أبحاث

الثورة السورية ومأزق إعادة إنتاج النظم التقليدية/ طارق أبو العينين

إذا كان التفكير العلمي يقتضي استخلاص ما هو عام وشامل مما هو خاص ونوعي بحسب مقولة الفيلسوف البريطاني ألفريد وايتهيد  فإن الثورة السورية وما تلاها من صراع مسلح بين المعارضة الثائرة ونظام الأسد المستبد لا يمكن أن تنفصل في أي حال من الأحوال هي وكل ثورات الربيع العربي المجهضة عن أزمة النظام العربي برمته، سواء في ما يتعلق بشقها البنيوي المرتبط بطبيعة تكوين النظم العربية وتركيبتها، أم ما يتعلق بشقها السياسي التفاعلي المتمثل في ردة فعل تلك النظم المتكلسة على تلك الثورات، وفى القلب منها الثورة السورية بالطبع.

فالنظام الإقليمي في عالمنا العربي قد عاش قبل اندلاع ثورات الربيع العربي في ظل حالة من الهيمنة الكاملة لما عرف بالنظم التقليدية القائمة على شرعيتين الشرعية العسكرية كحالة سوريا ومصر وليبيا أو الشرعية القبلية كحالة النظم الخليجية، وهنا تنبغي الإشارة إلي أن أزمة تلك النظم قد تشكلت على صعيدها البنيوي بوصفها إحدى أبرز التداعيات التي تمخّضت عنها كارثة حرب الخليج الثانية التي مزقتها ما بين أزمة شرعية، ومأزق تبعية، ما أدى إلى انقسام النظام السياسي العربي إلى محاور متصارعة، وعرقل مسار التحول الديمقراطي في الدول التي تقبع تحت حكم  تلك النظم.

فبحسب ما طرح المفكر السياسي المصري الراحل محمد حسنين هيكل في كتابة (المقالات اليابانية)  فإن النظم التقليدية في العالم العربي وعلى رأسها النظامين المصري والسوري قد شعرت بحرج بالغ إذ واجهت تجربة في منتهى الصعوبة بدخول حرب الخليج بوصفها طرفا أصغر تابعا لقوة عظمى، وهى التي دعت حقباً طويلة إلى التحرر الوطني والعدل الاجتماعي،  فقبولها بهذا الوضع مثل اعترافاً ضمنياً منها بعجز النظام العربي، وأملاً في حل مشكلاتها الاقتصادية، وإيجاد تسوية عادلة مع إسرائيل، في إطار الاعتراف بالشرعية الدولية متمثلة في قرارات الأمم المتحدة ومبادئها. إلا أن تلك الأمور -بحسب ما يؤكد هيكل- لم تحدث بعد انتهاء الحرب في إطار الخطط المرسومة من قبل تلك النظم فبقيت أزماتها الاقتصادية والاجتماعية بل طرأت عليها أزمات أخرى خطرة تتعلق بالهوية التي تأثرت بانقسام الأمة، والشرعية التي تأكلت بفعل الرياح القوية التي تهب من الشمال بحق الشعوب في تقرير مصيرها وحقها في الديمقراطية، كاشفة ثغرات في نظم تقوم إما على القبيلة التقليدية التي فقدت صلتها بالعصر أو على الوصاية العسكرية التي فقدت صلتها بالحقيقة.

وهنا تكمن أزمة تلك النظم البنيوية التي تشكّلت بمعزل عن الفكر الديمقراطي، ما تسبب في ردة فعلها العنيفة تجاه ثورات الربيع العربي التي تحتكم إلى منطق يناقض الحقائق الوجودية التي تتبناها وتنطلق منها. إلا أن المفارقة هنا تكمن في أن كاتبا ومفكرا استراتيجيا مثل محمد حسنين هيكل قد تحول موقفه من تلك النظم التقليدية، ومن حق الشعوب العربية في المطالبة بالديمقراطية إلى النقيض بعد عامين تقريباً من اندلاع الثورات العربية، على وقع الصدامات المسلحة في سوريا تحديداً، فقد وصف ثورات الربيع العربي بأنها سايكس بيكو جديدة هدفها تقسيم المنطقة. وهنا بدأ الخطاب التحليلي العربي يتخذ منحى جديدا تجاه ثورات الربيع عموما، وتجاه الثورة السورية خصوصا، بوصف تلك الثورات مؤامرة غربية هدفها تفكيك الدول العربية وإضعافها، ومن هنا بدأ التغير في موقف النظم التقليدية الجمهورية والملكية، حيال الثورة السورية، على الرغم من أن لكل منها بواعثه ومسوغاته، إذ انقلب موقفها من دعم الثورة السورية وفصائل المعارضة لإسقاط  نظام الأسد إلى التنازل عن ذلك المطلب المتعلق بضرورة رحيله.

وبعد أن كانت تلك الأنظمة تدين سياسات بشار الأسد ونهجه في التعامل مع التظاهرات وما ترتب على ذلك من سحب المملكة السعودية -مثلا- وفدها من بعثة حفظ السلام التابعة لجامعة الدول العربية من سوريا، وإغلاق سفارتها في دمشق، ثم طرد السفير السوري من السعودية، ودعمها للجيش السوري الحر وفصائله وتزويده بالسلاح، بُغية مواجهة الأسلحة الإيرانية المتدفقة لدعم النظام السوري وصولاً إلى تعاون المملكة العربية السعودية مع الولايات المتحدة الأمريكية في عملياتها العسكرية ضد  داعش في سوريا، إلا أن ذلك الموقف منذ عام 2017، وعلى الرغم من استمرار المملكة في دعم المعارضة إلا أن هناك تغيراً يتعلق بمدى تمسك المملكة بضرورة رحيل الأسد. إذ إن المملكة العربية السعودية لحقت بأميركا وأوروبا في الإقرار بضرورة تنسيقهم العمل مع روسيا للوصول إلى تسوية كاملة وحل شامل للأزمة، وهو تحول له أسبابه منها استعادة الأسد السيطرة على جزء كبير من البلاد، وإعلان الإدارة الأمريكية الجديدة إنهاء برنامج تسليح المعارضة، وإدراك أن روسيا هي الطرف الوحيد القادر على حل الصراع في سوريا، من ثم فلم تعد لدى السعودية مشكلة في القبول ببقاء نظام الأسد وتطوير علاقتها بروسيا بُغية مواجهة صعود حليف روسيا الآخر الداعم للأسد وهو إيران.

أما النظام المصري بعد 3 تموز/ يوليو 2013 فقد اتجه هو الآخر نحو تغيير دفة السياسة الخارجية المصرية باتجاه الدعم غير المشروط لسيناريو بقاء الأسد في السلطة وإن اختلفت الدوافع. فالنظام المصري أراد بعد عزل الرئيس الإخواني محمد مرسي أن يبلور حالة الصدام مع حكم الإخوان عبر الأزمة السورية من خلال دعمه للأسد. إلا أن النظام المصري لا يلعب فقط عبر تلك السياسة في مساحة التناقض مع الإخوان بقدر ما يلعب أيضاً في مساحة تكريس التشابه ما بينه وبين النظام الناصري، ومن ثم تقديم نفسه للجماهير بوصفة وريث تركة دولة يوليو التي يعد نظام الأسد أحد امتداداتها بوصفه نظاما قومي التوجه ذا طابع عسكري معاد للإسلام السياسي. ثم إن حالة الانهيار الأمني في سوريا قد وظفت من قبل النظام المصري فزاعة في الداخل لتخويف الجماهير من فكرة هدم النظم التسلطية وبناء نظم ديمقراطية عبر آلية الثورة، ومن ثم فإن سيناريو نجاح الثورة السورية في تقويض نظام الأسد وبناء نظام ديمقراطي سوف يكون بمنزلة شرخ في شرعية النظام المصري التي بناها على أرضية حماية نموذج الدولة الوطنية -بنسخته الناصرية- من الانهيار، بفعل ثورات الربيع العربي الديمقراطية. لذلك كله استغلت السلطة المصرية تغير الموقف الخليجي حيال الأزمة السورية لتكريس فكرة تأييدها لبقاء الأسد واستثمارها في تحقيق مزيد من التقارب مع روسيا كما فعلت نظم الخليج بعد تحول موقفها حيال الأزمة السورية.

ولذلك كان طبيعياً في ظل تحول مواقف تلك النظم وتبدلها من الثورة السورية أن تقوم بجهد حثيث لمحاولة تطبيع العلاقات مع نظام الأسد، وخصوصاً أنها قد حدثت في ظل ضغوط روسية لتحقيق ذلك الهدف.

كمن ثم فنحن هنا أمام سياق جديد ومتكامل لتعاط مختلف من قبل النظام العربي مع الأزمة السورية، يتمثل -بحسب تقديرات المراقبين- في التركيز على تقليص النفوذ الإيراني في سوريا بدلاً من الدفع باتجاه رحيل الأسد أو تغيير النظام السوري، ويعتمد النظام العربي في تصوره الجديد للأزمة السورية في تحقيق ذلك على التعاون والتفاهم مع روسيا، بدلاً من تقديم الدعم المباشر للفصائل المسلحة لمجابهة النفوذ الإيراني في سوريا وخصوصاً بعد الأزمات التي واجهت دول الخليج بعد تصدع مجلس التعاون بفعل الخلاف المتصاعد مع قطر أو موقفها المتأزم في حرب اليمن.

وهو ما يعني في النهاية أن تفعيل الدور العربي في مواجهة تلك التحديات التي تستهدف النظام العربي ومن ثم بلورة الدول العربية لموقف معقول حيال الأزمة السورية يتطلب رسم سيناريوهات المستقبل انطلاقاً من علاج مشكلات الماضي التي شرخت النظام العربي بعد حرب الخليج الثانية، فكشفت عجز النظم العربية عن مجابهه مشكلاتها الاقتصادية والاجتماعية أو تجديد شرعيتها بتحقيق أشواق مواطنيها في التغيير الديمقراطي. وكشفت كذلك حالة عجز النظام العربي وتبعيته في مواجهة سياسات الدول الكبرى وتوجهاتها في المنطقة التي سمحت بدخول فاعلين جدد كتركيا وإيران، ومن ثم تقلص دور النظام العربي بحصره في محض محاولة بائسة لمجابهة النفوذ الإيراني والتركي المتنامي في المنطقة. ولذلك فإن تعاطي تلك النظم بقدر من الموضوعية والعقلانية مع مطالب التغيير والتحول الديمقراطي التي كانت الباعث الوحيد لثورات الربيع العربي -بعيداً عن خطاب المؤامرة- كان وما يزال هو المخرج الوحيد لأزمتها المركبة حيال الثورة السورية، وغيرها من ثورات الربيع العربي ففوائض القوة النابعة من شرعية الإجماع الجماهيري الديمقراطي الحر هي وحدها القادرة على مجابهة هذا النفوذ المتنامي لأميركا وروسيا وتركيا وإيران بدلاً من محاولة تلك النظم التقليدية إعادة إنتاج نفسها ومن ثم المساهمة في تنامي هذا النفوذ من موقع مجابهته.

بروكار برس

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى