الناس

عن الوضع الإنساني المزرى في ادلب -مقالات مختارة

إحنا فقرا أوي/ قاسم البصري

ليس بشار الأسد هو الذي قال «إحنا فقرا أوي»، فهذا كلام نظيره المصري عبدالفتاح السيسي عن حال مصر وأهلها، والحال أنّ هذا الفقر لم يمنع السيسي من صرف مبالغ طائلة على قصورٍ وفنادق، عوض التخفيف بها عن الفقراء والمُحتاجين الذين باتوا يشكلون ثلث الشعب المصري، بحسب إحصاءات حكومة السيسي نفسه. وقد أفضى عبث السيسي بالمال العام بعد فضحه في فيديوهات المقاول والممثل محمد علي، الذي استخدم مراراً، وبتهكّم، جملة السيسي «إحنا فقرا أوي»، إلى اندلاع احتجاجاتٍ شعبيةٍ في عددٍ من المدن المصرية، حيث لامس حديث محمد علي عن الفساد ولقمة العيش قلوب المصريين الحانقين على أوضاعهم الاقتصادية المزرية، لا سيما أنه جاء بلغةٍ يألفونها في حياتهم العامة، وهو ما أعطى أثراً على الأرض عجز عنه الحديث عن القمع والحريات والاستبداد وسلب السلطة منذ سنوات.

أما سوريا، فهي لا تشبه دولةً غيرها كما قال بشار الأسد قبيل انتفاضة السوريين عام 2011، ونحن بدورنا سنكون على قدرٍ عالٍ من البلاهة إن اعتقدنا أنّ لقمة المواطن السوري تعني رئيس الأبد، فقد انشغل عنها بالمقاومة والممانعة ومحاربة الإرهاب، وترك الحديث فيها لإعلامه الوطني ومحلليه؛ ليفهمونا على نحوٍ متواصل أنّ البلاد التي سحقها الجيش السوري وحلفاؤه مازالت قوية، وقد أثبت اقتصادها، الذي ما يزال متماسكاً رغم الحرب الكونية، أنّه مبنيٌّ على أُسسٍ قويمة. وهو، أي الاقتصاد، إنْ أوهنته عقوبات الدول الشريرة وضربات الميليشيات الإرهابية، فقد دخل طور التعافي، وها هي دمشق قد استقبلت 1700 شركة أجنبية من 38 دولة في معرضها الدولي، وقد تسابق أهالي العاصمة لزيارة المعرض بوصفه مناسبة للتسوّق لا يسع المواطن تفويتها، كما يخبرنا عنوانٌ لافتٌ لصحيفة تشرين الرسمية.

ولكن، هل اشترى «المواطنون» شيئاً من المعرض؟ هل وضعوا ضمن مخططاتهم شراء سلعٍ نالت استحسانهم بين معروضات الفعالية الاقتصادية العملاقة؟ هل أصابتهم حيرة الاختيار بين تمر جنوب العراق وجنوب إيران؟ أيهما سيكون أشهى على مائدة السوريين؟ لا شكّ أنّ طرح أسئلةٍ كهذه على أيّ سوريٍّ ستكون مدخلاً إلى نوبة ضحكٍ عدمية، فالمعرض <سيران المُفلسين>، كما يقول جابر الأحمد (اسم مستعار)، الذي أكمل عامه الثاني في دمشق نازحاً إليها

فقراء المعرض:

امتلأت وسائل الإعلام الموالية للنظام بتغطياتٍ مصوّرةٍ لمعرض دمشق الدولي، وقد تابعنا العشرات منها بحثاً عن أكياسٍ يحملها الناس تدلُّ على أنهم قد زاروه بغرض التسوّق فعلاً، لكنّ هؤلاء المُتبضّعين كانوا قلةً قليلةً جداً، ولا تُرى إلا بعد جهد، بينما الغالبية العظمى قد وصلت أرض المعارض بفضل الباصات المجانية، وهم يتسكعون فيها من أجل شمّ الهواء والترويح عن الصغار، حاملين معهم فنجان قهوةٍ كرتوني وسيگارة. ويقول مذيعٌ في صفحة دمشق الآن واصفاً الطوابير الطويلة للمنتظرين أمام الشركات التي توزّع مشروباتٍ مجانية أو قطعة طعامٍ صغيرة ليتذوّقها الناس على سبيل الدعاية: إنه لو وقف فيها فلن يحصل على شيءٍ قبل حلول اليوم التالي. فهل مردُّ ذلك يعود إلى كون السوريين «فقرا أوي»، من دون أن يدري النظام وإعلامه بذلك!

كثيرةٌ الإحصائيات والأرقام التي تتحدّث عن معدلاتٍ مهولةٍ لمستويات الفقر في سوريا، ومن بينها التقرير الصادر عن الأمم المتحدة في شهر آذار(مارس) من العام الجاري، والذي قال إنّ قرابة 83 بالمئة من السوريين يقبعون تحت خط الفقر. لكنّ هذه الإحصائيات لا تقول شيئاً عن كيف يعيش هؤلاء الفقراء الذين باتوا ينفقون 90 بالمئة من مدخولهم الشهري من أجل تأمين الطعام لا غير. فكيف لأسرةٍ سورية تحتاج في المتوسط لـ 150 ألف ليرة سورية شهرياً (بحسب أرقام حكومة النظام) لتأمين متطلبات المعيشة، أن تؤمّن قوتها، في حين لا يتجاوز متوسط الرواتب الحكومية 40 ألف ليرة. بكلماتٍ أُخرى: كيف يستطيع ربـ/ة الأسرة المُوظف/ة، أو الذين هم من أصحاب الدخل المحدود، تأمين احتياجات أسرته/ا وفقاً لهذه المعادلة؟ ليس ثمة إجابة واحدة، فلكلٍّ قصته التي يرويها كأنه يبثّ همّاً أثقل صدره، ويزيد عليها بمقارناتٍ مع أناسٍ يعرفهم، ليقول لنا أو ليقنع نفسه ربّما أنه بخيرٍ ونعمة إذا ما قارن حاله وحال أسرته بمن يعيشون ظروفاً أكثر سوءاً. وللمفارقة، فإننا لم نسمع من الذين تحدّثنا إليهم جملة «ساترها ربك»، التي تعوّد السوريون الإجابة بها عن أسئلة المعيشة، فالحال لم تعد مستورةً أبداً.

أكثر من عمل

يقول حسان البكري (اسم مستعار) الذي يعمل مستخدماً في مؤسسةٍ حكومية: «راتبي وصل إلى 37 ألف بعد 31 سنة في الخدمة، وقد تهجّرت مع زوجتي وأطفالي من منطقة التل بريف دمشق نحو مركز إيواءٍ في مساكن برزة، ومن ثمّ أُخرجت من مركز الإيواء واستأجرت بيتاً على الهيكل في منطقة القزاز، وإيجار بيتي اليوم 15 ألف ليرة شهرياً. قبل العام 2011، كنت أقدّم خلال عملي كمستخدم خدماتٍ مأجورة للموظفين؛ كأن أجلب لهم الخضار واللحمة والخبز أثناء ساعات الدوام، كما كان بعضهم يعطيني مبالغ شهرية على سبيل الصدقة، وهذا ساعدني زمناً في توفير الخبز والطعام لأولادي. أما اليوم، فذلك لم يعد كافياً، فقد كبر أولادي وصرت مُهجّراً، كما بات عليّ دفع إيجار البيت. لذا فأنا أعمل حالياً بعد دوامي كأجير على بسطة لبيع أغراض العصرونية، وذلك منذ الساعة الخامسة مساءً وحتى العاشرة ليلاً، وأحصل مقابل ذلك على يومية مقطوعة من صاحب البسطة، بمقدار ألف ليرة، وهي الضمان الوحيد لي ولعائلتي حتى لا ننام جائعين».

أما بالنسبة إلى أحمد الجابر (اسم مستعار)، الذي يعمل موظفاً من الفئة الأولى في وزارة التربية، فيصل راتبه إلى 43 ألفاً، وهو يملك بيتاً يعيش فيه مع عائلته، لكنه يقول إن راتبه لا يكفيه، سيّما أنّ أولاده كبروا وصاروا في الجامعات، لذا فهو يعمل سائق تكسي منذ الساعة السادسة مساءً وحتى منتصف الليل، ويحصل من صاحب السيارة على مبلغ 3500 ليرة يومياً.

حال سارة العبدالله (اسم مستعار) أسوأ من ذلك، فهي قد فقدت زوجها خلال «الحرب»، بينما لجأ ولداها إلى ألمانيا خوفاً من الخدمة العسكرية، وهي تعيش اليوم في منطقة جرمانا مع بناتها، وتعمل مستخدمةً تشطف أدراج البنايات وتنظّف المدارس، وما يساعدها على تأمين إيجار بيتها وطعامها وطعام بناتها هو ورود حوالة من أولادها بمقدار 100 دولار أميركي كلّ شهرين، غير أنّ مكتب الحوالات يعطيها قيمة الحوالة وفق تسعيرة المصرف المركزي، أي 435 ليرة مقابل الدولار الواحد. تشعر أم موفق بالقهر نتيجةً لذلك، وتقول: «إنّ الدولة أخذت زوجي وهرّبتْ أولادي، وها هي تسرقني»، وبالطبع هي دائماً ما تستلف من تاجر بقالة في حارتها لتسدد ديونها حين ورود الحوالة.

وترى ليلى علوش (اسم مستعار) التي تراقب الحال المعيشي للناس في دمشق، أنّ إحصائيات الفقر ليست ذات أهمية، وملامح هذا الفقر أوضح من جميع الأرقام، فقد ازدادت أعداد المتسوّلين وبائعي القمامة إلى حدّ كبير، كما تزايدت الأعمال العشوائية التي لا تعود إلا بدخلٍ بسيطٍ جداً؛ كالبسطات وبيع القهوة والشاي والطوابع وما شابه ذلك.

الحل في أن ترتشي

أما حسين السعود (اسم مستعار) الذي يعيش في منطقة المربع الأمني الذي مازال خاضعاً لسلطة النظام في الحسكة، فيعتبر أنّ الدولة العاجزة عن رفع رواتب وأجور موظفيها وجدت الحل في أن تغضّ الطرف عنهم، فهي لم تعد تحاسبهم أو تُدقّق في فسادهم، بل باتت الرشوة مسموحةً وعلنية. يقول حسين: «موظف المالية يعرض على التجار تخفيض الرسوم المفروضة عليهم من 15 ألف ليرة إلى خمسة آلاف، وذلك مقابل أن يعطوه ثلاثة آلاف ليرة كرشوة». ولا يختلف أمر الرشاوى والتعيّش على ابتزاز التجار كثيراً بالنسبة للموظفين في حلب، حيث يقول التاجر راضي الأشقر (اسم مستعار) للجمهورية: «نحن الآن إزاء موضة البيان الجمركي، إذ لا يملك أيّ تاجر بياناتٍ جمركية لكل البضائع التي يحتويها متجره، والحل الوحيد هو دفع رشاوى للمفتشين، فمعادلة هؤلاء هي إما أن نضرّك أو أن تدفع لنا».

آجار الطريق يلتهم الرواتب:

يعمل وائل ثابت (اسم مستعار) موظفاً في إحدى شركات القطاع الخاص باللاذقية منذ 23 عاماً، وهو أعزبٌ يسكن في جبلة، ويبلغ راتبه حالياً 55 ألف ليرة. يقول وائل: «إن مصرف التسليف الشعبي يقتطع من راتبي 11 ألف ليرة كقسطٍ شهري بعد أن نجحت بالحصول على قرض، وأنا أحتاج يومياً إلى 250 ليرة أجرةً للطريق بين مسكني وعملي، كما أحتاج 350 ليرة قيمة دخان. حصيلة ذلك، بعد اقتطاع مصاريف هاتفي المحمول، هي أنّ يتبقى لدي 20 ألفاً لآكل بها، غير أنّ هذا ليس هو الحال على أرض الواقع؛ إذ أنّ سعر فنجان القهوة على الرصيف 50 ليرة، وأجرة أي تاكسي اضطراري لا تقل عن 300 ليرة».

يضيف وائل أنّ «هنالك أشخاص يُعتبرون من أصحاب الملايين على الورق، ولكن أموالهم عبارة عن أملاك عقارية، ونتيجة الركود العقاري الذي تشهده اللاذقية منذ أكثر من سنة، فهم فقراء لا يختلف حالهم عن حال أولئك الذين لا يملكون سوى رواتبهم، والجميع في النهاية مضطرٌ للعمل في أكثر من مكان وأكثر من مهنة، أو أن يصبح مُرتشياً. صديقي يعمل يومياً من الساعة السابعة صباحاً حتى الثانية عشرة ليلاً لتأمين مصروف أسرة مكونة من أربعة أفراد، وبالرغم من ذلك فهو بحاجة المساعدة التي يقدمها له أهله».

مشكلة الأستاذ سمير الحافظ (اسم مستعار) مع مصروف الطرقات لا تختلف عن مشكلة وائل، فهو مدرّس نزح من ديرالزور التي فقد فيها منزله ومتجره نحو مدينة حلب، حيث قدّم له صديقه منزلاً هناك يعيش فيه ريثما تتبدّل أحواله، لكنه ما يزال مضطرّاً للذهاب إلى ديرالزور مرةً أو أكثر كل شهر من أجل تسجيل حضوره. يقول سمير: «أنا أُنفق كلّ راتبي في هذه الرحلة، فآجار طريق الذهاب والعودة يبلغ 24 ألف ليرة، وراتبي 50 ألف ليرة، وفي كلّ مرة أُضطر لجلب زعتر أو صابون حلبي أو هدية أخرى لمدير المدرسة مقابل تغاضيه عن غيابي. كلّ ذلك في سبيل أن تنقضي الشهور القليلة القادمة حتى أتمكن من التقاعد. أما بالنسبة لمصروف البيت، فأولادي الثلاثة، الذين يُفترض أنهم طلاب، يعملون لسدّ احتياجات الأسرة، ونقتصر في حياتنا على الأساسيات. لقد انتهى زمن الرفاهية، وأفضل صورها اليوم هي أن تشتري القليل من البزر وتذهب مع صغارك إلى ساحة سعدالله الجابري أو حديقة السبيل». 

الطوابير والمزابل

حسين الراغب (اسم مستعار) تاجرٌ من الحسكة، يقول للجمهورية إنه ذبح كبشاً في أول أيام عيد الأضحى الفائت، ليجد أنّ «أمة الثقلين» صارت على باب بيته. يضيف حسين: «طلبت مني امرأةٌ حصةً لها، حتى لو كانت (مراميط) أو عظماً عَلِقَ به بعض اللحم. تقول إنها لم تأكل اللحم منذ سنة. هذا ليس غريباً، فسعر كيلو اللحم ستة آلاف ليرة. السمن النباتي والزيت صارا بديلين عن اللحم بالنسبة للغالبية الساحقة من الناس».

ويتابع حسين: «سابقاً كانت المقالي طعام الفقراء، أما اليوم لم تعد كذلك. اليوم، حين تقرر إحدى الأسر أن تطبخ طبخةً محترمةً فإنّ ذلك يعني العجة، فهي المعادلة الأنسب: 200 ليرة بقدونس و400 ليرة بيض و400 ليرة خبز. يخبرني أحدهم كيف صار يخجل من أولاده حين يعود حاملاً بيده كيس البقدونس. أوضاع الناس صعبة إلى درجة أنّه ما عاد بمقدور الكثيرين أن يقولوا لك تفضل اشرب كأس شاي، حتى لو كان ذلك على سبيل المجاملة».

خلال حديثنا إلى محمود السليمان (اسم مستعار)، وهو تاجرٌ يعمل في الحسكة أيضاً، قال: «السلل الغذائية التي تقدمها بعض الجهات بين الحين والآخر تساعد الناس، رغم أنّ الذلّ بات شرطاً للحصول عليها. تجد أمام مركز الهلال الأحمر في حي الناصرة بالحسكة طوابيراً ليس لها أولٌ ولا آخر، كما أن جميع الناس باتوا باحثين عن عمل. علّقتُ في إحدى المرات ورقةً على باب محلي أطلب فيها آنسةً للعمل، في ذلك اليوم واليوم التالي جاءتني أكثر من مئة صبية. أيضاً يدخل يومياً عشرات الشحادين إلى محلي كل يوم، وللوهلة الأولى أظنهم زبائن، فليس عليهم معالم التسول التي كنا نعرفها سابقاً. لقد صار اعتيادياً أن تخرج أمٌّ من عيادة الطبيب لتشحد قيمة الوصفة الطبية، فلا سبيل لشرائها سوى هكذا».

ويكمل محمود: «علاوةً على ذلك، فإن بعض الأمهات والآباء لم يعودوا يدققون على أولادهم وبناتهم حين يجلبون أشياء وحاجيات وملابس إلى البيت دون أن يكون لديهم مورد مالي. بالطبع مصدر هذه الأشياء ليس سليماً، وقد تكون سرقات أو ما شابه، لكن طالما أنّ الأهل عاجزون عن تقديم أيّ شيءٍ لأبنائهم؛ فهم يكتفون بالسكوت، بينما الحسرة والقهر يلتهمان صدورهم».

أمّا أحمد اليوسف (اسم مستعار)، الذي يسكن في الحسكة أيضاً، فيقول: «إنّه مشهدٌ سريالي حين تقرأ عن فضائح المسؤولين الأخيرة التي تقول إنهم سرقوا مليارات الليرات، بينما أنت تشاهد أمامك كيف يأكل نساءٌ وأطفال من المزابل!» ويشرح أحمد كيف مرّ قبل يومين في حيّ المشيرفة بالحسكة، حيث رأى أكثر من مئة امرأة يعملن في محامص البزر. يتابع: «إنهنّ يقمن بفرز البزر وغسله وغربلته منذ الثامنة صباحاً وحتى الثالثة ظهراً مقابل ألف ليرة. الأمر نفسه تجده أمام قاطرات الفحم، فعشرات النساء يعملن على فرزه بين ما هو صالح للشوي أو الأراكيل مقابل ذات المبلغ. التجار باتوا يفضّلون اليد العاملة النسائية لرخصها، كما أنّها كثيرةٌ ومتوفرة، ومما يزيد حاجة الاعتماد عليها اليوم هو أنّ الشباب بين سن الثامنة عشر والرابعة والثلاثين باتوا حبيسي البيوت، فقد بدأت قوات سوريا الديمقراطية حملةً للتجنيد الإجباري قبل أيام، وقيل إنها ستستمرّ مدّة شهرٍ كامل».

إدلب مختلفةٌ في فقرها أيضاً

ضريبة الفقر في إدلب مختلفة عن باقي المحافظات السورية هذه الآونة، فهي في المقام الأول عجزٌ عن النزوح الذي لا يدري أوانه ساكنو ما تبقى منها تحت سيطرة المعارضة، حين يقرر النظام وحلفاؤه شنّ عملية عسكرية واسعة شبيهة بما حصل في ريف إدلب الجنوبي وحماة الشمالي. يقول إبراهيم السالم (اسم مستعار) من سراقب: «الناس لا يهتمون اليوم بجوعهم بالقدر الذي أضحى فيه البقاء في البيت هاجساً، إذ لم يعد في أيديهم أموالٌ تُعينهم على النزوح، لا سيما أنّ إيجار أيّ بيت في مناطق الشمال الآمنة لا يقلّ عن 150 إلى 200 دولار شهرياً، والغارات المُتكرّرة في الشهور الماضية عطلت الأسواق ونالت من أرزاق الناس؛ إذ أنّ غارةً واحدةً تستهدف السوق تعني عودته شهراً إلى الوراء، وبعدها لن يستردّ عافيته وتتحرك فيه الأعمال إلا بعد مرور وقتٍ كافٍ لتطمين الناس إلى أنّهم لن يكونوا ضحايا غارةٍ جوية تستهدف السوق مجدداً».  

أما عبداللطيف يحيى (اسم مستعار)، الذي يعيش هو الآخر في سراقب، فيروي حال أحد أصدقائه ليوضح مدى الفقر الذي وصل إليه سوادٌ كبير ٌمن أهل إدلب والنازحين إليها. يقول عبداللطيف: «الناس في إدلب يتلوّون من الجوع والفقر، لكنّهم يكابرون على أنفسهم ويسكتون. أخشى أن نعضّ أكتاف بعضنا البعض في الشتاء المقبل، فقد كنّا متأملين بصيفٍ تتحسن فيه الأوضاع وتشهد الأسواق تحركاً. خلال فصل الشتاء الماضي شهدت المنطقة درجات حرارةٍ شديدة الانخفاض، وفي أحد الأيام جاءني صديقٌ لي، وكان مغموماً، لكنّه لم يفصح عن دواعي غمّته. بعد ذلك بأسبوع عاد ليخبرني أنّه عاش المنخفض الجوي مع زوجته وأولاده الأربعة دون أن يكون في البيت ليتر مازوت واحد. وفضلاً عن ذلك لم يكن في بيته سوى ثلاثة أرغفة من الخبز. يقول الرجل: اختلقت خلافاً مع زوجتي، وبدأت أصرخ متظاهراً بالغضب، وذهبت للنوم دون عشاء. أردت بذلك فقط أن أترك الخبز وقليل الطعام المتبقي في المنزل لعشاء أولادي دون أن أشعرهم أنه ليس بإمكاني أن أشتري غيره في تلك الليلة». يتابع عبداللطيف متنهداً: «يوجد على غرار مثال صديقي ما لا يتّسع إحصاؤه».

أما أحمد السلطان (رفض التصريح عن اسمه الحقيقي لأسباب أمنية)، الناشط من ريف إدلب، فيعزو جزءاً من معاناة الناس إلى ممارسات هيئة تحرير الشام وحكومتها. يتساءل أحمد: «ألا تكفينا غارات النظام وروسيا من السماء حتى تنغّص الهيئة ومجاهدوها عيشتنا على الأرض! الكثير من الأسر في إدلب تعتمد على المساعدات الإغاثية التي توزّعها المنظمات، غير أنّ الهيئة وحكومة الإنقاذ يسرقون منها الكثير قبل وصولها إلى مستحقيها. تبدأ عملية السرقة بدءاً من معبر باب الهوى؛ حيث توجد ‘هيئة المنظمات’ التابعة للإنقاذ، وصولاً إلى أمراء القطاعات التي ستُوزّع فيها الإغاثة. في سراقب مثلاً، نعرف أنّ 1350 سلة غذائية يُفترض أن تصل شهرياً، غير أنّ المدينة لا يصلها أكثر من 350 سلة، وحين تسأل أين ذهبت باقي السلال؟ يجيبونك: هي حصة المجاهدين والعمال.. هؤلاء أليسوا فقراء، أليسوا سوريين! لا بل فوق ذلك هم مجاهدون!».

ولا يوفّر أحمد في نقده المنظمات نفسها، يقول: «إنّ سياسة التخصيص والمُخصّصات باتت أكثر من مزعجة. بات لديّ انطباعٌ بأنّ المنظمات تتلذّذ باستثارة حنق الناس؛ ماذا يعني أن يكون الناس جوعى وبحاجة كيلو رز في هذه الأيام العصبية، فتقوم إحدى المنظمات بتنفيذ مشروع لإنارة طرقات سراقب بألواح الطاقة الشمسية! ألا يرى هؤلاء صور الناس الذين ينامون تحت شجر الزيتون في الريف الجنوبي لإدلب؟ ألا يعلمون بجوعهم! ألا يعلمون أنّ نساءً وأطفالاً يتغوطون في العراء وصاروا يحلمون بما هو أقل من الطعام أو الخيمة؛ هم يريدون فقط قضاء الحاجة مستورين. أمّا النازحون، فلا أدري كيف يعيش هؤلاء، وإذا سألتهم هم أنفسهم فلن يجيبوك، نعم… هم أيضاً لا يعرفون كيف ومن أين يعيشون».

نعود إلى عبداللطيف يحيى من سراقب لنسأله مرةً أخرى؛ من أين تأكل الناس يا أبا شادي؟ يقول: «إنّ ربّ الأسرة صار يشحد ‘بأدب’ من الذين هم حوله، فإذا يئس منهم طلب من المغتربين. الكثير من الأسر صارت تستدين المال لكي تبعث بولدٍ أو أكثر للعمل في تركيا، وذلك على الرغم من خطورة عبور الحدود، فلا حلّ سوى ذلك. يقول الأب لابنه: اذهب للعمل هناك وأرسل لنا المال؛ ذلك خيرٌ لنا ولك من أن نعوي جوعاً». يسألني عبداللطيف لماذا أسأله من أين يعيش الناس في إدلب؛ يمازحني بالقول: هل تريد توزيع مصاري على الناس؟ فأخبرته أننا سننشر مادةً عن الفقر في الجمهورية، فيوصيني أن أكتب أنّ العيش في إدلب يتطلب منك أن تكون سوبر مان، وصعبٌ أن تكون سوبر مان.   

لكلّ سوريٍّ اليوم قصته الخاصة والمختلفة مع الفقر وأعباء الحياة وتكاليف المعيشة، ولا يسع المرء إلا أن يقف خجولاً وحائراً أمام قصص الناس التي يروونها عن يومياتهم وأزماتهم المعيشية وفقرهم وعوزهم. أتمنى لو كان بوسعي التخفيف عنهم، وتحاصرني الندامة على طرحي سؤالاً هو حديثهم اليومي؛ من أين تعيشون؟ أتمنى لو كان بمقدوري أن أعانق جميع الذين تحدّثت إليهم من خلف شاشة الجوال، أن أدخل معهم نوبة بكاءٍ تخفّف عني وعنهم. جُلّ السوريين اليوم فقراءٌ ويحتاجون المساعدة العاجلة، وهم أيضاً يستحقون دولةً ونظاماً يحترمان معاناتهم، ويتطلعون إلى نظام حكمٍ يكون مسؤولاً عن إزاحة شبح الفقر المدقع والمخيّم على كل تفاصيل حياتهم، لا أن يبدّد أموالهم في سبيل حروبه عليهم. والثابت أنّ هؤلاء الفقراء ليسوا بحاجة معارض «دولية»، إنما هم بحاجة سقف وجدران ولقمة كريمة. قد يبدو صعباً أن يخرج السوريون إلى الشوارع بسبب الفقر ونهب النظام لأموالهم، وذلك ليس لأنهم أقلّ شجاعةً من أقرانهم المصريين، بل لأنهم سُحقوا تماماً، كما لم يُسحق شعبٌ آخر. ولكن، من قال إنّ المسحوقين يصبرون كثيراً على ضيمهم!

موقع الجمهورية

هل وصل صراخ إدلب إلى الأمم المتحدة؟/  خالد منصور

صارت مأساة المدنيين في محافظة إدلب في شمال غربي سوريا ربما أعمق مما يمكن تجاهله مع منتصف صيف 2019، حتى في عالم تفيض عليه صور المعاناة المتدفقة عبر الشاشات وتخدّره. وتحركت عجلات المنظمات الدولية والديبلوماسية الحكومية في دول عدة منذ أيار/ مايو، فهل هذا تحول مهم؟ وكيف يمكن دعمه أو نقده من ليكون أكثر فائدة لمن يعانون من دون أي ذنب على الأرض؟

في أواخر آب/ أغسطس، أبلغ مارك لوكوك وهو الأمين العام المساعد للأمم المتحدة مجلس الأمن بأن حوالى 600 ألف سوري نزحوا من إدلب، بينما قتل 500 مدني وجُرح المئات في هذه المحافظة. وأعلنت منظمة الصحة العالمية وصندوق الطفولة (يونيسيف) أن الأعمال العسكرية الدائرة أوقعت خسائر متنوعة في 43 منشأة صحية و87 مؤسسة تعليمية و29 محطة مياه وسبعة أسواق. هذه الهجمات مؤكدة وأكثر من 90 في المئة منها ناتج عن قصف جوي (أي طائرات روسية وسورية). ولضمان دقة تقاريرها، راجعت الأمم المتحدة البيانات مع شركائها العاملين على الأرض، ثم أكدت وقوع كل هجمة مع مصدرين اثنين مستقلين على الأقل، وفقاً للوكوك.

وتظهر عمليات القصف الجوي الممنهجة والمتزايدة للمنشآت الصحية والمدنية الأخرى في إدلب، كيف أن المؤسسات العسكرية في روسيا وسوريا لا تحترم اتفاقيات خفض التصعيد De-Confliction، التي التزمت بها بعد مفاوضات. وكان بين أهم نتائج هذه المفاوضات قوائم منشآت مدنية تنبغي حمايتها، محددة بإحداثيات جغرافية، قدّمها قسم الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة. وأسوأ من التخلي عن مثل هذه الاتفاقيات (وإن لم يكن أمراً مفاجئاً في حرب تتحدى كل قواعد القانون الدولي تقريباً) أن هناك شكوكاً مبررة في أن الإحداثيات الجغرافية لهذه المنشآت تحولت من قائمة نقاط محمية إلى قائمة أهداف متاحة للقصف!

وفي منتصف الصيف ومع تكرار قصف هذه المنشآت المدنية، أكدت لي مسؤولة مساعدات إنسانية تتواصل مع ضباط الاتصال الروس بحكم موقعها، أن الجانب الروسي صار بوضوح غير مبالٍ بالتزاماته وفق القانون الدولي الإنساني (اتفاقيات جنيف التي تنظم الحروب). وفي مرة واحدة على الأقل أبلغها الضابط الروسي: “نعم، قصفنا هذه الأماكن التي تتحدثين عنها لأنها كانت تقدم العلاج لإرهابيين”.

ولكن، حتى لو كانت هذه المستشفيات تداوي جرحى من الميليشيات أو يعمل فيها أشخاص مسلحون، فهي خاضعة للحماية ويُحظر ضربها وفق اتفاقية جنيف الأولى التي وقعت عليها روسيا وسوريا. ولذا يتبنى المسؤولون الروس لغة أكثر ديبلوماسية ويصفون الاتهامات الموجهة إليهم بقصف المستشفيات، بالـ”كاذبة”، بينما قال مسؤولون سوريون مراراً إن إرهابيين صاروا يستعملون تلك المستشفيات لأغراض عسكرية. وهكذا يمارس الديبلوماسيون المهرة عملهم الذي لا يتقن ويهتم ضباط الاتصال العسكريين بلطفه وقواعده، فتخرج منهم مواقف أسرع وأوضح.

عموماً، إن قصف المنشآت الصحية استراتيجية واضحة للجيشين الروسي والسوري حتى قبل احتدام الصراع الحالي على إدلب التي صارت آخر معقل للمعارضة المسلحة (وغير المسلحة) لنظام بشار الأسد. وقالت منظمة “أطباء من أجل حقوق الانسان” في تقرير في شهر أيلول/ سبتمبر، إنها تأكدت من وقوع 583 هجمة على منشآت صحية بين آذار/ مارس 2011 وأيار 2019، كما أن النظام السوري أو حلفاءه مسؤولون عن 90 في المئة من هذه الهجمات التي أدت إلى مقتل 912 عاملاً في الخدمات الطبية.

وعندما يقر مسؤولون روس أو سوريون بهذه الهجمات، فإنهم يلجأون إلى استثناءات محددة في اتفاقيات جنيف، تسمح لهم بمثل هذا الإجراء بدعوى أنها كانت هجمات “متناسبة” وحققت “ميزة عسكرية”، تفوق الخسائر المدنية “العرضية”. هذه مصطلحات يفهمها خبراء ومحامو القانون الدولي، وتعني ببساطة أنه تعين التعامل بالقوة المناسبة مع خطر عسكري واضح وكبير، من جانب منشأة مدنية من أجل تحقيق هدف عسكري مهم، وأن أي خسائر بين المدنيين ومنشآتهم لم تكن مقصودة، بل عرضية. وفي هذا المجال، فإن الأساتذة الذين تعلم الروس والسوريون على أياديهم هم جنرالات جيش الدفاع الإسرائيلي، وتعلّموا أيضاً تبريراتهم لوقوع مذبحة تلو الأخرى بين المدنيين (على سبيل المثال قانا في 1996).

ما الذي حرّك البيروقراطية الأممية؟

في أواخر ربيع 2019 تزايدت صور المعاناة من إدلب وتقارير المنظمات الحقوقية والإنسانية الأهلية عنها، بينما تواصلت تحركات عواصم غربية تريد أن تحاسب روسيا على تدخلات عدة غير محسوبة في أنحاء العالم، وكان على البيروقراطية الأممية أن تتحرك. وفي منتصف أيلول قرر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، أن يعين لجنة تحقيق برئاسة الجنرال النيجيري تشيكاديبيا اوبياكور للنظر في الهجمات التي وقعت على المنشآت المدنية في إدلب، آخر المحافظات السورية التي يسيطر عليها معارضون مسلحون.

ولكن من دون دعم من مجلس الأمن (حيث تملك روسيا حق النقض ويمكنها تعطيل أي قرار مثلما فعلت مراراً بشأن سوريا هذا العام)، ومن دون موافقة، لن يمنحها بشار الأسد، فإنه من المشكوك فيه للغاية أن هذه اللجنة ستستطيع أن تسافر إلى إدلب للقيام بالتحقيقات المطلوبة كلها. وربما لهذا أعلنت الأمم المتحدة أن مهمة اللجنة ليست تحديد مسؤولية الطرف المعتدي وأن تقريرها سيكون داخلياً ويتلقاه الأمين العام.

وأحياناً تصبح مثل هذه اللجان العاجزة عن التوصل إلى نتائج واضحة ومحددة أو أدلة يمكن استعمالها في المحاكم، ذريعة تسمح للمعتدي بأن يقول: “حتى لجان التحقيق الدولية لم تتوصل إلى شيء”. ولكن إذا كانت النتيجة الوحيدة لهذه اللجنة، إضفاء صبغة رسمية على قائمة منشآت مدنية كانت الأمم المتحدة أبلغت الروس بمواقعها من قبل، ثم تعرضت بعدها للتدمير نتيجة قصف جوي، فسيكون هذا مفيداً إلى حد كبير في توجيه اتهامات وفضح هذا السلوك العدواني الأرعن في المستقبل، حتى لو تكن القيادات العسكرية والسياسية الروسية والسورية مهتمة إلى حد كبير بالقيم والمعايير الإنسانية والإحراج الدولي الناتج عن السلوك الدموي.

ماذا نستفيد من هذه اللجان؟

كلنا محاصرون بصور متتابعة لأعمال قتل جماعية تبدو بلا معنى من ويلينتغتون إلى تكساس ومن صنعاء إلى إدلب، مجرد دم وأشلاء وجثث وأجساد مغطاة بالتراب أو تترنح بين حطام شوارع مقصوفة. وتتدافع على الشاشات وجوه جمّدتها الصدمة أو شوهتها مشاعر لوعة وحزن لا تهدأ. مشاهد تهب علينا من شاشات في الشوارع، في المقاهي، في عربات المترو، في سيارات الأجرة، في بيوتنا، ومن على شاشات هواتفنا الذكية.

معظم هذه المشاهد وبعض السطور المصاحبة سواء كنا نسمعها أو نقرأها لا تشرح لنا أسباب ما يحدث حقاً وخلفياته، على رغم أن هذه الفظائع قابلة للتفسير أو على الأقل للبحث والتحقيق لو كان لدى الواحد منا أو لدى المؤسسات المعنية ما يكفي من الوقت والقدرة والدوافع. تفسير هذه الفظائع وجعلها “ذات مغزى” بدلاً من بقائها “عشوائية”، وجزءاً من سلوك “غير حضاري” من ديكتاتور مأفون هنا أو دولة متجبرة هناك، هو أمر مهم للغاية لأنه ينقلنا من الشاشات إلى أرض الواقع، حيث يمكن أحياناً أن نؤثر ونغيّر بدلاً من الشعور المتغلغل والدائم بالخوف والعجز المتسلط على كثيرين.

ولكن ما هي الأدوات التي يمكن استعمالها من أجل الفهم ثم المحاسبة؟ وهل ما زال للقانون الدولي فائدة ومعنى؟

ما يحصل في إدلب وغيرها من مناطق القتل والصراعات في العالم يجعل هذه الأسئلة في اللحظة الأولى فارغة ومنقطعة الصلة بالواقع. منذ نيسان/ أبريل هذا العام نزح قرابة خمس سكان محافظة إدلب، بينما تتوالى على رؤوس الناس قذائف مدمرة، غالبيتها العظمى من طائرات روسية وسورية حكومية، وبعضها لا شك من ميليشيات غالبيتها تدين بولاء أيديولوجي للقاعدة. لم يعد من قبيل التكرار وتأكيد المعلوم أن يقول الواحد المهتم منا إن الكشف عن مثل هذه الأعمال القذرة ومقاومتها بشتى السبل هو واجب أخلاقي نتحمله جميعاً. وبات من الضروري تذكير الحكومات بأنها بأفعالها أو بتغاضيها عما يحدث، تنتهك اتفاقيات القانون الإنساني الدولي التي وقّعت عليها دول العالم، بما فيها الفقرة الأولى المشتركة في اتفاقيات جنيف التي تلزم كل الدول الموقعة أن “تحترم وتكفل احترام”، هذه الاتفاقات هي التي تنظم سلوك الأطراف في حالة الحرب وتضع قيوداً عليها.

هناك بالطبع شكوك قوية ومبررة في فاعلية مثل هكذا اتفاقيات وأهميتها، بخاصة في العقدين الأخيرين، ولكن طالما ظل القانون وفكرته موجودين، أعتقد أنه سلاح يمكن استخدامه، وتحسينه وتغييره.

لذا، فإن لجنة التحقيق الأممية التي ستبدأ عملها أوائل تشرين الأول/ أكتوبر مهمة في النضال من أجل قواعد يجب أن تحكم الحروب، أو من أجل تغيير هذه القواعد، أو من أجل إنفاذها بسبل أفضل، قبل أن نتخلى عن هذه المنظومة كلها، ونصير في عراء غير واضح يتحكم فيه أمثال بوتين وبشار تماماً.

القوانين في نهاية المطاف هي مدونات تتغير كثيراً مع تغير الضغوط الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. يمكن استغلال القوانين كأدوات لفرض نظام أو لقمع جماعات، ولكنها أيضاً أدوات يمكن أن يلجأ إليها الطرف الأضعف وضمان قدر ما من المحاسبة والمساواة أمام قواعد عامة. وهذه هي الفرصة التي تمنحها صراعات دموية ووحشية كتلك الدائرة في سوريا واليمن الآن، لأطراف من خارج الصراع في أنحاء العالم، كي لا نواصل الفرجة والشعور بالعجز. ومن هذا المنطلق فإن قرار الأمم المتحدة بتعيين لجنة تحقيق حول ما حدث في إدلب في الشهور القليلة الماضية، مسألة تستحق الترحيب والاستثمار فيها.

درج

إدلب تشرب مياهاً ملوّثة/ مصطفى أبو شمس و محمد الأسمر

ستة أشهر فقط كانت كفيلة بعودة الحصيّات الكلوية للطفل محمد السعد (13 عاماً) بعد إجراء عملية تفتيت لها منتصف عام 2018، لتبدأ أعراض الألم من جديد. يقول والد الطفل إن الطبيب والتحاليل المخبرية أكدوا له عودة تشكل حصيات بلورية جديدة، وإنهم عزوا أسباب عودتها بالدرجة الأولى إلى مياه الشرب التي يستخدمها.

الشابة منى العلي، التي تسكن في مدينة إدلب، تعاني هي الأخرى من إسهال مزمن زاد عمره عن ثلاث سنوات، وتقول إنها راجعت العديد من الأطباء وأخذت عدداً كبيراً من الأدوية دون جدوى. الأطباء أكدوا لها وجود جرثومة طفيلية في الأمعاء، على حد قولها، وإنها غالباً أصيبت بها بسبب مياه الشرب، ولم تستطع تحديد المكان بسبب تنقلها بين مناطق عديدة خلال نزوحها قبل أن تستقر أخيراً في إدلب المدينة.

مشكلة المياه لا تقتصر على التسبب بأمراض مختلفة لشاربيها، وعلى سبيل المثال لا تشتكي أم علي التي تستخدم المياه بشكل يومي من الأمراض، لكنها تشعر بالحرج من ضيوفها بسبب بقايا الكلس على حواف الكؤوس الزجاجية في بيتها، تقول إنها تعيد تنظيفها لمرات كثيرة دون جدوى، ما يضطرها لاستخدام مياه مغلية في التنظيف أحياناً.

سنكتفي في هذه التقرير بدراسة مياه الشرب في مدينة إدلب دون أريافها، كونها الأكثر جودة ونقاوة من باقي المناطق، وتعتمد على مناهل مراقبة من قبل المؤسسة العامة لمياه الشرب والصرف الصحي في المدينة، إضافة لتمتّعها بشبكة أنابيب مائية وصرف صحي تغطي 95% من السكان، بحسب دراسة منشورة في جريدة تشرين للعام 2006.

مياه حكومية

يعتمد سكان مدينة إدلب على مشروعي «سيجر العرشان» الجديد والقديم في حصولهم على مياه الشرب، إضافة لبعض مناهل المياه الخاصة التي تغطي أجزاء من احتياجات السكان، ناهيك عن شراء عبوات المياه المعدنية. وتشكّل المياه الكلسية سمة عامة في آبار المياه الجوفية الرئيسية في المنطقة، ما يدفع الأهالي للبحث عن آبار أكثر نقاوة أو الاعتماد على طرق التصفية البدائية بالغلي والترقيد، أو المياه المفلترة محلياً.

أسامة أبو زيد، مدير المؤسسة العامة لمياه الشرب والصرف الصحي في إدلب، قال إن مشروع سيجر العرشاني الجديد أهم مصدر للمياه في المدينة، ويعمل حالياً بنسبة 28% من طاقته، ويتم تشغيله عبر مولدات الديزل، إذ يضخ ما يقارب 800 متر مكعب في الساعة، ومن الممكن أن يصل الضخ لـ 2800 متر مكعب في الساعة إذا عملت المحطات على الكهرباء.

وفي حال توقَّفَ المشروع بشكل مفاجئ، يتم تشغيل مشروع سيجر القديم، الذي يعمل حالياً بسعة تصل إلى 300 متر مكعب في الساعة، وبطاقة إنتاجية تصل إلى 50% من طاقة المشروع الكلية.

يتم ضخ المياه إلى داخل المدينة عن طريق ثلاثة محطات رئيسية هي محطة شارع الثلاثين؛ محطة شعيب؛ محطة الخدمات الفنية. إذ تعمل تلك المحطات بطاقتها القصوى، وتصل طاقتها الإنتاجية إلى 330 متر مكعب في الساعة، بينما تعمل المؤسسة اليوم على تجهيز محطتي «الكونسروة» و«حديقة الجلاء»، حيث تقدر الطاقة الإنتاجية للمحطتين بـ 60 متر مكعب في الساعة، وتبلغ نسبة المستفيدين من مياه المضخات قرابة 90% من سكان المدينة، كما عملت المؤسسة على تجهيز مناهل للمياه في محطتي شارع الثلاثين وحديقة الجلاء بهدف تزويد الصهاريج بمياه الشرب، بحسب أبو زيد.

تعمل المؤسسة على ضخ المياه للأحياء السكنية بشكل دوري بتقدير 10 ساعات أسبوعياً لكل خط، في حال لم تتعرض الشبكة والمضخات لأي عطل وعملت بطاقتها الكاملة، ما يعني افتقار الأهالي لمياه الشرب من هذه المناهل لأيام طويلة. ويؤكد من التقيناهم أن مشاكل كبيرة في عمليات الضخ تحول دون كفاية الأهالي، أجملوها بـ «ضعف عملية الضخ في كثير من الأحيان وعدم استفادة البيوت الطرفية منها، خاصة مع استخدام بعض الأهالي لمولدات الدينمو (السنطرفيش)، ما يحرم نسبة كبيرة من الأهالي من وصول المياه، أو وصولها بشكل متقطع وضعيف، كذلك صغر حجم الخزانات المتوافرة في البيوت، يضاف إليها انقطاع المياه بسبب عطل الشبكة، ما يعني تأجيل حصولهم على الماء لأسبوع أو أسابيع أخرى».

وبمراجعة المؤسسة العامة لمياه الشرب والصرف الصحي بإدلب، تلقينا إجابات حول نوعية ومراقبة المياه من المناهل الخاصة بها، فمشروع سيجر العرشاني يعتمد على عدد من الآبار التي وصفتها المؤسسة بـ «الجيدة والخالية من الشوائب»، يتم تجميعها في الخزانات مرتين لتنقيتها بشكل أفضل، بحيث تكون خالية من الشوائب والعكر، ويتم تعقيمها بالكلور عن طريق مضخات تم تركيبها على خطوط الضخ، بحيث لا تقل نسبة الكلور المتبقي عن 0.3 ملغرام في اللتر الواحد في نهاية خط الضخ. وتخضع المياه لتحاليل بيولوجية دورية شهرية للتأكد من عدم وصول التلوث للمياه، كما يتم أخذ عينات من أماكن مختلفة في المدينة وقياس نسبة الكلور المتبقي للتأكد من سير عملية التعقيم، وتحتفظ المؤسسة بأرشفة كافة النتائج للرجوع إليها وقت الضرورة. وقد تم تزويدنا بهذه التحاليل التي تظهر موافقة النسب المئوية للمعايير العالمية لسلامة مياه الشرب، إذ تبلغ نسبة الكلس في مياه سيجر حوالي (76) ملغرام في اللتر، ومياه العرشاني (80) ملغرام في اللتر الواحد.

مناهل خاصة دون مراقبة

تعتبر مياه «الصهاريج»، التي يحصل عليها السكان عبر شرائها من الآبار الجوفية القريبة من المنطقة، حلّاً لانقطاعات وقلة وفرة المياه الحكومية، وتختلف هذه الآبار من حيث نوعية مياهها ونقاوتها، وبالرغم من أن المؤسسة العامة للمياه في المدينة قالت في معرض ردها على أسئلتنا إن «مياه الآبار التي تزود الصهاريج تخضع لتحليل كيميائي لتحديد نسبة الشوارد بما فيها الكالسيوم، كما يتم تحليلها بيولوجياً للتأكد من سلامتها من التلوث، لكن لا يتم تعقيمها بالكلور كون عملية الضخ لا تتم عن طريق الشبكة، فلا حاجة لتعقيمها بالكلور طالما كانت نتيجة التحليل البيولوجي مطابقة للمواصفات».

المهندس سعيد -الذي رفض ذكر كنيته لأسباب أمنية-، يرى أن معظم هذه الآبار لا تخضع لأي مراقبة من قبل المؤسسة ولا من غيرها، كما لا يتم تعقيم المياه من المؤسسة أو أصحاب الصهاريج. وطالب المؤسسة بإبراز التحاليل الخاصة عن هذه الآبار ووضعها على صفحات التواصل الاجتماعي، وتنظيم عملية نقل المياه وحصرها في الآبار التي تجري تحاليلها بشكل دوري، إضافة لفحص خزانات الصهاريج والتأكد من سلامتها وخلوها من البكتيريا والصدأ.

ويقول بعض من التقيناهم في المدينة «أحياناً تكون مياه الصهاريج عكرة ولونها أقرب إلى الاصفرار، بعضها له طعم، وغالباً ما نتركها للاستخدام المنزلي والاستحمام ونتجنب شربها».

أسباب مباشرة لتلوث المياه

في تحقيق صحفي نشره موقع الاقتصادي عام 2014 بعنوان وبال الصراع السوري يصل لمياه الشرب، ورد على لسان الممثل المقيم لمنظمة الصحة العالمية في سورية إليزابيث هوف إن «أكبر ما يدعونا للقلق هو انهيار شبكات المياه والصرف الصحي وزيادة الأمراض التي تنقلها المياه، وإنَّ تقارير وردت عن إصابات بالالتهاب الكبدي الوبائي نوع A، الذي يُمكن أن يسبب أوبئة في حلب وإدلب وفي بعض الملاجئ المُكتظّة بالمّهجرين في العاصمة».

ويقول المهندس سعيد أن هناك أسباباً مختلفة لتلوث مياه الشرب في إدلب، ليس فقط غياب الرقابة والتعقيم، بل تكمن في خطوط نقل المياه نفسها، التي تعتمد على الشبكات القديمة لخطوط الجرّ، والتي يزيد عمر بعضها عن خمسين عاماً، ومعظمها مصنوع من مادة الأسبستوس، التي تراجع استخدامها عالمياً في العقود الأخيرة بسبب آثارها الصحية السيئة، وتعالت الأصوات المنادية بمنعها نهائياً؛ ناهيك عن مياه الصرف الصحي التي تختلط بمياه الآبار بعد تسربها من الأنابيب التي لم يجرِ إصلاحها أو الكشف عليها منذ سنوات، وبدرجة أقل التلوث المناخي والأسمدة الكيميائية المستخدمة وكمية الذخائر التي تسببت بها الحرب وانحلالها في التربة مع مياه الأمطار ووصولها إلى المياه الجوفية.

يكمل المهندس سعيد كلامه بالقول إن هذا التلوث يأتي بعد خروج المياه من المناهل الحكومية ومرورها في الأنابيب، ولا يتم تحليلها كما لا يتم تغيير هذه الأنابيب، وهو ما أكده تقرير لموقع العربي الجديد على لسان المهندس سامر سليمان (43 عاماً) المتخصص في شؤون البيئة والمياه، الذي قال «تنقلت في وظيفتي بين عدة مؤسسات مياه في ريف حمص الشمالي وحماة وإدلب، والمشاكل التي تعاني منها شبكة المياه هي ذاتها، الشبكة القديمة متضررة بشكل كبير ومدفونة تحت الأرض، ولا يمكن رصد أماكن الخلل فيها. والآبار الجوفية بمعظم المناطق تتسرب لها مياه الصرف الصحي، فضلاً عن استخدام كميات غير مدروسة من الموادّ المطهرة للماء كالكلور، الذي يوضع في محطات الضخ بشكل عشوائي، ويتسبب بأزمة للأهالي».

وفي تقرير نشرته وحدة تنسيق الدعم ACU في أيلول 2018 عن الواقع الخدمي في إدلب، قالت إن معظم شبكات الصرف الصحي في المدينة تحتاج إلى عمليات صيانة، إذ تعاني من بعض التشققات والتسريب لمياه الصرف ضمن الشقوق. وحددت المشكلة الرئيسية بعدم وجود محطات معالجة لمياه الصرف الصحي، التي غالباً ما يتم تصريفها الى الأودية القريبة من التجمعات السكنية، أما القسم الباقي منها فيتسرب ضمن طبقات الأرض، ما يؤدي إلى تلوث المياه الجوفية.

وأوضح التقرير أن 99% من شبكات الصرف يزيد عمرها عن عشر سنوات؛ 33% منها عمرها أكبر من 25 سنة؛ و24% يتراوح عمرها بين 16-25 سنة؛ ويستفيد فقط 57% من السكان من خدمات الصرف الصحي في المحافظة.

الدكتور سامر النعسان، وهو طبيب متخصص في المجاري البولية في إدلب يقول إن «للمياه الكلسية دور في تشكيل الحصيات الكلوية أو ما يعرف بالرمال البولية، لكن الدور الأبرز في هذه العملية لطبيعة جسم الإنسان ووجود العوامل المزيلة للحصيات، فنقص أحد هذه العوامل مثل السيترات يؤدي إلى تشكيل الحصيات. لكن الخطر الأكبر يكمن في الأمراض الجرثومية التي يمكن أن تتشكل نتيجة تلوث المياه مثل الحمّى التيفية أو الالتهابات التي تصيب المعدة والأمعاء».

من جهته، يقول الدكتور أحمد الشعباني، وهو طبيب داخلية، إن خمسة مرضى وسطياً يزورون عيادته يومياً يعانون من أمراض معوية، غالباً ما يكون سببها المياه والأطعمة الملوثة، ويضيف أن بعض هذه الحالات «معندة» ولا تستجيب للعلاج.

لا توجد إحصائية دقيقة عن عدد مرضى الإسهالات أو الحمى التيفية والتهاب الكبد في المنطقة، إلّا أن الشعباني يؤكد زيادتها بنسب كبيرة عما كانت عليه في الأعوام السابقة، ويقدر هذه الزيادة بما يزيد عن 200%. مؤكداً أن المياه العسرة القاسية والكلسية والملوثة هي من أسباب حدوث التهاب الكبد الفيروسي A، والإسهال الحاد، كما تسبب تشكل حصيات الكلس على اختلاف أنواعها.

أبو عمر هو واحد من الذين عانوا مؤخراً من هذه الأمراض، يقول «تكررت شكوى طفلي من وجع في معدته، ما دفعني لمراجعة طبيب الأطفال الذي أكد لي وجود التهاب بالأمعاء، ونتيجة التحليلات التي أجريناها تبين وجود رمل في الكلى بالإضافة للالتهابات، وأكَّدَ طبيب الأطفال على ضرورة منعه من تناول المياه الكلسية التي لعبت دوراً بوجود تلك الحصيات إضافة إلى عوامل أخرى».

حلول مكلفة

ورد في دراسة عن مصادر المياه الجوفية في سوريا للدكتور محمد سعيد المصري والكيميائية هدى عساف في أيلول عام 2007، أن «هناك استهتاراً عاماً من قبل البشر بتلوث المياه الجوفية، إذ شهدت الفترة من 1971 حتى 1985 تفشّي أكثر من 245 مرضاً مرتبطاً بالمياه الجوفية»، ولكن رغم هذه الأمراض كلّها، فإنه ليس هناك حلول مطروحة على سكان مدينة إدلب، الذين يعانون من نقص حاد في المياه يرافقه ضعف في المستوى الاقتصادي وقلّة في فرص العمل وغياب للكهرباء عبر الخطوط الرئيسية، ما يدفعهم للبحث عن اجتراح حلول لا يكون الحفاظ على الصحة أحد أهم أولوياتها.

يقول أحمد (أحد سكان المدينة) إن مياه الشبكة الحكومية أفضل من غيرها، إلّا أنها لا تكفي لسد احتياجات عائلته المكونة من خمسة أشخاص، ما يدفعه لتعبئة كافة أواني المطبخ والعبوات البلاستيكية بالماء عند دورهم الأسبوعي، ويضحك حين يخبرنا عن خلية النحل التي تتحول إليها أسرته عند وصول المياه، والساعات التي يقضونها في ملء كل الأواني الفارغة والمتاحة بالمياه.

لا يفضل أحمد مياه الصهاريج إلّا أنه يضطر لشرائها رغم كل شيء، فأحياناً تنقطع المياه الحكومية بسبب عطل ما أو تصل ضعيفة، ليس فقط لعدم ثقته بمياه هذه الصهاريج ولكن أيضاً للكلفة المالية العالية، فسعر خزان المياه يختلف بحسب أسعار الوقود يومياً، إلّا أنه لا يقل عن 1000 ليرة سورية لكل 1000 لتر، فيما تبلغ احتياجات العائلة المتوسطة المؤلفة من خمسة أشخاص في المدينة ما يقارب 15000 ليرة، أي ربع دخلها الشهري، للحصول على المياه.

ينصح الأطباء باستخدام المياه المعدنية، خاصة للمرضى الذين يعانون من الحصيات البولية أو الإسهال الحاد، إلّا أن سوء الأحوال الاقتصادية يحول دون ذلك. يقول أبو محمد، الذي يعاني من تشكل الرمال والحصيات الكلوية، إنه لا يستطيع شراء المياه المعدنية، لذلك لجأ إلى طريقة تقليدية قديمة عبر غلي المياه وترقيدها حتى تبرد، ثم تصفيتها من الشوائب الكلسية عبر قطعة قماش، واستخدامها للشرب لاحقاً.

لم تعجب فكرة التصفية الحاج أبو أنس، الذي قال إن تكلفة غلي المياه وشراء الغاز اللازم لذلك يعادل سعر المياه المعدنية، لذلك فضَّلَ الشرب من مياه الحنفية و«التوكل على الله» بحسب قوله، فليس باليد حيلة.

حاجة الناس الملحّة لمياه نقية دفعت البعض لتأسيس ورشات خاصة لفلترة المياه محلياً، حيث يتم استيراد أجهزة الفلترة من تركيا وتركيبها ضمن دارة لتحلية المياه وتخليصها من الشوائب، ثم طرحها في الأسواق.

يقول أحمد المعاط، صاحب إحدى الورشات: «تمر المياه بعد خروجها من البئر في مرحلة الرمل بهدف سحب الشوائب من المياه، ثم تنتقل لمرحلة الفحم التي تخلصها من الطعم والرائحة الغريبة لتدخل بعدها إلى جهاز ‘الريزين’ الذي يخلصها من الكلس، لتنتقل بعدها إلى جهاز ‘المابرم’ الذي يُجري عملية فرز للمياه الصالحة للشرب والمياه الآسنة، تنتقل المياه الصالحة للشرب بعدها إلى مرحلة التعقيم عبر الأشعة فوق البنفسجية، التي تقتل البكتريا والطفيليات إن وجدت بالماء». ويضيف المعاط أنه توجد بين كل مرحلة وأخرى من المراحل السابقة حشوات فلترة بمسامات ضيقة جداً، هدفها تصفية المياه بشكل أكبر.

تنتج ورشة «المعاط» قرابة 1000 ليتر مفلتر من المياه في كل ساعة، ويتم إجراء فحوصات دورية للمياه المنتجة بهدف التأكد من سلامتها من قبل صاحب المعمل؛ بينما تغيب رقابة الجهات الحكومية التي لم تقم بإجراءات المراقبة عن المياه المطروحة في السوق حتى اليوم. وتعمل المؤسسة على تنفيذ دراسة لوضع الخطط اللازمة لضبط هذه الناحية بسبب أهميتها. وتباع تلك المياه في عبوات مختلفة، بعضها قابل للاستبدال، كما يعمد أصحاب تلك الورشات إلى التعاقد مع محلات السمانة بهدف اعتمادهم كمراكز لتوزيع تلك المياه عبر بيعها من خزانات مخصصة، بحيث يباع الليتر الواحد بسعر 10 ليرة سورية.

يحاول والد الطفل محمد السعد تأمين مياه معدنية نقية لطفله كل يوم، ويمنع باقي العائلة من استخدامها لكلفتها الكبيرة، بينما يواظب على إعطائه الأدوية اللازمة علّه يستغني عن عملية التفتيت مرة أخرى، يقول إن «جسده الصغير لا يحتمل كل هذا الألم»، بينما تتفاقم أزمة المياه الملوثة في الشمال السوري خاصة بين المخيمات التي تضم مئات الآلاف من النازحين الذين يحلمون بالحصول على المياه أيّاً كان مصدرها. في الطريق إلى أي قرية في المحافظة تجد أنهاراً مكشوفة من الصرف الصحي، ومستنقعات وبؤراً للحشرات والأوبئة، ومكبات للقمامة، مع وجود خجول للمنظمات الإنسانية التي تعنى بالواقع الصحي، ما سيخلف كارثة صحية في المجتمع السوري خلال السنوات القليلة المقبلة.

موقع الجمهورية

——————————————

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى