أبحاث

مفاجآت مؤتمر الإخوان المسلمين الأخير/ رشيد حاج صالح

تتيح مشاهدة جلسات مؤتمر الإخوان المسلمين الأخير للمرء أن يرى الجماعة من الداخل، ويتعرف على كيفية تعاطيها مع السياسة، وما هي القضايا التي تُشغلها هذه الأيام. فالورقات البحثية والمحاضرات التي قدمت من كبار الشخصيات الإخوانية في العالم العربي تعطيك فكره عما يجول في خاطر هؤلاء وما هي أولوياتهم، وكيف يقدمون تقديراتهم للموقف السياسي اليوم في ظل عقد من الزمان، يمكن أن نعده، من أقوى وأخطر العقود التي مرت بها المنطقة العربية منذ زمن طويل.

أول ما يتفاجأ به المرء من هذا المؤتمر، الذي انعقد تحت شعار” الاخوان المسلمون .. أصالة واستمرارية ” هو تجاهل المتكلمين شبه التام للربيع العربي وتعقيداته وما آلت اليه الأوضاع في سورية ومصر واليمن وليبيا، وغيرها من البلدان العربية التي تعيش حراك سياسي كبير وصراع ” ناعم ” على السلطة ومستقبل البلاد، حتى أن المرء يخال، لولا بعض الإشارات العابرة، أن المؤتمر أنعقد أيام جمال عبد الناصر، وليس عام 2019, لكثرة الإشارات للزمن الذي حكم به ذلك الرجل.

فالمؤتمر يغوص في بحور ” السياسة الشريعة ” وتعريفات ” ابن تيمية ” وباقي الفقهاء للسياسة، ناهيك عن الحديث المتكرر في أغلب الجلسات عن فقه المقاصد، وفقه المصالح، وفقه الأولويات، وفقه التوقع والاستشراف .. , دون ننسى مئات الدعوات للتفكر والاعتبار من أحداث ومعاهدات وأوضاع مر بها المسلمون في تاريخهم الطويل. وكأننا نعيش اليوم تلك العصور حتى في أدق تفاصيلها ومشاكلها اليومية. أما القضايا المعاصرة التي أبدى المؤتمرون اهتماماً بها فتتعلق أغلبها بكيفية جمع أموال لبناء الجوامع، وإعداد المسلمين في الغرب أعداداً عقائدياً جيداً حتى يؤثروا في الغرب ولا يتأثروا به، بالإضافة إلى استدراك النقص الموجود في كوادر الإخوان من خريجي العلوم الاجتماعية بالقياس للكثرة الموجودة من خريجي الكليات العلمية.

أما المفاجئة الثانية التي سرعان ما يتوقف عندها المتابع لذلك المؤتمر فهي الجهد الذي بذلته الجماعة لتحديد من هو ” الآخر ” بالنسبة للجماعة، أي من هو الغريم الذي عليهم أن يعملوا ضده بوصفه الذي يشكل أكبر خطر عليهم، ويعرقل تحقيق مشروعهم الإسلامي الكبير في استعادة أمجاد الخلافة الإسلامية المنشودة. المرء يتوقع أن يكون غريمهم هي الدكتاتوريات التي ترتع في المنطقة وتنهبها منذ ما يزيد على نصف قرن، غير أن المتابع سرعان ما يعرف أن غريمهم الذي يتوجس منه غالبية المؤتمرين هو المجتمع المدني العربي والمثقفين الذين يسعوا لدولة مدنية عصرية مستلهمة من الدول الغربية الحديثة، المستندة بدورها لقيم الديمقراطية والمساواة والعدالة الاجتماعية.

أما الشخصيات التي جرى التركيز عليها بوصفها أعداء أيديولوجيون لمشروعهم الإسلامي فهناك الشيخ علي عبد الرازق صاحب كتاب ” الإسلام وأصول الحكم”, والذي يبن هذا الكتاب بأدلة شرعية أنه لا يوجد خلافة في الإسلام، وأن كل ما هنالك هو أنظمة حكم تستقوي على الناس باسم الإسلام. أما الشخصية الثانية التي جرى التركيز عليها أيضاً فهي عميد الأدب العربي طه حسين صاحب كتاب” مستقبل الثقافة في مصر” حيث يبين في هذا الكتاب أنه يمكن استلهام تجارب الدول الغربية الحديثة لبناء دول عصرية في بلاد المسلمين، ولا سيما في مصر، حيث كان وزيراً للتربية والتعليم. حتى أن زهير سالم الذي تم تعرفه في المؤتمر بأنه ” أحد القيادات التاريخية للإخوان المسلمين”, أعتبر في محاضرته أن تراجع عدد القراء لهذين الكتابين المذكورين يعد من أهم الإنجازات التي يمكن للإخوان أن يعتزوا بها خلال العقود القليلة الماضية. 

أما القضية الثالثة المثيرة للاستغراب التي تداور المحاضرون على التلميح لها فتتعلق بالدعوات المبطنة التي وجهها كبار شخصيات الإخوان للدكتاتوريات العربية للتعاون والتشارك في الحكم, على أن ينال الإخوان حصتهم من هذا الحكم, مقابل ان يؤمنوا للحاكم غطاء أيديولوجي شعبوي, يمتلكونه ويمكن أن يقدموه لكي يستفيد منه, ويقوي به شرعيته المعتمدة أصلاً على العسكر والمخابرات. يقول المراقب العام للإخوان المسلمين في سورية محمد حكمت وليد في محاضرته المعنونة بـ ” تقدير الموقف السياسي على ضوء  السياسة الشرعية والفقه المقاصدي: ” هناك من يخطط للإيقاع بين الحركة الإسلامية وبين الأنظمة السياسية في بلدانها, لذا يجب على الحركات الإسلامية أن تأخذ هذا العامل في خطة الإصلاح السياسي حتى تتمكن من الإصلاح دون التضحية بالمكتسبات”. فالمكتسبات تأتي من التعاون مع تلك الأنظمة، والإصلاح السياسي يكون بالتقرب من تلك الأنظمة.

طبعاً لا يخلوا المؤتمر المذكور من نقد ذاتي وجهه المؤتمرون للحركة، غير أنه نقد من نوع غريب، ولا يحمل أي رسائل تذكر. أنه نقد يتعلق بعدم كأفة كوادر الحزب، أو وجود ما يمكن أن يسموا ” دراويش وعلى قد حالهم” ولا يعرفون أي شيء في السياسة سوى الوجاهة، وهم في اغلبهم زعماء شعبيين ووجهاء اجتماعيين وشيوخ جومع بسطاء. حتى أن أحدهم أشتكى من أن السياسة كلها كذب ودسائس وأن من الأفضل للمسلم أن يكتفي بالجلوس في المساجد والتعبد. البعض أشتكى من أن الكوادر عندما يستلمون مناصب ويتمرسون في عالم السياسة يتركون الحركة و” يطلقوننا ويتزوجون غيرنا “. أما الدكتور أسامة التكريتي أحد قيادات الجماعة في العراق فقد أشتكى من أنه عندما كان عضواً في البرلمان، كانت تقدم للأعضاء مشاريع الميزانية لدراستها والتصويت عليها، غير أنه وزملاءه من الجماعة لا يعرفون شيء عن تلك المشاريع ولا كيف يقيمونها، ولا حتى الأثر الذي سيحصل من وراء ذلك التوزيع للميزانية. ولذلك يضيف التكريتي بلغته التهكمية المحببة ” خلونا نرفع أيدينا واحنا ما نعرف”. 

أُريد للمؤتمر أن يكون احتفالاً مبكراً للإخوان بمئوية تأسيس الجماعة (تأسست عام 1928). ولذلك حرص المحاضرون أن يقدموا أفكارهم على أنها منهاج نظري وتخطيط لمنطلقات الجماعة للمئوية القادمة. وهذا ما يفسر الحضور المكثف لشخصية حسن البنا وأفكاره من حيث هو المؤسس والأب الروحي والملهم. حتى أن بعض المحاضرات تحولت إلى مجرد قراءات في فكر القائد، على الطريقة البعثية أو الشيوعية. ولذل بدأ المؤتمر وكأنه دعوة لأعضائه حتى يظهروا مزيد من الولاء لزعيمهم التاريخي، وأن يلتفوا حول مبادئ الجماعة، دون أي نظر داخل هذه المبادئ.     

يبدو أن ثورات الربيع العربي حفرت قبور لأطراف عديدة كانت تعتقد أنه ” أم الولد ” فإذ بهذه الأطراف هي مجرد كيانات كانت متعاشه على الظلم والقهر الذي تعانيه شعوب المنطقة، وهذا يعني أن أولوياتها تلك الأطراف أصبحت تختلف، إن لم نقل تتعاكس، مع أولويات شعوب المنطقة. 

بروكار برس

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى