الناس

“قسد” والتحالف الدولي: جسور قليلة وأهداف مختلفة كثيرة/ براء صبري

أعلنت قوات سوريا الديمقراطية في الثالث والعشرين من اذار/مارس انتهاء المعركة الرسمية ضد تنظيم “الدولة” الإسلامية في حفل رسمي في ريف دير الزور الشرقي، وبحضور نائب المبعوث الأمريكي الخاص لدى التحالف الدولي وليام روباك. ورغم أن الجو الإيجابي كان هو السائد في الاحتفال فإن القادة في “قسد” ركزوا على أن حربهم ضد التنظيم دخلت مرحلة جديدة وهي مرحلة الخلايا النائمة، والعمليات الانتحارية، والمجموعات الصغيرة المتوارية عن الأنظار، وإن كان روباك قد تحدث عن أنهم “سيواصلون دعم قوات سوريا ودعم التحالف الدولي لضمان الهزيمة الدائمة للتنظيم الإرهابي” لكن هناك اقتناعا تاما لدى القادة لما ذكرت رئيسة الهيئة التنفيذية لـ”قسد” إلهام أحمد خلال الاحتفال عينه عن أن “مرحلة تحرير الجغرافيا انتهت لكن خطر الإرهاب لا يزال موجودا” وتعني أن منهج (الحرب الطويلة) أصبح توقعه سهلاً لدى الأطراف التي تبحث عن استمرار الشراكة بينها، وهو جزء مكشوف من خبرة الأمريكيين الواسعة مع الجماعات الإرهابية التي لا تموت بخسارة الأرض بعد سنوات حربهم ومعاناتهم الطويلة في أفغانستان والعراق. هذا التعاون هو منجاة لـ”قسد” من طوق الأعداء الذي يحيط مناطق نفوذها، وهو حصن لواشنطن من خسارة ما تبقى لها من نفوذ في سوريا التي أصبحت بدورها جزءا من ملكية روسية، وتركية، وإيرانية. وهذا السبب جرف الضار الكثير من فحوى قرار ترامب الانسحاب الكلي من سوريا، وترك المناسب منه، أي حاميتين من بضعة مئات من الجنود مدعومين بمئات من الجنود القادمين من بلدان التحالف الدولي لحماية مناطق شمالي شرق سوريا، ومنع عودة التنظيم الإرهابي للحياة، ومراقبة الحدود العراقية السورية.

الحرب التي لا تنتهي

عندما بدأت الحكومة العراقية بسط سيطرتها على المقار الرئيسية لتنظيم القاعدة في النصف الثاني من العقد الماضي، كانت العمليات الانتحارية، والتفجيرات المجهولة ضد الجيش الأمريكي والقوات الأمنية العراقية مستمرة في الخطوط الخلفية للمعارك. عانت معظم المدن البعيدة عن خطوط الجبهة الواقعة غرب العراق من ويلات الحرب غير الرسمية لسنوات، وهو ما دفع بعدد من قادة الحكومة الأمريكية لتبني مفهوم أن الحرب مع المتطرفين لا تنتهي بانتهاء سيطرة تلك الجماعات على الأرض. وقبل ذلك تستمر ذاكرة الجيش الأمريكي باستعادة تجربة أفغانستان. كان ترامب وهو يعلن الانسحاب من سوريا يولد انتكاسة لجيل كامل من القادة الأمريكيين الذين اعتقدوا أنهم سيجنون ثمرة خبرتهم من الحروب مع المتطرفين في سوريا، بالاعتماد على المقاتلين المحليين ليتفادوا الخسارة المباشرة لجنودهم، وتحضروا للبقاء بتعزيز بناء القواعد العسكرية المحمية بقوات محلية، وقاموا بالعمل على تشكيل قوات محلية مدربة يمكنها التعامل مع فلول “داعش” وخففوا من المصاريف المادية بإشراك حلفاء في الدعم، وجاء ترامب ليمحي كل تلك الترتيبات. لكن ضغط تلك القوى عدل البوصلة السياسية قليلاً في البيت الأبيض إلى المسار التقليدي المعروف عنه. في السياق، كان القادة على الأرض من قوات سوريا الديمقراطية لا يقلقهم “داعش” بل الأتراك في الشمال، والنظام وحلفائه في الجنوب. خشي القادة الكلاسيكيون في أمريكا أن تصبح منطقة شرق الفرات حديقة لروسيا، وإيران، والنظام السوري، وخشي القادة المحليون الموالون لواشنطن من أن يتحول شرق الفرات إلى منطقة من الدماء أو أرض الاستسلام التام.

وحسب قول أحد المحللين من القامشلي لملف العلاقة بين قسد والتحالف الدولي للصحيفة فإنه “كان الاشتراك في الاقتناع بإن حرب التنظيم لم تنته هو ما نجا الطرفين من خسائر كبيرة، وأحاط بتهور ترامب المريب” وأضاف “وما الأخبار عن عمليات مستمرة في مناطق متفرقة من محافظتي الرقة ودير الزور ضد قوات سوريا الديمقراطية والقادة المحليين هناك إلا صورة من صور التوقعات السابقة، ومؤشرا على أن العمل المشترك لتلك الجهتين سيكون طويلاً”.

وتقول الباحثة المختصة في شؤون المنطقة كريستيان واكد لـ”القدس العربي” إن العلاقة بين الأمريكان و”قسد” تتركز على رغبة واشنطن بإبقاء نفوذ لها في سوريا، وترغب في أن يكون ذلك النفوذ بالقرب من المناطق النفطية طبعاً، إما بالنسبة لقوات سوريا الديمقراطية فتجد في وجود الأمريكان حماية لهم”. وأضافت “إن قوات سوريا الديمقراطية تملك بعد كل ما سبق ورقة جديدة وقوية هي ورقة الأسرى الدواعش وخاصة الأجانب منهم حيث عيون كل الدول المعنية تتجه نحو قسد”.

شراكة في العمل

عندما طلب وزير الدفاع الأمريكي وقادة آخرون من ترامب مُهاتفة الرئيس التركي رجب طيب اردوغان الذي كان قد هدد بالدخول إلى شرق الفرات قبل بضعة شهور صدموا بقراره ترك شرق الفرات لتركيا. كان الجميع يتحدث عن خوف الحلفاء المحليين من تركيا، ولكن، كان جل اهتمام القادة في واشنطن هو تدعيم شرق الفرات وتقوية إداراتها لردع التقدم الروسي المفرط في سوريا، ولوقف التغلغل الإيراني المريب بالنسبة لهم في سوريا، وبالأخص، في المناطق الحدودية مع العراق. لم يكن ترامب يعتقد أن روسيا خطر على الولايات المتحدة في مخالفة واضحة مع التقارير الرسمية الصادرة سنوياً من جهات عسكرية وأمنية أمريكية، ولم يكن يجد في تركيا عدوا لأمريكا، ولكن ظل على كرهه المستمر للسلطات الإيرانية. اعتقد القادة التقليديون ان ترامب سيتمسك بالبقاء في سوريا ليردع الإيرانيين هناك، ولكنه يجد أن الوقوف الحقيقي في وجه إيران يكمن في العراق، وعليه لا حاجة للبقاء في سوريا. قوات سوريا الديمقراطية كانت تفي بالتزاماتها مع واشنطن واستمرت في قتالها “داعش” رغم قرار ترامب. وعند سؤال “القدس العربي” ممثل الإدارة الذاتية في لبنان عبد السلام أحمد عن مدى تعويل “قسد” على الأمريكان قال: “نحن لم نعول على التدخل والدعم الخارجي في الدفاع عن مناطقنا عندما تعرضنا للهجوم من الفصائل المسلحة بمختلف مسمياتها، قوات التحالف الدولي تدخلت عندما وجدت في وحدات حماية الشعب ووحدات حماية المرأة وفيما بعد قوات سوريا الديمقراطية المقدرة على إلحاق الهزيمة بالإرهابيين الذين شكلوا خطرا على السلام العالمي وأثمر هذا التعاون في تحقيق النصر على دولة الخلافة. نحن نراهن على شعبنا وقواتنا المقاتلة”. وتجد قوات سوريا الديمقراطية في تركيا التهديد الأول، وفي النظام وحلفائه العدو الثاني في حين ينظر ترامب الى إيران كعدو أول، وينظر القادة العسكريون الأمريكيون وقادة الدول الأوروبية المشاركين في قوات التحالف الدولي إلى روسيا كعدو رئيسي. ورغم ان الترتيب في قائمة الأعداء تختلف بين الجهات المتعددة إلا أن المتفق عليه حسب منشورات على صفحات التواصل الاجتماعي لعدد من الساسة القريبين من الإدارة الذاتية “هو ضرورة العمل المشترك للقضاء على بقايا التنظيم الإرهابي في شرق الفرات، بالإضافة إلى حماية المنطقة من المخاطر المحيطة من خلال الاستمرار في دعم القوى والإدارات المحلية”.

مفاوضات شاقة

كان الأكراد يبحثون عن حل لوضعهم في سوريا من خلال حكومة دمشق، وحتى عندما تشكلت الإدارات الذاتية شمال سوريا، وأصبحت قوات سوريا الديمقراطية القوة الرئيسية فيها ظل الأكراد يحاولون الوصول إلى حل نهائي لمصير شرق الفرات يأخذ في الاعتبار الوقائع الجديدة. دخلت المفاوضات بين قوات سوريا الديمقراطية ومجلس سوريا الديمقراطي من جهة والنظام من جهة أخرى مراحل كانت تنتهي كلها بطريق مسدود. مع قرار ترامب، وحركة تركيا، دخلت “قسد” وممثلوها من جديد في مفاوضات مكثفة مع النظام وبرعاية روسية، ولكن، دون جدوى. خُنق الساسة الأكراد هناك بعد أن وجدوا رفضا تاما لإداراتهم وقواتهم من قبل النظام، وبين تهديد تركي وشيك، وخلايا متطرفة داخلية. وتشكك كريستيان واكد في احتمالية دخول تركيا إلى شرق الفرات “لو كانت تركيا ترغب في الدخول إلى الشرق لفعلت عند دخولها عفرين ولكنني أظن أنها تبحث عن ضمانات بعدم تعرض حدودها لمخاطر على يد الجماعات الكردية ليس إلا”. مع الوقت، ومع قرار ترامب بإبقاء قوات له في شرق الفرات يصر القادة المحليين في البحث عن حل مع النظام بعد ان أصبح بقاؤه واقع حال، ولأن واجب تأمين الحماية لتلك المنطقة من الأعداء الخارجين لا يتم إلا بتحصيل اعتراف دستوري من جهة رسمية رغم اختلاف القادة والأهالي في شرق الفرات مع طبيعة الحكم المستبد في دمشق، واشتراكهم في ذاكرة مريرة من الاضطهاد على يديه. ويقول عبد السلام أحمد المسؤول في حزب الاتحاد الديمقراطي لـ”القدس العربي” إن المفاوضات مع الحكومة السورية وصلت الى طريق مسدود. وأضاف: “ليس من مفاوضات بيننا حالياً رغم أننا منفتحين عليه” وقال “رغم التصريحات المتعددة عن رغبة الحكومة الدخول في حوار سوري سوري إلا أننا لم نلمس الجدية منهم لذلك توقفت المحادثات”. وفيما يبدو أن الاستمرار في المفاوضات مع النظام هو مطلب وهدف رئيسي، ولكن، وحسب مصادر كردية تحدثت للصحيفة فان المفاوضات “لم تعد ملحة جدا بعد أن فهم القادة في قسد أن قوات التحالف الدولي ستحميهم في المدى المنظور، وبعد أن لاحظوا أن القادة الأمريكان لا يحبذون تلك المفاوضات، وبعد أن فهم القادة الأكراد إن الروس سيستخدمون الملف الكردي كورقة مستمرة في صفقات مشبوهة مع الأتراك”.

ومن المفترض أن تكون مسيرة المفاوضات غير منتهية مع رغبة الجهات المحلية في شمال شرق سوريا في الوصول إلى حل مستدام للمنطقة. ورغم أن يقينهم بإن النظام قد يماطل قدر المستطاع للاستفادة من ظروف خارجية، كما مع قرار ترامب الانسحاب الكلي من سوريا والتي شكلت صدمة لـ”قسد” حينها، يعتقد الكثيرون في شرق الفرات أنه مع الوقت سيدرك النظام أن الحل هو في الوصول إلى صيغة دستورية تخفف من الضغوط العالية على الإدارات في الجهتين، وعلى الأهالي بشكل عام. ويستفيد النظام من تهديدات تركيا لـ”قسد” لزيادة مطالبه، وتستفيد “قسد” من الإعلان الأمريكي بإبقاء حامية شمال شرقي سوريا، ومن تصريحات فرنسية داعمة هنا وهناك لتزيد من تمسكها بمطالبها الأساسية في المفاوضات. تأرجح الجهتين في تشكيل خريطة طريق للمسائل العالقة وربطها مع الظروف الدولية الخارجية هي في حد ذاتها دلالة على إن معظم الجهات المحلية قد خسرت الجزء الكبير من قراراها الذاتي، ودليل واضح على إن النظام لم يعد يملك تلك القدرة على المناورة رغم الحديث الإعلامي المستمر له عن عودة مقبلة، وهي دليل إضافي على إن قوات سوريا الديمقراطية قد فقدت الثقة بحلفائها الغربيين بعد ما واجهته على يد إدارة ترامب.

لا يمكن اعتبار التراجع في قرار ترامب بمثابة جائزة يستطيع من خلالها القائمون على إدارة مناطق شمال شرق سوريا التفرد بالقرار، وتلقي السهام من كل جانب دون التركيز على مخاطر بعيدة آتية لا محالة. التراجع في القرار الأمريكي يلقي مسؤوليات أكبر على عاتق تلك السلطات وإن بمخاطر خارجية أقل، خاصة وأن العمليات الداخلية لخلايا تتبع تنظيم شرس مثل تنظيم “داعش” لم تنته، وستظهر مع كل ثغرة في جدار بنته معارك امتدت أكثر من ثلاث سنوات، وكلفت الكثير من الدماء.

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى