطت حركة التّرجمة شيئاً فشيئاً في الثّمانينيات، إذ ساهمت فيها، مع سندباد، دور نشرٍ مرموقة، مثل غاليمار، وسوي، ومنوي. لم تُنتج أيّ منها أكثر من كتابٍ أو كتابين، ولكنّ حضور الأدب العربي فيها إلى جانب الآداب العالميّة، وليس في دارٍ مختصّة، شجّع القرّاء على الاطّلاع عليه، وعرّفهم على أهمّ أعمال بعض الكتّاب مثل “الزّيني بركات” لجمال الغيطاني و”المتشائل” لإميل حبيبي، وأحلّ محمود درويش مكانةً خاصّة في المشهد الثّقافي الفرنسي. وفي الثّمانينيات أيضاً، أعدّ معهد العالم العربي بُعيد تأسيسه، وقبل افتتاح مبناه في 1987، برنامجاً لترجمة عشر روايات أو مجموعات قصص قصيرة، نُشر تسعٌ منها في دار لاتيس، ومن بينها الكتابان الأوّل والثّاني من ثلاثيّة نجيب محفوظ. كانت فرنسا إذاً رائدةً في هذا الميدان إذا ما قورنت بالدّول الأوروبية الأُخرى، إيطاليا أو إسبانيا مثلاً، حيث لم تنطلق حركة التّرجمة من اللغة العربيّة في هذه اللغات إلّا بعد حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل في 1988، وما زالت فرنسا تحتلّ حتّى الآن المرتبة الأولى (نحو عُشر الإنتاج العالمي)، قبل إسبانيا وتركيا وإيران وألمانيا.

كما تُبيّن الدّراسات القليلة المتوفّرة عن التّرجمة من العربيّة إلى الفرنسيّة نهوضاً ملحوظاً في التّسعينيات منذ أن أصدرت أكت سود في 1992 أولى روايات سلسلة “عوالم عربيّة”، ثمّ أتبعتها بدءاً من 1996 بتسع أو عشر ترجمات في كلّ سنة. ومع ذلك، لم يتجاوز عدد ما تُرجم في فرنسا من العربيّة في كلّ سنة 1% من مجموع التّرجمات عن اللغات الأجنبيّة (0.8% في 2018، مقابل 12.2% من اليابانيّة، و0.9% من الهولنديّة، ولكنْ 0.6% من الصينيّة!). ولعلّ أوّل ما ميّز أكت سود عن جميع دور النّشر الأُخرى، غير اضطلاعها طوال هذه السّنوات بأكثر من نصف التّرجمات الأدبيّة عن العربيّة (لا تتجاوز منشورات دور النّشر الكبرى مُجتمعةً 8%)، هو اتّباعها برنامجاً يهدف إلى التّعريف بما تعتقد أنّه يستحقّ أن يُعرّف قبل غيره، مؤمّلةً أن تُكافأ جودته ببعض الرّواج في السّوق. أضرب على ذلك مثلاً برنامج سندباد الشِّعري الذي أدّى تدريجيّاً إلى نشر مختاراتٍ من الشِّعر الجاهلي ومن شعر العصر العبّاسي الأوّل ومن شعر المتنبّي وأبي فراس الحمداني والمعرّي، بمُوازاة محمود درويش وسعدي يوسف وأُنسي الحاج وعبّاس بيضون وسركون بولص وبسّام حجّار ووديع

سعادة وإيمان مرسال، ولم يشذّ نهج السّلسلة العربيّة في أكت سود عمّا يُسمّيه الفرنسيّون “سياسة الكاتب”، وتعني وفاء الدّار لكُتّابها، وذلك بمتابعة أعمالهم اللاحقة بحيث ترسّخ أسماؤهم في ذاكرة القرّاء.

أتمنّى أن لا يُفهم من كلامي، على الرّغم من اعتزازي بإنجازات سندباد، أنّي راضٍ عن أحوال التّرجمة الأدبيّة عن العربيّة ونشرها في السّنوات الأخيرة، إذ أنّها تدهورت من حيث التّوزيع لأسبابٍ تصعب الإحاطة بها كلّها، منها ما هو عام، يتعلّق بتضخّم الإنتاج الرّوائي، وعجز أغلب المكتبات عن عرض القسم الأكبر ممّا يُنشر في واجهاتها وعلى مناضدها (وهي قلّما تحتفظ بالكتاب أكثر من شهر إذا لم يلقَ رواجاً سريعاً)، ومنها ما يخصّ صورة العالم العربي والإسلام المتدنّية في الغرب. وتتجدّد هذه الصّورة كلّ يوم عبر وسائل الإعلام الكُبرى التي يكاد يختفي فيها تماماً صوت ضحايا الاستبداد السّياسي والتعصّب الدينيّ، المتطلّعين إلى شيءٍ من الحرّيّة والكرامة. وما يزيد الطين بلّة سلوك بعض الكتّاب العرب الذين “يعوون مع الذئاب”، بحسب التّعبير الفرنسي، بحثاً عن شهرةٍ لا تُكلّفهم أيّ عناء.

(*) هل يمكننا أن نعدَّ أن حركة ترجمة الآداب العربية إلى اللغات الأوروبية نشطت بعد الرّبيع العربي؟ وكيف تدلّل على هذا النّشاط إن كان قد حدث فعلاً؟

كلّا، مع الأسف. كنّا نفترض أنّ الحراك الجماهيري الذي عمّ العالم العربيّ في 2011 لا بدّ من أن يُثير على الأقلّ فضول جمهور القرّاء، وأن يحثّ دور النّشر على الاهتمام بما كتبه ويكتبه العرب عن أحوالهم، وخصوصاً الجيل الشّابّ، ولكنّ هذا لم يكن إلّا في حدودٍ ضيّقة، وأدّت الثّورة المضادّة إلى عكس ما افترضناه وتمنّيناه، أي إلى نفور القرّاء أو حذرهم من كلّ ما يمتّ بصلة إلى العرب والمسلمين. ربّما ازداد هنا وهناك عدد الكتب المُترجمة بسبب الهجرة غير المسبوقة واستقرار عددٍ كبير من الكتّاب في أوروبا، ولكنّي واثقٌ من انخفاض المبيعات في فرنسا، مثلاً، إلّا في حالاتٍ نادرة، ولا أخجل من الاعتراف بأنّنا أخفقنا في تسويق مؤلّفاتٍ لكتّابٍ مُجيدين، ومنهم من كنّا نعتدّ من قبل ببيع ألوف النسخ من كلّ كتابٍ من كتبهم. ومن الجدير بالذّكر أنّ الصحافة الأدبيّة لم تبخل في الكتابة عن أغلب هذه المؤلّفات وفي إطرائها، غير أنّ الفجوة بين العرض والطلب لم تكفّ عن الاتّساع.

(*) تحتفي العديد من العواصم الأوروبيّة اليوم باحتضانها للكثير من شباب الكتّاب العرب الذين برزوا بعد موجات الثّورات العربية، وهو ما نشهده بقوّة في عواصم أوروبية غير باريس، مثل برلين وبروكسل وكوبنهاجن وغيرها. هل يمكن لنا اليوم أن نُطلق على هذه الموجة الجديدة في الأدب العربي الرّاهن بأنّها إرهاص لأدب “لجوء” أو “هجرة”، أو قل أدب “حرب” جديد؟

لم تظهر بعد لهؤلاء الشبّان والشابّات أعمالٌ عظيمة، ولكنّي لا أستبعد أن يتمكّن بعضهم من

صياغة تجربتهم في المستقبل القريب في رواياتٍ ومجموعاتٍ قصصيّة وشعريّة متجذّرة في الواقع العربيّ الرّهيب، ومنفتحة في الوقت نفسه على الأفق الإنسانيّ الرّحب. أخشى دائماً أن يستسهلوا الأمر، مطمئنّين إلى ما يلقونه من تشجيع بعض المؤسّسات، والأدب الجدير بالبقاء يقتضي الكثير من العناء والأناة والجرأة على نقد الذّات. من النّادر جدّاً في تاريخ الثّورات والحروب الأهليّة أن تتمخّض بسرعة عن أدبٍ كهذا، خصوصاً في الرّواية، ولكنّه أتٍ لا محالة، تبشّر به بعض كتابات من بقوا في أوطانهم المنكوبة ومن هاجروا على السّواء.

سوق العرض والطلب

(*) ثمّة دراسة أجرتها الشّاعرة المصرية إيمان مرسال تناولت من خلالها حركة ترجمة الشّعر العربي خلال المئة عام الأخيرة، وخلصت فيها إلى أن أغلب هذه التّرجمات لم تخرج عن إطار نظرة الكيتش التي تنظرها أوروبا إلى الثّقافة العربية، حتى التّرجمات التي تمّت لأسماء كبيرة وبارزة مثل محفوظ ودرويش لم تبتعد عن هذه النّظرة الغربية للثّقافة العربية، فكيف ترى هذه القضية، خاصة وأنك ترجمت درويش وسعدي يوسف وغيرهما إلى الفرنسية منذ سنوات؟

لم أقرأ دراسة إيمان مرسال، وعلى الرّغم من إعجابي الكبير بشعرها، أعتقد أنّ ما خلصت إليه، كما ورد في سؤالك، غير صحيح. لا أنكر أنّ بعض دور النّشر الفرنسيّة أو الأوروبيّة كانت وما زالت أسيرة هذه النّظرة الإكزوتيكيّة، فنجدها لا تهتمّ إلّا بالغريب والعجيب في حياة العرب وثقافتهم. ولا أنكر أيضاً النّزعة الاستشراقيّة العفوية في التّرويج للأدب العربي أحياناً، ومن ذلك على سبيل المثال اختيار صورةٍ “فولكلوريّة” للغلاف لا تتناسب إطلاقاً مع مضمون الكتاب ولا مع شخصيّة الكاتب. ولكن أين الكيتش في تلقّي روايات نجيب محفوظ؟ وبماذا يختلف قرّاؤه الغربيّون في نظرتهم إلى الثّقافة العربيّة عن قرّاء الياباني كواباتا أو البرازيلي جورج أمادو أو الكولومبي غارسيا ماركيز في نظرتهم إلى ثقافة كلٍّ من هؤلاء المشاهير؟ حين صدرت أوّل ترجمةٍ فرنسيّة لروايةٍ لنجيب محفوظ “زقاق المدقّ” سنة 1970، لم تقتصر الصّحافة على امتداح خصوصيّته المصريّة، بل جعلته أحد أحفاد بلزاك أو إميل زولا. وأمّا محمود درويش فقد اشتهر في الغرب، عندما تُرجمت مُختارات من أعماله الأولى، على أنّه شاعر قضيّة سياسيّة وإنسانيّة، وفيما بعد على أنّه شاعرٌ فحسب، مثله مثل شعراء آخرين من اليونان أو المكسيك أو كوريا أو ما شئت من أرض الله الواسعة، وليس في كلّ ما كُتب عنه في فرنسا أو سواها من الدّول الغربيّة ما يُمكن ردّه إلى غير هذين الاعتبارين. أين الكيتش فيهما؟ ثمّ كيف نُفسّر الإقبال على قراءة شعر درويش وعلى تلحينه ومسرحته ودراسته وتدريسه، بعد مرور أكثر من عشر سنين على وفاته، إذا وافقنا إيمان مرسال فيما انتهت إليه؟

وما يصحّ في حالَتي محفوظ ودرويش يصحّ في أحوال الأغلبيّة الغالبة من الشّعراء والرّوائيّين الذين تُرجموا إلى اللغات الأوروبيّة. لعلّ أدبهم قُرئ أحياناً على أنّه وثيقةٌ سياسيّة أو اجتماعيّة، ولم يُحلّلْ بأدوات النّقد الأدبي، وهو ما سبق أن أشار إليه الباحثون القلائل في الموضوع، ولكنّ هذا في حدّ ذاته، وإن استهجنّاه، ينقض صورة “الشّرق السّحريّ” القديمة. إنّ القاعدة الوحيدة التي استخلصتها من موقعي كناشر عن تلقّي الجمهور الغربي للأدب العربي تتلخّص في أنّه من العبث البحث عن قاعدة! ثمّة كيمياء عجيبة تتفاعل فيها عناصر مُختلفة، موضوعيّة وذاتيّة، بمقادير تتغيّر بحسب الظّروف والمزاج العام ويصعب تحديدها بدقّة، وهي التي تحكم على ما ننشره بالنّجاح أو الفشل في سوق الكتاب. ولكن، أليس هذا شأن أيّ عملٍ أدبي أيّا كان مصدره؟

(*) أجري هذا الحوار معك ضمن سلسلة أعكف عليها منذ فترة تحت عنوان “سوق الأدب العربي بالغرب”، هل ثمّة سوق فعليّة للأدب العربي اليوم بالغرب؟ وإن كانت هذه السّوق موجودة فما هي المعايير الأدبية التي من خلالها يتمّ تسويق جديد الأدب العربي في أوروبا اليوم؟

يبدو لي أنّي أجبت عن هذا السّؤال بصورة غير مباشرة. لا معنى للكلام عن السّوق إذا لم نتطرّق إلى العرض والطلب. نعم، ثمّة سوق للأدب العربي في أوروبا، ولكنّها سوقٌ هشّة، غير مُستقرّة، خصوصاً في أيّامنا هذه، بسبب قلّة الطلب، طلب بائع الكتب من النّاشر، وطلب القرّاء من البائع. أحاول كما قلت أن أحدّد بعض المعايير ثمّ أزداد اقتناعاً بلا جدوى أيّ محاولة حين أرى التّفاوت المُريع في أرقام التّوزيع بين كاتبٍ وكاتب، وكلاهما مُبدعان، وبين كتابٍ وكتاب للكاتب نفسه، أو بين النّجاح الإعلامي والفشل التّجاري. لدينا في سلسلة “بابل” الشّعبيّة التي تُصدرها أكت سود نحو أربعين كتاباً مُترجماً عن العربيّة، ممّا يعني أنّها لقيت في طبعتها الأولى بعض النّجاح في السّوق (بين 3000 و5000 نسخة على الأقلّ) وأنّ الدّار تتوقّع لها انتشاراً أوسع وعُمراً مديداً في المكتبات. ستجد فيها، إذا استعرضت عناوينها، “بيست سيلرز” علاء الأسواني مع رواياتٍ لنجيب محفوظ وصنع الله إبراهيم وحنان الشيخ وسليم بركات وجمال الغيطاني والطيّب صالح وإلياس خوري وهدى بركات وسنان أنطون ورشيد الضّعيف وغيرهم، ومعها أيضاً مؤلّفاتٍ شعريّة ونثريّة لمحمود درويش، وقصص شعبيّة من مصر وفلسطين، وبعض الكتب التّراثيّة مثل “طوق الحمامة” لابن حزم وديوان مجنون ليلى وقصائد مُختارة لأبي نُوّاس. ما الذي يُمكن أن نستخلصه من هذه القائمة غير أنّها تضمّ، على تنوّعها، بعض ألمع الأسماء في العالم العربي؟ ولكنْ، أين إبراهيم أصلان ومُحمّد البساطي، وهما من كتّاب أكت سود الذين تعتزّ بهم؟ وأين جبّور الدويهي وحسن داوود ونجوى بركات؟ لماذا لم تبلغ أعمالهم الحدّ الأدنى اللازم من التّوزيع للدخول في ملكوت بابل؟ إنّها الكيمياء العجيبة التي حدّثتك عنها!

مهما يكنْ الأمر، ليس للنّاشرين الأوروبيّين المطّلعين على الإنتاج العربي، إذا وُجدوا، إلّا معيارٌ أدبيّ وحيد لتسويق الكتاب، هو جودته. يُمكنهم أنْ يختصّوا بنوعٍ من الأنواع الأدبيّة، أو بأدب الجيل الشّابّ، أو بأدب الحرب، وقد ينجحون أو يفشلون تجاريّاً ما دامت حالة السّوق على ما هي عليه، إلّا أنّهم يُسيئون إساءةً بالغة إذا كان جلّ همّهم البحث عن صفقةٍ رابحة. أتمنّى أنْ يزداد العرض بحيث ينتشر الإنتاج العربي الجديد والجيّد على نطاقٍ أوسع، ويطّلع الجمهور الغربي على كُتّابٍ مرموقين لم يُنشرْ لهم شيء حتّى الآن، ولكنّي أعتقد أنّ المُهمّة العاجلة، والأصعب، هي العمل الإعلامي الجادّ على زيادة الطّلب. ما الفائدة من إغراق السّوق بالكتب المترجمة إذا كانت لا تباع أو إذا كان ما يُباع منها أقلّ من المرتجعات التي سرعان ما يُضحّى بها في فرّامات الورق؟

استثمار “لعنة الحرب”

(*) ترجمات عديدة تمّت للأدب السّوري الحديث بعد الأحداث الأخيرة إلى الفرنسية، ومن بينها ما أثار الكثير من اللغط والتّساؤلات وكان مثار انتقادات صحافية، كما حدث مثلاً بعد ترجمة كتابين للسّورية سمر يزبك في 2016، وهجوم عبده وازن اللافت عليها، إلى أي مدى ترى أنّ هناك كُتّاباً سوريّين استثمروا “لعنة الحرب” في سورية كما سمّاها وازن؟

أوّلاً، لم تصدر، مع الأسف، بعد 2011 ترجماتٌ “عديدة” للأدب السّوري إلى الفرنسيّة، فعددها يكاد لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، مع العلم بأنّ ما تُرجم للكتّاب السوريّين من قبل كان قليلاً جدّاً. ثانياً، أعتقد أنّ هجوم عبده وازن كان مُجحفاً – وهذا أقلّ ما يُقال. أين الخطأ في ترجمة كتابٍ أو كتابين أو أكثر لسمر يزبك؟ كانت سمر قد نشرت مجموعتين من القصص القصيرة وخمس روايات قبل لجوئها إلى فرنسا، وكانت روايتها “رائحة القرفة” قد تُرجمت إلى الإيطاليّة في 2010، وتبعتها بعد سنة روايتها “لها مرايا”، أي أنّها لم تكن “حديثة نعمة” حين اهتمت بها دار النّشر الفرنسيّة بوشيه شاستيل، ثمّ دار ستوك. ثالثاً، من الطّبيعيّ جدّاً، ومن المطلوب بشدّة من دور النّشر الأوروبيّة، إزاء المأساة السّوريّة، أن تهتمّ بأدب الحرب السّوري. رابعاً، لم يُترجم كتاب “بوّابات أرض العدم” إلى الفرنسيّة في 2016 بفضل إقامة الكاتبة في فرنسا، إذ كان قد صدر قبل ذلك بالإنكليزيّة والنّرويجية والسّويديّة والإسبانيّة والبرتغاليّة. خامساً، يجب أن نبتهج لرواج هذا الكتاب مرّتين: مرّة لأنّ نجاح أيّ كاتب عربي في الغرب مكسبٌ للأدب العربي، ومرّةً لأنّه لفت أنظار قطّاعٍ واسع من الجُمهور إلى الفظائع التي يرتكبها النّظام المتحكّم برقاب السّوريّين – ومن حسن حظّنا أنّه كتابّ جيّد من المنظور الأدبي المحض.

(*) ربّما هي ظاهرة أخرى غريبة، لكن كيف تفسّر أنّ كثيرين من الكُتّاب العرب السّوريين الّشباب (في ألمانيا اليوم مثلاً) لم يكن لهم علاقة بالكتابة قبل دخولهم أوروبا، وصاروا اليوم كُتَّاباً فجأة وتترجم كتبهم إلى الألمانية قبل حتّى أن يصدر بعضها باللغة العربية؟ ألا ترى أن بعض هؤلاء الكُتَّاب استغلوا الدّعم المادي الذي تمنحه المؤسّسات الثّقافية الأوروبية ليقدّموا حالهم باعتبارهم كتَّابا يكتبون عن الحرب، بمعنى آخر، هل كلّ هؤلاء الكُتّاب السّوريين اليوم يستحقّون هذا الدّعم المادي وهذه المساندة من المؤسّسات الأوروبية؟

ليس جميع هؤلاء الشبّان والشابّات من طينةٍ واحدة، فمنهم من كان قد نشر كتاباً أو قصصاً أو قصائد قبل لجوئه إلى ألمانيا، ومنهم من دفعته تجربة الهجرة إلى الكتابة عنها، فكتب ما كتب. ومن المعروف أنّ ألمانيا تسعى إلى اندماج المهاجرين إليها، ولذلك لم أستغرب الدعم المادي والمعنوي الذي حصل عليه هؤلاء الشبّان من قبل بعض المؤسّسات المانحة. قلت في ردّي عن سؤالك المتعلّق بأدب الحرب إنّي أخشى فقط أن يستسهلوا أمر الكتابة، وبالأخصّ كتابة الشّعر، وأن يعتبروا أنفسهم شعراء مُجيدين لأنّ نصّاً من نصوصهم تُرجم إلى الألمانيّة، أو لأنّهم اشتركوا في ندوةٍ أدبيّة مع كتّابٍ ألمان. آمل أنْ لا يخدعهم هذا النجاح، فهو عابر، ولن يصحّ إلّا الصحيح في نهاية المطاف، وكما قال الحُطيئة: الشعرُ صعبٌ وطويلٌ سُلّمُهْ / إذا ارتقى فيهِ الذي لا يعلمُهْ / زلّتْ بهِ إلى الحضيضِ قَدَمُهْ!

(*) تشرف على سلسلة “سندباد” التي تصدرها دار أكت سود الفرنسية العريقة منذ عام 1995، هل أثّرت الأحداث السّياسيّة العربيّة الأخيرة على مسار نشر هذه السّلسلة، أو هل دفعت هذه الأحداث إلى توجه السّلسلة إلى كتّاب لم تكن لتلتفت إليهم لولا ما كتبوه عن هذه الأحداث؟

نعم ولا! نعم، أثّرت الأحداث لأنّها أدّت أوّلاً، كما قلت، مع أسبابٍ أُخرى، إلى تدهور سوق الكتاب العربي المُترجم، ممّا دفعني إلى تقليص عدد الرّوايات الصّادرة في كلّ سنة، وثانياً لأنّي نشرتُ بعض الكتب السّياسيّة عن الثّورات العربيّة. ولكنّي لم أنشر أعمالاً أدبيّة لها صلة مباشرة بالأحداث إلّا مُختارات شعريّة لسليم بركات ورواية “الموت عمل شاقّ” لخالد خليفة، وكلاهما من الكُتّاب الذين نشرت لهم من قبل.

حدود تصرّف المُترجم

(*) في حوار أجريته ضمن هذا الملف مع المترجم اللبناني أنطوان جوكي، ألمح إلى أن أيّ مترجِم لا يقبل أن يمرّر مقطعاً ركيكاً مكتوباً في لغته الأصلية إلى لغته التي يترجِم إليها، واعترف صراحة أنّه تدخّل في إعادة صياغة بعض هذه المقاطع الشّعرية التي سمّاها ركيكة وقدّمها في الفرنسية بشكل أفضل بكثير من أصلها العربي، إلى أي مدى يجب على المترجِم أن يكون مخلصاً للنّص الأدبي الذي يترجمه وألّا يتدخّل في صياغته أو تحريره من وجهة نظرك؟

قرأت حوارك مع الصّديق أنطوان جوكي، ولم يستوقفني ما قاله في هذا الصّدد، إذ أنّي أعتبر أنّ المُترجم مسؤول قبل كلّ شيء عن النصّ – الهدف، فهو الذي سيُطبع، وهو الذي سيُقرأ. المشكلة التي كثيراً ما تعترضنا هي أنّ دور النّشر العربيّة تفتقد بصورةٍ عامّة إلى مُديرٍ أدبي، وإلى من يُعدّ النصّ للطّبع إعداداً مهنيّاً. يقع على عاتق المُدير الأدبي في أوروبا تنبيه الكاتب إلى أخطائه في بناء الرّواية، كالمفارقات التّاريخيّة أو التّناقض في عرض الأحداث أو في وصف الشّخصيّات، إلخ. وقد يقترح عليه تعديلاتٍ كبيرة كتقديم فصلٍ أو تأخيره أو اختصاره أو حذفه. أمّا مُعدّ النصّ فيُقدّم للنّاشر مخطوطة نهائيّة تلتزم القواعد الشّكليّة المعمول بها في الدّار، بعد تصحيح الأخطاء اللغويّة والأسلوبيّة الفادحة والإشارة إلى الجُمل والمقاطع الملتبسة حتّى تُعاد صياغتها. نادرون هم النّاشرون العرب الذين يقرؤون النصّ الموكل إليهم بعينٍ نقديّة ويُراجعون الكاتب في شأن ما سها عنه، ولذلك يُضطرّ المُترجم، بالاتّفاق مع النّاشر، إلى أن يقترح على الكاتب التّعديلات التي يراها ضروريّة، وله أن يتصرّف في الصّياغة برويّة وفق ما اصطُلح عليه في اللغة – الهدف. وليس في هذا كلّه أيّ خيانة للنصّ الأصلي، بل يجب أن يُشكر للمُترجم والنّاشر معاً حرصهما على طباعة نصّ مُحكم يستمتع به القرّاء. أذكر في هذا الصّدد أنّي رأيت مخطوطةً لصمويل بيكيت، وهو من هو، وفي هوامشها اقتراحاتٌ من ناشره المشهور جيروم لندون، صاحب دار منوي، بإعادة صياغة بعض المقاطع وحذف بعض الجُمل. سألت لندون: هل يقبل بيكيت أن تتدخّل في نصّه؟ فأجاب: سيقبل شاكراً لي ما فعلت! وأذكر أيضاً أنّي سألت نجيب محفوظ عن رأيه في مسألة تصرّف المُترجم فقال إنّه لا يعترض عليه إذا كان لا بدّ منه لأناقة الترجمة وقراءتها بمتعة من قبل القارئ الفرنسي. ما يجب أن يُدهشنا في ما قاله أنطوان جوكي ليس تصرّفه في الترجمة، بل كثرة الأخطاء في النصّ الأصلي!

(*) وهل يعني هذا أن التّرجمات الأوروبية للأدب العربي تخضع لإعادة صياغة أو تحرير من قبل النّاشر والمترجم الأوروبي؟

كلّا، إذا كان النصّ الأصلي سليماً من العيوب التي ذكرت وإذا لم تكن ترجمته الحرفيّة عسيرةً على الفهم. أمّا إذا رأى المُترجم أنّه مُضطرّ إلى التّصرّف فيما يتعدّى تصحيح الهفوات التّاريخيّة أو الجغرافيّة أو أداء المعنى وفق القواعد المرعيّة في اللغة المُترجم إليها فعليه دائماً أن يستأذن الكاتب.

(*) أعتقد مع تاريخك الطّويل في العمل الثّقافي بفرنسا أنك تستطيع أن تضرب لنا بعض هذه الأمثلة، سواء كانت تؤكّد أو تنفي ما طرحته في السّؤالين السّابقين؟

سأضرب لك ثلاثة أمثلة: الأوّل أنّ مُترجم رواية “ذات” لصنع الله ابراهيم – التي يتناوب فيها السّرد والتّوثيق – اقترح عليه اختصار الفصول التّوثيقيّة، فوافق، وكذلك الأمر في رواية “شرف” التي حُذف في ترجمتها إلى الفرنسيّة نصّ المسرحيّةً التي كتبها أحد السّجناء. والثّاني أنّ مُترجمة “أولاد الغيتو” لإلياس خوري اقترحت عليه أن تحذف نحو ثلاثين صفحة من قصّة وضّاح اليمن التي تتضمّنها الرّواية، فقبل، وحسناً فعل. والثّالث أنّي كنت أراجع بانتظام محمود درويش في أثناء ترجمة “ذاكرة للنسيان”، وهو كتابٌ مليء بالإحالات التّاريخيّة والسّياسيّة والأدبيّة التي يستعصي فهمها على القارئ الفرنسي، وكان يطلب منّي بإلحاح أن أتصرّف في صياغة النصّ حتّى يُقرأ بسلاسة.  

(*) نهاية، مَن مِن الكتّاب العرب اليوم الذي ترى أنه يجب أن ينقل إلى لغة رامبو وموليير، ولماذا؟

يستطيع القارئ الفرنسي إذا شاء، من خلال ما تُرجم حتى الآن من الأدب العربي القديم والحديث (في سندباد/ أكت سود وحدها 300 كتاب)، أن يطّلع على اتّجاهاته الرئيسة وعلى نماذج من أعمال العشرات من أبرز كتّابه. ولكنّ من ينظر بدقّة في قائمة هذه الترجمات يُلاحظ غياب أو ندرة كُتّاب المغرب العربي والسودان والجزيرة العربيّة، ولذلك أعتقد أنّ الاهتمام بهم في السنوات القادمة من الأولويّات. من الملاحظ أيضاً أنّ بعض الروايات التي تُعتبر من عُيون أدبنا المُعاصر، على اختلاف عوالم كتّابها وحساسيّاتهم الاجتماعيّة والفكريّة والأدبيّة، لم تُترجم بعد، ومنها “الخُماسين” أو “السّؤال” أو “سلطانة” أو “الرّوائيّون” لغالب هلسا، ومنها “رامة والتنّين” لإدوار الخرّاط و”المسرّات والأوجاع” لفؤاد التكرلي، وقد تعسّرت من جهةٍ أُخرى، طوال هذه السنوات، ترجمة المسرح لأنّ دور النّشر قلّما تُقبل عليها ما لم يتوفّر للمسرحيّة مُنتجٌ ومُخرج (وكيف يتوفّران إذا لم تُترجم؟!)، ولعلّها لهذا السبب أجدر الأنواع الأدبيّة بالدعم المالي في أيّامنا من قبل المؤسّسات المانحة.

ذكرت لك قبل كلّ شيء “النواقص” التي أراها معيبة وآمل أن تعمل دور النّشر الأوروبيّة على سدّها. أمّا ما عداها من الإنتاج الأدبي الحالي، فمن القادر على الإحاطة به من الخليج إلى المُحيط ليُقرّر ما “يجب” أن يُترجم؟ لقد صدرت في العام الماضي في المغرب الأقصى وحده 159 رواية و94 مجموعة قصصيّة و233 مجموعة شعريّة و23 مسرحيّة! كلّ ما أستطيع أن أجيب به عن سؤالك هو الإشادة بكتابين صدرا منذ قليل: “مملكة آدم” لأمجد ناصر و”مستر نون” لنجوى بركات. وسيسعد عزيزنا رامبو إذا تُرجما إلى لغته!

سوق الأدب العربيّ بالغرب.. رؤية للمشهد الألماني (7)

منذ اللحظة الأولى التي تواصلت فيها مع المترجمة الألمانية ساندرا هتزل (مواليد 1980)، لاحظت حماسها الشديد للردّ على أسئلتي، ولفتني امتلاكها حسّاً ذكيّاً من المداعبة والسخرية الحادة في كثير من ردودها، هي التي قالت فور قراءتها للأسئلة: “واو! قرأتُ مباشرة الحلقات السابقة لملفّك حول “سوق الأدب العربي بالغرب”، ومع أني عرفت من أول سطر أنني طبعاً من “المتّهمين” (أعقبتها بغمزة عين) رأيت أيضاً أن بها الكثير من التساؤلات والأفكار المهمّة التي تدور برأسي”.

كانت نبرة إجابات هتزل (التي وصلتني بعد ثلاثة أسابيع من إرسالي الأسئلة، والتي صيغت كما أوضحت لي بمساعدة من صديقيها عمار عيروطة ويامن حسين في التدقيق والتصحيح اللغوي) تحتدّ أحياناً مدافعة عن الكُتب التي ترجمتها إلى الألمانية، وتارة أخرى هادئة وطارحة بنفسها بعض التساؤلات التي تشغلها. باختصار كان الحوار مع هتزل ضرورياً لأهمّيته ضمن ملفّنا الموسّع حول “سوق الأدب العربي بالغرب”، وذلك بفضل حركتها الدؤوبة مؤخراً في الترجمة، وأيضاً لإطلاقها مؤسسة ودار نشر 10/11، شعارها “ملتزمون بنشر أدب جريء على القيود والقوالب ويتناول مواضيع معاصرة الأهمية بالعربية، ومنها إلى لغات أخرى، عن طريق وكالة أدبية ومقابلات ومنشورات وأشياء جميلة أخرى”.

أصدرت هتزل حتى اليوم عدداً من الترجمات عن الأدب السوري الجديد، من بينها أعمالٌ لعارف حمزة ورشا عباس وعبّود سعيد وعسّاف العسّاف وغيرهم، كما تستعد لإصدار عدد آخر من ترجماتها الجديدة.

حاولتُ قدر الإمكان، في حواري الذي طال قليلاً مع ساندرا هتزل، أن أنصت إليها أكثر من أن أتكلم، فشهادتها الهامة تقدم لنا هنا صورة وافية عن جانب مستقل في الوسط الثقافي العربي النّشط والفعّال اليوم في العاصمة الألمانية برلين، بدا لي من اللحظة الأولى أنها قرأت بالفعل حلقات الملف بتأنٍّ شديد، وأن بعض نقاطه قد أثارت انفعالها، فبدأت تردّ على أسئلة لم أفكر أصلاً في طرحها. دافعت هتزل عن مشروعها في الترجمة وعن اختياراتها لمن تترجمهم عن إيمان حقيقي بما تفعل، لذا أرجو أن تكون أهمية ما جاء على لسانها في شهادتها التالية، شفيعاً لي لدى القارئ عن هذا الحوار الطويل، الذي ننشر اليوم الجزء الثاني والأخير منه:

الكتابات الرقمية الجديدة

(*) ألا ترين أننا نتحدث عن مستويين مختلفين من التلقي الأدبي، أنت تتحدثين عن ما يشبه صرعة جديدة في كتابة ما بعد الإنترنت، وأنا أتحدث عن مفهوم الكتابة الإبداعية ما قبل الإنترنت، ألا يأتي خلافنا في بعض النقاط من هذه النقطة تحديداً؟

تبقى النقلة نقلة كبيرة. وعلينا أن نسأل أيضاً: إلى أي حد كان عسّاف وعبّود مدركين للقراءة ما بعد الحداثية التي ستقرأ نصوصهما في ألمانيا؟ أظنّ أنه يمكنني القول بأنهما لم يكتبا ما كتبا تأثّراً بمفهوم أدبي “ما بعد حداثي” ما. لكنّهما بكلّ ممارساتهما ومرجعياتهما (سينما وموسيقى و.. و..) هما أبناء زمن ما بعد الحداثة ويجيدان لغته بشكل عفوي. فهل كان فعل النقل هذا مشروعاً؟ من الساذج التفكير أن قطعة أدب عربية مترجمة، ستبقى أدباً عربياً بعد ترجمتها. أقصد أن المتلقّي الألماني ينظر إلى نص مترجَم عن العربية أو عن أي لغة أخرى بالدرجة الأولى باعتباره نصاً مكتوباً بالألمانية. وسوق الأدب العربي أو غيره في ألمانيا، تعمل ضمن شبكة مرجعيات ألمانية. سيرون كل نص من منظور ألماني، إن كان مترجماً عن اليابانية أو عن الإنكليزية أو عن العربية.

“قيل كلام عن تشويه صورة الأدب العربي في الخارج، وأن هذا التشويه يفترض أنه مبنيّ على سوء تقدير منّي أساسه عنصري”

وأعلم جيداً أن البعض انزعج نوعاً ما، مما اعتبر أنه تجاوز مني لدوري كمترجمة بهاتين الحالتين تحديداً. وقيل كلام عن تشويه صورة الأدب العربي في الخارج، وأن هذا التشويه يفترض أنه مبنيّ على سوء تقدير منّي أساسه عنصري، وقيل بأن هذين العملين ليسا بأدب أصلاً، وأنني “نفختُ” أسماء في الخارج، لا يعرفها أحد في الوطن العربي، وأن هذه الأسماء لا تستحق “كل هذا المجد والمال”، طبعاً بدلاً عن آخرين كانوا سيستحقونه أكثر. لكن، أليس هذا من المثير للاهتمام: حقيقة لستُ أنا من كبّرت عبّود سعيد وعسّاف العسّاف. كيف كان ممكناً أن أعلم بوجودهما أصلاً، لو لم يقم بالاهتمام بهما آلاف القراء العرب والكثيرون منهم من الوسط الثقافي على الفيسبوك، للدرجة التي وصلت أصواتهم حتّى عندي؟ حسناً، المشكلة تبدأ عندما تصير هذه النصوص ذات الشعبية الكبيرة كتاباً، وبالتالي تدخل فضاء التلقّي الثقافي، وما بالك إذا كان هذا الكتاب ترجم ونشر في الخارج! ما فعلته هو أني رميت هذه النصوص من محليّتِها إلى ساحة المُلاكمة الخاصة بالأدب، بل أكثر، بالأدب الألماني، بغرفة الصدى الألمانية، كوني كنت وما زلت معجبة بها وظننت أن آخرين قد يعجبون بها أيضاً، وكنت على حقّ. هناك تيار كامل في الأدب في ألمانيا وأوروبا والعالم لهذا النوع من النصوص، اسمه “الكتابات الرقمية الجديدة”، ليس طبعاً بمعنى أن الكاتب يستخدم الكمبيوتر، بل كتابات يكون مكانها وفي كثير من المرّات مضمونها أيضاً هو الإنترنت، وتعكس عالم الإنترنت بشكل واع. لم يكن عبّود سعيد وعسّاف العساف بحاجة إلى سوريّتهما كي تتم قراءتهما ضمن هذا السياق في التلقّي الألماني، الذي تمثله كتابات تلعب في كثير من الأحيان مع حالةٍ عابرةٍ ما، بشكلها ومضمونها (أليس الشّعر دائماً محاولة القبض على “العابر” بشكل أو بآخر؟) مثلاً، لدينا الكاتبة النمساوية الشهيرة شتيفاني زارغناغل، التي بالمناسبة كتبت حين تعرّفت على نصوص عبود سعيد: “واو! هذا الشاب عمليّاً أنا، فقط إنه ذكر!”. لم تقل “آه، انظروا هذا اللاجئ المسكين، إنه يجيد الكتابة أيضاً!”، بل تماهت مع نصوص شاب يعيش في ظل الحرب السورية بشكل مباشر، لدرجة أنها رأت نفسها فيه، دون شفقة، وهذا ما كنت أريده. القواسم المشتركة بينهما واضحة: زارغناغل نشرتْ أربعة كتب مؤلّفة فقط من منشورات فيسبوكية ذاتية جداً. ومثل عبّود سعيد تكتب بتهكّم وذكاء وسخرية حادة وفكاهة سوداء عن مواقف يومية، غير أنها تلعب كثيراً باللغة “الرديئة”، ويتشابهان في الجدل الجاري حول جودة كتاباتهما: تستفز زارغناغل المتلقّين المحافظين في النمسا وألمانيا، وهناك فجوة بين من يرى كتابتها أدباً وبين من لا يراها كذلك. وبالطبع، الرجل الأبيض اليميني يكره شتيفاني زارغناغل كالطاعون. صدر لها كتاب آخر بعنوان “في المستقبل كلّنا ميّتون” أيضاً عن دار ميكروتيكست، وليس بالصدفة: ناشرة الدار نيكولا ريشتر تهتمّ بشكل خاص كما تقول “بالموقف الذاتي في السرد على الإنترنت”. وآخر إصداراتها كتابان بعنوان “خيال علمي مصغّر” لبريطاني يدعى أو. ويستن، اشتهر بقصص من الخيال العلمي يكتبها بشكل تغريدات على تويتر. والكتابات الميتا- أدبية على تويتر للغواتيمالي آلان ميلز، التي صدرت تحت عنوان “ثقافة فرعية للأحلام”، حيث يلعب مع الميراث الأدبي العالمي من كافكا إلى بورخس، ومن جويس إلى أوسكار وايلد.

هنا ترتفع سخرية ساندرا هتزل قليلاً وتحتد فتقول: “أمّا العرب! أعوذ بالله! يبدو وكأن عليهم كشرط لنيل شرف الاعتراف بأدبهم أن يبقوا تحت عباءة المؤسسات الثقافية العربية الكبرى ووزارات الثقافة. بالنسبة للبعض يجب ألا يكون هناك إلا صحراء إسمنتية خارج المؤسسات وذوقها، ويتطوعون بالدعس على الزهور البرّية التي تكسر غطاء الإسمنت من الأسفل فوراً. وأنا آسفة على السخرية، فأنا من الأشخاص المؤمنين بأنه، في أي مكان في العالم، هنالك حركات ثقافية “بالأسفل”، بعيداً عن المؤسسات الكبرى. حركات تجعل الثقافة تأخذ اتّجاهات جديدة وتسبق المفهوم الثقافي لدى المؤسسات بعقود. والإنترنت باتساعه وبانعدام الرقابة عليه يمنح مساحات ومنابر لهذه التجارب. كانت تأتيني اتهامات وإهانات أسوأ أيضاً، وصل حدّ أن “المنافحين عن الثقافة العربية الراقية” اتّهموني بالتعهّر وبأنني ألبّي طلبات السّوق وأن الجودة لا تعني لي شيئاً، وأنني ألهث وراء المال فقط. على الأقل هذا الاتّهام الأخير قادر أن يضحكني قليلاً، ضحكة قصيرة جداً بصوت حاد وهستيري، تليها فوراً نوبة مغص. لقد ترجمتُ كتاب عبّود سعيد الأول دون أي مقابل مادي، بل حتّى مرّتين: مرّة إلى الألمانية ومرّة إلى الانكليزية (بمساعدة صديقي الفنّان الأميركي نيك كوزماز). “أهااا!” هنا ينهض شيرلوك هولمز الثقافة العربية الراقية، فيقول “معنى ذلك أنّه كان عملاً خيرياً!” لأ! “لا أعمال خيريّة في الأدب”، هنا أوافق مع النص بنفس العنوان لجمانة مصطفى الذي اقتبستَ منه في الجزء الثاني لسلسة مقالاتك هذه، والذي برأيي ضعفه الكبير هو التكبّر والتعميم غير القابل للتحمّل في كل سطر. صدّق أو لا تصدّق: كان فقط إيماني وحماسي بما أرى في هذه النصوص من جودة هو ما دفعني إلى ترجمتها. أيضاً، لم تدفعني مؤسسات كبيرة بأجنداتها المخفية أو المعلنة، أجندات أنفذها أنا بشكل واع أو غير واع. إذاً لا عوائد مادية ضخمة، ولا أعمال خيرية، ولا مؤسسات كبيرة، لا يبقى إلا ذوقنا الرديء كدافع لنا. ربما ذوق الكثير من المثقفين الألمان رديء أيضاً. يمكن! بصراحة أتخيّل أنكم لو تجيدون قراءة كلاسيكيات الأدب الألماني ذات الشعبية بالعالم العربي كبرتولد بريشت بلغتها الأصلية، لكنتم تكرهونه لأن بريشت أيضاً كان يتمرّد ضد الثقافة الراقية وتصوّراتها في زمانه، وكان يكتب بعض نصوصه بلغة العاهرات وعمّال الميناء”.

لم أشأ أن أرد على انفعال هتزل بطرح مزيد من الأسئلة، كانت كلماتها المتدافعة تشرح الكثير: “وعن الاتهام العبثي باللهاث وراء المال: أتفهّم طبعاً أن كلّ شعب وكل لغة ترى نفسها مركز الكون، لكن لا بد من التذكير أن نشر أدب عربي في ألمانيا ما يزال مغامرة مادية بالنسبة للناشر، خاصّة إذا كان أدباً عربياً “بديلاً”، كما أحبه أنا، وخاصة إذا كان شكل الكتاب غير كلاسيكي، أي لا يندرج تحت صنفي الرواية أو السيرة الذاتية، بل يلعب بالمستويات وبالتصنيفات، مثل الأعمال التي ترجمتها. ودعني أوّضح: دار ميكروتيكست هي دار صغيرة جدّا ضمن مشهد ألماني يسمى بـ”دور النشر المستقلة”، وهي دور نشر صغيرة وغالباً جديدة، تتابع بإصداراتها جمالية خاصّة، وترفض طموح الدور الكبرى بالنجاحات الحاشدة وتحقيق أقصى قدر من الربح، وليست ممتَلكة لدور نشر كبرى أو شركات. بالمقابل، لميكروتيكست وأمثالها حريّة أكبر وقدرة على التجريب مع أشكال جديدة من الأدب لا تجرؤ عليه الدور الكبرى. في النهاية، هناك سلسلة اتهامات لعبّود سعيد وعسّاف العساف: بأنّهما باعا نفسيهما للغرب، وأنّهما كتبا أشياء تلعب على وتر تأثّر المتلقي الغربي البليد (والذي يموّلهم بالضرائب التي يدفعها، يا للويل!)، لأنّهما يريدان الحصول على اللجوء وعلى مال المؤسسات الأوروبية. بغض النظر عن جودة نصوص هذين الكاتبين، من الصعب القول بأنهما حاولا إثارة شفقة أحد. ذوقي، مهما يكن رديئاً، لا يسمح بذلك، لا يميل لمنطق الشفقة أبداً، ونصوص عبّود سعيد وعسّاف العّساف مليئة بالسخرية القارصة، وهما لم يكتبا لجمهور غربي أصلاً، ولا ترقّبا أن تترجم كتاباتهما على الفيسبوك أصلاً. برأيي الاتّهام الضمني بأنني أنظر إلى هذه الأعمال الأدبية وإلى كتّابها نظرة استشراقية، والاتّهام الموجه ضد الكتّاب بأنهم استسلموا لهذه النظرة، هراء كبير”.

ثمرة اللحظة الفريدة

(*) إذاً ما هي أنواع الكتابات العربية الجديدة التي يُقبل عليها القارئ الألماني اليوم؟ ولماذا في رأيك؟

صحيح أن الاهتمام الألماني بالكتابات العربية زاد في السّنين الأخيرة وما يزال، الأمر الذي لا أراه بالسلبية نفسها التي تصفها بها. في السنوات الأخيرة القليلة أصبح هناك، وخاصة في برلين، عدد هائل من الشبكات والتّكتّلات والصداقات بين مبدعي الثقافة من عرب وألمان، خاصة من الجيل الجديد. أظن أنّها المرّة الأولى في التاريخ التي يحدث فيها مثل هذا الاهتمام الحقيقي والمُتساوي وواسع النطاق نوعاً ما. وللمرّة الأولى أرى هذا العدد الكبير من الشباب

العرب من مبدعي الثقافة يُعتبرون جزءاً فاعلاً في المشهد الثقافي البرليني بمبادراتهم، على الأقل في أجواء معينة. هذا الأمر حتماً سينعكس بشكل إيجابي على الاهتمام الألماني بالأدب العربي. لكن أظنّ أن علينا الانتظار قليلاً حتى تظهر كامل ثمرة هذه اللحظة الفريدة، على أمل ألا يخذلنا المشهد السياسي الأوروبي المائل إلى اليمين! لكن خارج هذه الأجواء، فانطباعي أنه لا تزال هناك فكرة مسبقة عن الأدب العربي طاغية إلى حدّ الآن عند الناشرين الألمان، وهي أن هذا الأدب هو أدب “الآخر”، وبالتالي غير قابل للتسويق، هامشي وغير معاصر. كلّما أخبرت أحداً بأنّني أترجم أدباً عربياً، الكلّ، من الناشر إلى جارتي بائعة الألبسة، يفكّر فوراً بنصوص قديمة جداً مزخرفة ومائلة للكيتش، وطبعاً يفكرون بالقرآن الكريم. يرفعون حواجبهم كإشارة احترام، لأن ما أعمله “صعب جدّاً”، لكنّه، من ناحية أخرى، غير ممتع أيضاً، لأن نوع النصوص الذي يتخيلونه لا يهمّ إلا بعض المختصّين والمهتمين بالآثار واللاهوت ولا علاقة له بسوق الأدب الدولي اليوم.

صورة “المندمج الشطور”

تواصل ساندرا هتزل حديثها فتقول: “ثم هناك أيضاً الحالات “البيّاعة” بشكل أكبر، والتي تشكّل الأغلبية أو على الأقل هي الأبرز، لكنها عادة مع الأسف لا تتقاطع مع ذوقي. هي الكتب التي تؤكّد بطريقة شعبوية على النّقاشات المَرَضِيّة أحياناً في أوروبا حول كلّ شيء عربي وتغذّيها. أحياناً ما يشارك الكاتب العربي النظرة الدونية ذاتها للمنطقة التي جاء منها، كما هي الحال مع المصري حامد عبد الصمد، الذي أصبح مشهوراً في ألمانيا بكتبه الشعبوية المهاجمة للدين الإسلامي وأتباعه بشكل تعميمي، من خلال نشر نظرياته اللاعلمية، مثلاً بأن الإسلام هو الأصل التاريخي للفاشية العالمية، تلك النظريات المحبوبة جداً لدى اليمينيين الذين يرون في عبد الصمد “وشهد شاهدٌ من أهله” مؤكِّداً لنظرياتهم بأن هؤلاء المهاجرين المكروهين غير قابلين للاندماج بطبعهم. لاحظ: ناقدون جادّون للدين الاسلاميّ، مثل صادق جلال العظم، لا يعرفهم أحد في ألمانيا إلا بعض المختصين، لأنهم لا يقدّمون أجوبة بسيطة. وأحياناً هناك كتب تُقرأ فقط بسياق يميني أوروبي، لأنها تضرب بنصوصها، حتى لو مصادفةً، على عصب أوروبي مريض. ومن التجارب القريبة لي، نشرت دار أولشتاين الألمانية الضخمة سنة 2015 مقالات المدوِّن السعودي رائف بدوي المعتقل في السعودية، مجمَّعة في كتيّب صغير

بعنوان “ألف جلدة لأني أقول ما أفكّر”، وكلّفوني بترجمته. ثم تُرجم الكتاب من الألمانية إلى الكثير من اللغات، وفي ألمانيا حقق مبيعات عالية جداً، آخر رقم أتذكره كان 50 ألف نسخة، وكان على قائمة الـ”بيست سيلر” التابعة لجريدة “دير شبيغل”، وهي أداة ومؤشر بنفس الوقت لنجاح كُتُب في ألمانيا. لنكن واضحين: أنا طبعاً مع كل الكتابات التحرّرية والثائرة ضد سلطات تضطهد الإنسان، إن كانت دينية أو جندرية أو اقتصادية وأدعم نشرها وبشدّة، لكن بما أن موضوعنا هنا هو سوق الأدب، أردت أن أسلط الضوء على آليات عمل هذه السوق وديناميكيات التلقّي. يا عماد: ليت المبيعات كانت عالية من باب التضامن والإنسانية مع مدوّن عربي معتقل! ليت نشر “أدب الطوارئ” مشروع ناجح و”بيّاع”، كما تقول! السبب الحقيقي لنجاح كتاب رائف بدوي بالذات كان، من وجهة نظري، أنّ موضوع أغلب مقالاته، أي العلمانية والليبرالية، وكيفية تقديم هذا الكتاب في ألمانيا، تَناسبا بشكل ممتاز مع النّقاش الجاري حول الإسلام. مَنْ سجن رائف بدوي بعد أن استفزّته مقالاته بالنسبة للقارئ الألماني يمثّل الإسلام، ورائف بدوي، الذي هو واحد من عدد هائل من المدوّنين العلمانيين العرب على صفحات مثل الحوار المتمدِّن، قُدِّم كحالة فريدة تماماً في المنطقة العربية، كأنّه الشجاع العربي الوحيد الذي تجرأ أن يكتب نقداً ضد الإسلام الوهّابي. رغم أن لها أن تكون معلومة أهم وأجدد بالنسبة للألمان، أنه على العكس، هو واحد ضمن موجة كبيرة! لكن يبدو أن البشر يفضّلون الصور البسيطة، وفي النهاية، فهو أكيد أفضل للمبيعات، إذا بالغنا في وصف التباين بين رائف ومحيطه الثقافي “المتخَلِّف” بعض الشيء.

ونهاية، هناك نوع آخر من الكتب، في أغلب الأحيان لم يكن لمن كتبوها فعلاً أي علاقة بالكتابة قبل وصولهم إلى ألمانيا (الأمر الذي برأيي ليس جريمة أبداً، فكلّ كاتب بدأ بالكتابة يوماً ما) لكنّهم يجسّدون كلّ ما يريد أن يراه الألماني فيهم، مهما كان مهيناً، من صورة اللاجئ المفضّل، إلى صورة ’المندمج الشطور’. فهذه السوق موجودة أيضاً. هناك عدة أسواق وتقريباً لا تتقاطع. وبالمناسبة، فقط لفهم الفرق بين هذه السوق وسوقي: مبيعات نسخ كتاب عبّود سعيد “أفهم واحد على الفيسبوك”، الذي أعتبره كما وصفته “قصة نجاح”، وصلت إلى 1500 نسخة”.

(*) أنشأتِ مؤسّسة ووكالة أدبيّة ودار نشر باسم 10/11 لترجمة الأدب الذي ظهر بعد الرّبيع العربي، ولديك كُتّاب عرب من بلدان مختلفة مثل سورية ومصر والعراق على قوائم هذه الوكالة الأدبية، ما هي الاختلافات التي تجدينها بين أدب هذه البلدان اليوم: سورية ومصر والعراق مثلاً؟

هذا السؤال من نوع “أسئلة للخبراء”، التي عادة أحبّ التهرّب منها، لكن دعني أولاً أصحّح بعض الأشياء: لم أؤسس مؤسسة بل جمعية ثقافية لم تدخل حيّز التنفيذ بعد. أما عن الدار، فالفكرة الأساسية كانت دار نشر عربية بين بيروت وبرلين تطبع كتبها في بيروت، وتوزعها في مكتبات مختارة في العواصم الأوروبية والعربية، وتركّز على الأدب العربي الجديد، وتنجز أيضاً ترجمات لكتابات عالمية إلى العربية، وتوكّل كتّاباً مختارين بكتابة كتب عن مواضيع ذات أهمية. كل هذا حالياً – ما عدا كتابَي رشا عبّاس وعسّاف العسّاف – ليس إلا كلام. لكن فيما يخصّ الوكالة، فهي بصحّة جيدة نسبياً. أولاً، حقيقة ليس لدينا أحد من العراق إلى حد الآن، ورغم أن اسم 10/11 (أو عشرة/حدعش) فيه إشارة مقصودة إلى سنوات بداية الربيع العربي، لكن اختياراتنا لا تقتصر على الكتابات التي ظهرت بعده، بل الفكرة أكثر عن الاحتمالات التي كانت هذه الفترة التاريخية تبدو أنها تتضمنها: إمكانية إسقاط الواقع الراكد القاتل. في العامين 2010 و2011 كلّ شيء كان يبدو ممكناً، وأرى من الجميل ومن المهمّ أن نحافظ على هذه الفكرة عندما نفكّر بالعالم العربي. الآن، ما يخصّ سؤالك عن الفروقات: لم أزر مصر بعد، لكن هكذا من بعيد يبدو لي المشهد المصري الثقافي بالعموم أغنى وأكثر تنوّعاً وثقة بالنفس من المشهد السوري (عذراً يا سوريين!)، الأمر الذي برأيي له علاقة بحجم البلد وزيادة منسوب الحرّية القليل الذي كان موجوداً في مصر مقارنةً بسورية، أو هذا انطباعي، كما يلعب الإنتاج الثقافي الحيوي جدّا في مصر بالقرنين العشرين والواحد والعشرين دوراً في ذلك، من الثقافة الشعبية إلى الثقافة الراقية.

كُتَّاب مكتفون بوظيفتهم كلاجئين!

(*) لكن هناك حالة من التّساؤل حول القيمة الأدبية التي على أساسها تدعم المؤسّسات الألمانية هؤلاء الكُتّاب العرب الجدد.

أتابع تلقّي الوسط الثقافي العربي لعملي وأعلم جيّداً أنّ “البعض” دعنا نقول، ليسوا راضين. مع ذلك أرفض معظم اتهاماتهم كما شرحت سابقاً، عدا اتهام الذائقة “الرديئة” ربما. لا مشكلة لدي في اختلاف الذوق، غالباً كنت سأشعر تجاه اختياراتهم بالشيء نفسه. مع أن بإمكاني الكلام بشكل ملموس أكثر عن الكتّاب الذين ترجمت أعمالهم: طبعاً عثرت على عددٍ لا بأس به من النصوص المنشورة مؤخّراً في ألمانيا، لكتّاب عرب وسوريين ترجمت أعمالهم، ورغم افتراضي أنها ترجمات تجميلية بعض الشيء، إلا أنها ما تزال رديئة المضمون ومملّة، كما جاءتني الكثير من الطلبات من طرف مؤسسات، أزعجتني كثيراً. مرّة مثلاً في معرض الكتاب بفرانكفورت ركضت باتّجاهي سيدة ألمانية خمسينية أعرفها معرفة عابرة، ولم أفهم إلى اليوم ما دورها تماماً، حيث أني فقط أرى اسمها دائماً على قوائم أعضاء هيئات ولجان تخصّ الأدب، كان ذلك في 2015، وعندما لمحتْني السيدة، قفزت أمامي وصاحت بعينين لامعتين: “آه، أنتِ أيضاً هنا؟ أنت تعملين مع هؤلاء “الريفيوجيز”، أليس كذلك؟ هل من الممكن أن تعطيني بعض الأسماء؟” فعلاً، قالت كلمة “لاجئين” بالإنكليزية. طبعاً كانت قد قرأت أنني ترجمت أعمال بعض الكتّاب السوريين الذين كانوا قد لجأوا إلى ألمانيا، وهي ترجمت هذه المعلومة في رأسها على أنني نوع من “السوشل وركر”، أي عاملة اجتماعية. شعرت ببعض الغثيان وقلت لها مسرعة: “لا، لا أعرف أحداً بهذه المواصفات”. أنا متأكدة بأنّها في النهاية وجدت الـ”ريفيوجيز” الذين كانت تبحث عنهم، أي كُتَّاب يكتفون بوظيفتهم كـ”لاجئين”! بهذا المعنى: نعم. مثل جميع المترجمين عن العربية في ألمانيا، كنت شاهدة على الظاهرة التي تشير إليها بسؤالك: فجأة كانت هناك مبالغ هائلة لكلّ المشاريع بكلّ المجالات التي تتعلّق باللاجئين، ونعم: كما هي الحال بالكثير من المشاريع المموّلة، كان على المال أن يُصْرَف بسرعة خيالية لمراعاة الإطار الزمني من طرف المموّل. أو مثلاً، عندما دعتني مديرة مؤسسة كبيرة ومحترمة جداً لدعم الترجمات الأدبية، دعتني أنا ومترجمة أخرى إلى اجتماع، لأنهم فجأة حصلوا على مبلغ هائل لمشروع اجتماعي مع لاجئين، ولم يعرفوا أبداً ماذا عليهم بحق الجحيم أن يفعلوا بهذا المال، لأن العمل الاجتماعي ليس مجالهم! وبأحسن الأحوال نُسأل نحن المترجمين لترشيح أسماء، وبأسوأ الأحوال يتمّ اختيار المضامين بشكل عشوائي، ثم يريدون منّا أن نصلح ونصنع شيئاً مقبولاً من شيء يكون بالأساس رديئاً إلى حدّ الرعب. نعم، أنا أوافق. الاهتمام المؤسساتي بهذا الشكل يخلق تشويهاً. وفعلاً كان هناك اهتمام مفاجئ ومتضخّم بمبدعي الثقافة العرب وخاصة السوريين في ألمانيا. كنت تشعر أن كلّ مؤسسة تريد “السوري الخاص بها”، الآن، وبسرعة! حدثت الأخطاء. وبالتأكيد وجود هكذا مبالغ مالية لا يجذب فقط الفن الجيّد، بل ويغري الانتهازيين أيضا. وسبب هذا التضخّم بديهي نوعاً ما: فموجة اللاجئين الهائلة هي أهم ملف سياسي لهذا العقد في ألمانيا. كانت هناك حالة فوضى، الكل كان يصرخ: اندماج! الكل كان يريد أن يثبت أن كل شيء سيكون على ما يرام، على الأقل داخل فقاعتي اليسارية، والكل يريد معرفة من هؤلاء القادمون. بالمقابل لا أرى أنه ستكون لهذه الهستيريا تداعيات سلبية على الثقافة العربية، لأن الـ”مستحقّين” في النهاية سيحصلون على الدعم، لأن هذا موضوعنا هنا، أليس كذلك؟ بالتأكيد هناك بعض الأسماء ظهرت فجأة وحتى لو بذلنا جهداً كبيراً لن نستكشف أين هي الجودة الفنية فيما يعملون. لكن في المقابل، كلّ النخبة الثقافية السورية الناشطة ثقافياً بكل شِلَلها تقريباً تُقيم اليوم في برلين. اليوم هنالك جالية عربية شابة هائلة من الناشطين ثقافياً، ودفعات كاملة لكليّة الفنون وللمعهد العالي بدمشق وجدوا أنفسهم في برلين. وليسوا سوريين فقط، بل كثير من الفلسطينيين والمصريين وغيرهم من العرب أيضاً. يستقرّون في العاصمة برلين ويتوظّفون بمسارح ودور الثقافة الألمانية. الاهتمام الهستيري من طرف الألمان ساعد بأن يصل الكثير من المبدعين العرب المعروفين و”المندمجين” الآن بشكل ممتاز إلى الشبكات المؤسساتية الألمانية، ما عمل على تكاثر المبادرات والأماكن الثقافية والمؤسسات العربية هنا. حتى أن البعض يهمس أن برلين أصبحت العاصمة الجديدة للثقافة العربية، ما قد يخلق طبعاً تساؤلات كثيرة، لكن بالنسبة لموضوعنا يعني أن الضوابط والتوازنات الـ”طبيعية”، التي كانت ستمنع توزيع المال والاهتمام بأماكن خاطئة، أصبحت موجودة الآن. وبهذا المعنى لا أرى أي داعٍ لأن نصرف طاقتنا ونغضب بسبب كتاب أو آخر تُرجِم على الرغم من أنه “رديء” حسب رأي البعض: كل كِتَاب عربي مترجَم يدعم سوق الأدب العربي ولا يصغّرها. فهذه السوق مشكلتها الأساسية أنها صغيرة جداً. وبالمناسبة: أنا أيضاً أستغرب أحياناً اختيارات الكتب الألمانية المترجمة إلى العربية. هذه القناة أيضاً تحتلّها كلاب حراسة قليلة العدد: أولاً معهد غوته، الذي يرشّح الكتب التي يمول ترجمتها إلى العربية، وثانياً عدد صغير من المترجمين المجتهدين معتمدين على ذوقهم الشخصي. أما نحن في ألمانيا فليس لدينا مؤسسة عربية تموّل ترجمات من العربية إلى لغات أوروبية، إلا جائزة واحدة على ما أظن. الأموال – وبالتالي سلطة الاختيار – تأتي بما يخص النقل للألمانية حصراً من مؤسسات ألمانية، وهي المؤسسات المعدودة نفسها، التي يفترض بالمترجمين من كل اللغات تقديم طلباتهم إليها من أجل الحصول على منح الترجمة. وفي النهاية لا يقدر الأدب المترجم دائماً إلا على تسليط الضوء بشكل انتقائي على بعض الأعمال لمنطقة أو أخرى. هكذا تتبلور الأولويات حسب كل بلد، وغالباً ما يكون أساسها معايير غير أدبية، مثلما هي الحال بتلقّي العربي الخاص لكافكا مثلاً، أو تلقّي بريشت في سورية الاشتراكية الشقيقة.

(*) وماذا عنك أنت، ما هي القيم الأدبيّة التي تحاولين تقديمها للقارئ الألماني من خلال ترجماتك للأدب العربي الجديد؟

حلمي أن أساهم من خلال عملي في إخراج الأدب العربي أمام المتلقّي الألماني من زاويته الأكاديمية النخبوية المغبرّة، مع أنني صرت على شبه اعتقاد بأن هذا الشيء سيحدث في أي حال من دوني، بسبب التطوّرات الجديدة في ألمانيا التي ذكرتها أعلاه. أبحث عن نصوص ومشاريع كتب عربية، تقنعني بجماليتها وتصلح بأن يتلقّاها القارئ الألماني بمرجعياته كنصوص مثيرة وحديثة وذكية، ولأنني أيضاً قارئة ألمانية، لا يمكنني أن أميّز جيداً بين هذين المعيارين. أحلم بكتب عربية جميلة مترجمة تصبح لها فعلاً شعبية في ألمانيا. أنا منفتحة على أشكال أقل تقليدية للكتابة. أحياناً أحبّ نصوصاً تلاعب مستويات مختلفة للغة، أحب نصوصاً تفاجئني حتى بالتأمّلات الأقرب لليوميّات وتشعرني بأنها تسبقني بقدرتها على قول ما لا أستطيع قوله أو حتى التفكير به.

*****

 في أكثر من موضع من هذا الحوار، أردت التدخّل وتصحيح بعض الأمور أمام ساندرا هتزل، لكنني وجدت أيضاً أن دفاعها المستميت عن اختياراتها في الترجمة حق مشروع، ورؤيتها الخاصة لبعض الاتجاهات الجديدة في الكتابة السورية أو العربية اليوم أيضاً حق مشروع، لكن تظل آراؤها هنا محرّضة أيضاً على الاشتباك معها رفضاً أو اتفاقاً، وهو ما ندعو إليه قراءنا من الفاعلين في الوسط الثقافي السوري والعربي والألماني، في محاولة لإثراء ملفنا هذا بآرائهم ووجهات نظرهم فيما يخص سوق الأدب العربي في ألمانيا اليوم.

سوق الأدب العربيّ بالغرب.. عن “مقاولي الثّقافة العربيّة”! (8)

    ماذا لو تلقّيتَ اليوم دعوةً مفاجئةً للمشاركة في مهرجان شِعري دوليّ بالخطأ؟ شاءت المصادفات القدريّة أن يتشابه اسمك على مُنظّمي المهرجان مع اسم الشَّاعر المستحَقّ للدّعوة، فأرسلوا إليك وهم يظنّونك شخصاً آخر؟ ألن تزيدك هذه المصادفة الإلهيّة ثقة في نفسك وتأكيداً على موهبتك؟

    ماذا لو كتبتَ بعد محاولات مُضنية – كما هو واضح – روايتك الرّديئة الأولى، وحشوتها بشعاراتك السياسيّة الزّاعقة، والمدافعة عن الأقلّية التي تنتمي إليها، ورغم هذا تحصد – يا للحظّ ويا للمصادفات العجيبة! – إحدى الجوائز العربية الكبرى المتاحة اليوم، والمكلّلة بمبلغ مالي لا يُستهان به، لا لشيء إلا لأنّ أحد أعضاء لجنة التّحكيم التي منحتك الجائزة، ينتمي إلى ذات الأقلّية التي تنتمي إليها وتدافع عنها؟ ألن تزيدك هذه المصادفة الإلهيّة ثقّة في نفسك وتأكيداً على موهبتك؟

    وماذا لو تغلغلتَ في المؤسّسات الثّقافية الأجنبيّة، وأصبحت في مركز يؤهّلكَ لتبادل المصالح الشّخصية، فتدعو هذا إلى فعالياتك الثّقافية وتمنع ذاك، ليردّ عليك الأوّل لاحقاً بفعالية أحسن منها هنا.. ودعوة أرقى هناك؟

    ماذا لو صدّقتَ اللايكات على صفحتك الشّخصية على الفيسبوك أو تويتر، والتي تأتيكَ من كلّ حدب وصوب من جمهور سطحي الثّقافة، فقط لمجرّد أنّك تكرّر – بدأب تُحسد والله عليه – الفكرة ذاتها والمفردات نفسها فيما تسمّيه قصيدة كلّ يوم؟

    ماذا لو تاجرتَ بقضيّة بلدك السّياسية وصنعت منها أكشاكاً للبيع في السّوق الأوروبيّة المُربحة، ويا حبّذا لو كان لديك قضيّتان، إن تعبت من المتاجرة بإحدَاهما سارعت وانتقلت إلى الأخرى، كلاعب سيرك محترف، حتى تربح تجارتك وتصبح “كاتباً عربياً متحقّقاً في الغرب”؟

 جاءت الأسئلة أعلاه من نوعيّة “ماذا لو”، ليس لأنّ حدوثها مستحيل لا قدَّر الله، بل لأنّها صارت الواقع الحقيقي الذي نحياه ونراه يتحقّق حولنا يوماً بعد يوم، واقع من الأحداث العبثيّة التي تجعلنا نؤمن بعودة زمن المعجزات المضحكة، تلك الضّحكات التي عادة ما تنقلب إلى أحد شيئين؛ فإمّا قهقهات ساخرة.. أو تنهّدات على ما نشهده من عوار واقعنا الثّقافي العربي الرّاهن.

خذ مثلاً على ذلك ضيوف معارض الكتب في العواصم العربيّة من المحيط إلى الخليج، هم أنفسهم لا يتغيّرون ولا يتبدّلون يا أخي. فيما يشبه المعجزة؛ ستجد الأسماء ذاتها حاضرة عاماً بعد آخر، في هذا المعرض الدّولي للكِتاب أو ذاك. الصّور ذاتها والتّجمعات نفسها والكُتّاب هم هم، دون مللٍ أو كلل، فيما يشبه احتكاراً لا مناص لهم عنه إلّا بالموت. إلى الدّرجة التي تدفع بالواحد أحياناً أن يتساءل – بينه وبين نفسه – عن أسباب تدنّي نسبة كُريّات الخجل في دماء هؤلاء. أو على أقلّ تقدير، أن يدعو الله في سرِّه بأن يمنّ عليهم بالشّفاء العاجل ممّا هم فيه من تهافت وتدافع بالأكتاف. الحال ذاتها ستجدها أينما ولّيت وجهك للأسف، وفي كل المجالات تقريباً، شمالاً أو جنوباً، شرقاً أو غرباً. ثمّة احتكار – مؤكّد ومعروف ومُعلن – يُمَارَس من قِبل الكثيرين للفعاليّات والأنشطة الثّقافية العربية والدّولية، إلى الحدّ الذي يمكننا معه أن نقرّ بوجود ما يمكن لنا أن نسمّيه هنا “اتّحاد مقاولي الثّقافة العربيّة في الدّاخل والخارج”، متبوعاً بالعبارة المعتادة: “ليس لدينا فروع أخرى”.

من أين تُؤكل الكتف؟

لـ”سوق الأدب العربي بالغرب”، مثلها مثل أيّ سوق من أيّ نوع، مافيات وشِلَل تعرف جيّداً من أين تُؤكل الكتف، وهذا ما لا نريد تعميمه أو سحبه هنا على (كلّ) المشتغلين والفاعلين في هذه السّوق الدّولية للأدب العربي، حيث يحبّ أن يتوقّف دائماً هواة الاصطياد في الماء العكر، ليتهمّونا بالتّعميم وبإطلاقٍ أعمى للأحكام. لكن هذه التّكتلات المافيويّة، من المتاجرين باسم الثّقافة العربيّة ومقاوليها في الخارج – شئنا أم أبينا – موجودة وفاعلة في الحراك الثّقافي العربي الرّاهن بالغرب. وبنظرة سريعة حولنا، سنجد أسماءهم تتكرّر في كلّ مكان وعلى كلّ منبر، بدءاً من لجان تحكيم أغلب الجوائز العربية، مروراً بالمرشّحين للجوائز ذاتها، وصولاً إلى الفائزين بها!

سنقرأ أسماءهم ضمن الحاصلين على منح مؤسّسات الدّعم الثّقافية، كما قرأناها من قبل في لجان التّحكيم المانحة. سنجدهم ضمن المسؤولين عن منابر الثّقافة ومواقعها الإلكترونية، كما سنجد كتاباتهم أوّل ما يتصدّر – دون خجل – صفحات هذه المواقع. ومؤكّد ستجد بعضهم – لا محالة – ضمن المشاركين “المزمنين” في أغلب المهرجانات الشِّعرية والأدبية الدّولية، خاصة أولئك اللُطفاء من هواة إغراق صفحاتهم على منصّات السوشيال ميديا كلّ صباح بعشرات الصّور مع كُتَّاب وشعراء “عالميّين”، متبوعة بعبارات إنجليزية ركيكة، تأكيداً على كونهم هم أيضاً صاروا عالميّين، عملاً بالمثل الشّائع: “من جاور الحدّاد انكوى بناره”، أو بالأحرى: “من جاور العالميّ انكوى بعالميّته”.

وعلى ذكر مهرجانات الأدب العالميّة، والتي صارت هي الأخرى ساحة لتبادل المصالح الشّخصية، وعُرضة لاحتكار أسماء بعينها من شعرائنا وكتَّابنا العرب “النُّشطاء” (فصيل استعراضي يكاد يُقيم أفراده في المطارات، ويقال إن بعضهم يستطيع التّواجد في خمس عواصم أوروبيّة وآسيويّة في الوقت ذاته، ومن المفضّل أن يُتبع ذكر أسمائهم بعبارة “وامْسك الخشب”)..

شهدت مهرجانات الأدب العالميّة في السّنوات القليلة الماضية هي الأخرى ازدياداً كبيراً في هيمنة مافيات “الشِّلَل” الثّقافية العربية في الغرب، ومن والاها، خاصّة في ترشيح أسماء الشّعراء والكُتّاب المفضّلين على هذه المهرجانات، واستبعاد غير المرغوب فيهم. فيما دفعت الأحداث السّياسية التي عصفت بكثير من بلدان العالم العربي في السّنوات القليلة الماضية، إلى أن تغيّر المهرجانات الثّقافية في أوروبا من سياساتها في استقبال كُتّاب بلدان ثورات الرّبيع العربي، خوفاً من طلب الضّيوف حقّ اللجوء السّياسي لدى دول الاتحاد الأوروبي المنظّمة لهذه المهرجانات. وهو ما رصدناه منذ 3 سنوات في مقال سابق نشر في 31 آذار/مارس 2015 بعنوان “غياب العرب عن “روتردام للشِّعر.. إقصاءٌ متعمّد أم سهو؟”، وفيه جاء: “لا سيما إذا كانت هذه المشاركة العربيّة آتية من بلد يعاني زلزلة “الربيع العربي”، الذي صار ذكره في الإعلام الغربي مرتبط بظهور “داعش” في العراق وسورية وليبيا واليمن، وهو أمر يلقي من دون شكّ بظلال من التحفّظ والخوف على دوائر اتّخاذ القرارات الثّقافية في عديد من البلدان الأوروبيّة والغربيّة”.

وكان من نتيجة هذا التحفّظ، أن أغلقت الكثير من المؤسّسات الأوروبية الدّاعمة للثقافة باب دعواتها لأيٍّ من الكُتّاب العرب الموجودين داخل بلادهم، بعد أن زلزلها الحراك السياسي قبل عدّة سنوات، خاصّة بعد أزمة اللجوء إلى أوروبا، واكتفت غالبية تلك المؤسّسات بدعوة الكُتّاب العرب الذين نجحوا في الحصول على اللجوء الأوروبي، وهو ما خلق أمامنا مشهد “الكيل بمكيالين” الذي نراه اليوم، حيث ستدعم المؤسّسات الأوروبية كُتّاباً عرباً حظوا باللجوء إلى أوروبا، فيما لن تدعم كُتَّاب الدّاخل!

في ظلّ هذه البيئة غير السّليمة، انتعشت تجارة مقاولي الأدب العربيّ بالخارج، وصار لدينا نماذج فاضحة من فئة المقاولين النّشطاء، “جامعو الأنفار” لهذه الفعالية الثقافية أو ذاك المهرجان الأدبي، اتّحدت المصالح هنا وتنافرت هناك، فأثمرت عن شِلَل عن اليمين وشِلَل عن اليسار، كلٌ يريد لجماعته أن تكون الأبرز والأقوى والأكثر حضوراً، وكلٌ يميل إلى شبيهه كما يقولون، فصار الأمر أشبه ما يكون بهديَّة تُهْدى كي تُردُّ بأسرع وقت ممكن، فإن رُشِّحتَ من قِبَلِ أحدهم للمشاركة في مهرجان أدبي ما، فعليكَ أن تردَّ الجميل بأفضل منه، وبدعوة أكثر كرماً. وإن حالفك الحظّ في المشاركة مصادفة بأحد هذه المهرجانات، فلا تنسى أن تتقرّب إلى الشّعراء والأدباء المشاركين معك، فلربّما منحك أحدهم فرصة للمشاركة في مهرجان أدبي أو شعري في بلاده، من يعلم؟ ولأنّ لا أحد يعلم، فلدينا هنا ما يُحْكى.. وما يُضْحِك.

والمغضوب عليهم؟!

تستعين أغلب مهرجانات الأدب العالمية، بلجان دائمة من الأسماء الفاعلة في الحقل الأدبي والثّقافي، لاختيار الأدباء والشُّعراء المشاركين كلّ عام، وتتولّى هذه اللجان ترشيح أسماء الكُتّاب الضّيوف. وبعض المهرجانات الأدبية العالمية الكبرى لا تبدّل لجانها هذه على مدى سنوات طوال، ومن ثمّ تصبح اختيارات أسماء الشُّعراء والكتّاب المرشَّحين للمشاركة في أنشطة المهرجان الأدبي، رهناً بنظرة الرّضى من قِبل أفراد هذه اللجان، والتي عادة لن تخرج في اختياراتها عن حساباتها الشّخصية تجاه هذا الضّيف أو ذاك، ما يعني ترشيح المَرْضيّ عنه وإبعاد المغضوب عليهم. وعلى هذا النّحو، وفي ظلّ هذا المناخ الذي يمكن توصيفه بأنه غير صحيّ، تتشكّل التكتّلات وتنمو الشِّلَل الثّقافية ذات المصالح المتبادلة، لتحتكر وجود شركائها ضمن هذه الأطر من الفعاليّات الثّقافية وتمنع الآخرين عنها.

وكي لا نذهب بعيداً نضرب بعض الأمثلة على ما نقول: يعلن مهرجان سيت الدّولي للشِّعر في فرنسا عن أن لجنة اختيار الشّعراء المشاركين به تتكوّن من 18 اسماً، من بينهم عربياً: محمد بنيس (المغرب)، كاترين فرحي (مصر)، أنطوان جوكي وفينوس خوري غاتا (لبنان)، وغسان زقطان من فلسطين. هؤلاء هم المكلّفون بترشيح أسماء الشّعراء عن مناطقهم الجغرافية وبلدانهم. في حين يعلن مهرجان الشّعر العالمي في روتردام (وهو بالمناسبة أهم مهرجانات الشّعر في أوروبا، نظراً إلى قلّة الشّعراء المدعوين به كلّ عام) أن مرجعيته الرئيسية في اختيار الشُّعراء العرب هي مجلة “بانيبال” النّاطقة بالإنكليزية، والتي تصدر في العاصمة البريطانية لندن منذ ما يربو على العشرين عاماً، وتقدّم صورة نشطة وحيويّة عن الأدب العربي المعاصر باللغة الإنكليزية.

هنا يكمن معنى ما نقصده بكلمة “الاحتكار”، إن كان على المستوى الشّخصي والفرداني (كما في لجنة مهرجان سيت الدولي للشّعر، والمكونة من أفراد)، أو على المستوى المؤسّساتي والمنبري (متمثّلاً في مجلة “بانيبال”)، ففي الحالة الأولى، لن يشارك شاعر من فلسطين مثلاً في مهرجان سيت الفرنسي إلا بعد أن يختاره الشّاعر الفلسطيني الموجود بلجنة المهرجان، كما لن يشارك شاعر من المغرب إلا بترشيح من قبل الشّاعر المغربي والموجود بلجنة المهرجان الدائمة، وكذلك لن يشارك في مهرجان الشِّعر العالمي في روتردام شاعر لم تنشر له مجلة “بانيبال”!

وعلى جانب آخر، يشهد واقعنا الثقافي العربي الراهن العديد من ظواهر المشاركة الفردية الدؤوبة من قبل (بعض) الأسماء، التي تكاد تحتكر هي الأخرى (بعض) هذه المهرجانات الأدبية والشّعرية العالمية، وتكاد هذه الأسماء لا تفعل شيئاً آخر في حياتها غير المشاركة في هذه المهرجانات والتّنقل من بلد إلى آخر، حتى ليتساءل المرء متى يعملون وكيف يعيشون ومن أين يتقاضون أجورهم؟ وهم كلّ يوم في مدينة أجنبية ما، حتى صار يُطلق على بعض هؤلاء كاتب أو شاعر “مهرجانات”، ولم لا وقد صار من العادي أن تسمع اليوم عن أصناف جديدة من الكُتّاب والأدباء لم نسمع بها من قبل، فصرنا نقول “كاتب المنح والإقامات الأدبيّة” و”كاتب الجوائز” و”الكاتب الإعلامي” و”الكاتب الصحافي”، ناهيك عن فصيل فريد من الكُتّاب المتقاعدين والمتربّعين منذ عقود في المؤسسات الثقافية العربية أو الأجنبية.

وكما أن لكلّ تجارة صانعيها، فلكل تجارة أيضاً مقاوليها، وحين توضع إمكانية الاختيار في أياد قليلة، تصبح الاختيارات محفوفة بالمخاطر ومثيرة للشّبهات، وغير بعيدة عن الأهواء الشّخصية والميول التي تختلف من شخص إلى آخر، كان من الأجدى أن تعمل إدارات هذه المهرجانات الثّقافية الدولية على تجديد لجانها المكلّفة باختيار الكُتّاب المشاركين بها بشكل سنويّ، كما تفعل بعض الجوائز الأدبية المحترمة، إذ تبدّل من الأشخاص المحكّمين في لجانها سنة بعد أخرى، إبعاداً لشبهة المحاباة أو تفضيل هذا عن ذاك، وكي يكون الاختيار نابعاً عن استحقاق أدبي أو إبداعي، وليس مجاملة تُمْنَحُ اليوم.. لتُستردّ غداً.

هامش

عثرنا على ثلاث إجابات فقط لأسئلتنا التي طرحناها أعلاه:

    شارك فلان الفلاني بالمهرجان العالمي للشِّعر، بعد أن وصلته الدعوة بالخطأ، وصار الآن يكتب شعراً أكثر رداءة أثناء طيرانه بين المهرجانات التي عرف سكَّتها جيداً. وقد زادته هذه المصادفة الإلهيّة ثقة في نفسه وتأكيداً على موهبته.

    عرض كاتبنا “الأقلويّ” مبلغاً خيالياً باليورو على أحد المترجمين ليترجم روايته الرديئة إلى إحدى اللغات، وأمام ضخامة المبلغ قَبِل المترجم أن يخوض التّجربة، إلا أنه قرّر (بعد قراءة 15 صفحة فقط) أن يلْكم الروائي لو رآه يوماً، وعلى الرغم من هذا، فقد زادت الجائزة المالية الضخمة من ثقة كاتبنا وأكّدت على موهبته. وهو الآن لا يطمح إلى شيء غير “نوبل”.. قادِر يا كريم!

    صديقنا النّشط والمتغلغل في المؤسّسات الثّقافية الأجنبيّة لا يزال يعمل بدأب وجدّية.. ومن خلف عشرات الوجوه، ولله الحمد.

ضفة ثالثة

عن أحوال بعض “سدنة” سوق الثقافة العربية في الغرب/ هوشنك أوسي

الحياة بوصفها سفراً لا ينتهي من المصادفات، الاحتمالات، الإنجازات، الإخفاقات، الخيبات، الصدمات، التحوّلات…، دائماً تمنحنا فرصة التعرّف إلى أناس وتجارب وأفكار جديدة. لكن الحياة، لا تتحمّل مسؤوليّة حجم الخديعة التي ربما نتعرّض لها من الأصدقاء أو الأقارب أو التجارب السياسيّة والعقائديّة والأيديولوجيّة. ذلك أننا أحياناً ننبهر أو نعجب أو نحترم أناساً ونمنحهم حقّ التقدير والثقة، ونكنُّ لهم المودّة، لكن مع التواصل والاحتكاك المباشر أو غير المباشر، نكتشف تباعاً حجم الخديعة التي سقطنا فيها، بالتزامن مع الشعور بمرارة الخيبة وقسوة الصدمة.

يحدثُ أنَّ حسن الطويّة أو النيّة الحسنة بالناس، تحولان دون رؤية ما يعتمل في الأنفس من كيد وحسد وأحقاد تبقى متوارية خلف قناع الكلام الدمث المنمّق، والابتسامة الصفراء التي تبدو في ناظرنا ورديّة ومشرقة. وتكون مرارة الخيبة والصدمة مضعّفة، حين يبدر من بعضهم فجأةً فيض من الخسّة ولجج الضغائن، بحيث تنعدم لدينا القدرة أو الطاقة على التفسير والإجابة عن سؤال: لِمَ كل هذه الأحقاد؟! وأين كانت متوارية؟!

الحديث عن علل ومشكلات وعيوب وقبائح السياسة والثقافة في المهجر، لم يعد من صنف “كشف المستور” أو الجرأة أو الحذاقة والنباهة والفتوَنة الصحافيّة، والزهد والعفاف الثقافي والنأي بالنفس عن تلك الأجواء المسمومة والتمرّغ فيها، أو زعم عدم التلطّخ بها. فالمجتهد الصادق في النقد والمتذمّر الممتعض من بؤس أحوال الثقافة في المهجر، يُفترض به أن يكون أولاً ناقماً وناقداً وشاهراً رأيه وكلامه في وجه بؤس أحوال الثقافة في وطنه، غير عابئ أو آبه بالأكلاف والضرائب والمردود السلبي لموقفه، بخاصّة حين يكون حاصلاً على جنسيّة أجنبيّة تمنحه بعض الحصانة من ردود أفعال النظام السياسي والثقافي الحاكم لبلاده. ذلك أنه كيف يمكننا تصديق كاتب يبدي سخطه على أحوال الثقافة في المهجر، في حين نجده يصمت صمت القبور على بؤس أحوال بلاده سياسيّاً وثقافيّاً؟! ليس هذا وحسب، بل كيف يمكنني تصديق حديث كاتب عن بؤس أحوال الثقافة في المهجر، ولديه سوابق شائنة في التصادم والطعن والشتم والنهش والتنكيل بزملاء له، قاسموه المهجر، ثقافيّاً وحياتيّاً أيضاً؟!

ومع ذلك، يبدو أن المنبهرين بتدوينات ساخطة وناقمة وغاضبة ومتذمّرة من بؤس حال الثقافة العربية في المهجر، دون معرفة خلفيّات الأمور وتفاصيلها، ينطبق عليهم المثل الشامي الدارج: “يلي بيعرف، بيعرف. ويلي مابيعرف، بيقول: كفّ عدس”. كذلك ينطبق عليهم المثل الكردي الدارج: “لكم هو جميل ورائع صوتُ الطبل آتياً من بعيد”! وعليه، مهما حاول الكاتب التنصّل والتهرّب من الموقف

السياسي يسكت حيال بؤس أحوال بلاده، ويبرر ذلك بأنه لا يشتغل في السياسة، وأن الأخيرة أوحال! إلاّ أنه لا مناص من الجهر بالسخط والنقمة وانتقاد الحضيض السياسي والثقافي (الوطني)، ليس بإطلاق كلام عام ملتبس حمّال أوجه، بل بصريح العبارة وفصيحها، كموقف أخلاقي وأدبي وثقافي أيضاً ضدّ الاستبداد الذي يجرف البلاد والعباد. فالكاتبُ الشجاع، شجاعٌ في وطنه أولاً. لا نعامةٌ في الوطن، وأسدٌ في المهجر!

ثمة هوس لدى بعض الكتّاب المقيمين في الغرب بتقديم أنفسهم في بلدانهم، على أنهم كتّاب مَهجريون، وتسوءُهم أحوال الثقافة العربيّة في المهجر، ويتناولون تلك الأحوال بنقد ساخط وغاضب، مع زعم التعالي عن الانغماس فيها أو الانجرار نحو تلك الأحوال – الأوحال، حتى يكاد يظنّ القارئ بانتقاداتهم تلك أنها سيّدة الكلام، وسؤدد المقام الثقافي النزيه العفيف. ولأن القرّاء والكتّاب في الأوطان، غير مطلعين بدرجة كافيّة على تفاصيل ما جرى ويجري في المهاجر، سرعان ما يلقى الكلام الناقد الناقم الساخط على أحوال الثقافة العربيّة في الغرب، آذاناً مصغية، وبل ربما رواجاً وتهليلاً على أنه حرص ورصانة وأمانة وشجاعة. ذلك أن الكاتب لديه ثقة بأن القارئ لن يتولّى مهمّة التحرّي والتمحيص والتقصّي عن تجربة هذا الكاتب الناقد الغاضب أو ذاك، لقياس مدى الجديّة والصدق في انتقاداته، ومطابقة ذلك النقد على سلوك صاحبه، وهل ينطبق عليه قول أبو الأسود الدؤلي “لا تنهَ عن خلقٍ وتأتيَ مثلهُ.. عارٌ عليك إذا فعلتَ عظيمُ” أم لا؟ وهكذا تجد الخديعة رواجاً ومديحاً على أنها الجسارة الثقافيّة النقديّة ونُبلُ فارسها! فحين أجد ناقدَ الشلليّة متمرّغاً في طينها! وناقد التهافت على العلاقات الشخصيّة والمؤسسات والمترجمين والناشرين، لا يألو جهداً في التواصل مع المترجمين والناشرين، سواء بشكل مباشر أو عبر الحوارات الصحافيّة والنشر الصحافي! وحين أجد ناقد الذين يحضرون المهرجانات والملتقيات، هو نفسه يسعى إلى المهرجانات من وراء الستار، ويتباهى بحضوره ذلك المهرجان الشعري في هولندا، أو بلجيكا، أو ألمانيا، أو إحدى دول أميركا اللاتينيّة! وحين أجد ناقد الجوائز والفائزين بها، هو نفسه سعى إليها بطريقة أو بأخرى، وناقد تهميش شعراء وأدباء بعينهم، هو نفسه همّش شعراء من أنطولوجيّات شعريّة أشرف على إعدادها، لأسباب شخصيّة محضة! وحين أجد مَن يتحدّث عن ضرورة الصدق والأمانة، أجده طعّاناً في أصدقائه وشكّاكاً في أهليّتهم الثقافيّة والأدبيّة ومشوّشاً على إنجازاتهم… حتّى لو اضطرّه هذا السلوك إلى الاحتكام إلى معلومات كاذبة وملفّقة! حيال كل ما سلف، وأضعاف ذلك، أي حديث عن الحرص على الثقافة العربيّة وأسواقها في الغرب يظهر من أشخاص كهؤلاء، يغدو محض ثرثرة ولغو ونفاق ودجل وضحك على لحى غير المطلعين، ومحاولات فاشلة في زعم الزهد والعفاف والبراءة، وادّعاء البطولة الثقافيّة والأدبيّة المهجريّة! أو ليس حال هؤلاء كحال الفاسد الذي يطالب بالإصلاح؟ وحال العاهرة والقوّاد اللذين يتحدّثان عن أهميّة الشرف والعفاف ولذّتهما؟! أو ليس سلوك كهذا هو صنف من أصناف “البلطجة” التي تتخذ من الثقافة والنقد لَبوساً و”قميص عثمان”؟!

لا يعيب الكاتب التواصل مع المترجمين أو الناشرين أو إقامة شبكة علاقات عامّة لتسويق

نفسه ومنتوجه والتأكيد على موهبته، كأنْ يُجري حواراً صحافيّاً مع مترجم، كي يترجم أحد كتبه لاحقاً، أو أن يُجري حواراً مع ناشر، لربما ينشر له كتاباً لاحقاً! لكن أن يزعم البعض أنهم بعيدون عن هذا السلوك، وأنهم أسماء علم، بل و”أهرامات” في أوطانهم والمهاجر، وأنهم زاهدون عن كل أشكال الشلليّة وإبرام الصفقات المباشرة أو غير المباشرة مع المترجمين والناشرين، ويديرون ظهورهم للمهرجانات والجوائز الأدبيّة، ثم يرمون بحجارتهم كتّابا آخرين على أنهم يقترفون ذلك، فهذا ما لا أمتلك القدرة على إيجاد توصيف له!

الكاتب الشجاع في نقده، يحرص على ألا يكون نقده من قماشة تصفية الحساب الشخصي أو الانتقام والمكايدة أو محاولة “تدمير” وتشويه الآخرين، وكل ما قد ينجم عن ترّهات الكيد والحسد والنفس العدوانيّة الثأريّة.

الكاتب الشجاع، يفترض به أن يكون شجاعاً وحريصاً على أحوال الناس في وطنه أولاً باعتبارهم البشر الذين يكتب لهم. أحياناً، ربما ينأى الشاعر بنفسه عن تناول الأوضاع السياسيّة بشكل مباشر وفجّ، ولكن من بديهيات العمل الروائي، التطرّق، ولو شذراً إلى الواقع السياسي والثقافي، في سياق تناول الواقع الاجتماعي لبلده. لكنْ أن نجد عملاً روائيّاً سوريّاً أو مصريّاً، يزعم كاتبه أنه ناقدٌ لأحوال الثقافة العربيّة في الغرب، بينما عمله الروائي يتجاهل تماماً الأوضاع والتحوّلات والاهتزازات العميقة التي شهدها بلده في الأعوام الأخيرة التي تزامنت مع كتابتهِ روايته؟! فهذه الشجاعة النقديّة المهجريّة، ليست مجهريّة في الوطن وحسب، بل ومعدومة!

والحال أنه ضمن البلدان العربيّة وحتّى في المهاجر، كثيراً ما نجد شعراء وأدباء يبدون وجهات نظرهم النقديّة بصراحة، ويجهرون بمواقفهم الناقدة حيال أوضاع بلادهم سياسيّاً وثقافيّاً، سواء في المقالات أو التصريحات أو على صفحاتهم الشخصيّة في مواقع التواصل الاجتماعي. وهذه ليست شجاعة، بل من طبائع الأمور وشيم وقيم وأخلاق الكاتب المبدع الذي يحترم نفسه ويحترم الناس الذين يكتب لهم، ويفترض أن يكون مع أحلامهم، ويتألّم معهم، لا أن يصمت على بؤس أحوالهم. إذ كيف لكاتب مصري تجاهل ثورة 25 يوليو وما جرى بعدها في عمله الروائي الأوّل، وثم يرتدي جلباب الشجاعة النقديّة ويعتمر عمامتها؟!

مع ذلك، وعلى سبيل الذكر لا الحصر، يمكن أن نجد شاعراً يَسِمُ ديوانَه الشعري بعنوانٍ ينطوي على المفاضلة والتحدّي الضمني لرمز سياسي ووطني، كأنّ يعتبر ابتسامة حبيبته أجمل من العلم الوطني؛ الشاعر طه عدنان المقيم في بلجيكا نموذجاً[1]. وفي هذا التوصيف الأدبي المجازي، تفضيل لما هو إنساني على ما هو أشبه بالوثن السياسي أو الرمز الوطني في المزاج العام. ويمكن أن نجد روائيّاً مصريّاً ينتقد بشدّة الاستبداد السياسي الحاكم في أعماله، حتى لو كان ذلك في قالب رمزي وغير مباشر، وينتقد الأوضاع السياسيّة والثقافيّة في تصريحاته أو صفحته الشخصيّة على الفيسبوك[2]. أو أن نجد روائيّاً مغربيّاً يعمل في مؤسسة رسميّة تابعة للدولة، ومع ذلك ينتقد الأوضاع السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة في بلاده ضمن روايته الأولى! وكذا حال الكثير من الكتّاب والروائيين في سوريا، العراق، السودان، فلسطين، الخليج، المغرب، الجزائر…الخ، داخل بلدانهم أو في المنافي والمهاجر، نجدهم ممتلكين قدراً من الجسارة والشجاعة وروح مواجهة الواقع ومناكفته والاشتباك معه إبداعيّاً أو سلوكيّاً مباشراً. في موازاة ذلك، وجدنا كتّاباً آخرين، آثروا الجهر بالتماس الأعذار والمبررات للاستبداد، بل وناهضوا حركة التحوّل والتغيير التي شهدتها المنطقة. وهناك من آثر الصمت تماماً على أحوال الأوطان، في حين نراهم يمثّلون دور “هرقل” أو “إسكندر” المدافع عن الثقافة والإبداع في المهاجر والمغتربات!

قصارى القول: أن يتهم البعض آخرين بما هم موغلون فيه ومتمرّغون به، فهذا ما أصبح عملَ من لا عمل له، ومنطق ومنطوق من لا منطقَ له، سوى الطعن والتشويش على تجارب الناس، وتشويههم. زد على ذلك؛ سلاطة اللسان معطوفاً عليها نشر المعلومة الكاذبة، وانتحال الزهد والعفاف والبراءة، ربما تنفع كاتباً لفترة ما، كنوع من البلطجة، لكن سيأتي اليوم الذي تفتضح فيه الصدقيّة وتصبح صدقيّة الصنيع السلوكي والإبداعي على المحكّ، ولو بعد حين.

 [1]  “بسمتك أحلى من العلم الوطني” للشاعر المغربي – البلجيكي طه عدنان، منشورات المتوسط، ميلانو 2016

[2]  رواية “حذاء فيلليني” للروائي وحيد طويلة، منشورات المتوسط 2016

كلمات مفتاحية

الكاتب الناقد المهجر الثقافة ال

تلفزيون سوريا

رد على مقال “مقاولي الثقافة العربية”/ هوشنك أوسي

وصلنا من الكاتب والروائي السوري هوشنك أوسي ردّ مطوّل على مقال الشاعر عماد فؤاد والمعنون “عن مقاولي الثّقافة العربيّة”، والذي نشرناه في “ضفّة ثالثة” بتاريخ 9 أيلول/سبتمبر الحالي، ولأن المقال خرج عن حيز الرد إلى فضاء آخر من التجريح والإهانات الشخصية، ارتأينا أن نقصر ما جاء في رد أوسي على ما يخص روايته فقط، وذلك انطلاقاً من حرص الموقع على حق الرأي والرأي الآخر.. وهو ما يلي:

“في سياق مقالاته المتكررة التي يبدي فيها الكاتب والشاعر والروائي المصري عماد فؤاد حرصه على الثقافة والإبداع في المهجر، معلناً امتعاضه الشديد من الأمراض والأعراض والمظاهر السلبيّة التي تعتري الحركة الثقافيّة في العالم العربي وأوروبا، نشر منبر “ضفّة ثالثة” يوم 9/9/2019 مقالاً تحت عنوان (سوق الأدب العربيّ بالغرب.. عن “مقاولي الثّقافة العربيّة”!) يتعرّض فيه فؤاد إلى كاتب هذه الأسطر، تلميحاً بالقول: (ماذا لو كتبتَ بعد محاولات مُضنية – كما هو واضح – روايتك الرّديئة الأولى، وحشوتها بشعاراتك السياسيّة الزّاعقة، والمدافعة عن الأقلّية التي تنتمي إليها، ورغم هذا تحصد – يا للحظّ ويا للمصادفات العجيبة! – إحدى الجوائز العربية الكبرى المتاحة اليوم، والمكلّلة بمبلغ مالي لا يُستهان به، لا لشيء إلا لأنّ أحد أعضاء لجنة التّحكيم التي منحتك الجائزة، ينتمي إلى ذات الأقلّية التي تنتمي إليها وتدافع عنها؟ ألن تزيدك هذه المصادفة الإلهيّة ثقّة في نفسك وتأكيداً على موهبتك؟). واختتم مقاله بالقول: (عرض كاتبنا “الأقلويّ” مبلغاً خيالياً باليورو على أحد المترجمين ليترجم روايته الرديئة إلى إحدى اللغات، وأمام ضخامة المبلغ قَبِل المترجم أن يخوض التّجربة، إلا أنه قرّر (بعد قراءة 15 صفحة فقط) أن يلْكم الروائي لو رآه يوماً، وعلى الرغم من هذا، فقد زادت الجائزة المالية الضخمة من ثقة كاتبنا وأكّدت على موهبته. وهو الآن لا يطمح إلى شيء غير “نوبل”.. قادِر يا كريم!).

للقارئ العزيز أن يلاحظ كمّ استخدم الكاتب “كاف الخطاب” في المقتبس الأوّل، ليتأكّد من منسوب الخطاب الشخصي المباشر المدسوس في سياق عام! وطبعاً، حين كتبت تعليقاً على صفحته في الفيسبوك، أردّ فيه عليه، أجاب بالتالي حرفيّاً: “على حد علمي لم أذكر اسمك أو عنوان روايتك في المقال عزيزي هوشنك، صباحك رواق”. هذا الردّ الذي ينطوي على التذاكي والقليل من “الفهلوة” وينطوي أيضاً على قلّة الشجاعة أثناء المواجهة في قول الحقيقة، وعلى أن عدم ذكر الاسم يخلي مسؤوليّته الأخلاقيّة والأدبيّة من التطاول! ذلك أن الكاتب الكردي الوحيد الذي يعيش في أوروبا، وفازت روايته الأولى بجائزة أدبيّة عربيّة كبيرة (كتارا) هو أنا. وباعتبار فؤاد ينظر إلى نفسه على أنه كاتب “أكثروي” عربي، فإنه يراني ككاتب “أقلوي” كردي. إن توصيف وتصنيف “الأقلوي” أقلّ ما يقال فيه بأنه مهين ومشين لمن يطلقه، إذا لم يكن ينطوي على العنصريّة أيضاً!

(……..)

لست في وارد الردّ على رأي عماد فؤاد في روايتي التي أعتقد أنه لم يقرأها، وربما أخذ بعض الآراء السطحية عنها من هنا وهناك. فرأيه اللانقدي يخصّه وحده، ويمكن لمجموعة المقالات التي تناولت الرواية الردّ عليه، بل إنّ فوز الرواية بجائزة كتارا، دورة 2017، وترجمتها للإنكليزية والفرنسيّة، هو الردّ الواضح والفصيح والصريح عليه وعلى غيره من المشككين والطاعنين. لكن في ما يتعلّق برأيه بلجنة تحكيم الجائزة، ليسمح لي بالقول: إن أبسط مبادئ العمل الصحافي أو الكتابة في الصحافة الثقافيّة هو التقصّي والتحرّي عن المعلومة، لئلا يصيب الكاتب نفسه بحكمٍ خاطئ يتكئ على معلومة خاطئة. فروايتي الأولى التي فازت بجائزة كتارا سنة 2017، هي أصلاً مترجمة إلى الفرنسيّة والإنكليزيّة، كجزء من الجائزة نفسها، بالإضافة إلى المكافأة الماليّة. يعني، لست بحاجة إلى إعادة ترجمتها للفرنسيّة (لغة أوروبيّة). وعليه، إمّا أن صديقه المترجم نقل له الكلام، وما جرى بيني وبينه، بشكل خاطئ! أو أن فؤاد تعمّد اقتراف الخطأ وتوظيف المعلومة الخاطئة، والرأي الخاطئ، ونسبها إلى صديقه المترجم. أمّا حديثي مع المترجم الذي ذكره فؤاد فكان عن روايتي الثانية، وليس الأولى. ولم أعرض عليه أموالاً البتّة. بل قلت له: في حال عثوري على مؤسسة تدعم الترجمة، وقتذاك سنستكمل إجراءات اتفاق الترجمة. هذا كل ما في الأمر. وأعتقد أنه ليس من شيم صديقه المترجم وأخلاقه أو أخلاق أي مترجم آخر أن يلكم من يرسلون له رواياتهم مرفقة بالإهداء، مهما كانت تلك الروايات متواضعة؟!

(……..)

من جهة أخرى، أسماء أعضاء لجان التحكيم في جائزة كتارا، منشورة على موقع الجائزة. وفي حال كان الموقع فيه أي عطل، يمكن للصحافي أو الباحث أو الناقد السؤال من الجهة المعنيّة عن دورة سنة 2017، ليتأكد له أنه ليس فيها ناقد أو كاتب “أقلوي” منحني الجائزة، لمجرّد أنني كردي من سورية، أو “أقلوي” حسب تعبير فؤاد! ثم إن هناك لجنة طويلة عريضة، لها تراتب، ومهما كان عضو اللجنة “الأقلوي” قويّاً، لن يكون بتلك السلطة والسطوة التي تمكّنه من السيطرة على لجنة بأكملها. وبالتالي، عدم مراجعة موقع جائزة كتارا، والبحث في أسماء لجان التحكيم، وإطلاق كلام كيفما اتفق والقول: “… لا لشيء إلا لأنّ أحد أعضاء لجنة التّحكيم التي منحتك الجائزة، ينتمي إلى ذات الأقلّية التي تنتمي إليها وتدافع عنها؟” يتبيّن من ذلك مستوى المراس الاستقصائي الصحافي والأدبي أيضاً لدى عماد فؤاد، ومستوى التعمّد والنفس العدواني لديه في ذكر المعلومة الخاطئة وممارسة التشويش والتشويه العمد. وللمعلومة التي يمكن أن يعرفها أي شخص، أنه من ضمن لجنة تحكيم دورة 2017، كانت الناقدة والباحثة المصرية والأستاذة الجامعيّة د. نانسي إبراهيم، وهي التي اختارت روايتي، وليس الكاتب أو الناقد (الأقلوي) الذي افترضه فؤاد. وطبقاً لتراتب وتوزيع لجان التحكيم في تلك الدورة، الناقدة التي صادقت على اختيار د. إبراهيم، هي الباحثة والأستاذة الجامعيّة الأردنيّة د. مريم جبر. وهذا يعني ناقدة من مصر، وأخرى من الأردن! طبعاً، هذه المعلومات عرفتها في ما بعد، سنة 2018.

منفيّون، مهجّرون، ونصّابون/ ثائر ديب

ارتبطت بـ”الربيع العربي” موجاتُ هجرة خارجية متسارعة لا تكاد تضاهيها حجماً أيّ هجرة حديثة سوى تلك التي أعقبت الاستعمار. وربما كانت الهجرة السورية، من بين هذه الهجرات، هي الأشدّ مأساوية والأضخم عدداً والأسرع تواتراً.

يبقى القتل الوحشي السافر وجوّ الحرب المديدة السببين الأساسيين لنزوح السوريين وهجرتهم خلال السنوات السبع الماضية، لكنّ ظاهرة رحيل السوريين عن وطنهم و/أو ترحيلهم منه تبقى شديدة الاختلاط والتعقيد، من حيث دوافعها ومناطقها وأشخاصها ووجهاتها وأخلاقياتها، لا سيما حين يتعلّق الأمر بالنخبة المعارضة، سواء القديمة منها أو المستجدّة، منذ 2011 فصاعداً.

في الوقت الذي يتفهّم فيه المرء حقّ مغادرة أيّ أحد أيّ مكان بوصفه حقّاً بشرياً أساسياً في التنقّل والحركة، دع عنك حقّ البشر وأبنائهم في الأمن والتعلّم والعلاج وما شابه، لا سيما في ظلّ حرب شاملة وقتل شامل، تبقى مغادرة كثير من النخبة السورية المعارضة أمراً جديراً بمزيد من التأمّل، سواء لجهة تناقضها مع الدور الذي تدعو هي ذاتها للاضطلاع به في الصراع الدائر؛ أم لجهة تناقضها مع اعتبار هؤلاء أنّ الحرب أسفرت عن “مناطق محرَّرة” واسعة يُفتَرَض بها أن تكون محطّاً لهم لكنها لم تكن؛ أم لجهة استغلال هذه النخب نخبويتها وصِلاتها -قياساً بالسوريين العاديين- لاقتناص فرص هؤلاء الأخيرين في الهجرة مع أنَّ بينهم مصابين وأبناء ضحايا وعوائل منكوبة؛ أم لجهة استثمار كثيرين حالات اعتقال وقمع سابقة على 2011 أو فرص دعوات إلى مؤتمراتٍ وأنشطةٍ بالغة الغرابة في بعض الأحيان إذا ما قيست بماضي أغلبهم اليساري أو حاضرهم الليبرالي المزعوم؛ أم لجهة التزييف الذي مارسه هؤلاء في شأن الأسباب الفعلية لمغادرتهم وتعميتهم على التوصيف الحقيقي لحالتهم إذ غالباً ما يعتبرون أنفسهم منفيين تحديداً، وليس لاجئين أو مهاجرين أو مشردين أو مغتربين، إلى آخر قائمة طويلة من التوصيفات التي تفرّق بدقّة بين حالات تقع على طيف مغادرة الوطن الواسع.

والحال، إنّ هؤلاء من النخبة المعارضة المهاجرة وكتبتها باتوا يشكلون ظاهرةً ثقافية لها صفاتها وأخلاقياتها التي تتصادى وترتبط بلا شكّ مع الإخفاقات السياسية والعسكرية الذريعة التي وسمت المعارضة السورية على كلّ صعيد حتى باتت مثالاً للبؤس الذي لا يُفَسَّر بالقمع الوحشي وحده.

من الصفات التي تلفت الانتباه في شأن هؤلاء حاجتهم وحاجة سرديتهم الماسّة إلى تصوير سورية على أنّها فرغت من أهلها المعارضين، فإذا ما اصطدموا بحقائق تكذّب مزاعمهم هذه، وما أكثر هذه الحقائق، كّذبوها بدورهم ورموا أصحابها بالخيانة. كأننا أمام دعيّ يزعم أنّه فارسٌ مغوار ولا يكفّ عن التحريض على القتال لكنه فرّ من ساحة المعركة في أوّل فرصة، وبات عليه أن يحكي حكاية تجمع بين هذه النقائض التي يستحيل جمعها.

ومن صفاتهم أيضاً صمتهم شبه المطبق عمّا تُسمّى “المناطق المحرّرة” التي اكتفوا بالتهليل لما دعوه تحريرها، كائناً من كان محرِّرها، وربما أتوا إليها في البداية ورقصوا قليلاً أو التقطوا الصوّر قبل أن يفرّوا ثانيةً تاركين أهلها وأطفالها فريسة أمراء الحرب الأصوليين.

ومن صفاتهم صمتهم عن كثير من حقائق رحيلهم أو تزييفهم هذا الرحيل، فذاك “ثوري” نحرير ظلّ صامتاً صمت القبور، وربما ظلّ في الصفّ الآخر، في عزّ انتفاض السوريين، وما إن تدبّر أمر خروجه حتى نبتت له الشجاعة والألسن والخبرة فراح يشير على الثورة والثوار. وتلك كاتبة تحكي عن الأهوال التي لقيتها في الاعتقال ثم في الهرب، مع أنَّ أحداً لم يعتقلها قطّ من أولئك الذين لم يتركوا أحداً إلا اعتقلوه، ومع أنَّ أحداً لم يمسّها حين طارت من المطار، ولم تكن قد شاركت في أيّ نشاط يتعدّى الفرجة على مظاهرة من بعيد. وذاك مناضل “ديمقراطي” قديم بات من أعتى المدافعين عن السلاح والتسلّح بعد أن فرّ بأولاده بعيداً من الخدمة في أيّ جيش. وذاك رفيق له لَمْلَمَ أيّ وثيقة من وثائق اعتقال قديم وجاء بها إلى السفارات الأجنبية في بيروت ثم عاد إلى سورية منتظراً موافقة اللجوء الإنساني. يُضاف إلى هؤلاء معارضون علمانيون ويساريون انتدبوا أنفسهم لتمثيل طوائفهم في مؤتمرات طائفية مشبوهة وخرجوا للمشاركة فيها ولم يعودوا، وأمثالٌ لهم تزعّموا منظمات “فيسبوكية” ثورية ولم يلبثوا أن تركوا أنصارهم في الداخل وفرّوا ليبتدعوا في أماكن لجوئهم قصص نضال ونفي تليق … إلى آخر هذه القصص المشينة التي لا آخر لها.

ومن الصفات اللافتة أنَّ هؤلاء في الخارج هم الأعلى صوتاً قياساً بمناضلين حقيقيين خرجوا لأنَّ الاعتقالات المتكررة بعد 2011 حوّلت حياتهم وحياة عوائلهم إلى جحيم بالمعنى الحرفيّ، أو بات خطر الموت الأكيد يتهددهم بالفعل. بل إنَّ إقصاء هؤلاء الأخيرين عن الصورة وعن الأنشطة السياسية وسواها التي تجري في الخارج بات ضرورة من ضرورات السردية المزورة التي اتّسعت حتى غطّت المشهد.

الأمر اللافت الآخر الذي نتوقف عنده لضيق المجال هو ما تدفع إليه عمليات التزوير والتزييف السابقة من خلط بين النفي والتهجير والهجرة واللجوء وسوى ذلك من أشكال الابتعاد/الإبعاد عن الوطن. فغالباً ما يعتبر هؤلاء أنفسهم منفيين تحديداً، لا سيما الكتبة منهم. ولا يقتصر الأمر هنا على الإساءة للمعاني المتباينة التي تحملها الأشكال المتعددة للابتعاد/الإبعاد عن الوطن، بل يتعدّاه إلى احتلال مكان المنفيين الحقيقيين الذين لم يكن أمامهم بالفعل سوى السجن أو الموت.

ثمة فارقٌ يبقى، رغم المقتلة السورية الشاملة، بين من خرج لأسباب تخصّه، ولما فيه مصلحته الشخصية وحدها في النهاية، وبين المنفيّ، أيّ المُرَحَّل بالإكراه أو الذي حرمه خوف البطش به شخصياً وعلى وجه التحديد من العيشَ في مسقط رأسه بعكس إرادته ورغبته. ليس المنفى، بعبارة أخرى، امتيازاً بل استحالة، ليس مصلحةً بل ألم. ومن غير الأخلاقي استخدام كلمة كهذه نُقِشَت فيها قرون من الاستحالة والألم والتشرد كيفما اتُّفق.

عادةً ما يكون ثمة مبدأ في المنفى. والكتّاب المنفيون غالباً ما يكتبون بالدرجة الأولى لقرّاء غائبين مادياً عن الشروط المباشرة لكتابتهم, وليسوا حاضرين إلا في البلد الذي نُفوا منه قسراً، ومن هنا كلّ ذلك الحضور الحيّ والمبرّح الذي يحضره هؤلاء القرّاء في خيال الكاتب لأنَّ حقيقتهم الفعلية متشابكة مع معاناة المنفيّ الوجودية ومع فعل الكتابة ذاته. أمّا أدعياء المنفى فلا يربطهم مثل هذا الرباط المبرم؛ لأنّهم أحرار في اختيار درجة مرونة ذلك الارتباط، ولأنّ العواقب المادية لهجرتهم تدفعهم بالضرورة إلى علاقة محسوبة أكثر بكثير مع القرّاء الحاضرين مادياً ضمن البيئة التي ينتجون فيها أعمالهم. وهم، حين لا يكتبون بلغة البلد الجديد، غالباً ما يكتبون كي يُتَرْجَموا، أو كي يُتَصَدَّق عليهم بأيّ شيء إذا كانوا أقلّ طموحاً. ومن هنا ما نجده لدى هؤلاء من إصرار على تقديم المجتمعات التي خرجوا منها بالصورة النمطية المسبقة التي تروق للثقافة السائدة في البلد الجديد، وكذلك ما نجده من صمتٍ عن جرائم هذا البلد الجديد في الداخل والخارج، ومن بدء الكلام على خصوبة انفصال المرء عن مجتمعه الأصلي وليس على ألم هذا الانفصال, إلى آخر عدّة النَّصب الثقافي التي سبقهم إليها معارضون وكتّاب عرب باتوا أشهر من نار على علم.

الاتحاد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى