أبحاث

مفارقة إعادة إعمار سورية/ جوزيف ضاهر

ملخّص: 

في أعقاب الحرب الأهلية السورية، رسّخ نظام بشار الأسد التوجّه الليبرالي الجديد لمقاربته الاقتصادية، ما يفاقم اللامساواة التي كانت أحد الأسباب الرئيسة للصراع في المقام الأول.

تحوّل تركيز نظام الرئيس السوري بشار الأسد بعد استعادته السلطة، بفضل المساعدة العسكرية المقدمة من روسيا وإيران، إلى إعادة إعمار البلاد. لكن هدف الأسد الرئيس ليس إصلاح ما خرّبته الحرب؛ بل إن نظامه صمّم إعادة الإعمار لمكافأة الولاء الذي أظهرته شبكة المحاسيب الرأسماليين والحلفاء الأجانب، ومعاقبة مجتمعات المتمردين المحلية السابقة، علماً بأن العديد من هذه المجتمعات كانت مهمشة اقتصادياً حتى قبل اندلاع الحرب.

كانت العديد من المقاربات الرئيسة حول الانتفاضة قد قلّصتها إلى مجرد صراع ضد الحكم الاستبدادي، متجاهلةً جذورها الاجتماعية والاقتصادية. وفي أعقاب الحرب، طبّق نظام الأسد قوانين عمّقت التوجّه الليبرالي الجديد لمقاربته الاقتصادية التي طبّقها قبل الحرب، ماعمّق اللامساواة التي كانت أحد الأسباب الرئيسة للصراع في المقام الأول. ومن خلال زيادة عدم المساواة الاجتماعية ومعاقبة شريحة كبيرة فقيرة من سكان البلاد بشكل جماعي كان قد اتّهمها بالخيانة، ربما يزرع الأسد بذور نزاع مستقبلي.

تكاليف إعادة الإعمار

كانت تداعيات الدمار الواسع الذي شهدته سورية منذ آذار/مارس من العام 2011 كارثية على الاقتصاد، كما أن تكاليف إصلاح هذه الأضرار هائلة للغاية. ففي مطلع العام 2019، تراوحت تقديرات تكلفة إعادة الإعمار بين 250 و400 مليار دولار، وهي أرقام تجعل ميزانية 2018 التي وضعتها الحكومة والبالغة 3.9 تريليون ليرة سورية، أو حوالى 8.9 مليارات دولار، تبدو قليلة للغاية بكاملها. ومن إجمالي هذه الميزانية، وصل المبلغ المخصّص لإعادة الإعمار إلى 50 مليار ليرة سورية، أي أنه لا يتجاوز 115 مليون دولار. وبالتالي، لا تتحمّل الحكومة السورية عملية إعادة الإعمار الهائلة هذه.

تساهم الأرقام الاقتصادية والوقائع الاجتماعية في شرح أسباب ذلك. فوضع الاقتصاد سيئ جداً، والبلاد تواجه تحديات إنسانية خطيرة، حيث أن حوالى 12 مليون شخص في حاجة إلى مساعدة إنسانية بشكل أو بآخر، فيما أكثر من 5 ملايين لاجئ سوري هربوا إلى دول مجاورة. هذا وتراجع الناتج المحلي الإجمالي الإسمي في سورية بشكل ملحوظ من 61.1 مليار دولار في العام 2010 إلى 17.1 مليار دولار في العام 2017. وفي العام نفسه، ارتفع معدل الفقر في البلاد بأكثر من 90%، حتى أن صحيفة الوطن الموالية للنظام ذكرت أن أحد أكبر التحديات الاقتصادية التي تواجهها سورية هي معالجة التفاوت الصارخ في توزيع الثروات والمداخيل.

تجدر الملاحظة أن قدرة السوريين الشرائية والقيمة الفعلية لمداخيلهم انحدرت بوتيرة مطّردة منذ العام 2011، على الرغم من أن أسراً عدّة كانت تدبرت أمورها الاقتصادية بفضل التحويلات المرسلة إليها من سوريين مقيمين في الخارج، بمن فيهم اللاجئون. وفي العام 2018، أشارت التقديرات إلى أن الأسرة المتوسطة المؤلفة من 4 أو 5 أفراد في دمشق تُنفق 325 ألف ليرة سورية (أو حوالى 650 دولاراً) في الشهر، وفق المكتب المركزي للإحصاء، في حين أن متوسط الأجور الشهرية في القطاعيْن العام والخاص تراوح بين 40 و45 ألف ليرة سورية (أو بين 80 و90 دولارًا) و65 و70 الف ليرة سورية (أي بين 130 و140 دولاراً) على التوالي.

علاوةً على ذلك، قد تكون أزمة الوقود التي استمرت من منتصف تشرين الأول/أكتوبر 2018 حتى أيار/مايو من السنة التالية فاقمت الظروف المعيشية بالنسبة إلى شرائح كبيرة من السكان. ولم تساهم شحنات النفط الخام الإيرانية والتحصيص الذي اعتمدته الحكومة وارتفاع الأسعار سوى في التخفيف قليلاً من وطأة هذه الأزمة، بما أن كميات النفط كانت لا تزال غير كافية. ولغاية تاريخه، لم ينجح وزير النفط والموارد المعدنية سوى في توفير ربع الكمية، مع احتساب الإنتاج المحلي، التي تحتاج إليها البلاد والمقدّرة عند 136 ألف برميل في اليوم.

علاوةً على محدودية ميزانية الحكومة السورية الخاصة، تعاني المشاريع المعروفة باسم الشراكة بين القطاعيْن العام والخاص مشاكل تمويل أيضاً. فقد سمح قانون العام 2016 للقطاع الخاص بإدارة أصول الدولة وتطويرها ضمن القطاعات الاقتصادية كافة باستثناء النفط. لكن حتى الآن، تأجّلت المشاريع، إذ إنها تعتمد إلى حدّ كبير على التمويل من المصارف التي لا تملك الأموال الضرورية والكافية. يُذكر أنه تمّ تقدير إجمالي أصول المصارف التجارية الخاصة العاملة في سورية عند نحو 2 تريليون ليرة سورية (أي 4.4 مليارات دولار) في منتصف العام 2018، وهي المرة الأخيرة التي توافرت فيها بيانات في هذا الخصوص – أي ثلث أصولها المقدّرة قبل ست سنوات.

التمويل الأجنبي لإعادة الإعمار غير مضمون. فأبرز حلفاء الأسد في طهران وموسكو يواجهون مشاكل اقتصادية هم أنفسهم ويجدون صعوبة في الحفاظ على المستويات الحالية من الدعم المالي والمادي المقدّم إلى النظام السوري. وثمّة مؤشرات واضحة على أن روسيا وإيران سترزحان تحت وطأة ضغوط كبيرة كي تفيا بمشاريع إعادة الإعمار الموعودة وفي تنفيذ مذكرات التفاهم المبرمة مع الحكومة السورية. على سبيل المثال، عجزت سورية عن تأمين التمويل لمساهماتها في بعض المشاريع التي أبرمت بشأنها إيران وموسكو عقودًا بغية إنشاء أو تصليح مصانع الكهرباء. وعليه، انسحبت طهران وموسكو من هذه المشاريع.

والحال أن مشاركة أطراف خارجية في إعادة إعمار سورية ستكون مرتبطة بمسائل أشمل – ولاسيما تنافس الولايات المتحدة مع إيران أو العقوبات التي فرضتها واشنطن وبروكسل على سورية التي من المرجّح أن تخيف العديد من الشركات الأجنبية. على سبيل المثال، أعلنت شركة الاتصالات الصينية العملاقة هواوي أنها ستغادر سورية قبل بضعة أشهر. كما ساهمت الضغوط الأميركية في تجميد تقارب بعض الأنظمة العربية من دمشق على الرغم من أن العلاقات بين سورية والإمارات العربية المتحدة أحرزت تقدماً.

الأهداف الحقيقية لاندفاع الأسد إلى إعادة الإعمار

إن سياسات الأسد ليست مصمّمة لمعالجة التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها البلاد. بدلاً من ذلك، أدّت أهداف النظام السياسية والأمنية به إلى منح الأولوية لترسيخ سلطته ومعاقبة خصومه المفترضين.

لقد سعى النظام إلى تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية من إعادة الإعمار، وإلى تعزيز مايعتبره أمنه. وكانت الدولة قد أقرّت قوانين ومراسيم لتملّك عقارات وبالتالي الاستفادة من المشاريع العقارية، أهمها في هذا الخصوص المرسوم التشريعي الرقم 66 الذي دخل حيّز التنفيذ في أيلول/سبتمبر من العام 2012. وهو يسمح لمحافظة دمشق بطرد السكان من منطقتين كبيرتين في العاصمة هما بساتين الرازي في المزة وكفرسوسة، من أجل تطوير مشروع عقاري فخم يُدعى ماروتا سيتي. وفي نيسان/أبريل من العام 2018، مررت الحكومة السورية المرسوم التشريعي الرقم 10 المصاغ على أساس المرسوم الرقم 66 والذي وسّع نطاق تطبيق هذه السياسات على مستوى البلاد.

فضلاً عن ذلك، مررت الحكومة، في العام 2012، المرسوم التشريعي الرقم 63 الذي يمكّن وزارة المالية من حجز أصول وأملاك من يخضعون إلى القانون الرقم 19، وهو قانون لمكافحة الإرهاب تمّ إقراره في العام نفسه. وبرز أثر القانون في تشرين الثاني/نوفمبر من العام 2018 حين وثّقت وزارة المالية حجز أكثر من 30 ألف عقار في العام 2016 نتيجة اتهامات بأنشطة إرهابية مزعومة و40 ألف عملية حجز احتياطي في العام 2017. بالإضافة، منح القانون الرقم 3 من العام 2018 الحكومة مجالاً لتحديد ما اعتُبر أملاكاً متضرّرة، وهذا سمح بإغلاق أحياء وهدمها، ما حال دون عودة المدنيين. ومنذ العام 2011، سنّ نظام الأسد أكثر من خمسين قانوناً تقريباً بشأن “مسائل الإسكان والأراضي والأملاك”. وأتاحت مجموعة التشريعات هذه للدولة محو مناطق كانت سابقاً تحت سيطرة المعارضة.

إضافةً إلى ذلك، كانت عودة المدنيين إلى بعض المناطق معقّدة أو محظورة من قبل قوات الأمن في البلاد. وأشار تقرير صادر عن هيومن رايتس ووتش في العام 2018 إلى أن سكان داريا في ريف دمشق ممنوعون من العودة، بمن فيهم أولئك الذين يحملون صكوك ملكية لعقاراتهم. وفي القابون، وهي مدينة أخرى تقع في ريف دمشق سقطت في يد النظام عام 2017، بقيت بعض أحيائها محظورة وتمّ تدميرها. وقد تكرّر هذا النمط في العديد من الأماكن في أرجاء البلاد، بما في ذلك في أجزاء من حمص وشرق حلب حيث جرى عرقلة عودة المدنيين أو جعلها صعبة للغاية.

مُنح القطاع الخاص دوراً رئيساً في عملية إعادة الإعمار. ففي تموز/يوليو 2015، سمحت الحكومة لمجالس المدن والوحدات الإدارية المحلية بإنشاء شركات قابضة يملكها القطاع الخاص من أجل إدارة الأصول والخدمات العامة. وفي خريف العام 2016، تمّ تأسيس شركة “دمشق الشام القابضة” برأسمال قدره 60 مليار ليرة سورية تقريباً (أو نحو 120 مليون دولار). وفي حين كان من المفترض أن تتولى محافظة دمشق إدارة الشركة، إلا أنها عملت بشكل مستقل. وفي العام 2018، أعلنت محافظة حمص أيضاً عن إنشاء شركة قابضة، كما فعلت محافظتا ريف دمشق وحلب في العام 2019. ولغاية الآن، وحدها الشركة القائمة في دمشق بدأت عملياتها.

يُذكر أن شركة دمشق الشام القابضة مسؤولة عن الإشراف على تشييد ماروتا سيتي. غير أن توترات برزت في أيار/مايو من العام 2019 بين الشركة ومجلس محافظة دمشق بشأن امتيازات الشركة وطلباتها بالتمتع بمزيد من الصلاحيات. وكان مجلس الإدارة قد طلب من المجلس منحه إذناً إضافياً لتولي مسؤولية إدارة جميع المناطق التي تشهد تنفيذ مشاريع عقارية في المحافظة، إلى جانب تفويض مدته خمس سنوات ليكون لها حرية التصرف في عملياتها. وقد اعترض العديد من الأعضاء المجلس على هذه المطالب.

كان يمكن بسهولة رؤية الطريقة التي تصوّرت فيها الحكومة السورية دور القطاع الخاص في قانون الشراكة بين القطاعيْن العام والخاص. فقد أقرّت الدولة قانوناً عَكَسَ المقاربة التي سبق أن فضلتها قبل العام 2011 ووسّع نطاقها بشكل ملحوظ. وساهمت هذه المقاربة، إلى جانب الإعلان عن استراتيجية “التشاركية الوطنية”، في تعميق مقاربة السوق الاجتماعي التي شددّت على تراكم رأس المال الخاص وحررت السياسات الاقتصادية والتي كانت اعتُمدت في العام 2005. وقد عزّز الخط الجديد للنظام الديناميكيات الليبرالية الجديدة السابقة؛ فانفتحت القطاعات الاقتصادية التي أدارتها الدولة بمفردها على أطراف اقتصادية محلية وأجنبية خاصة تابعة بمعظمها للدولة.

تجدر الملاحظة هنا أنه تمّ تزويد المحسوبين على النظام وكذلك حلفائه الأجانب بفرص تكديس أرباح هائلة من الأصول العامة. ومن بين أبرز الأمثلة العقد الموقع مع شركة “ستروي ترانس غاز” الروسية لإدارة مرفأ طرطوس لمدة 49 عاماً. وأوضح وزير النقل السوري أنه من المتوقّع أن تستثمر الشركة 500 مليون دولار من أجل تطوير المرفأ وتوسعته والسماح لسفن أكبر بأن ترسو فيه. كما وقّعت الشركة الروسية عقدين بارزين آخرين في العام 2018 – أحدهما يخولها تطوير مناجم الفوسفات في خنيفس في محافظة حماة، بينما يتيح لها الثاني إدارة مجمع لإنتاج الأسمدة قرب حمص حيث سيُستخدم الفوسفات. ويخوّل العقدان معاً شركة “ستروي ترانس غاز” الإشراف على استخراج الفوسفات وإنتاجه وتصديره من الألف إلى الياء.

وعليه، يبدو الاقتصاد السوري بعيداً كل البعد عن مسار التعافي على الرغم من التحسينات التي طالت بعض الشركات في قطاعات قليلة، بما في ذلك الفنادق الفخمة وشركات النقل والخدمات اللوجستية، وحتى شركة إسمنت خاصة. وكان النزاع سمح للدولة بإعادة تشكيل نموذج الاقتصاد القائم في أرجاء المنطقة – الذي يتسم بالسعي إلى تحقيق الربح على المدى القصير – ولاسيما في قطاعات التجارة والعقارات والخدمات – على حساب القطاعات الاقتصادية المنتجة. ولم تساهم طريقة التفكير هذه سوى في مفاقمة عدم المساواة المستفحلة في سورية.

عدم المساواة باعتباره مُنتجاً ثانوياً للانتقام السياسي

تهدف القوانين الصادرة في الآونة الأخيرة، والتي تسمح بتدمير ومصادرة الأملاك في مناطق مكتظة بالسكان إلى استبدال السكان الذين يُزعم أنهم عدائيون بجماعات أكثر ثراءً ومتربحون من الحرب يكونون أقل ميلاً إلى تحدي قادة سورية. يُذكر أن الكثيرين ممن شاركوا في الاحتجاجات ضدّ الحكومة بعد آذار/مارس من العام 2011 أتوا من أرياف مدن على غرار حلب ودمشق وحمص وكذلك من مدن وقرى متوسطة الحجم. وكانت سياسات الليبرالية الجديدة التي اعتمدها النظام في السابق قد أفقرت أعداداً كبيرة من السوريين في تلك المناطق. وأتى القمع والفساد ليفاقم امتعاضهم. ولهذا السبب تمّ تصميم برامج إعادة إعمار وإعادة التأهيل لإبقاء السكان الأكثر فقراً وعدائية بعيدين عن مناطق رئيسة في هذه المدن وتوفير فرص عقارية مربحة يمكن للنظام وشبكته من رجال الأعمال الداعمين الاستفادة منها.

نتيجةً لذلك، جرت عملية إعادة الإعمار بشكل غير متساوٍ، وأحياناً في المدينة نفسها. على سبيل المثال، في العديد من الأحياء الشرقية لحلب التي استعادها النظام وحلفاؤه في كانون الأول/ديسمبر من العام 2016، لم تبذل الحكومة أي جهد لتحسين ظروف الحياة أو إعادة بناء مناطق سكنية؛ وبقيت الخدمات الحكومية في هذه المناطق شحيحة. وبالتالي، أجرى السكان بأنفسهم وبشكل شبه كامل عملية ترميم المباني المدمّرة جراء الحرب ودفعوا تكاليفها.

كانت هذه المناطق بشكل ملحوظ هي نفسها التي كانت أكثر عرضةً إلى الأضرار في النزاع. على سبيل المثال، على الرغم من أن معظم الدمار في حلب لحق بالجزء الشرقي من المدينة الذي كان خاضعاً إلى سيطرة المعارضة، كانت ثماني من أصل “مناطق الأولوية” الخمس عشرة التي حددتها الحكومة ليُصار إلى إعادة إعمارها في نهاية العام 2017 تقع في الأجزاء الغربية والوسطى من المدينة، حيث كانت نسبة الدمار أقل عموماً، وحيث البنى التحتية والخدمات العامة أفضل. وفي حمص أيضاً، كانت الأولوية في إعادة إعمار أو إعادة تأهيل المباني لمناطق دعم سكانها تاريخياً النظام وليس لمناطق متضررة كانت خاضعة سابقاً إلى سيطرة المعارضة. والأمر نفسه ينطبق في الغوطة الشرقية الواقعة في ريف دمشق التي استعادها النظام في ربيع العام 2018. واعتباراً من صيف العام 2019، كانت أعمال إعادة الإعمار أو إعادة التأهيل هناك محدودة نسبياً.

قوّضت إعادة الإعمار الانتقائية هذه عودة اللاجئين والمشردين داخلياً. فالكثيرون فرّوا من مناطق عانت دماراً وخراباً هائلين. وقد حالت عوامل عدّة دون عودة السكان السابقين، بما فيها التهديدات الأمنية المستمرة وغياب المنازل والأحياء القابلة للسكن والإجراءات الإدارية الصعبة.

في هذا السياق، يسلّط مشروع ماروتا سيتي الضوء على أهداف النظام المتعددة من إعادة الإعمار وكيف ستفاقم نتائجها عدم المساواة. وكما أشار الرئيس التنفيذي السابق لشركة دمشق الشام القابضة نصوح النابلسي في أيلول/سبتمبر 2018، فإن أسعار العقارات في ماروتا سيتي ستكون الأعلى في سورية عند إنجاز المشروع؛ حيث من المرجح أن يتراوح سعر المتر المربع بين 300 و500 ألف ليرة سورية (أي بين 600 وألف دولار أميركي). فسكان المنطقة السابقون يتحدرون من خلفيات متدنية الدخل عموماً ولا يمكنهم أبداً دفع هذه الأسعار.

بدورها، اعتمدت حمص مقاربة مماثلة. فقد تمّ وضع مخطط تنظيمي جديد يركّز على ثلاثة من أكثر الأحياء دماراً في المدينة – بابا عمرو والسلطانية وجوبر. وقد استوحي هذا المخطط من آخر سابق يعود تاريخه إلى العام 2007 كان يسعى إلى تدمير أجزاء من وسط المدينة إفساحاً للمجال أمام تشييد مبانٍ حديثة. وقد أثار المخطط الأصلي معارضة واسعة النطاق إذ كان سيُرغم السكان على مغادرة أحياء لطالما شغلها المنتمون إلى الطبقة الوسطى. وأكّد محافظ حمص طلال البرازي أن المشروع يضمن حقوق المالكين والشاغلين سواء بالسكن البديل أو التعويض المالي، الأمر الذي أثار المخاوف من أن يكون الهدف الأساسي هو إخراج السكان المقيمين منذ مدة طويلة.

انعكس تحيّز الحكومة لمؤيديها أيضاً في فوارق التمويل. فقد ناهزت القيمة الإجمالية للمشاريع الاستثمارية الحكومية في العام 2015، على سبيل المثال، 30 مليار ليرة سورية (حوالى 70 مليون دولار) والمخصصة لمحافظتيْ طرطوس واللاذقية الساحليتين، وهما من معاقل النظام. في المقابل، تمّ تخصيص 500 مليون ليرة سورية (نحو 1.2 مليون دولار) لحلب، على الرغم من أنها بحاجة أكبر إلى مشاريع إعادة الإعمار. وعلى نحو مماثل، من أصل 11 مليار ليرة سورية (حوالى 22 مليون دولار) المخصصة لإصلاح وإعادة إعمار الطرق في أرجاء سورية عام 2017، تمّ إنفاق نصف القيمة تقريباً في المناطق الساحلية التي لم تُلحق بها الحرب أضراراً كبيرة، لكنها تشكّل قواعد شعبية أساسية، كما ذكرنا أعلاه. غير أن العديد من المشاريع لم تتبلور بعد نتيجة غياب التمويل.

من الواضح أن زيادة الإنفاق الحكومي لم تحل دون تنامي الاستياء في بعض المناطق التي يدعمها النظام. فهذه الاضطرابات لا تُعزى فقط إلى عجز النظام عن الوفاء بوعوده الآنفة الذكر وحسب، بل إلى تدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية وغياب الأمن السائد الناتج عن أعمال ميليشيات موالية للنظام. وقد أدّى هذا الوضع الراهن إلى مقاطعة الشركات التجارية التي تفرض أسعاراً مرتفعة وكذلك إلى مطالبات بأجور أعلى وفرص عمل أفضل. كما اتهم المقاتلون السابقون الموالون للحكومة المصابون والعاجزون من المناطق الساحلية النظام بإهمالهم وعدم تزويدهم بأي مساعدة مالية أو تأمين وظائف لهم. إن أسر المقاتلين فقيرة عموماً وغالباً ما تعتمد على النساء لإعالتها مالياً. وفي خطوة تعكس الاستياء في أوساط قواعد النظام، نشر عضو سابق في قوات الأمن التابعة للنظام مقيم في طرطوس شريط فيديو في كانون الثاني/يناير من العام 2019 قال فيه “عاشت سورية وليسقط الأسد”.

لا بل تمدد الانتقاد تسرّب ليطال الخطاب الإعلامي في سورية. فعلى سبيل المثال، صرّح الخبير العقاري عمار يوسف لصحيفة الأيام قائلاً إن “كل المشاريع السكنية التي يتم طرحها تستهدف الطبقة الغنية، ولا يمكن للمواطنين متوسطي الدخل أو حتى جيدي الدخل أن يسكنوا في هذه المنازل”. وأضاف أن “الحكومة إذا استمرت بهذه العقلية فهي عاجزة عن حل أزمة السكن لـ100 عام المقبلة، خاصة في ظل وجود 3 ملايين مسكن مدمّر، والحاجة الفعلية اليوم في سورية هي مليون ونصف مسكن [جديد] سنوياً” بسبب الدمار الناتج عن الحرب والنمو السكاني وغيرهما من الأسباب. وعلى نحو مماثل، في نهاية العام 2018، أشار مقال نشرته صحيفة موالية للنظام تركّز على المسائل الاقتصادية بسخرية إلى مفارقة تطوير شقق فاخرة ضمن ناطحات سحاب في مجتمعات دمّرتها الحرب لا تزال مهملة. لكن هذه الفلسفة بحدّ ذاتها هي التي تدعم مساعي إعادة الإعمار التي تبذلها الحكومة السورية.

خاتمة

يقع عدم المساواة وعدم الإنصاف في صلب عملية إعادة إعمار سورية. فعملية إعادة بناء سورية التي لا تزال محدودة للغاية، تهدف إلى ضمان أن يتحكّم النظام المستبد وشبكاته بكل مكامن السلطة في البلاد. وقُذِفَت الطبقات الاجتماعية الأكثر فقراً التي يعتبرها النظام بمثابة تهديد لوجوده إلى الهامش. فخطة إعادة الإعمار المعتمدة من الحكومة لا تقدّم أي فرص للاجئين كي يأملوا بعودة إلى ديارهم في السنوات المقبلة، أقلّه ليس في ظل ظروف عيش لائقة وكريمة. كما أن استراتيجية الحكومة الاقتصادية والقوانين الداعمة لها ستستمر في إحكام قبضة رأسمالية المحسوبيات على الأصول العامة على حساب المصلحة العامة. وسيواصل تخصيص وتحرير مشاريع إعادة الإعمار في ترسيخ أنشطة النظام الافتراسية أكثر فأكثر.

تجدر الملاحظة أن موارد النظام واحتياطاته وإيراداته تراجعت بشكل ملحوظ خلال النزاع. ورداً على ذلك، اعتمدت الحكومة تدابير تقشف وقلّصت إعانات المنتجات الأساسية، ما ساهم في مفاقمة الظروف المعيشية سوءاً بالنسبة إلى الفقراء. وقد أدّت هذه السياسات إلى توسعة عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية والمناطقية وأعادت إنتاج المشاكل التي كانت قائمة قبل اندلاع الحرب في العام 2011.

إن فشل إعادة إعمار سورية والتنمية الاقتصادية في البلاد عموماً، وبخاصةٍ في القطاعات الاقتصادية المنتجة على غرار التصنيع والزراعة، يجعل من الصعوبة بمكان وضع حدّ للأنشطة غير القانونية والعنيفة التي انتشرت خلال الحرب. ويمكن لهذه الاضطرابات أن تستمر بأشكال أخرى، ما يقوّض فرص توظيف العديد من المواطنين، ويحول دون اندماج أولئك المنخرطين في الميليشيات والمتورطين في أعمال غير قانونية في المجتمع مجدداً. وسيمثّل عدم اليقين الأكبر بشأن تعافٍ اقتصادي فعلي وتنمية حقيقية عائقاً كبيراً أمام اللاجئين الراغبين بالعودة.

صحيح أن النظام السوري وحلفاءه الأجانب قد ربحوا النزاع العسكري، لكن عدم المساواة التي تعزّزها مساعي إعادة الإعمار تمثّل مشكلة خطيرة أمام مستقبل البلاد. فالنزاع في سورية انبثق جزئياً من تنامي عدم المساواة. وفي حال عجزت الحكومة عن تحسين هذه الظروف، تكون ربما في صدد زرع محفّزات لاندلاع المزيد من النزاعات في المستقبل.

*جوزيف ضاهر أستاذ في جامعة لوزان في سويسرا، وأيضاً أستاذ مشارك بدوام جزئي في معهد الجامعة الأوروبية في فلورانس، إيطاليا، حيث يعمل على مشروع زمن الحرب وزمن ما بعد النزاع في سورية.

**هذه المادة مرخّصة بموجب أحكام وشروط رخصة المشاع الإبداعي العمومية (نَسْبُ الـمُصنَّف 4.0 رخصة عمومية دولية).

مركز كارنيغي للشرق الأوسط

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى