ثقافة وفكر

ثلاث إشكاليات في الخطاب الليبرالي الحالي/ آرام أبو صالح

في إحدى حلقات المسلسل الفكاهي الأميركيّ بيج بانج ثيوري (2007-2019)، يلتقي شيلدون، عالم الفيزياء، وشريكه ليونارد، بوالدة شيلدون القادمة من ولاية تكساس المشهورة بعنصريّتها وميولها اليمينيّة. في اللقاء، يقوم ليونارد بتصحيح الكثير من الكلمات التي تستعملها والدة شريكه، التي توصف في الحلقة كشخصيّة محافظة، متديّنة ويمينيّة. فعندما يدخلون مطعمًا يابانيًّا، تصف والدة شيلدون الأحرف اليابانيّة بـ «أحرف كونغ فو»، فيصححها ليونارد ويشرح لها أنّها لا تستطيع استعمال هذا المصطلح بعد الآن، فهو ليس «في مكانه» فتردّ وتقول له: «ظننت أنّ المصطلح الذي لا نستطيع أن نستعمله [لوصف اللّغات في الشرق الأقصى] بعد الآن هو تشينغ تشونغ!»، مشيرة الى عدم فهمها حقًّا سبب عدم صواب هذا المصطلح، فهي ببساطة تقول ما تفكّر به.

يكمل ليونارد تصحيحه لكلام والدة شيلدون طوال الحلقة، فعندما يدخلون كنيسة في هوليوود، تقول «هذه كنيسة جميلة رغم أنها تابعة لـ«مقرقعي المسبحة»1 فيقول لها ليونارد: «سيدة كوبر، نقول هنا كاثوليك ولا نصفهم هكذا!»، مشيرًا إلى عنصريّة هذا الكلام، أو عدم صوابه السياسيّ، فتقول له «من العجائبي أنكم يا أهل كاليفورنيا قادرون على الكلام أصلًا» مُمتعضةً من التقييدات الكثيرة -التي لا تفهمها- على اللّغة المحكيّة.

جعلني هذا المشهد أفكّر بالتقييدات على الكلام «الصائب» في سياق حياتي اليوميّة، ودفعني لاسترجاع بعض المواقف المحرجة التي لم أستعمل فيها الكلمة الصائبة سياسيًّا. هذا النّص هو محاولة في فهم ونقد الفكر والخطاب الذي أنتج هذه الرقابة على الكلام «الشعبيّ» أو «السّوقيّ» في السنوات الأخيرة التي نعيشها.

*****

تسمّى ظاهرة ضبط الكلام هذه بالصّواب السياسي، أو الـ «بوليتيكال كوركتنس»، وهي نتاج للخطاب السياسي في أوساط الليبراليين أو اليسار العالمي. وفي سياقنا العربي نشهد تصاعدًا في عدد الأصوات التي نسمعها من الليبراليين العرب والسوريين، وبشكل خاص من القاطنين في بلاد اللّجوء بعد الربيع العربيّ وبفضل مواقع التواصل الاجتماعي، الذين يتّبعون خطابًا ومبادئَ مشابهة.

يتكئ هذا الخطاب على أسس فلسفية وسياسية مشابهة، وهي نتاج مباشر لتشكّل حركة فكر ما بعد الحداثة، أي الفكر الذي بدأ يتكوّن منذ منتصف القرن العشرين وحتى الآن. يتخلل هذا الفكر أعرافًا كلاميّة وسياسيّة جديدة، أعلنت ثورتها ضد العالم القديم وخطابه التقليديّ.

وقد يكون أحد أهم أعراف هذا الفكر هو نهج «الصّواب السياسيّ»، وهو، كما مثّلت سابقًا، مصطلح يشير الى ضرورة ضبط الكلام واستعمال الكلمات «الصّائبة سياسيًا» والتي «لا تضطهد أحدًا» أو «لا تجرح مشاعر أحد». تتعلق ضرورة ضبط الكلام واستعمال الكلمات الصائبة، بطبيعة الحال، بظهور خطاب سياسات الهويّة التي تعتبر الهويّة التي ينتمي لها فرد معيّن، سواء كانت جنسيّة، جندرية، إثنيّة أم طبقيّة؛ المكوّن الأهم في الممارسة السياسيّة والحيّز السّياسي. وبحسب سياسات الهويّة، فإنّ الموقف السياسيّ يتعلّق بهويّة صاحبه، بحيث أن صاحب التجربة هو المحتكر وصاحب الحقّ الأوّل في الكلام عن قضيّة سياسيّة أو اجتماعيّة ما. سياسات الهويّات هذه هي أيضًا إحدى الظواهر السياسيّة لحقبة ما بعد الحداثة، وهي أساس نهج الصّواب السّياسيّ لأنّها تتعامل مع الكلام كتفاعل بين مجموعات الهويّة المختلفة في المجتمع.

فمثلاً، بحسب نهج الصواب السياسي، يعتبر استعمال كلمات مثل «السّود» عوضًا عن «ذوي البشرة الملونة» عنصريًا وغير صائب، أو «لوطيّ» عوضًا عن «مثليّ» أو «معاق» عوضًا عن «ذو احتياجات خاصّة»، وغيرها من المعادلات المبنية على نمط قُل «كذا» ولا تقُل «كذا». كما يمثّل المشهد في المسلسل المذكور أعلاه.

يتطرّق هذا النّص بشكل نقديّ لثلاثة محاور أساسيّة في خطاب الليبراليين الحالي. بحيث لا أحاول القول هنا بصحة أو عدم صحة هذا الخطاب وتبعياته، ولكنّي  أحاول نقده على المستوى الفكريّ، ونقد تأثيره وممارسته على حياتنا اليوميّة.

موتُ الحَقيقة

ترتكن فلسفة ما بعد الحداثة بصفتها نهجًا سياسيًّا في أساسها على فكرة «موت الحقيقة». لا حقيقة واحدة بعد الآن، كما في الماضي؛ بل لكلٍّ حقيقته الخاصّة، وفي كل حقيقة خاصّة توجد حقيقة نسبيّة أو نسبة من الحقيقة العليا. وهذا يتخالف في آنٍ معاً مع فكر عصر الحداثة والتّنوير الأوروبي ومع الفكر الدّيني السابقان له، اللذان يحاولان إعطاء جواب واحد ومعرّف لما هي الحقيقة.

ويقترن مصطلح أو فكرة «التعددية الثقافية» مع الآراء الفلسفية التابعة لمدارس ما بعد الحداثة. «التعددية» من أساسات خطاب الصّواب السياسيّ. وكما تقول المدارس الفكرية التابعة لما بعد الحداثة أنّ الحقيقة قد ماتت، أي أنه لا توجد حقيقة واحدة بعد الآن؛ تقول فكرة التعدديّة الثقافية أن كل الثقافات متساوية. ما يعني أنّه لا توجد بعد الآن قيم تعرّف نفسها على أنّها شاملة وصائبة تمامًا، ولذلك لا يحقّ لأي «ثقافة» مجتمع أن «تحكُم» على مجتمع أو حضارة أخرى، حتّى أنّه -وبحسب هذا المنهج- لا يمتلك مجتمع ما الأدوات المناسبة لنقد نظيره. في أعين أنفسها، التعدديّة توسيعٌ للدّيموقراطية بحيث تشمل القيم الى جانب الإنسان، أي أنها «دَمَقرطة» للقيَم: لا يكفي بعد الآن أن نقول أن كل البشر متساوون، بل يجب أيضًا أن نقرّ بالمساواة الثقافيّة بين حضاراتهم.

تحتلّ فكرة التعددية جزءًا كبيرًا من الخطاب السياسيّ في أوساط المثقّفين والنشطاء، لا سيما في الغرب. وأصبحت حجر أساس في نهج الصواب السياسي: نستطيع وصف «الآخر» أو «الغير» أو «المختلف» مستخدمين بشكل حصريّ صفات تُحْدِثُ وقعًا أيجابيًا على مسامع «الأذن اللّيبرالية المنفتحة». وبشكل طبيعيّ، نرى أن الحديث عن قيمة التعدديّة الثقافيّة وأخلاقياتها في تزايد في الخطاب السياسيّ لليسار الغربيّ، بشكل خاصّ بعد موجة اللجوء الأخيرة إلى أوروبا.

في عالم الصّواب السياسيّ، يصبح لوجود «الآخر» أو «المختلف» هدفان: إمّا لقياس مدى تفتّحنا أو تنوّرنا؛ أو شهادة حيّة على خطيئتنا و«رجعيّتنا». ما يعني أن الآخر ليس مثيرًا للاهتمام بحد ذاته، ولا سبب مُجدٍ للاهتمام به. وهنا تكمن المشكلة بتبنّي الليبراليين العرب والسوريين لهذا الخطاب – فنحن كـ «آخرون» نمارس هذا الاختزال والحَصر على أنفسنا.

إلغاء حيّز الخيال

بحسب الخطاب الليبرالي الحاليّ، فإن اللّغة كوسيلة إنسانيّة للتعبير عن النفس لا تهدف فقط لوصف الواقع، بل ما تفعله حقًا هو بناء أو صنع الواقع. وهذا ما ترتكن عليه فكرة الصواب السياسي، فكلماتنا ليست وليدة الواقع بل صانعته، وإذا كانت عنصرية أو غير صائبة فنحن بهذا نصنع واقعًا عنصريّا أو غير صائب، والعكس صحيح.

هكذا، على سبيل المثال، أصبحنا نبحث عن الاستشراق في كل بحث أكاديمي يكتبه «رجل أبيض»؛ وأصبحنا نشكّ باحتواء كتب أدبيّة من القرون السابقة على تنميط اجتماعي يضع المثلي في خانة «الآخر» – شيء أصبحنا نقول عنه الآن أنه تجسيد للغيريّة المعياريّة (هيترونورماتيف). وعندما يكون الخطاب هو صانع الواقع، فنكتة بسيطة قد تكون تمثيلًا لإعادة إنتاج علاقات القوة الذكوريّة بين المرأة والرجل. وهكذا دواليك. وبجديّة تامّة.

ولكن إذا كان الخطاب هو الذي يصنع الواقع، فبشكل منطقي تُلْغَى إمكانية التفريق بين الاثنين خارج خانات الصانع والمصنوع. وهكذا أيضًا تُلغى إمكانيّة وجود حيّز منفصل، معرّف، متخيّل. عندما تغلق المساحة بين المتخيل والحقيقي، تصبح الفانتازيا، المسرح والحس الفكاهي، بلا قدرة على خلق بديل للواقعي المحسوس، فيصبحون هم المحسوس بذاته. وهكذا قد تقع الفنون أسيرة التّلقين. وهكذا يقيّد الشعر بمعايير الصّواب السياسيّ الليبراليّ.

ولكن، ألا نحتاج بديلاً للفعليّ، للصّائب، للواقعيّ؟ هذه الحاجة للبديل هي حاجة إنسانيّة أساسيّة، روحانيّة ونفسيّة، وبدونها نشعر بفراغ. ففي هذا الحيز، الموجود بين الخطاب والواقع، تكمن قدرتنا على التفكّر والاعتراف بخطايانا ومخاوفنا وغضبنا والتعبير عن طيف المشاعر والإمكانيات والمحدوديّات الكامنة في أحلك زوايا النفس وإطلاق سراحها. نجد الراحة والمواساة والمنفس في حيّز الفانتازيا والخيال وحس الفكاهة. هناك نلمس ونقابل خوفنا الوجوديّ، وإرادتنا الأكثر سوادًا ورعبًا، وهكذا نطلق سراحهم. وعند إلغاء هذا الحيّز، نحكم على أنفسنا بالإنكار بدل التحرر.

عندما نثقل المخيلة بواجب ضبط الكلام بحسب معايير الصّواب السّياسي، وبواجب «البنائيّة الاجتماعيّة»2 التي تقول إن كل القوالب والتعاريف في المجتمع ليست جوهريّة طبيعيّة بل هي من صنع المجتمع نفسه، تتبدل ضرورة الإبداع بضرورة التعليم، ويُستعاض عن الإبداعيّ بالوعظي والتوعوي، ويصبح الفعل الفني أشبه بالفعل التشريعي القانوني، في حين أنه كان من المفترض ان يكون «تمرينًا» حرًّا من المسؤوليات.

عندما نفترض صنع الخطاب للواقع، يصبح الصواب السياسي مقياسًا للعمل الفني، وعندها نخسر قدرتنا على التمتع بالغريب، والمختلف، والمميّز، والمحدّدّ. فعندما نوظف كل شيء كصانع للواقع، يصبح الخاص بمثابة العام. روح الفنون، التي تنبت من النوعيّ المميّز، تتبدّل بالسوسيولوجيا، التي تُعْنى بالعام والتعميم. القدرة على التعاطف تتبدّل بشرط التوافق الأيديولوجي، فبدون هذا التوافق نفقد قدرتنا على التعاطف.

هكذ، في كل مرة يريد فيها كاتب ما أن يكتب شخصية تُعْتَبَر من «المستضعفين»، عليه أن يثقلها بمشاكل تتعلّق بهويتها الجمعيّة وبعلاقات القوة بينها وبين المجموعة المهيمنة في سياقها، فيتم «اغتصاب» هذه الشخصية وجرها الى خانة «المندوب» عن قضية ما أو مجموعة مستضعفة، فتخسر شخصيتها الخاصة بها ويصبح كل وصف قد ينسب إليها منسوباً عن طريق القياس والتعميم إلى المجموعة الهوياتية التي تنتمي إليها، فيُغلق الباب أمام إمكانية كتابة شخصيّة محدّدة وخاصّة بعد الآن. هكذا، يتم إلغاء السردية الأدبية من أجل المغزى الأخلاقيّ، فتخسر الكتابة ذاتها. الفنون التي هي بمثابة تحرر نفسيّ، تصبح ثقلًا إيديولوجيًّا.

نرى شخصيّات على هذا النّمط، مثلاً، في بعض مسلسلات نتفليكس الجديدة، كمسلسل

أعزائي البيض3

، الذي تتمحور أحداثه حول مجموعة من الطلّاب السّود في جامعة مرموقة في الولايات المتحدة، حيث لا تخلو أي محادثة بين الطلّاب من ذكر النضال الأسود في الولايات المتحدة وتاريخه؛ أو شخصيّة أليسون عبدالله، المسلمة السوداء، في مسلسل البرتقاليّ هو الأسود الجديد4

في هذا ضرر محتمل، وكبير، لعالم الإنسانيّات. ولكن فيه أيضًا ضرر نفسي يتعلّق بنا، نحن، «المستضعفون»، على المستوى الشخصيّ. في إلغاء امكانية الخاص وتعميمه، وفي تسييس الشخصي، تُختزل منّا، نحن «الآخر»، القدرة على الاصطفاف في صفوف رأي عدا «اليسار». عندما يُلغى الخاص والشخصي نصبح جميعًا كينونة مندوبة وممثلة عن مجموعة الهويّة أو الهويّات التي ننحدر منها. فلا تسطّح فقط شخصيّاتنا الأدبيّة والتلفزيونيّة وتختزل كتاباتنا وتلغى مخيلتنا، بل أيضًا نقوم نحن بدورنا بتسطيح شخصيّاتنا وتسخيرها في سبيل العام، ونحصر أنفسنا في «البنية الاجتماعيّة» الخاصة بهويتنا، ولا نرى شيئًا إلّا عبرها.

شخصنة النقاش والنّقد

في نطاق هذه الآراء الجديدة، حيث الشخصي هو سياسي، نلتفت إلى الكاتب قبل أن نلتفت إلى النصّ نفسه. ولأن الافتراض هو أن الحقيقة دالّة تتعلّق داخليًّا بالخطاب، وليست مرآة للواقع أو حتّى شاهدة عليه، نبقى بلا حاجة لأن نسأل السؤال الذي لطالما أرهق الفلاسفة: ما هي الحقيقة؟ وهكذا، بشكل مبسّط، يتحوّل السؤال من ما هي الحقيقة، إلى سؤال عن مَنْ يعرّفها أو يحدّدها ولأي غرض. أي أنّ النقاش الأكاديمي أو الفكريّ أو السياسيّ يصبح متعلقًا بشخص الكاتب عوضًا عن مضمون كتاباته. والجواب على السؤال المطروح «من يعرّف الحقيقة ولأي غرض» غالبًا ما يكون شبيهًا بالسؤال: الذين يحدّدون ما هي الحقيقة هم المجموعة المهيمنة، وذلك لغرض الحفاظ على السيطرة التي يحتكرونها. هكذا، يصبح مثلاً من غير المهم أن نسأل: ما هي الحقيقة عن النساء أو الجندر؟ لأن الافتراض هو أن الجندر ليس إلا قالبًا اجتماعيًا غير جوهريّ، فيصبح السؤال الجدير هو من يقرر ما هي النَّسويّة أو الأنوثة ولأي غرض. والجواب هو: الرجال، من أجل الحفاظ على المنظومة الذكورية التي تحمي امتيازاتهم. هذا نوع من شخصنة النقاش الفكري واختزاله.

في إطار هذا الفكر، يصبح سؤال الحافز هو السؤال الأهم. عندما يصبح السؤال عن حقيقة أو صحة الأفكار غير مهم، بإمكاننا السؤال فقط عن المستفيد منهم. وهذا السؤال يصبح ممكنًا فقط عندما نسأل من الذي يقول بفكرة معينة وما هو تعريفه في إطار علاقات القوة، وليس ما هي الفكرة أو ما هو التعليل من وراءها. وقد أطلقت النسويات في الولايات المتحدة على نظريات كهذه اسم نظريّة «موقع الوقوف»5، أي أن السؤال المركزي يتعلّق بالمتكلّم وبمكان «وقوفه» من الموضوع. هكذا، تصبح كل فكرة أو حجة عبارة عن ستار لفائدة أو مصلحة شخصية، فتخسر وجودها المستقل بذاتها.

بهذا الشكل، تصبح محاججة الفكرة غير مهمة، وما يتبقى لنا هو محاججة الإنسان نفسه. بعدما كانت محاججة الإنسان عوضًا عن الفكرة على مدى تاريخ الفلسفة شيئًا غير مشروع، ومغالطة منطقية، الآن أصبحت في سياق هذا الخطاب الطريقة الأمثل للنقاش والمحاججة. فلا نحتاج للرد على خصمنا في النقاش، بل يكفي أن نقول عنه أنّه «ذو امتيازات». فمثلاً لا نردّ حقًّا على أفكار المستشرق بيرنارد لويس عن العالم العربيّ، بل نكتفي بقول إنه رجل، أبيض، غربيّ ومستشرق، ولذلك يقول ما يقوله.

هذا النوع من المحاججة الفارغة التي ترتكز على الشخص عوضًا عن الموضوع لا تُفْرِغ بشكل حصريّ خطاب المهيمنين من مضمونه، بل أيضًا تفرغ خطاب المستضعفين، بحيث أنّه أصبح من الكافي أن أقرّ بكوني فرداً من أفراد إحدى المجموعات المستضعفة لكي أحصل على المصداقيّة في النّقاش السياسي والفكري، وهكذا تلغى الحاجة للتطرق لعمق النقاش الذي يشخصن، ويتحوّل إلى صيغ أعبّر فيها عن «ماذا أشعر»، عوضًا عن تعليل «ما أفكّر».

*****

ختامًا، أرى أنه من الضّروريّ النّظر طويلًا، كنشطاء وناشطات، في أدواتنا وأنفسنا وقضايانا قبل تبنّينا للخطاب المعياريّ الشائع بين اليسار العالميّ أو بين الأوساط الليبراليّة. من أجل تأسيس نشاط حرّ حقيقيّ، علينا أن نفتح الآفاق والأبواب لنقاش أي فكرة مهما كانت «بيضاء»، ولأجل مستقبل خالٍ من الرقابة السياسيّة (وإن كانت ليبراليّة) للعلوم الإنسانيّة علينا أن نعود لمحاججة الفكرة وترك كاتبها، علينا ألّا نكتفي بأوصاف كـ «ذو امتيازات»، «أبيض»، «مستشرق»… بل أن نغوص إلى أعماق ما يحمله هؤلاء من فكر وما يحاولون طرحه، وذلك كي لا نختزل أنفسنا وكي لا نختزل الإنتاج الفكريّ الغربيّ بنظريّة «الرجل الأبيض».

يأتي هذا النّصّ بعد سنين من النّشاط، كنتُ قد قوقعت نفسي فيها في خانة الهويّات التي تعرّفني (امرأة، عربيّة، سوريّة، كويريّة) واختزلت شخصيّتي وكتاباتي ونظرتي إلى نفسي بهذه التّعاريف، وذلك بفعل تأثّري بهذا الخطاب ونشاطي في أوساط القائلين به. أعتقد اليوم أنّ علينا رفض أيّة رقابة على لغتنا، فهذه الرقابة، حتى وإن كانت موجودة في العقد الاجتماعي وليس فعليًّا أو مؤسّساتيًّا، تسلب منّا الحيّز المرن والحرّ والغرائبي الذي يخصصه لنا الخيال. علينا ألّا نثقل أنفسنا وكلامنا بعبء الصّواب السّياسي، ما يعيق إعطاءنا الحريّة المطلقة والتعددية الحقيقية، من أجل هويّة انسانيّة جامعة وشاملة، في عالم جديد، حيث الحريّة هي القيمة الأخلاقيّة العليا.

1. توصيف ازدرائي للكاثوليك، الأصل الإنكليزي: ٌRosary Rattlers

2. تعتبر البنائية الاجتماعية أن القوالب الاجتماعيّة والوعي الانسانيّ لها هما عبارة عن تركيبات أنتجها المجتمع الانسانيّ على مرّ السنين بفعل الكثير من المؤثرات كالسياسة والأيديولوجيات والقيم الدينية. فمثلًا تعتبر سيمون دي بوفوار الفيلسوفة النسوية الفرنسية تصنيف المرأة وتعريفات الأنوثة نتاج للبنائية الاجتماعيّة التي أنتجها المجتمع الذكوري على مرّ التاريخ. وقولها الشّهير: «المرأة لا تولد مرأة، وانّما تصبح كذلك» هو خير مثال على هذه النظرية.

3. Dear White People

4. Orange Is the New Black

، حيث يتم تثقيل السيناريو الخاصّ بها بنقاشات عن الشرق الأوسط وعن القضيّة الفلسطينيّة، لكونها مسلمة.

5. Standpoint Theory

موقع الجمهورية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى