سياسة

القليل في وصف الحالة السورية – مجموعة مقالات-

============================

—————————————

شيشنة سورية/ ميشيل كيلو

غزت روسيا سورية بطلب من رئيسها للحرب على الإرهاب، لكن الرئيس بوتين أخبر جنرالاته بأنهم سيحتلون سورية لإنقاذ رئيسها بشار الأسد، وهذا ما نفاه الاستراتيجي الأسدي خالد عبود، وقال إن ما حدث كان العكس، وإن الأسد هو الذي أنقذ بوتين، ولو غضب منه لأخرجه بخنصره من الكرملين، فهل يعقل أن يكون بوتين ناكرا للجميل إلى الحد الذي يجعله يخاطر بمصيره، ويُغضب اللواء المتقاعد بهجت سليمان، فيدمّر قاعدة حميميم ومرفأ طرطوس في نصف ساعة، وهو زمن طويل جدا، ويعادل ستة أضعاف الزمن الذي حدّده جنرالات الحرس الثوري لتدمير إسرائيل!

أمام هذه الولدنات، كان من الطبيعي أن يبادر بوتين إلى تحصين وضعه في سورية، لسببين: أولهما أن الدولة السورية التي برّر غزوها بالمحافظة على مؤسساتها لم تعد موجودة، ولم يبق من وظائفها ما يمكنه إنقاذه غير المخابرات التي تتولى تهديده، فلا كهرباء، ولا ماء، ولا رواتب، ولا مواصلات، ولا مدارس، ولا مشافي، ولا عمل، ولا دواء، ولا دخل، ولا عملة سورية، بعدما زاد سعر الدولار عن ستين ضعف ما كان عليه عام 2011، وتجاوز عتبة الثلاثة آلاف ليرة. بعد قرابة عشرة أعوام من الانتصارات على مؤامرة الحرية، اختفت الدولة باختفاء وظائفها، جميع وظائفها الداخلية والخارجية، ووزارتها وحزبها. بما أن بوتين لا يستطيع بعث رمادها وهو رميم، لأسباب تتصل، بين أسبابٍ أخرى، بضيق ذات اليد، فقد قرّر استبدالها بدولة روسية بدأ تأسيسها بتعيين رئيس روسي لها، يساعده رئيسها الذي انزلق من موقعه منسقا أعلى لأجهزة المخابرات إلى موقع “رئيس ظل”، واستكمله قبل أربعة أيام بتعيين محافظين روس للمحافظات السورية التي سيتولون إدارتها بمساعدة محافظيها الذين صاروا بدورهم “محافظي ظل”، فمتى يعين مدراء النواحي، والمالية، والنفوس، وجباة مؤسستي الكهرباء والمياه، ورجال الشرطة وحرّاس الليل ومخاتير القرى، استكمالا لـ”شيشنة “بلادٍ، يعني انهيار دولتها افتقار الاحتلال الروسي إلى حامل سياسي محلي، وعجزه عن إيصال قدميه إلى أرض سياسية صلبة يقف عليها، بينما يواجه مصائب إعادة الإعمار، وتطبيق قرار مجلس الأمن 2254، والوجود الإيراني في حياة سورية الذي ينشط كمنافس في إهاب عدو، وسيستغل متاعب موسكو المنتظرة ليزيدها تعبا، حسب استراتيجية خالد العبود الذي أبلغ بوتين بأنه استدرج إلى سورية ليردع أميركا، وأن الأسد استبق قدومه بتحالفه مع إيران، لإبقاء روسيا تحت العين واليد. تلاشت دولة بيت الأسد التي جلبت بوتين إلى سورية، فهل تبقي دولة بوتين على رئيسٍ ظلٍّ هدّدها زعرانه بتدمير قواعدها خلال نصف ساعة؟

ثاني السببين أن احتلال سورية، بجيشها وحده، لا يضمن مصالح روسيا، فالروس لا يستطيعون إفراغ سورية من ثرواتها، ما لم تكن حاضرةً في كل مكان، وما دامت شروط إعادة إعمار ما دمّره غير متوفرة، فإن توفرت وطبق القرار 2254، رحل الأسد وزالت سلطته التي سيكون آخر ممثلٍّ لها، وواجه بوتين عندئذٍ مطالبته بالخروج من بلادٍ ساهم في تدميرها، ورحل من دعاه إلى غزوها، فإن نال المطالبون برحيله عن وطنهم دعما خارجيا مؤثّرا، حلت كارثةٌ بسياسة الانفراد بالساحة السورية التي قرّر استخدامها للقفز إلى الدول المجاورة، وأعاده فشله إلى موسكو بخفّي حنين، أو ورّطه في ما لا تحمد عقباه.

تغلق إجراءات بوتين باب الحل السياسي، وتأخذ الصراع على سورية وفيها إلى مواقع وخيارات تبعد السلام أكثر مما هو بعيد اليوم. يرجع ذلك إلى تمسّكه بالأسد الذي لم تعد لديه دولة، لأن بوتين ساعده على تدميرها، وسيواجه شعبا جدّد تظاهراته ضدهما، ويطالبهما بالرحيل، بعد عشرة أعوام من فتكهما به وإعلانهما الانتصار عليه.

سيد بوتين: لن تتمكّن من إنقاذ الأسد، أنقذ نفسك، سورية لن تصبح شيشانية.

العربي الجديد

————————————

قراءة بانورامية للحالة السورية/ نورالدين منى

* هذه القراءة البانورامية بنيت باستخدام نهج التحليل الإيجابي(Positive Analysis ) للحالة الراهنة السورية ،

(وصف الحالة كما هي Status quo) …

وليس كما يجب أن تكون (What should be)…

وبالتالي لا تعكس موقف ورأي الكاتب الشخصي من هذه الأحداث…!!

تشير القراءة إلى أن :

– معظم اللاعبين الدوليين على الأرض السورية؛ يجمعهم قاسم مشترك وحيد، هو الحفاظ على مصالح الأمن القومي الإسرائيلي.

– سورية؛ يصعب تصور أن تعود كما كانت قبل الحرب السورية؛ من حيث الجغرافيا والنظام السياسي والتنفيذي والتشريعي ( البرلماني ).

– الحل العسكري في إدلب لن يتمّ… واتفاق دولي على أن الحل لن يكون عسكرياً وإنما الحل السياسي …يعني إدخال تغيرات جديدة في نظام الحكم.

ويبدو أن هناك اتفاقات روسية أمريكية لهيكلية جديدة؛ لنظام اتحادي في سورية؛ ولو في الحدود الدنيا ..دعماً للأكراد.

– تقارب وجهات النظر الروسية والإيرانية والتركية حول قاسم مشترك.. يتمثل بكيان سياسي مركزي لسورية الموحدة.

و تشير التسريبات، أن موسكو وطهران تفضلان هذا الكيان السياسي الموحد.. والذي يتمخض عنه حكومة سورية جديدة موالية لهما؛

وأيضاً خاضعة لسيطرتهما.

– تشير القراءات السياسية، أن تركيا لها رغبة وحيدة، تتمحور حول اختيار حكومة منتخبة ( قد تفضي لوصول أحزاب غير مرغوب فيها)… لضمان عودة اللاجئين السوريين إلى سورية.

هذه الرغبة والمقترحات التركية؛ تلقى معارضة أمريكية روسية إيرانية كردية. لأن روسيا وإيران وإسرائيل وحسب مراكز الأبحاث الغربية؛ يركزون على عدم وصول أحزاب غير مرغوب فيها إلى الحكم .

– تواجه سورية أزمات اقتصادية خانقة ( كساد؛ ارتفاع أسعار؛ ضعف إنتاج ، حرائق مزروعات ومحاصيل؛ فساد حكومي مستشري؛ تبعات وباء كورونا على كل الأصعدة؛ انخفاض وتدني القيمة الشرائية لليرة السورية ).

وقريباً جداً تطبيق قانون قيصر والعقوبات الاقتصادية.

– تقارب سياسي اقتصادي دبلوماسي بين جميع اللاعبين على الأرض السورية.. باستثناء إيران وسورية.

يقوم على الحد من النفوذ الإيراني على الأرض السورية؛ بما يخدم المصالح الإسرائيلية.

– وبنفس الوقت؛ يبدو أنه؛ ومن تحت الطاولة؛ أن حلولاً مقترحة للمأساة السورية ، يشرف عليها بشكل كبير ومعنوي روسيا وأمريكا وإسرائيل.

مع الأخذ بعين الاعتبار؛ أن أي حل للحرب أو للمأساة السورية؛ يجب أن يرضي الجانب التركي .

خاصة وأن اسرائيل حسب ما تشير التسريبات؛ ظاهرياً؛ أنها تعمل على أن تكون إيران خارج سورية كلياً.

– يظهر للمتتبع والقارئ للأحداث السياسية في سورية، أن هناك اتفاقات ضمنية أمريكية روسية لضمان المصالح الاستراتيجية الروسية.

ويبدو أن الأمريكان لا يمانعون، أو لا يعترضون على نمط الانتخابات.. شريطة أن يصل إلى الحكم من يكون موالياً وبشكل كامل لروسيا؛

مع ضمان الأمن القومي الإسرائيلي.

– ألقت الخلافات المالية لرجل الأعمال السوري السيد رامي مخلوف مع الدولة السورية؛ بظلالها على الاقتصاد السوري الضعيف، مما فتح الباب على مصراعيه لتكهنات وتفسيرات وتأويلات سياسية واقتصادية،

كان من المفترض ألا تحدث…

والشعب السوري لا ينقصه هكذا هزات وانقسامات. هذه الخلافات كانت خاطئة في التوقيت والهدف…..

– عوام الناس في الشارع السوري؛ يعرفون تماماً، مَن هم الذين نهبوا المال العام؛ بمباركة الحكومة… وخاصة خلال فترة الحرب؛ من حيث تهريب النفط….. الخ.

– طفا إلى السطح؛ ومن الإعلام الروسي حصرياً؛ انتقادات لسورية؛ حول القيادة والحكومة ..الخ. فأدى ذلك إلى إرباك جميع الشرائح السياسية والوطنية حول ما يجري.

للأسف؛ ما يثير الغرابة والدهشة، ألا يظهر أي مسؤول إعلامي سوري سواء على مستوى الدولة أو الحكومة.. يوضح للشعب حيثيات هذه الاحداث… وكأن الشعب لا يستحق من إعلامه الرسمي أن يعرف الحقيقة.

إنما يلجأ المواطن السوري إلى القنوات حتى الروسية أر تي أو القنوات الأخرى.

– في الآونة الأخيرة؛ كادت أن تنفجر أزمة سورية روسية.. اضطر على أثرها بعض السوريين ومن تحت قبة البرلمان لإطلاق التصريحات المشوِّشة.. رغم أنه؛ يبدو أنها مدروسة.

– ردَّت الرئاسة الروسية، وطمَّنتْ؛ أن العلاقات بين البلدين طبيعية.

يعقبها مباشرة ترقية السفير الروسي في دمشق بصورة مفاجئة من سفير إلى مرتبة ممثل شخصي؛ لرئيس روسيا.

والبعض أطلق عليه تسمية المندوب السامي الروسي.

وتعددت التأويلات.. ولم نسمع من الجانب الرسمي السوري أي شيء حول هذا الموضوع .

– رغم التطمينات الروسية.. أن تعيين السفير الروسي بهذا المنصب؛

هو تحريك للعمل السياسي وطرح الرؤية الروسية الجديدة لحل الأزمة السورية.

لكن العارفين بخفايا الأمور لن يشتروا هكذا تفسيرات…

– ببساطة؛ عندما يصبح السفير وحتى لو كان فوق العادة ؛ ممثلاً شخصياً لرئيس الجمهورية، فهذا يعني أنه خرج من عباءة الخارجية الروسية، ولا يحق لوزير الخارجية بروتوكولياً أن يصدر للممثل الشخصي أوامر. وبنفس الوقت قد يتخذ قرارات.

ويبدو لمعظم الناس، أن هذا التعيين فيه انتقاص للسيادة الوطنية، لأسباب متعددة لا داعي لذكرها الآن.

– يبدو أن هناك ولادة جديدة معدلة لداعش.. بدأت تباشير نشاطها حسب الحاجة على طرفي الحدود العراقية السورية.

رغم أن الرئيس الأمريكي والرئيس الروسي؛ وكل القوات المتواجدة؛ صرَّحوا أكثر من مرة، أنه تمَّ القضاء على داعش ..

لا أعرف إذا كان تمَّ القضاء عليها على سطح الأرض؛ وليس من المخابئ السرية المضمونة تحت الأرض.. و يمكن إخراجها عند اللزوم..!!!!

– ما يعقد المشهد السوري، وخاصة أمام المواطنين الأحداث التي تقع في محافظتي درعا والسويداء. فبدلاً من أن تكون اللحمة بينهما سورية، يبدو أن هناك أياد خفية يسعدها عدم وجود اللحمة الوطنية.

– استمرار الهجمات الإسرائيلية بشكل أسبوعي أو لأكثر من مرة في الأسبوع على المواقع الإيرانية في الأراضي السورية.

ويبدو بذلك بوضوح، وكأن اسرائيل اعتمدت في المدى الطويل على محاولة وتكريس تدمير الجيش السوري والبنية التحتية السورية.

– يبدو أن روسيا.. لا يغيب عن ذهنها، أنه إذا لم تنتهِ الحرب السورية بسلام.. ويبدأ إعادة البناء والإعمار، أن تقع في مصيدة المستنقع السوري.. وأن تلاقي مصيراً يذكِّرها بمصيرها في افغانستان سابقاً.

– يبدو أن المشكلة الأساسية حالياً لروسيا؛ تتمثل ب التواجد الإيراني.

لأن روسيا تخشى، أن تضيع نتائج أعمالها في سورية..

وخاصة إذا لم يكن لها دور في إعادة البناء.

– بالنسبة للشعب السوري؛ القضية الأهم أن سورية مازالت تواجه مشكلة اقتصادية حادة وكبيرة، إذ أن 82 -83% من الشعب السوري يعيش تحت خط الفقر.

وبدأ السوريون يخافون حتى على تأمين رغيف الخبز.. وهناك بعض الأصوات التي بدأت تشير بوقوع مجاعة في سورية.. وعندها ستتأكد الحكومة السورية ما معنى ” لا يوجد في سورية جائع”.

هناك تصريحات لمنظمات أممية باحتمال وإمكانية حدوث مجاعة في سورية.

– تشير بعض الدراسات، إلى أن حجم الدمار يقدر بأكثر من 500 مليار دولار لإعادة الأعمار.

وهذا المبلغ يصعب تأمينه.. كما يصعب البدء بإعادة الإعمار ما لم يتم معالجة العلاقات السببية للمشكلة السورية من النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية .

– أصوات أخرى… لفتَ انتباهي بعض الأقلام، لمن يدَّعون الوطنية تطبيلاً وتزميراً.. دبَّجوا منشوارات أومقالات يتهجمون فيها بشكل واضح على المغتربين السوريين العائدين إلى سورية؛ وخاصة خلال فترة الحجر الصحي في المدينة الجامعية في دمشق.

فكانت كلماتهم لا تعكس أي وطنية؛ وإنما تظاهراً مبتذلاً بالوطنية،

لأنه لا يحق لأي مواطن أن يصف هؤلاء المغتربين دون معرفة ظروفهم المعيشية والاجتماعية، وما قدموا من خلال تحويلاتهم من العملة الصعبة إلى ذويهم..

والتي ذهب معظمها إلى دواعش الداخل.

فهل نطالب المغتربين بالعودة إلى الخليج أو الدول الأخرى..!!!

– حتى أن بعض الأصوات طالت بعض القامات العلمية، والذين دفنوا خارج الوطن.. وبدأوا بالتساؤلات: لماذا ذهبوا خارج الوطن ….

دون معرفة الأسباب.

أليس من المخجل أن تدفن جثامين شخصيات مرموقة خارج الوطن (بغض النظر عن حالة الكورونا)….!!!

هل الأرض السورية التي استوعبت رفاة غزاة ومحتلين ومجرمين؛ ورفاة جواسيس أمثال كوهين لا تحتمل رفاة أبنائها…!!!

هل الأرض السورية أخبرتهم بأنها ستلفظ رفاة أبنائها السوريين…!!!!

الفيس بوك

———————————–

في وصف حالنا/ راتب شعبو

تسير سورية بوتيرة ثابتة نحو تقسيم ترتسم وتتصلب حدوده يوما بعد يوم. القوى العسكرية السورية الفاعلة التي ورثت الثورة، ترتب أوضاعها حسب ما وصلت إليه الصراعات العسكرية، مكتفية من الغنيمة بما استقر تحت يدها من “سورية”. في سورية اليوم ثلاث حكومات تحميها ثلاثة جيوش، لكل منها حلفاؤه ومساندوه ومستخدموه، ولكل منها جمهورها وراياتها ورموزها و”إيديولوجيتها السياسية” الجاهزة، كالعادة، للتكيف مع الحال القائم وتكريسه مع عدم الاعتراف به أو إقراره في الوقت نفسه، تماماً كما كرست الايديولوجيا السياسية لحزب البعث الدولة القطرية دون أن تعترف بها.

ضمن حدود سورية القديمة بات لدينا حكومات وحدود ومعابر تفتش وتسمح أو تصد الداخلين والخارجين، ويقف عليها جنود لا يعلمون شيئاً، ولا يهمهم أن يعلموا شيئاً، عن أصل الحكاية التي جعلتهم حراس حدود داخل بلد واحد. سورية اليوم تصبح أرضاً “لوطنيات” عديدة ناشئة، تشكل كل منها منصة لتخوين الآخرين ونبذهم. ثلاث واجهات باهتة سعيدة بما تخفيه من مضمون مخالف: الواجهة “الديموقراطية العلمانية” في دولة شمال شرق سورية، وواجهة “الإسلام الحقيقي” في دولة الشمال الغربي منها، و”الدولة” الأسدية فيما بقي من سورية. فيما الضحية الأولى لهذه “الوطنيات” الطارئة هي الوطنية السورية التي يتغنى بها الكثيرون ويتسلون بلحن غنائهم هذا بينما هم يثابرون على قطع حبل وريدها.

المفارقة أن القوى العسكرية التي يفترض أنها قوى تغيير صارت اليوم هي القوى المنكفئة والتي ترى نصرها في تثبيت الحدود. القوى التي ورثت الثورة زوراً هي اليوم قوى محافظة من منظور وحدة البلاد، جل ما تريده أن تحافظ على ما هي فيه. يبدو من الناحية العسكرية أن القوة الوحيدة التي تسعى إلى كسر هذا الحال هو نظام الأسد الذي يحلم باستعادة السيطرة على كامل سورية، فيما ينحصر طموح قوات قسد في شمال شرق سورية، والفصائل الجهادية الإسلامية مع تلك التابعة مباشرة لتركيا، في الحفاظ على ما بين يديها من أرض سورية.

النظر الجريء في عين الواقع يفيد أن المؤسسات التي تترسخ على الأرض في مناطق السيطرة الخارجة عن سيطرة نظام الأسد، تخلق نخب حاكمة ومصالح خاصة مضادة للوحدة السورية التي من شأنها أن تحد أو تلغي هذه المصالح. من المعروف أن النخب الحاكمة في كل من هذه المناطق تنشيء فيما بينها علاقات اقتصادية ومالية وحتى أمنية، وفق مقتضيات استمرار إدراتها لمناطق سيطرتها. معرفة أن الحال السياسي في هذه المناطق لا يختلف عنه في مناطق سيطرة الأسد، تقود إلى أن الصراع بين القوى المسيطرة في هذه المناطق يقوم على المصالح الخاصة بكل نخبة حاكمة، بمعزل عن مصلحة الشعب السوري الذي خرج إلى حد كبير من ميدان السياسة مع سيطرة الفعل العسكري على ساحة الصراع.

يقع في صلب المنطق السياسي القول إن الحلم المضمر لدى القوى التي ورثت، ظلماً، ثورة السوريين هو أن تحوز نخبها على أوسع سلطة ممكنة في مناطق سيطرتها، وصولاً إلى حكم ذاتي، هذا إذا عزّ الاستقلال التام. ليست الوطنية المزعومة ولا الحرص على مصلحة السوريين هو ما يدفع النخبة الأسدية الحاكمة إلى القتال لاستعادة المناطق الخارجة عن سيطرتها، هذا من نافل القول، بل المصلحة الاقتصادية (استعادة موارد) والسياسية (استعادة شرعية) لهذه النخبة في استعادة ما خسرته. أما النخب الأخرى فإنها كسبت ما خسرته النخبة الأسدية، وتدرك جيداً اليوم، في ظل التعقيدات الراهنة، أنها لا تمتلك القدرة على كسب المزيد. لهذا يبدو الأسد، حتى الآن، ساعياً لاستعادة وحدة سورية على خلاف النخب الأخرى العلمانية أو الإسلامية.

السؤال الآن: ما هو موقع هذه القوى من الثورة أو من عملية التغيير التي تطلع إليها الشعب السوري، ولا يزال؟ إذا نظرنا إلى التغيير من منظور وطني سوري، أي يشمل سورية كاملة بأرضها وشعبها، نجد أن دور هذه القوى هو في إعاقة عودة نظام الأسد إلى السيطرة على كامل التراب السوري، ما يجعله، إضافة إلى الشروط الاميريكية، مرغماً على قبول نوع من الحل السياسي الذي يحاول تفاديه من خلال سعيه المحموم لإنجاز حل عسكري. على أن جدية هذا الحل السياسي، تبقى، كما هو مفهوم، مرهونة للقوى الخارجية أي لعوامل غير سورية.

سوف نلاحظ مروراً أن الحل العسكري كان فاشلاً على طول الخط طوال سنوات الثورة السورية، وفي كل الاتجاهات. فشل النظام في إخماد الثورة عسكرياً، وفشل الفصائل العسكرية في إسقاط نظام الأسد عسكرياً، وفشل النظام في استعادة السيطرة على كامل الأرض السورية عسكرياً. نحن اليوم أمام هذا الفشل الأخير، وإذا توافقت (فرضاً) القوى المتحكمة بالوضع السوري على تطبيع الوضع الحالي، سنجد حينها أن “وطنية” الأسد وسعيه لاستعادة الوحدة السورية قد تبخرت، لصالح استعادة قبوله في العالم على سورية أقل.

سبق أن قسمت سورية على يد الاستعمار الفرنسي الذي أنكر الوطنية السورية ونظر إلى السوريين كجماعات دينية. ولكن تمكن السوريون حينها، بإرادتهم، من استعادة وحدتهم وفرضها على المحتل. أما اليوم فنحن أمام تقسيم تفرضه احتلالات عديدة، ما يتطلب من السوريين إرادة ووعي أكبر وتحد أشد ومواجهة مع النخب الحاكمة في كل مكان، والتي تتبلور مصالحها أكثر فأكثر ضد وحدة سورية.

—————————————

أرقام ومظالم سوريا… الماضي والحاضر والمستقبل/ إبراهيم حميدي

أسفر النزاع السوري، بعد 9 سنوات على اندلاعه باحتجاجات سلمية، عن 3 أنواع من الظلم: أحدها بأثر رجعي، والثاني بأثر حالي، والثالث بأثر مستقبلي. وكان أحد تجلياته ارتفاع قيمة الخسائر الاقتصادية إلى أكثر من نصف تريليون دولار أميركي، وإلحاق الضرر بنحو 40 في المائة من البنية التحتية، إضافة إلى انحدار 86 في المائة من الناس داخل سوريا، البالغ عددهم نحو 20 مليوناً، إلى ما دون خط الفقر.

المفاجأة المؤلمة الأخرى أن إحصائية جديدة لعدد الضحايا كشفت ارتفاع عددهم إلى نحو 700 ألف شخص، ما يعني ضعف العدد المتداول من مؤسسات أممية، استناداً إلى أرقام صدرت قبل سنتين. هذه الأرقام – الضحايا تتعلق بالماضي. أما المفاجأة الأخرى، فهي تتعلق بالمستقبل، وتأتي من الكشف عن وجود أكثر من 3 ملايين طفل سوري (داخل وخارج سوريا) خارج المدارس. وهذا يساوي تقريباً نصف عدد الأطفال السوريين الذين هم في عمر التعليم؛ نصف هؤلاء يعيشون مع أهلهم في مناطق النزوح واللجوء التي تضم نحو 13 مليوناً.

ترتيب سوريا عالمياً

في ظل أن سوريا هي «الكارثة الإنسانية الأكبر» منذ الحرب العالمية الثانية، حسب تصنيف أممي، ليس غريباً أن تكون مؤشراتها تدل على ذلك، إذ تقع في المرتبة 128 (من أصل 129 دولة) في مؤشر «التحول لقياس الحوكمة»، وفي المرتبة 180 (من 189) في مؤشر «التنمية البشرية»، وهي «في أسواء ترتيب في مجال حماية الطفل»، وفي الموقع 174 (من أصل 180) بالنسبة إلى حرية الصحافة.

ظلم ثلاثي

كانت هذه بعض خلاصات بحث أعده «المركز السوري لبحوث السياسات»، بعنوان: «العدالة لتجاوز النزاع – تقرير آثار النزاع السوري»، بعد سنوات من العمل، ليكون مرجعياً للمؤسسات الأممية والحكومات العربية والأجنبية عن آثار النزاع السوري، بعد 9 سنوات من اندلاع احتجاجات درعا في ربيع 2011.

يقول البحث إن النزاع أوجد 3 أنواع من الظلم: «الأول، ظلم ذو أثر رجعي، يتجلى في تدهور ما تراكم من الثروة الحضارية، المادية واللامادية، وتدميرها. والثاني، الظلم الحالي الذي يمثل إنتاج الظلم الآن. والثالث، الظلم المستقبلي، حيث تضفي قوى التسلط الطابع المؤسسي على البنى والعلاقات والاقتصادات، فتصنع هذه القوى مقومات الظلم المستقبلي».

ظلم اقتصادي

أدّى النزاع إلى ظهور اقتصادات مختلفة ومجزأة «داخل الدولة المتشظية»، حسب التقرير الذي يقول إنها «حوّلت المقومات الاقتصادية إلى مصادر لاستدامة العنف، من خلال تدمير جزء كبير من رأس المال، أو إعادة تخصيصه لأنشطة مرتبطة بالنزاع».

ويقدّر التقرير الخسائر الاقتصادية للنزاع حتى نهاية عام 2019 بنحو 530.1 مليار دولار، بالمقارنة بالسيناريو الاستمراري، ما يعادل 9.7 ضعف الناتج المحلي الإجمالي لعام 2010، بالأسعار الثابتة. ويشمل هذا الرقم الخسارة في الناتج المحلي البالغة 420.9 مليار، والزيادة في الإنفاق العسكري بنحو 37.8 مليار، والأضرار التي لحقت بمخزون رأس المال، وقدرها 64.6 مليار، إضافة إلى الإنتاج غير الرسمي للنفط والغاز، المقدر بـ9.9 مليار. وخلال الفترة ذاتها، شهد الدعم الحكومي تراجعاً مطرداً، كنسبة مئوية من الناتج المحلي بالأسعار الجارية، من 20.2 في المائة في 2011 إلى 4.9 في المائة في 2019. ونتيجة لذلك، انخفض عجز الموازنة العامة مع الدعم من خارج الموازنة من 23.6 في المائة إلى 8.8 في المائة.

وكان مسؤولون روس قد قالوا قبل 3 سنوات إن كلفة إعمار سوريا ربما تصل إلى 400 مليار دولار، في حين قدرها البنك الدولي بنحو 300 مليار دولار قبل 3 سنوات. لكن منذ ذلك الوقت، توقفت الدراسات عن الملف السوري، مع تراجع الاهتمام الدولي به، وإن كان الصراع قد تفاقم، واستمرت العمليات العسكرية فيه، وهي بين صعود وهدوء يضبطه تفاهم الفاعلين الخارجيين.

ومنذ تدخل الجيش الروسي في نهاية 2015، استعادت قوات الحكومة، بدعم روسي وإيراني، مساحات واسعة، ارتفعت من 10 إلى 64 في المائة، في حين تقع مساحة 26 في المائة منها تحت سيطرة الأكراد المدعومين من التحالف الدولي بقيادة أميركا. وتسيطر فصائل مدعومة تركياً على نحو 10 في المائة.

وباتت «مناطق النفوذ» الثلاث إلى حد ما مستقرة من حيث السيطرة، لكنها تعاني من مشكلات اقتصادية متشابهة. ورغم انخفاض قيمة الليرة بدءاً من 2011، عندما كانت 46 ليرة للدولار، شهدت موجة أخرى من الانخفاض، بنسبة 43 في المائة في سبتمبر (أيلول) الماضي مقارنة بشهر يوليو (تموز) 2018، إذ سجلت الفترة بين أكتوبر (تشرين الأول) 2019 ويناير (كانون الثاني) 2020 تسارعاً في تدهور قيمة العملة، ليصل إلى 96 في المائة في 16 يناير (كانون الثاني) مقارنة مع 17 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. ويبلغ سعر الصرف حالياً نحو 1700 ليرة للدولار الأميركي.

وسجّل إجمالي العمالة انخفاضاً حاداً في أثناء النزاع، من 5.184 مليون عامل إلى 3.058 مليون، وارتفع معدل البطالة من 14.9 في المائة إلى 42.3 في المائة، وفقد سوق العمل 3.7 مليون فرصة عمل، ورفعت الخسارة الضخمة لفرص العمل نسبة الإعالة الاقتصادية من 4.13 شخص لكل مشتغل في عام 2010 إلى 6.4 شخص في عام 2019.

مظلمة بشرية

ارتفع عدد السكان داخل سوريا بمعدل 0.9 في المائة في عام 2018، و1.1 في المائة في عام 2019، ليصل العدد إلى 19.584 مليون نسمة في عام 2019. وتسبب النزاع في نزوح قسري لأكثر من 5.6 مليون شخص بحثاً عن الأمان في لبنان وتركيا والأردن، ودول مضيفة أخرى. ووصل عدد النازحين داخلياً بحلول أغسطس (آب) الماضي 6.14 مليون، و«هو أكبر عدد من النازحين داخلياً بسبب نزاع في العالم». ويقول «مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية» (أوتشا) إن 11.7 مليون شخص في سوريا يحتاجون إلى المساعدة الإنسانية والحماية.

وأدّت العمليات العسكرية الأخيرة في إدلب إلى نزوح أكثر من مليون شخص باتجاه حدود تركيا. ويضمّ شمال غربي سوريا 3 ملايين مدني، نصفهم على الأقل مهجَّر مرة واحدة على الأقلّ، حسب الأمم المتحدة.

وحصل أكثر من 3.6 مليون لاجئ سوري في تركيا، منهم نصف مليون في إسطنبول وحدها، على حماية. لكن اللاجئين السوريين يعانون في بلدان أخرى، مثل لبنان الذي يستضيف نحو مليون لاجئ سوري، وروج للعودة بلا هوادة، واتخذ خطوات فعالة للحدّ من تدفُّق اللاجئين.

والمعاناة تشمل أيضاً الموجودين داخل البلاد، إذ بلغ معدل الفقر ذروته عند 89.4 في المائة في نهاية عام 2016، وانخفض في عام 2019 إلى 86 في المائة. وأدت الأزمة الاقتصادية في لبنان إلى تفاقم الوضع الاقتصادي. كما أضافت جائحة «كورونا» أعباء ضخمة على الأسر السورية، وأدت إلى ارتفاع كبير في معدلات الفقر والبطالة، مقارنة بعام 2019. ومن المتوقع أن يؤدي «قانون قيصر» الأميركي الذي يبدأ تنفيذه في منتصف يونيو (حزيران) المقبل، وتمديد العقوبات الأوروبية قبل أيام، إلى إضافة أعباء إضافية على الوضعين المعيشي والاقتصادي.

أولوية الاتفاق العسكري

ترك استمرار النزاع أثره الهائل على السياسات المالية التي تتبناها الحكومة. ولا تزال هذه السياسات تعطي الأولوية للإنفاق العسكري، مما أدى إلى إعادة تخصيص الموارد المتاحة بعيداً عن الأنشطة والخدمات التي يضطلع بها القطاع العام. وسعت الحكومة إلى زيادة إيراداتها من خلال فرض رسوم وضرائب مختلفة، إضافة إلى تحرير أسعار السلع الأساسية، ولا سيما المحروقات، وإلغاء دعمها جزئياً، حسب التقرير.

وكانت إيران قد قالت إنها قدمت ما بين 20 و30 مليار دولار لدعم النظام خلال 9 سنوات. كما طالبت روسيا بتعويضات اقتصادية وسيادية عن مساهمتها العسكرية. وكانت الخسارة الاقتصادية قد شملت التراجع في الإنفاق العسكري بنحو 37.8 مليار.

وانخفض الإنفاق العام على التنمية من 7.3 في المائة من الناتج المحلي إلى 2.9 في المائة في 2019. ويعود السبب في ذلك إلى أن غالبية الإنفاق على التنمية أعيد تخصيصه لينفق على الجوانب العسكرية.

وشهد الإنفاق على الدعم تراجعاً مطرداً من 20.2 في المائة في 2011 إلى 4.9 في المائة في 2019. ووصل العجز الإجمالي للموازنة العامة، الذي يشمل النفقات العسكرية، إلى 33.5 في المائة من الناتج في 2018، و26 في المائة في 2019.

دين خارجي

أدت السياسات المالية إلى حصول عجز ضخم، انعكس في ارتفاع الدين العام الخارجي والداخلي، مما يعني عبئاً كبيراً سيخلّفه النزاع على كاهل الأجيال المستقبلية، وسيتفاقم مع مرور الزمن. فقد ازدادت حصة الدين العام من الناتج من 30 في المائة في 2010 إلى 208 في المائة في 2019. ونجمت هذه الزيادة بصورة أساسية عن الدين الخارجي الذي ارتفع من 7 في المائة من الناتج في 2010 إلى 116 في المائة في 2019.

وازداد الدين المحلي (كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي) من 17 في المائة في 2010 إلى 93 في المائة في 2019. كما تسبب الدين المحلي أيضاً بحصول زيادة كبيرة في معدلات التضخم.

وبما أن القروض أنفقت على النفقات الجارية والأنشطة المرتبطة بالنزاع، فإن البلد سيكون في حاجة إلى مزيد من القروض في حقبة ما بعد النزاع، ما سيرفع الدين العام، ويفاقم حالة الظلم التي تطال أجيال المستقبل، ويطيل أمدها.

جيل ضائع

يستمر السوريون في «فقدان ملايين السنين من التعليم»، إذ بلغ عدد الأطفال ممن يتراوح عمرهم بين 5 أعوام و17 عاماً، ممن هم خارج المدرسة، نحو 2.4 مليون في عام 2019. ويقول البحث: «تعد الحصيلة الحالية كارثية لأن ملايين الأطفال سيعانون من نقص المهارات والمعرفة، بالإضافة إلى الآثار الأخرى للنزاع. كما خلّف النزاع فقداناً في اتساق المناهج الدراسية في أنحاء سوريا، بسبب إنشاء أنظمة تعليمية مختلفة في كل منطقة، بحسب القوى الحاكمة فيها، ووجود 6 مناهج دراسية مختلفة تستخدم في المدارس». وهناك عدد مشابه خارج سوريا. ويوضح البحث: «ضاعت 24 مليون سنة تدريس على السوريين في مرحلة التعليم الأساسي، وهذا يعقد فرص النهوض في المستقبل».

وبحسب تقرير أممي، قتل 5427 طفلاً، وجرح 3739 آخرون، كان بينهم 900 طفل قتلوا في شمال غربي سوريا العام الماضي، بينما جُند في القتال 4619 طفلاً. وقالت «يونيسيف» إن قرابة 6 ملايين طفل سوري ولدوا منذ مارس (آذار) 2011، منهم مليون ولدوا في دول الجوار، وإن 7.5 مليون من الأطفال السوريين يحتاجون إلى المساعدة، 5 ملايين منهم داخل سوريا. لذلك، يجري الحديث عن «جيل ضائع» في سوريا.

700 ألف ضحية

يكشف التقرير ارتفاع معدل الوفيات الخام من 4.4 لكل ألف نسمة في عام 2010 إلى 9.9 لكل ألف نسمة في 2017، و7.0 لكل ألف في عام 2019، ويقول: «هناك 570 ألف قتيل بشكل مباشر، و120 ألفاً بسبب غياب المعدات والأدوية وظروف المعيشة المناسبة».

وكانت إحصائيات سابقة تشير إلى مقتل 384 ألف شخص على الأقلّ، بينهم أكثر من 116 ألف مدني، فيما خلّفَت الحرب عدداً كبيراً من الجرحى والمعوَّقين، إضافة إلى عشرات آلاف المعتقلين والمفقودين. ويدفع المدنيون «الثمن الأكبر»، حسب تصريحات للأمين العامّ للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش الذي قال إن الحرب «لم تجلب، بعد عقد من القتال، إلا الدمار والفوضى».

واحتجز أو أُخفِي عشرات الآلاف منذ 2011، ومات آلاف وهم رهن الاحتجاز بسبب التعذيب وظروف الاعتقال الرهيبة. وفي 2019، حدّثَت الحكومة سجلات مئات يُعتقد أنهم فُقدوا أو تُوُفّوا، لكن لم يتلقَّ أي من أسرهم رفات أحبائهم أو معلومات إضافية من السلطات.

تجزئة القرار

لدى قياس «دليل حالة الإنسان» المتعلق بالأداء الديموغرافي والاقتصادي والاجتماعي، وأداء التنمية البشرية والمؤسسات، أشار إلى تدهور المؤشر بنحو 42 في المائة بين عامي 2010 و2019، مدفوعاً بانهيار الأداء المؤسساتي الذي انخفض بنسبة 67 في المائة.

وظهر صراع مستميت بين القوى السياسية الفاعلة، فأثناء النزاع «تعرّضت عمليات صنع القرار للتجزئة والتدويل، إذ شاركت كثير من الجهات الداخلية والخارجية في تحديد الأولويات والآليات المتناقضة، بحسب مصالح كل جهة. واعتمدت الأشكال المختلفة من المؤسسات المتنازعة، المتمحورة حول العنف، استراتيجيات متطرفة أثّرت تأثيراً سلبياً على الإنسان والعلاقات الاجتماعية والموارد، وأدّت إلى إخضاع المجتمعات». ورغم انخفاض حدّة المعارك خلال الفترة الواقعة بين 2017 و2019، فإن كل من قضايا سيادة القانون، والمشاركة، والمساءلة في الحكم، استمرت في التدهور.

وتحدث التقرير عن «التناقضات الكبيرة بين القوى الداخلية الفاعلة الخمسة، بما في ذلك المجتمع المدني، حيث تأتي أولويات العدالة، والحرية، والشفافية، والمشاركة، والديمقراطية، في أسفل قائمة أولويات قوى التسلط، وهذا بدوره يعكس طبيعة الجهات الفاعلة التي تتمحور حول النزاع». وأشار إلى «تعمق العلاقات العضوية بين الفاعلين السياسيين والنخبة الجديدة من القطاع الخاص، التي حولت الثروة (التي نجت من التدمير) إلى مصلحتها الخاصة، من خلال إعادة توزيع قسري غير مسبوق لمخزون رأس المال المادي وغير المادي».

تطبيق خجول

وأشار التقرير إلى «فشل النظام العالمي في حماية المدنيين في سوريا»، لافتاً إلى أن «تطبيق القانون الدولي في أثناء النزاع السوري كان خجولاً، مما أعاق تخفيف معاناة المدنيين، وأسّس لنزاع طويل الأمد». وقال إن الصراع على السلطة العالمية «كان له تأثير مباشر على استعصاء النزاع السوري. وتمثّل هذا الصراع في نهج الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي في معالجة الحرب السورية وآثارها، وانعكس في الأولويات والسياسات المتناقضة، بما في ذلك التدخلات السياسية، والعسكرية، والعقوبات، والدعمين الاقتصادي والإنساني، مع انخراط كبير من الجهات الإقليمية ذات المصالح المتضاربة».

وعليه، يقترح التقرير مقاربات بديلة لبدء عملية تجاوز النزاع، بناء على تحليل ديناميكياته، والاقتصاد السياسي للقوى الرئيسية الفاعلة فيه. ومن هذه المقاربات: «التوافقات الاجتماعية وفق نهج تشاركي: الاقتصاد السياسي للمؤسسات المتمحورة حول السلم»، و«تفكيك اقتصاديات النزاع»، وتوفير «العدالة للأطفال».

الشرق الأوسط

————————————-

أسواق النار والطائفية ومستقبل سورية/ رشيد الحاج صالح

في بدايات الثورة، لم يفكر السوريون كثيرًا بمستقبلهم، في حال أُجبر بشار الأسد على مغادرة سدة الرئاسة، على اعتبار أن الأمور ستسير بشكل قريب من الذي حصل في مصر أو تونس. ولكن اليوم، بعد نحو عشر سنوات من الثورة والصراعات الرهيبة التي عاشوها، وبعد التصاق غالبية القوى الفاعلة بطوائفها وانتماءاتها القومية؛ يمكن القول إن تفكير السوريين في بعضهم -بوصفهم فئات مختلفة الطوائف والأعراق والأيديولوجيات عليها أن تعيش معًا- أمرٌ لم يقدّروا حاجتهم إليه على الوجه الكافي.  

كان الشعار الأكثر انتشارًا في السنوات الأولى من الثورة هو شعار “الشعب السوري واحد”، وذلك كنوع من الرد المباشر على تخويف النظام للسوريين من بعضهم البعض، ولا سيّما عندما بدأ يعزف على منوال وصف نفسه كحامي الأقليّات الدينية: (العلويين، الإسماعيليين، الدروز، المسيحيين، وغيرهم) إضافة إلى الأقليات القومية، ولا سيما الأكراد في شمال سورية. وكذلك تقديم نفسه للمجتمع الدولي على أنه “النظام العلماني الوحيد في المنطقة”، على الرغم من إصرار بشار الأسد على أن يكون دين رئيس الدولة هو الإسلام، في الدستور الذي أُقرّ 2012.

عقلية الإنكار التي تقف خلف شعار “الشعب السوري واحد” تتجاهل عقودًا عدة من حقبة آل الأسد، كانت مثالًا لتحريض السوريين على بعضهم، وزرع عقلية الشك وعدم الثقة، فضلًا عن انتشار تنميط السوريين لبعضهم بطريقة غير مسبوقة، وتغوّل طائفة بعينها على فواصل الدولة الأمنية ومقدرات البلد الاقتصادية. 

هذه العقود الطويلة من تهديد النظام لكل السوريين، وإمكانية سحق أي فئة أو طائفة تتجاوز الخطوط الحمر التي وضعها عنوة (كما حصل في بداية الثمانينيات في حماة وإدلب، ثم تعميم القمع الدموي المنظم بعد عام 2011) أدت إلى انكفاء غالبية السوريين إلى داخل طوائفهم وكياناتهم التقليدية، كنوع من البحث عن الشعور بالأمان، بالتزامن مع انتشار ثقافة شفهية/ همسية تعقلن وتزيد من شعور السوريين بعدم الثقة ببعضهم البعض، وتشكك في عقائدهم، وتفترض أن الأغلبية لديها نيّات باطنية سلبية تجاه الآخر الطائفي أو القومي. حصل ذلك، وما زال يحصل، تحت نظر الأجهزة الأمنية وبرضاها ورعايتها، على اعتبار أن تخويف السوريين من بعضهم، وزرع روح الشك تجاه الآخرين، يبقى في النهاية حجر الزاوية في مواجهة أي انتفاضة شعبية مستقبلية، كان من المستبعد حدوثها قبل 2011.

الضغط على الكيانات الجمعية السورية، ولا سيّما الطوائف الدينية، بدأ عندما تسلم حافظ الأسد السلطة، واستبعد من الجبهة التقدمية التي شكّلها جماعةَ “الإخوان المسلمين” الذين كانوا يرون أنفسَهم الممثلين التقليدين لسنّة سورية، ثم لجأ إلى أسلوب الإبادة الجماعية، كما حصل عندما اقتحم أحياء من حماة، ودمّرها لمجرد وجود مسلحين في تلك الأحياء (يقدر محمد حسنين هيكل عدد القتلى بعشرة آلاف شخص)، واستمر مسلسل الضغط حتى إن قوات “سرايا الدفاع” نزلت إلى الشوارع، وبدأت نزع الحجاب عن السيّدات السنّيات المحجبات، بطريقة همجية تنم عن احتقار وازدراء واضحين للطائفة السنية، التي يُعدّ الحجاب عندها رمزًا أكثر من غيرها.

ويضاف إلى ذلك أن التوزيع غير العادل للتعليم الجامعي والثروات الوطنيّة والمشاريع الاقتصادية زاد من شعور فئات مناطقية واسعة بالظلم المقصود، وبأن النظام لا يرى فيهم سوى مواطنين من الدرجة الثانية، وأن عليهم أن يتكيفوا مع هذه الأوضاع. هكذا تم تحويل الجامعة التي كان مزمع افتتاحها في دير الزور، إلى اللاذقية في عام 1971، وتأخر افتتاح جامعة في محافظة درعا (وهي المحافظة التي تحتل المرتبة التعليمية الأولى لعدة سنوات في سورية) حتى عام 2006، كما جلبت وزارة الزراعة 10 آلاف موظف وفني، إلى مشروع حوض الفرات الضخم في الرقة، من مناطق علوية، فضلًا عن احتلال دمشق وظائفيًا، حتى تخال نفسك، عندما تدخل إلى بعض الدوائر في دمشق، أنك في اللاذقية أو طرطوس (ولا سيّما دوائر الجمارك، الإعلام، المشافي، الجامعات والبنوك…)  طبعًا هناك عشرات الأمثلة التي يتحدث بها السوريون ولا يمكن سردها كلها.

أما على المستوى الأمني، فقد أنشأ حافظ الأسد “إدارة المخابرات الجوية”، ووسّع من سلطات وحجم الفروع الأمنية الأخرى، وعلونها بطريقة شبه علنيّة، حتى أصبحت اللهجة العلوية لهجة السلطة والنفوذ، وباتت الأشهر على مستوى سورية، التي أمست دولة أمنية مترامية الأطراف تتدخل في كل شاردة وواردة، همّها الأول والأخير النهبُ المنظم، وإخضاع المجتمع إلى أقصى درجة ممكنة، بصلاحيات شبه مطلقة.

بعد 2011، تبيّن أن مناطق السنّة هي المناطق التي تعرّضت أكثر من غيرها للتدمير والتخريب، سواء من قبل النظام وطيرانه أو من قبل الكتائب الإسلامية المسلحة، أو من قبل قوات التحالف الدولي، وينطبق ذلك أيضًا على عدد القتلى وتدمير البنى التحتية والتهجير. وهذا الأمر يعود إلى انتهاج النظام لأسلوب الأرض المحروقة والعقوبات الجماعية، حتى إن تهديد ضابط “الحرس الجمهوري” المعروف عصام زهر الدين، للسوريين المهجرين في حال عودتهم إلى سورية، يراد منه تهديد الطائفة السنية على وجه التحديد، ولا سيما أن التهديد أريد له أن يخرج من ضابط غير علوي.

بحسب علم الاجتماع، فإن لجوء الناس إلى كياناتهم الطائفية والقومية يتناسب عكسًا مع قلة ثقتهم بالدولة ومؤسساتها. هذه المعادلة يعرفها النظام جيدًا، ولذلك يكاد يُفاجَأ المرء بأن النظام كان يحسب حساب هذا النقطة جيدًا، عندما اندلعت الثورة في عام 2011، كيف لا وهو الذي يعتقد أن الورقة الطائفية إحدى أهم ركائز استمراره في السلطة. طبعًا بالإضافة إلى مرونته في التعامل مع القوى العالمية الفاعلة. 

كما يمكن للناس أن يتحولوا من انتماء طائفي إلى آخر، إذا كان هناك فرق في القوة والدعم، كما لاحظ ذلك بحق أبو حامد الغزالي، ولذلك يجهد النظام في دعم بعض عشائر شمال وشرق سورية، عن طريق كتائب شيعية، لدفعها إلى تغيير مذهبها على المدى المتوسط والبعيد. وكذلك يمارس النظام ضغطًا متواصلًا على الطائفة الدرزية في السويداء، منذ عام 2013، عبر تخويفها من أهل حوران أحيانًا، وتحريض بعض البدو المتعاونين مع الفروع الأمنية الذين يسكنون في مناطق قريبة ثانيًا، أو عبر غض النظر عن ألوية متعاونة مع تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) والسماح لها بالاقتراب من مناطقهم وارتكاب عدد من الجرائم بحقهم ثالثًا، أو عبر اغتيالات بعض وجهاء الجبل الذين يحرّضون أهل السويداء على عدم مشاركة النظام في جرائمه وقمعه الدموي للسوريين رابعًا. وذلك لدفعهم إلى المشاركة في الأعمال العسكرية، ولا سيما بعد رفض عدد كبير من أبنائهم الخدمة في الجيش السوري. 

يعتقد غالبية السوريين بأن النظام الأسدي هو أكبر مصدر للتمييز الطائفي، وأكبر مصدر أيضًا للتوزيع غير العادل للثروات، مثلما هو أيضًا مؤسس للامساواة والظلم المنتشر في سورية، خلال العقود القليلة الماضية، كما يرى غالبيتهم أيضًا أن دولة القانون والمساواة والحريات هي التي ستخرجهم من كل تلك الأوضاع. ولكن كيف؟

لم تتمكن جماعة “الإخوان المسلمون”، وهي الحزب السياسي المعارض الأكبر في سورية، من تكوين مشروع سياسي وخطاب شامل يحمل تصورات واضحة ومحددة لمستقبل سورية وتعايش مكوناتها. بقيت الجماعة تتحفظ على العلمانية والحريات، ولم تتوجه بخطاب واضح لبقية أبناء الطوائف والديانات غير الإسلامية، كما أن المطّلع على صفحات الجماعة يجد أن خطابهم ما زال يعتد بمصطلحات من قبيل: (كفار، مشركين، فاسقين) حتى إنهم كثيرًا ما يصفون الثورة السورية بـ “الجهاد”. فضلًا عن أن كل أبناء الفئات غير السنية لا يقبلون بهم، كما هم في صورتهم الحالية.

أما أكراد سورية، فأمورهم ليست بأحسن حالًا؛ حيث يعاني “المجلس الوطني الكردي” تغوّلَ حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي PYD وسيطرته على المشهد الكردي. أما المفاوضات الكردية – الكردية الأخيرة، التي عُقدت في نيسان/ أبريل الماضي في الحسكة، برعاية أميركية من أجل دفع الأكراد إلى تقديم تصور مشترك لمستقبل سورية، وترتيب البيت الكردي بما يضمن مشاركة جميع القوى الكردية في الحياة السياسية، فيبدو أن نتائجها غير مبشرة. وأن حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي ماضٍ في مغامرته العسكرية في شمال سورية، ما دامت أميركا تقدم له الدعم. مثلما بات من الواضح انتهاج PYD لمبادئ الأسدية في السياسة التي تقوم على الركائز الثلاثة المعروفة: إعطاء الأولوية للقوة العسكرية والأساليب الأمنية، المرونة مع القوى الخارجية، والتشدد ضد المجتمع المحلي وتهميشه.

يضاف إلى ذلك أن تجربة الائتلاف الوطني الطويلة لم تعُد تعني السوريين كثيرًا؛ إذ كثر الحديث عن فساده، وارتهانه سياسيًا أما لجهات خارجية دولية، أو ارتهانه داخليًا لجهات وقوى سياسية معينة. حتى بات يمكن القول إن بؤرة توجيهه لم تعد تؤشر إلى سورية وما يدور فيها، فضلًا عن عجزه الذي بات واضحًا للقاصي قبل الداني.

كذلك نجد أن القوى والأحزاب القومية والدينية في سورية بعد 2011 لم تتمكن من تطوير نفسها، وتقديم خطاب عقلاني وواقعي يلتم حوله السوريون، ويشجعهم على تجاوز محنة عدم الثقة، ويفتح ملف تورط فئات واسعة من الشعب السوري بأعمال العنف التي عانتها سورية خلال السنوات الماضية. بقي خطابهم ينوس بين نزعة شعبوية، أكل الدهر عليها وشرب، تريد، من جهة، استنساخ تجارب تنتمي إلى عصور خلت، أو تستند، من جهة أخرى، إلى نفخ الواقع المعقد والصعب بالأيديولوجيا وأحلامها التي دفع السوريون أكثر من غيرهم ثمن زيفها. أيديولوجيات يشعر المرء بأنها تقف مع الأمة لكنها ضد الفرد، مع الماضي لكنها ضد المستقبل، مع التسامح لكنها لا تولي للتفاهم الدور الرئيس، مع الواجبات لكنها تغض النظر عن الحقوق، في محاولات يائسة لاسترجاع صور مكررة وباهتة من الأسدية والناصرية، وأحلام الخلافة.

أما جماعة الإسلام الدعوي والمتصوفة، فإن غالبيتهم طوّروا خطابًا يطالب السوريين بالتعايش والتحلي بأخلاق التسامح والرحمة. ولكنه في المقابل خطاب يفتقر إلى أبسط مكونات النظريات السياسية، لأنه بقي مجرد كلام وعظي بلا معنى سياسي، يُرجع مصائب المجتمع السوري إلى الذنوب التي يرتكبها المسلمون السوريون، وإلى عدم مثابرتهم على العبادات وتراجع صلة التراحم. حتى الحلول بقيت خارج نطاق إرادة السوريين تنتظر فرج الله ورحمته.

فالسياسة معطلة بشكل شبه كلّي، بالنسبة إلى الدعاة، بمعنى أنها ليست هي السبب في ما حصل للسوريين، وبالتالي ليست هي المفتاح للحلول أيضًا. ولذلك بقي خطابهم خطابًا تصبيريًّا أكثر من كونه خطابًا تفعيليًا، إنه خطاب يدفع الناس إلى الانتظار والبحث عن الخلاص بشكل فردي، عبر التركيز على سلوك وعبادات الفرد، على اعتبار أنها في النهاية هي التي ستدخله الجنة. ولذلك بقي خطابًا يرضي الجميع، على حساب الجميع.

لم يتمكن إذًا القوميون، والإسلاميون، بكل تنوعاتهم، والإخوان المسلمون، والأكراد، وممثلو الإسلام الدعوي، وجماعة الائتلاف، من تكوين تفكير متحرر من الأُمنيات والأحلام السياسية والتاريخية الشعبوية، التي تعطي عالَم (ما نحب أن يكون) الأولويةَ، على عالم ما هو كائن بالفعل، وتقدّم عالم المستحيل على عالم الممكن. هكذا بقيت هذه القوى بعيدة عن تكوين وعي واقعي، يعي الممكنات ويتحرز من الأماني السياسية الشعبوية، ويحمل على عاتقه المسؤولية الوطنية وتعقيدات المرحلة الحالية. 

يسأل غالبية المؤيدين، بخبث وسذاجة مقصودتين: ما البديل؟ في إشارة إلى أن السوريين لم ينجحوا في تشكيل كيانات يجتمع حولها كل السوريين الذين يرون أن سورية للجميع، كيانات تقوّم التأسيس للتعايش والتفاهم، والعمل بشكل واقعي على شعار” الشعب السوري واحد”، طبعًا، دون أن يدرك أولئك أن النظام يبقى أسوأ البدائل على الإطلاق.

التفكير في خطاب يجمع كل السوريين على قاعدة التفاهم وبناء الثقة، والاعتراف بكل المخاوف والهواجس البينية، والتخلي عن رواسب الطائفية التي اجتهد نظام الأسد في زرعها وسقايتها لأكثر من خمسين سنة، والعمل على بناء مجال جديد للسياسة يحتوي كل السوريين ومخاوفهم، ويعيد تكوينهم من جديد على مستوى الهوية والطائفة المواطنة، أمورٌ ملحّة أكثر من أي وقت مضى. ومن دون ذلك؛ سيبقى السوريون يدفعون ثمن صراع بين أطراف غريبة عن أحلامهم السياسية التي أشعلت ثورتهم.

مركز حرمون

————————————–

لماذا حان وقت رحيل نظام البعث – الأسد؟/ سمير سعيفان

بُعَيد استقلال سورية، كلّفت حكومة شكري القوتلي خبيرًا بريطانيًا بأن يقدّم دراسةً عن سورية وسُبل تنميتها وهي على أبواب مرحلة جديدة. ولو جاء السوريون اليوم، وسورية على أبواب مرحلة جديدة، بفريق من خبراء أجانب محايدين، لا علاقة لهم بمعارضة ولا موالاة، لينظروا في حال سورية منذ 1963 حتى اليوم، وفق معايير موضوعية، آخذين بالحسبان مصلحة سورية كبلد ودولة وشعب؛ فإن المتوقع أن يقدّموا للسوريين تقريرًا محتواه كالآتي:

عن النظام في الفترة السابقة لـ 2011:

بالعودة للجذور، نجد أن هذا النظام قد قام من بعد انقلاب عسكري على سلطة مدنية منتخبة، في 8 آذار/ مارس 1963، وهذا يجعل منه سلطة غير شرعية، بالمعايير السياسية العصرية. ولكن سمة العصر وانقسام العالم آنذاك، والحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي، أتاحت لمثل هذه الأنظمة أن تعيش على فتات الحرب الباردة، خاصة أن المعسكرين المتنافسين قد اهتمّا بالولاء والتبعية، لا بمدى شرعية أي نظام، فالشرعية لكل طرف منهما كانت بالموالاة له. والآن، وقد انتهت الحرب الباردة السابقة باكتمال سقوط المعسكر السوفيتي سنة 1991، أصبح نظام البعث – الأسد فاقدًا للمناخ العالمي الذي أتاح قيامه واستمراره، أي إن المصنع الذي أنتج هذا النظام قد أفلس وأغلق أبوابه، وأصبح نظام البعث الأسد ذاته خارج التاريخ؛ فلا يمكن اليوم القبول بحكم نظام غير ديمقراطي، لا يقوم على الحريات العامة في التنظيم والتعبير وتداول السلطة، ولا يمكن القبول بتولي أي حزب أو شخص أيّ سلطة، في أي بلد، إلا بانتخابات حرة نزيهة، فضلًا على أن الدستور لا يتيح للحاكم البقاء في السلطة أكثر من دورتين، لا تزيد مدتهما عن ثماني سنوات. إنه حكم التاريخ اليوم.

لأن الضباط الذين قاموا بانقلاب آذار 1963، كانوا يهتمون بالسياسة أكثر من اهتمامهم بمهنتهم، ولأنهم كانوا قد سُرّحوا من الجيش في مرحلة الوحدة السورية المصرية، فقد امتلؤوا بأفكار مفادها أن التآمر على قلب نظام الحكم هو الخطر الداهم، وأن من يحفظ السلطة بأيديهم هو قوة السلطة العسكرية والأمنية، لا رضى الناس وتقديرهم لإنجازات السلطة. ولذلك حرصوا على أن يبقى مناخ الصراع والتوتر قائمًا دائمًا، فأعلنوا تفعيل حالة الطوارئ صبيحة الثامن من آذار، وأبقوه مفعلًا مدة خمسة عقود، من دون أن تكون هناك حاجة لذلك، وعندما اضطروا إلى وقف حالة الطوارئ؛ استبدلوها بما هو أقسى منها، وهو ما سمّي بـ “قانون الإرهاب” الذي استُخدم ضد كل من عارض النظام، كما كانوا بحاجة إلى عدو خارجي كي يبقى التوتر مستمرًا، فيمنحهم ذرائع لأفعالهم، لذلك حافظوا على حالة من اللاسلم واللاحرب مع إسرائيل، وهذا ما يشغل الشعب عن مشكلات الداخل، ويتيح للنظام الاحتفاظ بجيش كبير وجهاز أمن وقانون طوارئ. وكان هذا على حساب الاهتمام بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية، حيث التهمت الموازنات العسكرية والأمنية معظم إيرادات الخزينة العامة، وتم انتزاع ما بين 300 إلى 500 ألف شاب سوري من ميدان العمل والإنتاج، ووضعهم تحت السلاح، كما تم تجيير كل شيء في البلاد لمصلحة الملف الأمني، وهذا مناخ لا يُنتج تنمية، لذا تأخرت سورية كثيرًا على الصعد كافة.

رفع نظام البعث منذ 1963 كثيرًا من الشعارات الكبيرة، مثل تحرير فلسطين والحرب الشعبية، من دون أي تحضير لمستلزمات مواجهة إسرائيل التي شكّلت منذ تأسيسها 1948 خطرًا داهمًا على حدود سورية. فلو تمتّع انقلابيو آذار 1963 بحد أدنى من الخبرة والمعرفة؛ لعلموا أنّ الجيش السوري الضعيف، الذي اهتمّ ضباطه بالسياسة ونظّموا الانقلاب تلو الآخر منذ الانقلاب الأول 1949، غيرُ قادرٍ على أن يدافع عن الوطن ويواجه الأعداء؛ إذ قاموا بتصفيات بعضهم البعض، منذ انقلاب حسني الزعيم، ثم انقلاب الحناوي، وانقلاب الشيشكلي، وانقلاب 1954، وانقلاب الوحدة 1958، وانقلاب أيلول 1961 الذي أطاح الوحدة، وانقلاب آذار 1963، ومحاولة انقلاب جاسم علوان في تموز 1963، وانقلاب صلاح جديد في شباط 1966، ومحاولة سليم حاطوم الانقلابية الفاشلة في أيلول 1966. وكان على الانقلابيين أن يدركوا أن الجيش السوري، بعد كل هذه الانقلابات وتصفيات الضباط والأفراد التي تبعتها، أصبح جيشًا مهلهلًا، بضباط صغار بخبرات معدومة وتدريب سيئ وتسليح ضعيف، ولو أنهم أدركوا ذلك، وهو أمرٌ بدهي، لما زاودوا بالشعارات وورطوا عبد الناصر الذي وقع هو الآخر في الفخ، ومنحوا الفرصة لإسرائيل بأن تهاجم أراضي عربية إضافية وتحتلها، في عدوانها في الخامس من حزيران 1967. لقد فقد نظام البعث شرعيته للمرة الثانية بعد هزيمة حزيران، وكانت المرحلة التي تلتها فترة نظام حكم بلا شرعية.

وإذا أخذنا معيار التنمية التي هي أحد أسس شرعية أيّ نظام، بما ينتجه من تنمية اقتصادية وبشرية وما يقدمه من منافع للشعب؛ فإن نظام البعث خلال نصف قرن من سلطته، بين 1963 و 2010، قد فشل في تحقيق أي تنمية مستدامة، وقد تراجعت سورية في عهده على الصعد كافة، من دولة ومجتمع كانا في طليعة بلدان العالم الثالث، في خمسينيات القرن العشرين، في الصناعة والزراعة والتجارة والقضاء النزية والتعليم وخدمات الصحة والإدارة الحكومية وغيرها، إلى دولة تقف في مؤخرة دول العالم، في مؤشرات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والإدارية (أما اليوم، فسورية أصبحت خارج المؤشرات الإنسانية)، أي كان هناك فشل شامل. ويمكن توصيف وضع سورية العام، في ظل سلطة البعث -الأسد، بأنها دولة لديها موارد متنوعة وشعب بإمكانات كبيرة، بينما تدار إدارةً فاشلة وفاسدة. وهذا يُفقد أي نظام شرعيته خلال خمس سنوات، لا خمسين سنة!

على الصعيد الاجتماعي، جاء هذا النظام إلى السلطة رافعًا شعار القضاء على الإقطاع والرأسمالية ومحاربة الاستغلال، ولكن ما جرى أنه أزال الطبقة السياسية والاقتصادية والاجتماعية السابقة، كي تحل قياداته العسكرية والأمنية والمدنية والحزبية محلها؛ فأصبحوا هم الحكام الجدد، وهم الرأسماليون الجدد، وهم الإقطاعيون الجدد، وهم الوجهاء الجدد، من دون أن يحملوا قيم الطبقة السابقة ومعرفتها في تنظيم الإنتاج وحسن الإدارة. لقد أغرق نظام البعث – الأسد السوريين بشعارات الاشتراكية، ولكنه استأثر بكامل السلطة والمال، وأشرك الشعب في الفقر والقمع.

أغرق النظام السوريين بالحديث عن مكافحة الفساد، ولكنه نظّم الفساد ليكون أداة لتكوين ثروات كبيرة لعائلة الأسد أولًا، ولرجل أعمالها مخلوف، ولمجموعة من حولها، وعمم الفساد كي يكون ثقافة فلا يغدو الفساد سبّة في جبين الفاسدين، كما كان قبل مجيئهم، ثم قدّم بعض الفاسدين الصغار ضحية كي يستر فساده الكبير، واليوم يقتتل الأسد مع مخلوف على توزيع الثروة التي جمعوها بفساد عظيم، وهم مستعجلون ربّما لشعورهم بأن التغيير قد بات قريبًا في سورية.

ردّد النظام على مسامع السوريين شعارَ الحرية صبحًا وعشية، ولكنه ألقى كلَّ من طالب بالحرية في غياهب السجون، بينما أطلق الحرية ليد أجهزة القمع. وتحدث عن “الكرامة الوطنية” ولكن الأسد الأب، قبل مغادرته هذا العالم، نظّم توريث سورية وشعبها لولده الذي لم يكن له أي دور في الدولة، ولا أي خبرة أو مزية، أورثها له كما الممتلكات المادية (السوريون يقولون كما تورث الإبل)، فمرّغ كرامة سورية وشعبها بالتراب.

وعلى الرغم من أن البعث في الأساس حزب قومي تأسس ليبعث الأمة العربية من رقادها، وهو حزب علماني في جذوره، فإن السلطة التي قامت تحالفت منذ 1979 مع نظام ملالي إيران المذهبي الفارسي، وكان حافظ الأسد على رأسها آنذاك، ووقف إلى جانب النظام الديني في إيران، ضد العراق الشقيق الذي يحكمه الشق الآخر من حزب البعث، كما يسّر هذا النظام سيطرة “حزب الله” على لبنان، وهو حزب ديني يتبع إيران علنًا، بتأسيسه وتبعيته وتمويله وسياسته. وهذا يتعارض مع الزعم العلماني ويتناقض مع القومية العربية.

النظام منذ 2011 حتى اليوم

عندما نزل السوريون إلى الشوارع والساحات بدءًا من آذار 2011 بالملايين، على امتداد التراب السوري، وعلى مدى أشهر عديدة، مطالبين سلميًا بالتغيير؛ استخدم النظام العنف المبالغ به وغير المبرر، لقمع المطالبات المشروعة بالتغيير، وبالغ كثيرًا حين استخدم الدبابات والطائرات والمدافع، ومختلف أنواع الأسلحة حتى صواريخ (سكود)، وأثار ذلك دهشة العالم واستنكاره، واستدعى تأييده لحق الشعب السوري بنيل نظام حكم ديمقراطي، يحترم الحريات العامة وحقوق الإنسان والكرامة الإنسانية.

وحين فشل النظام في القضاء على الحراك؛ استنجد بإيران وقواتها وميليشياتها التي جُلبت من دول كثيرة، ثم استنجد بموسكو. وقد تسبب عنف النظام، والعنف المضاد المعارض الذي جاء ردة فعل على عنف النظام، في فتح سورية أمام منظمات إرهابية أتت من كل فج عميق، وفي تدخّل دول واحتلالات متعددة تشابكت مواقعها ومصالحها على الأرض السورية.

كان لدى النظام فرصة للقيام بسلوكٍ آخر يحفظ سورية وشعبها ويفتح مستقبلها، إذ كان أمامه أن يستجيب للمطالب الشعبية الأولى بكل سهولة، ولم تكن تتجاوز المطالبةَ بالإصلاح ضمن النظام القائم، والسماح بالتجمع والتظاهر السلمي في الساحات بدًلا من دفع المتظاهرين نحو المساجد، وبفتح حوار وطني. ولو أن ذلك حصل حينذاك؛ لاعتُبر بشار الأسد بطلًا وطنيًا، لكنه آثر استخدام العنف المنفلت من عقاله الذي دمّر سورية، وأدى بها إلى ما وصلت إليه. ولو كان لدى عائلة الأسد الحاكمة وبقية النخبة الملتصقة بها، ومن يؤيدها على كامل التراب السوري، شيءٌ من حسن التقدير والتعقل وحبّ سورية وشعبها والولاء لها، لا لكرسي الحكم؛ لأدركوا حُكم التاريخ وفهموا الظروف الجديدة ولتصرفوا بتعقل.

يتذكر السوريون في هذه المناسبة العقيد أديب الشيشكلي، وقد سمّاه البعثيون والشيوعيون بـ “الدكتاتور”، فحين قام الانقلاب العسكري ضده في شباط 1954، رفض أن يواجه الانقلاب بقوة عسكرية، وكان لديه كامل القوة، إذ رفض أن تتواجه قطع من الجيش السوري في حرب أهلية على أرض سورية، وفضّل الانسحاب وترك السلطة، وهاجر إلى خارج سورية.

كما أتذكر أنا، كاتب هذه السطور، حين كنتُ أتابع دراستي في ألمانيا الديمقراطية، وبدأ الحراك المطالب بالتغيير يتصاعد ضد النظام القائم فيها، حينذاك، وقد نوقش موضوع ذاك الحراك في المكتب السياسي للحزب الحاكم (الحزب الاشتراكي الألماني الموحد) وهو شبيه بحزب البعث، مع فارق بين الصناعة البعثية والصناعة الألمانية، وقد أعطى هونيكر أوامره، وكان حينها رئيس الدولة وأمين عام الحزب، بأن لا يُعتقلَ أحد ولا يطلق النار على أحد، وقبِل هو بالتغيير وساعد في إتمامه واستقال، وجاءت نخبة حاكمة جديدة، ومن ثم استمر التغيير، وأدى إلى وحدة ألمانيا بقسميها الشرقي والغربي. ويومها ذهب هونيكر للعيش لدى ابنته في التشيلي، ولم يكن لديه، لا هو ولا أي من قيادات الحزب والدولة، أي ثروة. والتاريخ يذكر لهم ذلك.

سورية والمستقبل:

بسبب ربط الغرب رفْعَ العقوبات جميعها عن سورية ورفع الفيتو على إعادة الإعمار، والمساعدة في إخراج جميع القوات النظامية الأجنبية والميليشيات الأجنبية من سورية عدا القوات الروسية، والمساعدة في عودة المهجرين وإعادة بناء سورية ماديًا ومجتمعيًا، ربطًا شرطيًا بحدوث انتقال سياسي بدون الأسد ونظامه؛ فإن عدم حدوث الانتقال السياسي سيعني بقاء سورية مهدّمة ومدمّرة ومقسمة، بخدمات متدهورة ومستوى تعليم وصحة منخفض، ونقص من المياه والغذاء وفقر واسع جدًا واقتصاد مدمّر، إضافة إلى أن معظم شعبها مهجر، وأجزاء منها تحت سيطرة أجنبية، وسيبقى الدمار هو الحقيقة العارية. وعلى المؤيدين والمعارضين والحياديين إدراك هذه الحقيقة المرّة.

ومن الجدير التنويه به أن الانتقال لن يكون إلى نظامٍ تبتغيه فصائل مسلحة معارضة إسلامية، دعت -صراحة أو مواربة- لإقامة دولة دينية، إذ ستكون سورية حينذاك كالمستجير من الرمضاء بالنار، ولن يكون هذا الانتقال السياسي المطلوب من القوى الدولية المتحكمة في الشأن السوري، وستبقى القوى الدولية تتخذ، تجاه مثل هذه الدولة في حال قيامها -وهو احتمال معدوم- الموقفَ الذي اتخذته تجاه نظام البعث- الأسد.

خلاصة تقييم نظام البعث – الأسد: أن بدايته غير شرعية، وكان فاشلًا في ماضيه، وقد ارتكب جرائم أكثر في حاضره، وبقاؤه يشكّل كارثة لمستقبل سورية وشعبها. وقد تجمعت مؤشرات عديدة تنذر بقرب رحيله.

من الذي يجب أن يرحل:

لكل هذه الأسباب وغيرها الكثير، سيكون من مصلحة السوريين، جميع السوريين، موالاة ومعارضة ورماديين وحياديين ولا مبالين، سيكون من صالحهم ومصلحة استقرار المنطقة، واستقرار لبنان بخاصة، أن يتم في سورية انتقال سياسي منظم، يضمن منع الفوضى، إلى نظام مدني ديمقراطي يقوم على تداول السلطة وفق أسس عصرية معلومة. ويبدو أن التاريخ قد حكم أخيرًا على هذا النظام الذي افتقد الشرعية طوال وجوده، بالرحيل، بعد أن تأخّر رحيله أكثر من نصف قرن، دفع السوريون خلالها الكثير من أرواحهم وكرامتهم وتقدّمهم، خاصة أنهم دفعوا خلال السنوات التسع السابقة ما لا يمكن تصديقه عندما يرويه الأجداد للأحفاد.

ما يجب أن يرحل هو النظام الحالي ككل، وليس فقط عائلة الأسد والنخبة الحاكمة، والمقصود بالنظام الحالي نظام الحزب الواحد الذي صادر السياسة، وحكّم أجهزة الأمن بمصاير السوريين، نظام تدخل الجيش في السياسة وجمع السلطات في يد رئيس مطلق الصلاحيات، نظام القضاء غير المستقل وغير النزيه، النظام الذي ينظم الفساد والفاسدين، والعاجز عن محاسبة المسؤولين، والذي أشاع ثقافة المحسوبية والولاء، وتدخل الدولة المعيق في الحياة الاقتصادية، نظام إهمال العلم والسماح بالتفاوت الكبير للثروة، وتركزها بيد أقلية على حساب بقية السوريين، وغير ذلك من السمات السلبية للنظام القائم، واستبداله بنظام عصري جديد، يمكن اختصاره بالقول إنه يعاكس كل هذه السمات السلبية بأخرى إيجابية.

ولا بد أن يرحل حزب البعث أيضًا، بأن يصدر قرار بحله ومنع عودته، ومصادرة ممتلكاته لتعود للدولة، لأن أثمانها سُحبت بغير حق من الخزينة العامة، فلا مكان لهذا الحزب في سورية القادمة، فما جرى باسمه ينزع عنه كل شرعية، على الرغم من أنه كان مجرد أداة، ولكن ليس من مصلحة سورية والسوريين تطبيق نهج العراق بسياسة اجتثاث البعث، الذي استخدم انتقائيًا لأغراض مذهبية انتقامية، فمعظم البعثيين السوريين كما العراقيين، لم ينالوا من هذا النظام شيئًا، بل نالوا منه ما ناله الشعب السوري عمومًا.

أما كيف سيرحل هذا النظام، فسيكون هذا بتوافق روسي أميركي، فأميركا تقرّ أن سورية منطقة نفوذ سوفيتية سابقًا وروسية لاحقًا، ولا تريد منافسة روسيا على سورية، ولكنها بذات الوقت لا تريد أن تسهّل مهمة روسيا في سورية بدون مقابل، وروسيا هي في أزمة لأنها غارقة في سورية، أما أميركا فمرتاحة وهي تحاصر سورية وتحاصر روسيا معها، وبالتالي ستضطر روسيا إلى تقديم التنازل ضمن انتقال سياسي يُرضي أميركا، وتبقى الصعوبة في صياغة هذا الانتقال وتأمين إمكانية تنفيذه على الأرض. ويبقى هذا احتمالًا ينتظر التحقيق.

الكلمة الأخيرة

الكلمة الأخيرة التي سيوجهها فريق الخبراء المحايدين، الذي جئنا على ذكره في البداية، إلى كل السوريين وخاصة النخب التي تلعب أدوارًا أهم -بغض النظر عن مواقف الموالاة والمعارضة والحياد- هي أن الماضي قد مضى، وأن التاريخ قد حكم على سورية بالتغيير والانتقال إلى نظام سياسي ديمقراطي عصري، وأن هذا الأمر يُوجب على الجميع الاتحاد والعمل المشترك من أجله، متجاوزين تصنيفات المعارضة والموالاة والرماد والحياد، لمواجهة حجم الدمار المادي والمجتمعي، وإزالة آثار المشكلات الكثيرة المتراكمة التي سيكون حلّها صعبًا ومعقدًا جدًا، حتى مع توفّر دعم العالم بكامله. أما إذا لم يتم رحيل النظام وغاب دعم المجتمع الدولي، وبقي الوضع على ما هو عليه؛ فإن على جميع السوريين -دون استثناء- أن يترحموا على سورية.

إنها مسؤولية كل سوري، وعليه أن يختار بين الدمار والإعمار.

مركز حرمون

—————————————–

فوضى الفصائل السورية/ بشير البكر

لم يعد الوضع مقبولا في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، والتي تنتشر فيها الفصائل المسلحة في محافظة إدلب ودرع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام.

وتعيش هذه المناطق حالة من الفلتان الأمني والتجاوزات ضد السكان. ولا يمر يوم من دون انتهاكات يدفع ضريبتها المدنيون. وتتنوع الانتهاكات. منها الاعتقالات والمحاكمات الصورية وزج المواطنين في السجون الخاصة، وكم الأفواه، وفرض أنظمة قمعية تستهدف الناشطين والنساء. ولا يقف الأمر عند هذا الحد فهناك الحروب بين الفصائل التي صارت تتكرر على نحو شبه يومي في وسط المدنيين، ومن ثم هناك تعديات الفصائل على السكان وعلى أرزاقهم وبيوتهم وحرياتهم. وكل هذه المظاهر تندرج تحت ما يُسمى ممارسات أمراء الحرب.

يعيش المواطن السوري في هذه المناطق وضعا مزريا فهو ضحية لتجاوزات الفصائل من جهة، وحرب النظام وروسيا وإيران التي هجرت الملايين من بيوتهم، من جهة ثانية. هذا بالإضافة إلى الوضع المعيشي السيء والغلاء الفاحش. وباتت الغالبية العظمى من الناس لا تقدر على تأمين خبزها اليومي، ولا تحصل على الحد الأدنى من حصة الصحة والتعليم والنظافة، وهناك أكثر من مليون يعيشون في مخيمات عشوائية تفتقر لأبسط شروط الحياة، ويعز فيها حتى الماء الصالح للشرب.

ويبدو من متابعة دقيقة للوضع أن صبر الناس على هذه الفصائل قد نفد، وفي حال لم تتحرك تركيا والائتلاف لضبط الوضع وإنهاء الفلتان، فإن النتائج سوف تكون سلبية جدا، وستذهب الأوضاع نحو مزيد من الـتأزم وهذا سوف يقود إلى الانفجار في منطقة مكتظة بالبشر والسلاح، ومثال ذلك ما حصل الأسبوع الماضي حين اعتدى فصيل “الحمزات” على مهجرين من الغوطة الشرقية، وكادت تحصل مذبحة لولا تدخل الجيش الوطني.

ومن دون شك هناك مصلحة أساسية للنظام في اللعب على الاستقرار في هذه المناطق، وكلما اهتز الوضع  كسب النظام. وتحدثت أنقرة أكثر من مرة عن أعمال تخريب قام بها حزب العمال الكردستاني. وفي ذات الوقت تؤكد المعارضة معلومات بأن النظام يقوم بالتخريب، ومن غير المستبعد مسؤوليته عن إرسال المفخخات إلى هذه المناطق، الأمر الذي يضاعف مسؤولية تركيا وهيئات المعارضة السورية من أجل السهر على أمن هذه المناطق وتحصينها بوجه مخربي الداخل قبل الخارج.

وإزاء هذا الوضع المزري هناك عدة ملاحظات يمكن تسجيلها هنا: الأولى هي أن كافة الفصائل التي ترتكب الانتهاكات تنتشر في المناطق التي تقع ضمن مناطق النفوذ التركي، والتي توجد فيها قوات تركية وأخرى من الجيش الوطني التابع للحكومة السورية المؤقتة التي تعد جزءا من الائتلاف الوطني. والملاحظة الثانية هي أن غالبية الفصائل تتبع ما يسمى الجيش الوطني، باستثناء هيئة تحرير الشام، التي تقيم ما يشبه إمارة خاصة لها في محافظة ادلب، وتتصرف كدولة مستقلة.

وأما الملاحظة الثالثة فهي، أن معظم هذه الفصائل أبعد ما تكون عن أهداف الثورة السورية، ومن خلال التدقيق في تركيبتها، يتبين أن حمل البندقية في هذه المناطق صار وظيفة تدر دخلا أفضل من بقية الوظائف، وليس من أجل الدفاع عن الشعب كما حصل في الأيام الأولى للثورة.

ما يحتاجه السوريون في هذه المناطق هو الخلاص من هذه الفصائل بأي شكل من الأشكال، وتقع المسؤولية الأولى على الدولة التركية صاحبة التأثير والنفوذ والتمويل، في وضع حد لأعمال التجاوزات والاعتداءات على المدنيين، وتدمير ما تبقى من روح ثورية ضد النظام السوري. وحتى تثبت تركيا جدية في مواجهة العبث بمصير هذه المناطق، فإنها مدعوة كخطوة أولى إلى وقف كافة المسؤولين عن هذه الأعمال وإبعادهم عن المنطقة نهائيا. والمسؤولية الثانية تقع على الائتلاف والحكومة المؤقتة ووزارة الدفاع للتصرف بحزم من أجل الضرب بيد من حديد على الزعران الذين حولوا حياة الناس إلى جحيم، وعلى وزارة الدفاع التعاون مع تركيا لإنجاز هذه المهمة الصعبة. وتقع المسؤولية الثالثة على وسائل الإعلام المعارضة أو المحسوبة على خط المعارضة لفضح التجاوزات والتنديد بمرتكبيها.

تلفزيون سوريا

——————————

خريطة جديدة للشمال السوري/ فاطمة ياسين

بعد تراجع الرئيس ترامب، في العام الماضي، عن قراره بسحب القوات الأميركية من الشمال السوري، حيث قال إنه قُضي على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بشكل كامل، وأصبحت الحرب السورية سخيفة بالنسبة إليه، قلَّص من حجم انتشار قواته ومساحته، فاقتصرت على الوجود بالقرب من حقول النفط.

ترك الجيش الأميركي قواعد كان يتمركز فيها في ريف حلب، ومقابلها أنشأ قواعد جديدة باتجاه الحدود العراقية التركية في القحطانية وحيمو في شرق القامشلي وغربها، على التوالي، حيث حقول النفط، في تأكيد أن ترامب يريد حماية هذه الحقول وحرمان النظام منها، وتفعيل أسلوب الضغط الاقتصادي الذي تؤمن به السياسة الأميركية لتصفية أعدائها أو إضعافهم. سارع الروس حينها لملء قواعد جديدة أيضاً في المنطقة بقوات وتجهيزات عسكرية ومروحيات عمودية، عبر اتفاقات مع تركيا برّرت وجودها قبل أن تبدأ الدوريات الروسية بالظهور علناً، اعتباراً من منتصف شهر نوفمبر/ تشرين الثاني من العام الماضي في منبج وجوارها، ومن ثم تمددت ببطء باتجاه الشرق.

والآن تنتشر أخبار التوسع الروسي الكبير بظهور دوريات روسية في مناطق جديدة في أقصى الشمال السوري، بالقرب من مثلث الحدود السوري التركي العراقي، ترافقت مع غطاء جوي انطلقت مروحياته من مطار القامشلي. لم تعترض الدوريات الأميركية وجودها هذه المرّة، وكانت دورية روسية قد جرّبت التحرّك على هذا الطريق في العام الماضي، فأجبرتها دورية أميركية على التراجع. أما اليوم، فتبين الحركة السلسة للدورية الروسية مواطئ قدم الروس في المنطقة، في ما يبدو أنه الحجر الأساس لقاعدة عسكرية ثالثة لروسيا في سورية، بعد قاعدة حميميم الجوية وطرطوس البحرية. التحرّكات الروسية لا بد أن تترافق مع تفاهمات روسية كردية، وقبلها أُنجِزَت تفاهمات أيضاً مع الأتراك في أعقاب عملية نبع السلام التركية في الشمال السوري، وقد تعطي هذه الخطوة تفسيراً لترقية السفير الروسي في دمشق إلى درجة مبعوث، وهو بهذه الصفة يستطيع أن يقيم حواراتٍ سريعة، واتخاذ قراراتٍ عاجلة مع كل الأطراف التي يجب على روسيا محاورتها لترسيخ أقدامها في الشمال، وهي النظام والأكراد وتركيا.

تمتلك روسيا الآن قاعدة جوية في القامشلي متداخلة مع المطار المدني الذي يقول النظام إنه سيبدأ رحلات جوية إليه قريباً، كما تمتلك قاعدة جوية صغيرة أخرى في مطار الطبقة، واحتلت مواقع اللواء 73 التابع للفرقة 17 التي أبادها تنظيم داعش في فورة هجومه على الشمال، بالإضافة إلى قاعدة أخرى في صرين على الضفة الشرقية للفرات مقابل منبج، وكانت القوات الأميركية قد أخلتها في وقت سابق، بالإضافة إلى قاعدتها في عين عيسى. وبهذه الشبكة من القواعد، تستطيع روسيا أن تجد لها موطئ قدم في أي محادثات أو ترتيبات أمنية يمكن أن تبدأ بين الكرد والنظام السوري، وتتيح لها علاقاتها المميزة مع تركيا أن تكون وسيطاً مع الكرد، وقد افتُتِح هذا التعاون بإعادة تشغيل طريق عين عيسى – تل تمر، ويحمل هذا الطريق الاسم المتداول 4M، وكذلك الطريق الذي يصل بين اللاذقية وإدلب. وبوصول الدوريات الروسية إلى حدود نهر دجلة، في قسمه السوري في الشرق، يعلن الروس أوج تمظهرهم في الشمال السوري.

في مقابل ذلك، توجد قوة أميركية في الباغوز شرقي الفرات على مقربة من الحدود العراقية، وهناك وجود عسكري أميركي قوي في قاعدة أخرى رئيسية قرب حقول رميلان الغنية بالنفط، وقد أضحى التقاسم بين أميركا وروسيا واضح الحدود، حيث ترغب الولايات المتحدة في كبح جماح الاختراق الإيراني، وقفل كامل الحدود السورية العراقية، والقبض على مفاتيح النفط، والاستمرار في خطة الضغط الاقتصادي، فيما يتولى الروس أمر الكرد وتنسيق علاقاتهم مع النظام وتركيا، مع الاحتفاظ بشبكة الطرق الحيوية في الشمال، والتي تطلب السيطرة عليها مزيداً من الجهد العسكري المضني.

العربي الجديد

———————————–

على المعارضة السورية الانتقال إلى أوروبا/ فريدريك هوف

واشنطن – الناس نيوز

قال المبعوث الأمريكي السابق إلى س,ريا فريدريك هوف إن العشيرة الحاكمة تتنازع على من سيحصل على كل ما تبقى. وأن “لاشرعية الأسد وعدم ملاءمته للمرحلة القادمة باتت واضحة للجميع خارج أقرب أقربائه، بل وربما يكون واضحًا لهم أيضًا”.

وسأل هوف، في ورقة كتبها في موقع الأتلانتيك وترجمتها الناس نيوز، بعنوان: “المعارضة السورية إما أن تنتقل أو تحلّ نفسها أو تكون في خدمة الآخرين”، ما إذا المعارضة السورية خارج سوريا قادرة أن تلعب دوراً سياسياً بناء إذا بدأ النظام في التذبذب أو الانهيار؟

ولم يتوقع هوف سقوطا وشيكا للأسد، لأنه يعتقد أن روسيا وإيران لن تفرطا به بسهولة.

ولكنه رأى أن هناك حديثا في إيران عن أن بعض المسؤولين الإيرانيين سئموا من مغامرات أجنبية باهظة الثمن بالنظر إلى التأثيرات المزدوجة للعقوبات الأمريكية كوفيد-19، رغم أن فقدان الارتباط السوري العضوي بالوجود اللبناني للجمهورية الإسلامية، حزب الله، سيكون انتكاسة كبيرة الحجم لمحور إيران.

بالمقابل، يضيف هوف، يستنتج عدد متزايد من المسؤولين والعلماء الروس أن الأسد هو أسوأ عميل يمكن تخيله. لكنهم يواجهون حقيقة أن المصالح السياسية الشخصية للرئيس فلاديمير بوتين تختلف في سوريا على الأقل عن مصالح الأمن القومي للاتحاد الروسي. ستكون روسيا في وضع أفضل بكثير مع حكومة وحدة وطنية سورية خالية من شخصيات النظام، لكنها تتعهد بشراكة مستمرة مع الكرملين. ومع ذلك، لا يزال بوتين يرى الأسد نفسه على أنه “الدليل الأول” لمزاعمه السياسية المحلية بأنه أعاد موسكو شخصياً إلى وضع القوة العظمى. بعد السخرية لسنوات حول مطالب أوباما تغيير النظام، كيف يمكن أن يحاول بوتين الآن أن يضحي – حتى وإن يكن كان من أجل المصلحة الروسية – بصورة الشخص التي يدعي أنه أنقذها؟

ومع ذلك، فإن الظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة في سوريا، التي تفاقمت بسبب انقسامات النظام، بالكاد تشجع اليقين بشأن بقاء الأسد السياسي على المدى الطويل. لقد كانت قدرته على قيادة أجهزة عنف الدولة والإرهاب في سوريا متجذرة دائمًا في الشرعية الفاسدة التي كان يتمتع بها كخليفة مؤسس النظام زبانيه: حافظ الأسد. لطالما اعتبر المطلعون على النظام – حتى أولئك الذين يدركون تمام الإدراك حدود قيادته – أن الإطاحة ببشار الأسد يمكن أن تؤدي إلى عنف سياسي مجاني للجميع، وأن تعيد سوريا إلى حقبة ما قبل 1970 من المؤامرات والانقلابات. ولكن ماذا لو كانت الأسرة الحاكمة نفسها هي مصدر عدم الاستقرار؟

إن أي تحرك إلى الأسد لتحييد الأسد سيكون في الأساس عملية من الداخل. لكن أولئك الذين يستولون على السلطة لن يرثوا إرث الأسد بل سيواجهون التحدي المتمثل في تعزيز مواقفهم على أساس مستدام، بعد مرور خمسين عامًا على “حركة الأسد التصحيحية”. ويتمثل أحد الخيارات في توسيع قاعدتهم السياسية من خلال دعوة شخصيات معارضة من داخل سوريا وخارجها لمناقشة ترتيب الوحدة الوطنية. هل المعارضة الخارجية مستعدة للعب دور بناء؟

منذ عام 2017، تعمل الهيئة الرئيسية لتلك المعارضة الخارجية – هيئة المفاوضات السورية (SNC) – في الرياض، بينما إن ائتلاف المعارضة السورية الذي تأسس عام 2012 موجود في إسطنبول. إن ترتيبات المقر هذه تجعل من الصعب على المعارضة الخارجية أن تعمل باستقلالية ووحدة نيابة عن أكثر من عشرين مليون سوري داخل سوريا وخارجها.

تبقى تركيا حليفاً هاماً لحلف شمال الأطلنطي وللولايات المتحدة، وقد تم تبرير شكاوى أنقرة حول فشل إدارة أوباما في السعي لاستراتيجية سورية مشتركة. كانت الأولوية الرئيسية للرئيس باراك أوباما هي منع المذبحة في سوريا من إزعاج اتفاقه مع إيران. استراتيجيته، التي تتميز بدبلوماسية “الصخب والعنف” لم تدل على شيء. حاولت إدارة ترامب، بشكل رئيسي من خلال جهود فريق وزارة الخارجية الموهوب وسفير مقتدر، جاهدة الوصول إلى نفس الصفحة مثل أنقرة. إنه جهد صعب حقق مع ذلك بعض المكاسب التي ينبغي الاستمرار بها. وعلى الرغم من أن علاقة واشنطن الثنائية مع المملكة العربية السعودية تخضع لاختبار ما يتم تمريره اليوم للقيادة في الرياض، إلا أنها بالتأكيد علاقة تستحق الحفاظ عليها. إن العلاقة العدائية بين الرياض وأنقرة تعقد الجهود الأمريكية لتنسيق السياسة السورية.

أما بالنسبة للمعارضة الخارجية، فلا تزال هناك أسئلة: إذا بدأ نظام الأسد في الانهيار، فهل ستضطر مكوناته الرئيسية للعمل كامتدادات للسياسات والأولويات السعودية والتركية؟ هل ستكون قادرة، من الرياض وإسطنبول، على خدمة مصالح وأولويات السوريين داخل سوريا واللاجئين السوريين؟ إذا خلصت هيئة المفاوضات والائتلاف إلى أنهما لا يمكن، في ظل الظروف الحالية، أن يكونا هيئتين مستقلتين مكرستين لخدمة السوريين، فإن اختياراتها واضحة: إما أن يحلا نفسيهما أو ينتقلان، أو ينفذان أوامر الآخرين.

يمكن للسعودية وتركيا، بالطبع، أن تستبقا هذه الخيارات الصعبة من خلال إعطاء المعارضة حرية العمل الواسعة. ولكن هذا لن يكون هو الأمر المحتمل. فقد سعت جميع القوى الإقليمية المعارضة للأسد إلى عملاء متعاونين. لقد حاولوا إسقاط الأسد لمصالحهم الخاصة، وليس من أجل السوريين الذين يسعون إلى الحكم المتحضر.

وفي الواقع، نادراً ما ركزت الولايات المتحدة نفسها على مركز ثقل النزاع: المدنيين السوريين. بدلاً من ذلك، اختارت عمليًا تجاهل القتل الجماعي للنظام، باستثناء خلال إدارة ترامب، عندما قام النظام مرتين بارتكاب فظائع غاز السارين. كما رفضت واشنطن العمل مع المعارضة السورية لإيجاد بديل للحكم في الأسد في شمال شرق سوريا. الدولة التي حررت أوروبا مرتين، وأشرفت على خطة مارشال، وسادت في الحرب الباردة، قررت ببساطة أن مساعدة السوريين على بناء حكم شرعي في المناطق المحررة من دولة العراق الإسلامية والشام (داعش) كان أمرا بعيدًا جدًا. والنتيجة هي معارضة لا تزال في المنفى إلى حد كبير، ولا تزال الولايات المتحدة تعترف بمجرم حرب كرئيس لسوريا.

 غالبًا ما كانت المعارضة الخارجية السورية متصدعة، مما يعكس إلى حد ما رغبات وإملاءات القوى الإقليمية التي توفر الملاذ والتمويل. تحتوي هيئة المفاوضات والائتلاف على بعض الموهوبين من الوطنيين السوريين الذين يعتبرون نظام الأسد والإسلاميين العنيفين وجهين لعملة واحدة؛ عملة تشتري التقسيم الطائفي وغياب القانون. المعارضة الخارجية، على الرغم من كل الصعوبات التي واجهتها، لم تستحق أبداً الاستهزاء الذي يلفها الأجانب الذين يسعون إلى إخفاء إخفاقاتهم.

ولكن إذا بدأت الأمور السياسية في التحول داخل سوريا، فإن لحظة الحقيقة تقترب من المعارضة الخارجية. بقدر ما يجب أن تستمر في العمل في المنفى، يجب ألا تفعل ذلك في الجوار السوري. ليس إذا كانت ترغب في التصرف بشكل مستقل نيابة عن السوريين. إن القرب من سوريا يبدو جذابا من الناحية السطحية، ولكنه في الحقيقة سامٌّ وينتج التبعية والتبعية المولودة من الأسر.

بالتأكيد ستكون أوروبا الغربية موطنًا مؤقتًا أفضل للمعارضة الخارجية من أي قوة إقليمية. هذا لا يعني أن أوروبا – أكثر من الولايات المتحدة – قد تصرفت بشكل فعال لحماية السوريين، أو جيران سوريا ، أو حتى نفسها على مدى العقد الماضي. لكن الاتحاد الأوروبي أو العديد من أعضائه يمكن أن يقدموا للمعارضة شيئًا لا تستطيع القوى الإقليمية القيام به: الأماكن التي يتم فيها التخطيط والتداول والعمل نيابة عن السوريين دون ضغوط ناشئة عن مصالح ضيقة. إذا بدأ النظام الذي دمر سوريا في الانهيار، فيجب على المعارضة الخارجية أن تنتقل إلى الأماكن التي لديها فرصة للتأثير على التوجه السياسي السوري بشكل مستقل، ولصالح السوريين.

المعارضة السورية: إما أن تحلّ نفسها أو تنتقل أو تقدّم دعوات للآخرين

تنبأ هذا المؤلف -منذ سنوات- بأن بشار الأسد، إذا دعمته روسيا وإيران لتحقيق نصر عسكري، سيصبح الطفل المدلل لـ “النصر الكارثي”. وما تبقى من الاقتصاد السوري ينفجر الآن تحت ضغوط العجز والفساد والعقوبات وفيروس كورونا. كما هي الحال، فإن الأسرة الحاكمة تتنازع على ما تبقّى من سورية. وقد أصبح عدم شرعية الأسد وعدم ملاءمته للحكم أمرًا واضحًا لجميع من هم خارج دائرة أقرب أقربائه، وربما بات ذلك واضحًا لأقربائه أيضًا.

تطرح الأحداث الأخيرة داخل سورية سؤالًا: هل يمكن للمعارضة السورية خارج سورية أن تلعب دورًا سياسيًا في البناء، إذا بدأ النظام التداعي أو الانهيار؟

ليس هذا بسبب توقع سقوط الأسد الوشيك. في الواقع، من المحتمل أن يحاول فاعلان مهمان بجد دعمه إلى أجل غير مسمى. لا تستطيع إيران تحمل خسارة تابع ثمين. أجل، هناك حديث بأن بعض المسؤولين الإيرانيين سئموا من مغامرات أجنبية باهظة الثمن، بالنظر إلى الضغوط المزدوجة للعقوبات الأميركية، وكوفيد 19. لكن فقدان الارتباط السوري العضوي بالوجود اللبناني للجمهورية الإسلامية (حزب الله) سيكون انتكاسة كبيرة الحجم. “من خسر لبنان؟” قد يكون تمرينًا مثيرًا للانقسام، ويوجه أصابع الاتهام إلى الطبقة السياسية في الجمهورية الإسلامية، طالما أن الملالي المسيسين والفاسدين، ومعركتهم الأمامية الناعمة، ووكلاءهم العنيفين يحكمون البلاد.

توصل عدد متزايد من المسؤولين والباحثين الروس إلى أن الأسد هو أسوأ عميل يمكن تخيّله. لكنهم يواجهون حقيقة أن المصالح السياسية الشخصية للرئيس فلاديمير بوتين في سورية تختلف على الأقل عن مصالح الأمن القومي للاتحاد الروسي. ستكون روسيا في وضع أفضل بكثير مع حكومة وحدة وطنية سورية تتجاوز شخصيات النظام، لكن بشراكة مستمرة مع الكرملين. ومع ذلك، لا يزال بوتين يرى أن الأسد هو “العيّنة أ” من أجل سياسته الداخلية المتمثلة في أنه أعاد موسكو شخصيًا إلى مصاف القوى العظمى. بعد احتجاج روسيا لسنوات، حول النزعات المزعومة لإدارة أوباما لتغيير النظام بالقوة؛ كيف يمكن أن يحاول بوتين الآن أن يخلع -وإن كان ذلك من أجل روسيا- الشخصيةَ التي يدّعي أنه أنقذها؟

مع ذلك، فإن الظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة في سورية، التي تفاقمت بسبب انقسامات النظام، بالكاد تشجع اليقين بشأن بقاء الأسد السياسي على المدى الطويل. لقد كانت قدرته على قيادة أجهزة عنف الدولة والإرهاب في سورية متجذرة دائمًا في الشرعية الفاسدة التي تمتع بها وورثها عن مؤسس النظام: حافظ الأسد. لطالما اعتبر المطلعون على النظام -حتى أولئك الذين يدركون تمام الإدراك حدود قيادته- أن إطاحة بشار الأسد يمكن أن تؤدي إلى عنف سياسي مجاني للجميع، وإعادة سورية إلى حقبة ما قبل 1970 من المؤامرات والانقلابات. ولكن ماذا لو كانت الأسرة الحاكمة نفسها هي مصدر عدم الاستقرار؟!

إن أي تحرك لإزاحة الأسد سيكون في الأساس عملًا من الداخل. لكن أولئك الذين سيستولون على السلطة لن يرثوا إرث الأسد. بل سيواجهون التحدي المتمثل في تعزيز مواقفهم على أساس مستدام، بعد مرور خمسين عامًا على “حركة الأسد التصحيحية”. تتمثل إحدى خيارات [الذي سيخلفون الأسد] في توسيع قاعدتهم السياسية، من خلال دعوة شخصيات معارضة من داخل سورية وخارجها؛ لمناقشة ترتيب قضايا الوحدة الوطنية. ولكن السؤال الذي يُطرح: هل المعارضة الخارجية مستعدة للعب دور بنّاء؟

منذ عام 2017، تعمل الهيئات الرئيسة لتلك المعارضة في الخارج: هيئة المفاوضات السورية (SNC) في الرياض؛ وائتلاف المعارضة السورية (SOC) الذي تأسس عام 2012 في إسطنبول. وإن ترتيبات المقرّ هذه تجعل عمل المعارضة الخارجية باستقلالية ووحدة، بالنيابة عن أكثر من عشرين مليون سوري داخل سورية وخارجها عانوا إجرام نظام الأسد كما عانوا مواقف الفاعلين الإقليميين الذين يسعون إلى تحقيق المصلحة الذاتية والطائفية، أمرًا صعبًا. وربّما يصبح الصعبُ “مستحيلًا”، إذا أخذ النظام بالانهيار.

تبقى تركيا حليفًا مهمًا لحلف شمال الأطلنطي للولايات المتحدة، وقد تم تبرير شكاوى أنقرة، حول فشل إدارة أوباما في السعي لاستراتيجية سورية مشتركة. كانت الأولوية الرئيسية للرئيس باراك أوباما هي الجمع بين منع المذبحة في سورية، وإزعاج إيران. ولم تفضِ استراتيجيته، التي تتميز بالصوت الدبلوماسي والغضب، إلى نتائج. حاولت إدارة ترامب جاهدةً، من خلال جهود فريق وزارة الخارجية الموهوب والسفير القدير، الوصولَ إلى الرجوع كما قبل مع أنقرة. إنه جهد صعب، ومع ذلك فقد حقق بعض المكاسب ويستحق الاستمرار فيه. وعلى الرغم من أن علاقة واشنطن الثنائية مع المملكة العربية السعودية تخضع للاختبار، من خلال ما يحدث اليوم مع القيادة في الرياض، فإنها بالتأكيد علاقة تستحق الحفاظ عليها. إلا أن العلاقة بين الرياض وأنقرة تشكل حالة عداء متبادل تعقّد الجهود الأميركية لتنسيق السياسة السورية.

بالنسبة إلى المعارضة الخارجية، تبقى الأسئلة: إذا انهار نظام الأسد؛ فهل ستضطر مكونات المعارضة الرئيسة إلى العمل كامتدادات للسياسات والأولويات السعودية والتركية؟! هل ستكون، الرياض وإسطنبول، قادرتين على خدمة مصالح وأولويات السوريين داخل سورية ومصالح اللاجئين السوريين؟ إذا خلُصت هيئة التفاوض السورية والائتلاف الوطني السوري إلى أنهما لا يستطيعان، في ظل الظروف الحالية، أن يكونا هيئات مستقلة مكرسة لخدمة السوريين؛ فإن خياراتهما واضحة: إما تحلّ نفسها، أو تنقل مقارّها، أو تقدّم دعوات للآخرين.

يمكن للسعودية وتركيا، بالطبع، أن تستبق هذه الخيارات الصعبة من خلال السماح للمعارضة بالعمل بحرية واسعة. هذا سيكون من غير المحتمل للغاية. سعت جميع القوى الإقليمية المعارضة للأسد إلى اتخاذ وكلاء متعاونين. لقد حاولوا إسقاط الأسد من أجل مصالحهم الخاصة، وليس من أجل السوريين الذين يسعون إلى إقامة نظام حكم متحضّر.

في الواقع، نادرًا ما ركزت الولايات المتحدة على مركز ثقل النزاع: المدنيين السوريين. فبدلًا من ذلك، اختارت عمليًا تجاهل القتل الجماعي للنظام، باستثناء بعض المرات من جانب إدارة ترامب، عندما قام النظام مرتين بارتكاب فظائع غاز السارين. كما رفضت واشنطن العمل مع المعارضة السورية، لإيجاد بديل لحكم الأسد في شمال شرق سورية. الدولة التي حررت أوروبا مرتين، وأشرفت على خطة مارشال، وانتصرت في الحرب الباردة، قررت ببساطة أن مساعدة السوريين، في بناء حكم شرعي، في المناطق المحررة من تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، شيءٌ بعيد المنال. والنتيجة هي أن المعارضة معظمها لا يزال في المنفى، ولا تزال الولايات المتحدة تعترف بمجرم حرب رئيسًا لسورية.

غالبًا ما كانت المعارضة الخارجية السورية منقسمة، ويعكس ذلك الانقسام إلى حد ما رغبات وإملاءات القوى الإقليمية التي توفر الملجأ والتمويل أو أحدهما. تضم كل من الهيئة العليا للتفاوض والائتلاف الوطني السوري بعض الموهوبين، من الوطنيين السوريين الذين يرون نظام الأسد والإسلاميين المتطرفين وجهين لعملة واحدة؛ عملة تشتري التقسيم الطائفي وغياب القانون. المعارضة الخارجية، على الرغم من كل الصعوبات التي واجهتها، لم تكن تستحق الاستهزاء الساذج عليها، من قبل الأجانب الذين يسعون إلى إخفاء إخفاقاتهم.

إذا بدأت الصفائح البنائية السياسية في التحوّل داخل سورية، فإن ساعة الاختبار تقترب من المعارضة الخارجية. وبقدر ما يجب أن تستمر المعارضة في العمل من المنفى، يجب ألا تفعل ذلك في الجوار السوري؛ إذا كانت ترغب في التصرف بشكل مستقل نيابة عن السوريين. إن القرب من سورية يبدو جذابًا من الناحية النظرية، لكنه في الواقع سامّ/ مؤذ، حيث ينتج عنه التبعية والتبعية المولودة من الأسر.

بالتأكيد، ستكون أوروبا الغربية موطنًا أفضل، مؤقتًا، للمعارضة الخارجية، من أي قوة إقليمية أخرى. هذا لا يعني أن أوروبا -أكثر من الولايات المتحدة- قد تصرفت بفاعلية لحماية السوريين، أو حماية جيران سورية، أو حتى حماية نفسها على مدى العقد الماضي. لكن الاتحاد الأوروبي أو العديد من أعضائه يمكن أن يقدموا للمعارضة شيئًا لا تستطيع القوى الإقليمية القيام به: الأماكن التي يخططون ويتداولون ويتصرفون فيها باسم السوريين بعيدًا من الضغوط الناشئة عن المصالح الضيقة. إذا بدأ النظام الذي دمّر سورية بالانهيار؛ فإن على المعارضة الخارجية أن تنتقل إلى الأماكن التي لديها فرصة للتأثير في التوجه السياسي السوري بشكل مستقل، لمصلحة السوريين.

العنوان الأصلي للمادة       Syrian opposition: Move, disband, or do the bidding of others

الكاتب   Frederic C. Hof*

المصدر   المجلس الأطلنطي 1 حزيران/ يونيو 2020

الرابط     https://www.atlanticcouncil.org/blogs/menasource/syrian-opposition-move-disband-or-do-the-bidding-of-others/

المترجم وحدة الترجمة- محمد شمدين

*زميل المدير السابق، مركز رفيق الحريري للشرق الأوسط المبعوث الأميركي السابق إلى سورية

مركز حرمون

——————————-

=======================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى