مراجعات كتب

إصلاحيون شوام ومستعمرون وسياسات ملوك: هل تحوّل الشيخ رشيد رضا إلى الوهابية؟/ محمد تركي الربيعو


في صبيحة عتبة أكتوبر/تشرين الأول 1918، كان لورانس العرب برفقة بعض دراويش فيصل، يلاحق بسيارته الرولس رايس العسكرية ما تبقى من جنود عثمانيين داخل مدينة دمشق. كانت قوات الفرسان الأسترالية قد سبقته في عبور أبواب المدينة أثناء ملاحقة الأتراك، بيد أن القائد الإنكليزي اللنبي أعطى أمراً لمعظم قواته بالتراجع ليدخل العرب المدينة أولاً. لم تستمر النشوة طويلاً، فالوضع الذي اعتقد البريطانيون لسنوات أنه أقرب للأحلام، ها هو يصبح حقيقة. وإزاء مطالبة فيصل بدمشق وسوريا التي وُعِد بها، وجد البريطانيون أنفسهم في حرج، كونهم قد وعدوا الفرنسيين بالاتفاق ذاته. في هذه الأثناء، كان لورنس مشغولاً بإدارة الأوضاع في المدينة التي كانت تعاني في ليلة سقوطها من انقطاع الكهرباء وارتفاع الأسعار، وتفشي الأمراض في المدينة، واستمرار نهب المحلات، بالإضافة إلى ظهور قيادة محلية تمثلّت بسعيد الجزائري، الذي عينه جمال باشا على المدينة، والذي كان يمثل بالنسبة للورنس شخصية مقبولة من الفرنسيين ومنافسة لفيصل. ولكن مجرد ما انتهى من هذه الترتيبات، غادر إلى لندن في 4 أكتوبر لمواصلة حملته وتأييده لتولي العرب الحكم في سوريا.

كان لورانس، كما يرى المؤرخ البريطاني جيمس بار، مؤمناً بضرورة إدارة هذه المنطقة من قبل العرب، انطلاقاً من الوعود التي أطلقتها حكومة بلاده لهم بعد أن ثاروا ضد العثمانيين، ولكرهه الشديد كذلك للفرنسيين، ولذلك بقي عازماً، كما يرى جيمس بار، على بذل كل ما في وسعه للحؤول دون تخلي بريطانيا عن واجباتها، ولتجاوز اتفاقية سايكس ـ بيكو. وحتى هذه اللحظة كان الأمريكيون، كما يشير لذلك جيمس بار أيضاً في كتابه «خط في الرمال»، صامتين، في حين كان الإنكليز والفرنسيون يتجادلون في ما بينهم.

بيد أن هذا السكوت لن يطول بعد تصريح الرئيس الأمريكي ويلسون قائلاً: «أحد المبادئ الرئيسية التي التزمتها الولايات المتحدة كانت موافقة الجهات المحكومة على حكامها»، لهذا السبب اقترح إرسال لجنة لاكتشاف رغبات «السكان في تلك المناطق»، أي رأي السوريين بفرنسا. تحمّس لورنس وفيصل لهذه الخطة؛ وبالفعل أرسلت أمريكا عالم اللاهوت هنري كينغ ورجل الأعمال تشارلز كراين. وفي هذه الأثناء عاد فيصل إلى المدينة، ليُنشِئ برلماناً، حمل اسم «المؤتمر العربي السوري». وقد كلّفه بصياغة دستور سوري قادر على تأمين الحماية للأقليات، ومقابلة اللجنة الأمريكية. سرعان ما سيتجاوز هذا المؤتمرُ هاتين المهمتين ليؤكّد نفسه كهيئة مستقلة بذاتها. في هذه الأثناء، وبينما كان المؤتمر يعمل على تحضير مطالبه، كان رشيد رضا يعود لعالم السياسة مرة أخرى بعد سنوات قضاها في المطالبة باللامركزية والإصلاحات أيام العثمانيين. ولن تكون هذه العودة ونتائجها اللاحقة حدثاً عابراً، إذ ستكون لها تداعيات على رؤية الرجل لاحقاً لعدد من القضايا، وعلى الاستراتيجيات الإصلاحية السلفية الشامية، وربما على الوعي الإسلامي وعلاقته بالحداثة إلى يومنا هذا.

شيخ إصلاحي ودستور علماني

ورغم اقتراح اللجنة الأمريكية أن تكون أمريكا هي الوصية على سوريا وفلسطين، انسحبت القوات البريطانية ووصل المفوض السامي غورور إلى بيروت عام 1919 للتفاوض مع فيصل، وتشريع السلطة الفرنسية على البلاد. وأمام هذا الواقع، لم يجد الأمير العربي أمامه سوى إبلاغ الفرنسيين أنه على استعداد لقبول عرض كليمنصو، القاضي بقبول فرنسا باستقلال سوريا مقابل الاعتراف بدورها اقتصادياً وعسكرياً، ظناً منه أنه بذلك يكسب وقتاً إضافياً للمناورة. وعاد بعدها إلى دمشق ليلتقي أعضاء المؤتمر العربي الذين اتّهموه بالخيانة. وتحت هذه الظروف، كان اللقاء الأول بينه وبين رضا، الذي بدا أكثر تعاطفاً مع الآراء المناوئة للاتفاق، كما ساعد على ثني فيصل عن العودة إلى فرنسا، ورفض السماح لغورو باستخدام سكة الحديد التي تربط دمشق بحلب. كما سارع، برفقة رضا وباقي القادة الوطنيين، إلى عقد المؤتمر الوطني، من أجل إعداد إعلان رسمي للاستقلال.

وفي يوم 8 مارس/آذار، وقف سكرتير المؤتمر عزت دروزة على شرفة بلدية مدينة دمشق ليعلن أن سوريا مستقلة، وأن فيصل ملكٌ عليها. وسرعان ما دفع هذا الإعلانُ الأمورَ للتأزم، وإلى إعلان فرنسا سوريا ولبنان مناطق واقعة تحت انتدابها. رفض الدمشقيون هذا الإعلان، فاندلعت مظاهرات أجبرت حكومة علي رضا الركابي على التنحي، وتولي هاشم أتاسي بديلاً عنه. بيد أن المفاجأة جاءت في تولّي رشيد رضا رئاسة المؤتمر. وتشير المؤرخة الأمريكية اليزابيث ف. تومبسون في دراستها الرائدة «رشيد رضا والدستور العربي السوري لعام 1920» إلى كون الأخير كرّس معظم جلسات المؤتمر لمناقشة الدستور؛ وعلى الرغم من وجود الخطر الفرنسي، إلا أن الملك المتوج حديثاً بدأ يغضب من مطالبه بوجود سلطة تشريعية موازية لسلطته، لذلك عندما اعترض على هذا الأمر انطلاقاً من فكرة أنه هو من أوجد هذا المؤتمر، جاء رد رضا «لا.. إن المؤتمر هو من أوجدك فجعلك المؤتمر ملكاً لسوريا». غير أن أكثر ما لفت نظر تومبسون في دراستها للدستور، هو أن بنوده التي بدت علمانية، حظيت بتشجيع وحماس واسع من قبل عالم إسلامي مثل رشيد رضا، لكونه آمن بأن الطريقة الوحيدة أمام السوريين لكسب السيادة لا تتم إلا من خلال تحقيق وحدة تشمل كل الطوائف، ما يحرم الأوروبيين من مبرراتهم الأساسية لفرض حكمهم الاستعماري، كما كان مقتنعاً بأن الالتزام الصارم بالنصوص يجب أن يمُارس فقط في الأمور الدينية. ولذلك من خلال تفضيله المصلحة العامة على النص، قدّم، وفقاً لتعبيرها، «تعريفاً ليبرالياً لدولة إسلامية في سوريا».

في هذه الأثناء، كان غورو ينتظر في بيروت لحظة الهجوم على دمشق. كان يرى نفسه محارباً صليبياً، يمشي على خطى الرهبان المحاربين الفرنسيين. إذ قرّر غورو من غرفة نومه غزو المدينة التي لم يتمكن أسلافه الصليبيون من الوصول إليها. وفي الرابع والعشرين من يوليو/ تموز سحق قوة عربية في ميسلون، ثم أمر بطرد فيصل من المدينة. لم يكن أمام رضا سوى الهروب إلى الصحراء الأردنية. وحاول هو وعدد من السوريين بعدها النشاط في جنيف، لكنهم فشلوا في إبطال الانتداب.

وما تتوصل إليه تومبسون في نهاية هذه المرحلة من تجربة رضا هو أن هذه الهزيمة أدت إلى ولادة شكوك لدى رضا بالنماذج الكونية للعدالة، كما أنها مهدت الطريق للشقاق بين الإسلاموية والليبرالية، الأهم أنها أبعدت رضا عن القيم الليبرالية ودفعته للسير في اتجاه النموذج الوهابي في عشرينيات القرن العشرين. وخلافاً لرؤية ألبرت حوراني الذي فسر فيها تعاطف رضا مع الوهابية، لكونه من سوريا، ما جعله متعاطفاً مع الحنابلة، حاولت المؤلفة ربط هذا الانزياح بسياسات الاستعمار؛ ربما جاء ذلك جراء تأثرها بالمقاربة ما بعد الكولونيالية، كما يشير لذلك عنوان كتابها الصادر عن جامعة كولومبيا «مواطنون مستعمرون: الأبوية، الحقوق الجمهورية، والجندر في سوريا ولبنان الفرنسيتين»، وهذا ما يعني أن الاستعمار هو من لعب دوراً في اتجاه الإصلاحية الإسلامية إلى الوهابية، ولاحقاً بروز إسلاموية أكثر تطرفاً؛ صحيح أنها تعترف في موقع آخر بأن رضا استحسن فكر الوهابية أثناء وجوده في دمشق، وخلافه مع الملك فيصل على الدستور، لأن الوهابية عارضت الهرمية العثمانية لصالح عقيدة أكثر شعبية، من خلال قراءة المسلمين العاديين للقرآن، وهو ما ناسب رضا لاعتقاده الشخصي بالسيادة الشعبية، بوصفها سلطة رقابية على سلطة الحاكم (الملك فيصل)، مع ذلك، يبدو أن المؤلفة بقيت بعيدة عن السياقات التاريخية والسياسات الدينية الجديدة التي أخذت تطفو آنذاك في مكة والمدينة، مع قدوم السعوديين والوهابيين، وهروب رضا من دمشق. كما أنها لا تدرس كيف نظر رضا وتلامذته لهذا التطور، وبالتالي تغيب هذه السياقات عن بال الباحثة هنا، التي ستكون أمام قراءة جديدة، تعيد قراءة الأحداث بشكل معكوس.

ترويض الوهابية:

حاول رضا مواجهة الانتداب الفرنسي عبر المؤسسات الدولية، في هذه الأثناء اقترح رضا على الشريف حسين بناء تحالف بين حكام شبه الجزيرة العربية، بيد أن الأخير رفض. وسرعان ما أخذ يندد بسياسات الشريف وعلاقته بالبريطانيين. وبحلول عام 1923 أخذ يدعو أمراء العرب إلى إنقاذ الحجاز. ووجد في الأمام يحيى في اليمن المرشح الأنسب للمهمة. وقد جاء إلغاء أتاتورك للخلافة في مارس/آذار 1924 واعلان الشريف حسين نفسه خليفة بعد يومين من هذا القرار، ليؤكد على غطرسة الأخير وفق رأي رضا. تزامنت هذه الأحداث مع هجوم عبد العزيز بعد بضعة أشهر. هنا وجد رضا في الأخير بطله وأمله لعودة المجد الإسلامي والسلطة السياسية في زمن الاستعمار. وكما أشرنا سابقاً، شكلّت النقطة الأخيرة (الاستعمار) ربما السياق الذي حاول فيه البعض تفسير سبب تبنّي رضا للأيديولوجية السعودية/الوهابية (الأكثر محافظة).

يرى هنري لوزيير في كتابه «صناعة السلفية»، أن السياق وحده (ربط الاستعمار بانزياح الإصلاحية الإسلامية إلى الوهابية) يبقى تفسيراً غير كاف وغير مرض. صحيح أن رضا أيّد عبد العزيز بلا كلل وبرر قراراته، إلا أن هذه النوايا لم تكن كافية ليقترب رضا أكثر من الوهابية، ويلعب دوراً في ما سماه ديفيد كومينز بـ«ترويض الحماس الوهابي» لولا السياسات الدينية التي اتبعها عبد العزيز في مكة والمدينة، والتي كان رضا جزءاً منها، ولاحقاً تلامذته الذين قدموا للحجاز من أمثال محمد بهجت البيطار زميل الإصلاحي الدمشقي جمال الدين القاسمي. ومحمد حامد الفقي، وعبد الظاهر أبو السمح، وما يلفت النظر أيضاً هو أن حسن البنا كان يأمل في تلك الفترة الحصول على وظيفة للتدريس في الحجاز في أواخر العشرينيات. وقد لعبت هذه السياسات الدينية، كما نعتقد، دوراً أوسع أو أكثر تأثيراً من السياق الاستعماري (الذي اعتبره البعض تفسيراً استثنائياً) في إفساح المجال لتلاقي الإصلاحيين والوهابية وتحول بعضهم لاحقاً إلى السلفية الوهابية.

جاء تعيين تلاميذ رضا الأجانب مفيداً من الناحية السياسة للسلطات السعودية؛ لأنه جنّب، كما يرى لوزيير، عبد العزيز النزاعات الداخلية وساعده على تجاوز المنافسة بين الحجازيين والنجديين على المناصب. وكذلك فإن شرعية السعوديين لم تكن قد ترسّخت بعد في الحجاز، ولذلك عين الملك ومستشاريه إماماً مصرياً مثل أبي السمح، إذ لم يكن لينظر إليه على أنه من محدثي النعمة الوهابيين، ولا كان سيؤدي إلى إشاعة عدم الثقة بين المكيين، وكذلك الحجاج الذين أبدوا استياءهم من سيطرة الوهابيين على المدن المقدسة. كما عملت مجموعة رضا كوسطاء للتغيير بين السكان والدولة السعودية. ففي المدينة مثلاً؛ كانت هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ترفع تقاريرها إلى الهلالي وحمزة الذي كان ينصح الأمير في ما بعد بكيفية التصرف.

إلا أن ما يلفت نظر لوزيير هنا، أن تقارير وتوصيات هذه المجموعة كانت حذرة ومدركة لمسألة التغلب على الوهابيين، بدون إثارة غضبهم. فمثلاً، نجد الفقي يكتب عددا من المقالات يركز فيها على قبول العلم والتكنولوجيا الحديثة، مع ذلك حاول تبديد شكوك قرائه، من خلال القول بأن هذه الإنجازات العلمية نشأت تاريخياً في العالم الإسلامي، ولذلك لا يمكن اعتبارها من البدع الغربية؟ ومن ثم فإن الطائرات والدبابات والغواصات، وكذلك الأجهزة الميكانيكية والكهربائية، كل ذلك مقبول تماماً لأن العلماء المسلمين في القرون الوسطى هم الذين طوروا العلم الكامن وراءها.

صحيح أن هذا السعي لكسب ثقة علماء الوهابية، جاء في سياق طمأنتهم، وربما أيضاً ضمن قناعة لدى رضا بأنه قد تثمر في النهاية وتتغلب على تصلبهم لصالح رؤية أكثر اعتدالاً، مع ذلك يبدو أنها جاءت أحياناً على حساب بعض القيم والمثل العليا للإصلاحيين. لا يعني هذا، وفقاً للوزيير، أن رضا قد نبذ حداثة ما قبل 1920، فقبل وفاته بسنتين ألف كتاب «الوحي المحمدي»، الذي أعاد فيه التأكيد على التزامه بنوع تقدمي من الإصلاح الاجتماعي السياسي والديني مناسب للحداثة، مع ذلك فقد كان يعتبر بلا شك أن تعزيز سلطة الدولة السعودية واستقلالها أكثر أهمية لمصلحة الأمة من الترويج لبعض المبادئ الحداثية. الأهم من ذلك، هو أن سماحه لتلاميذه بأن يتأثروا بالأفكار الوهابية، أدى لنتائج عكسية على المدى البعيد، إذ أصبحوا أكثر وفاء للدولة السعودية، كما أن بعضهم تجاهل لاحقاً الجزء الحداثي من معادلة رضا، ليركز فحسب على النقاء الديني؛ هذه النتيجة التي وصل إليها تلامذته ربما كانت هي السبب في القول لاحقاً بأن رضا تحول للوهابية، بينما هو بقي أكثر إخلاصاً وحنيناً لإصلاحيته التقليدية.

٭ كاتب من سوريا القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى