وجها لوجه

سنا يازجي: إبداعات الثورة السورية تُسقط الاستبداد السَّردي

 رشا الأطرش

سنا يازجي لـ”المدن”:إبداعات الثورة السورية تُسقط الاستبداد السَّردي رئيسة تحرير “الذاكرة الإبداعية للثورة السورية”: تحرُّر رواية الحاضر، شرّع أبواب الماضي الممنوع (تصوير: باسكال بونيير)

أسئلة كثيرة تغزل في الذهن، والعاطفة أيضاً، لدى الإبحار في الموقع الإلكتروني لـ”الذاكرة الإبداعية للثورة السورية”، الذي انطلقت به المصممة الغرافيكية السورية سنا يازجي قبل نحو سبعة أعوام، وينكب فريق عمله على توثيق وأرشفة كل ما أفرزته الثورة من لافتات وصور ورسوم كاريكاتور وموسيقى وغرافيتي ومختلف الأعمال الفنية والإبداعية، إضافة إلى الوثائق ومقاطع الفيديو. فإلى جانب التقدير الكبير الذي لا بد للمتلقي أن يشعر به إزاء عمل تفصيلي وجبار من هذا النوع، لا سيما في خضم الفوضى العارمة وتفرّع الإنتاجات في شبكة الانترنت وخارجها، تحضر إشكاليات عديدة، وتحديداً لدى قراءة البيانات التعريفية ببعض المشاريع، والتي تُقترح فيها “قراءة موازية للأرشيف”. فما هي هذه القراءة؟ وكيف تُجرى؟ وأكثر: هل يمكن لعمل توثيقي من هذا النوع، يضع كل هذه الإنتاجات والمواقف المعبّر عنها بالإبداع في مكان واحد واضح ومبوَّب، صناعة رأي عام، على غرار المهمة التي يعتبر كثيرون أنها منوطة مثلاً بالصحافة الاستقصائية؟

وقبل الاسترسال في المزيد من التساؤلات الإشكالية، تأتينا إجابة عملية: تبرز محطتان ملفتتان للانتباه، ضمن خامس مشاريع “الذاكرة الإبداعية للثورة السورية”، والذي أُطلق، قبل نحو أسبوعين، تحت عنوان “رسم الثورة والحرب السورية بصريّاً” لتقديم “التسلسل الزمني للثورة والحرب السورية”.

المحطة الأولى تتعلق بالهتّاف/المغنّي الذي عُرف في بدايات الثورة بإسم ابراهيم القاشوش وبأغنية “يللا ارحل يا بشار”. إذ تُبيّن الوثائق والمواد الصحافية الرصينة المُجمَّعة، أرجحية ألا يكون “بلبل الثورة” هو الذي قُتل وانتُزعت حنجرته، كما اقترح الفيديو الذي انتشر بكثافة (4 تموز 2011)، بل أن المغني ما زال حياً، إسمه عبد الرحمن فرهود، ويعيش الآن في بلد أوروبي. أما القاشوش الحقيقي فهو “مواطن عادي، موظف في دائرة حكومية، قُتل على أيدي مجموعة من المعارضة للاشتباه بأنه مُخبر للنظام”. وهذا ما يطرح السؤال: لماذا “تواطأ” كل من النظام والمعارضة على تبنّي “رواية” مقتل المغني، من دون أن يظهر أخذ وردّ بشأن هوية القتيل؟ وكم حادثة مثل هذه يتم تداولها على أنها حقيقة مكرسة لمجرد أنها انتشرت وعُمِّمت؟

والمحطة الثانية اللافتة في المشروع الخامس، تتعلق بـ”حادثة/مجزرة جسر الشغور” (4 حزيران 2011)، والتي تضاربت الروايات حولها بين “عصابات مسلحة قتلت 120 رجل أمن” في البلدة القريبة من الحدود مع تركيا، وبين أن مَن قتلهم هو “النظام السوري، رمياً بالرصاص لأنهم رفضوا، كما يقول نشطاء ومتظاهرون، إطلاق الرصاص على المحتجين العزّل من السلاح”. ولعل هذه واحدة من أبرز الأحداث في الثورة السورية التي مُنيت باللغط، والتي أفضت إلى أوائل موجات النزوح الكبيرة إلى تركيا، لكن حقائقها ما زالت مغمورة بالمقولات بدلاً من البراهين. وهذه مهمة مستحقة لا بدّ ستلقى من يضطلع بها يوماً، إذ أن إثباتها يقول الكثير، ليس فقط في التاريخ، بل كذلك في السياسة والاجتماع وجدليات العدالة لسوريا ما بعد الثورة والحرب.

والحال إن الإشكاليات المطروحة في موضوع الذاكرة والإبداع، غنية ومتنوعة، غنى وتنوع الموضوع نفسه، ولهذا هو موضوع ممتع وضروري ومُجدٍ. ونضيف إلى ما سبق منها: هل يمكن القول إن أرشفة الإبداع والإنتاجات الثقافية هي عمل ثقافي في حد ذاته؟ وإذا انطلقنا من مقولة أن “كل إظهار هو حجب”، ومن اشتغال المنظّر جاك دريدا على الأرشيف و”عنفه” اتجاه ما يبقى خارجه، فما الذي يحجبه موقع creativememory.org؟ وكيف يختار داخله وخارجه؟

هنا حوار “المدن” مع مسؤولة مشروع “الذاكرة الإبداعية للثورة السورية” ورئيسة تحرير موقعه الإلكتروني ، سنا يازجي:

* في البيان الصحافي لمشروع “التسلسل الزمني لثورة”، تَرِد عبارة عن مقاومة احتلال نظام الأسد للرواية، وتَرِد أيضاً عبارة القراءة المختلفة للأرشيف؟ كيف يمكن ذلك؟ وهل نجحتم فيه؟

– بالنسبة إلى القراءة المختلفة للأرشيف، فهي تعني في هذا المشروع الجديد، الإضاءة المختصرة على آلاف المواد والوثائق الموجودة لدينا حول موضوع الإبداع في الثورة عن طريق عرض مصور ومكثّف لتسلسل الأحداث اعتماداً على هذه الوثائق. في حين قد يحتاج المتخصص وغير المتخصص، ساعات طويلة لتقليب الأرشيف والبحث في مواضيعه وأزمنته المختلفة.

إنتاج السردية ومراجعتها، من دون حجب ما كان خلافياً فيها، والإقرار بهشاشة المصادر حيناً، وتضارب السِّير حيناً آخر… لا يجب أن يمنعنا من مواصلة العمل.

إن عَلمنا أن بثينة شعبان أطلقت ما يسمى بـ”وثيقة وطن” والتي تعرّف عن نفسها كمؤسسة غير حكومية، تهتم بالتأريخ الشفوي وتوثق “الذاكرة الوطنية”، الخ.. تأكَّد لنا ما كنا نهجس به منذ بدأنا عملنا، وهو مقاومة احتلال الرواية، ونعتقد أننا ننجح في ذلك ولنا أثر، ونستدلّ بأننا معروفون ونلقى صدى، في الأوساط السورية، وفي الأوساط الجامعية والبحثية والأكاديمية، كما في أوساط الفن والأرشيف والمتاحف. تنقلنا في مهرجانات عديدة ومهمة، في فرنسا بشكل خاص، لكن أيضاً في بروكسل ولندن ومانشستر وسويسرا وكوريا الجنوبية، وجامعة “ديوك” الأميركية. يراسلنا باحثون ومتخصصون من أوروبا، من الهند، كندا، أميركا… وصلتنا مؤخراً رسالة يقول صاحبها أنه يفكر بإطلاق “الذاكرة الإبداعية لفنزويلا”.

* هل يصنع عملكم رأياً عاماً؟ بل هل تطمحون لصناعة رأي عام مغاير، ربما باختراق المقلب الآخر غير المعارِض للنظام؟ أم ما زال هو التبشير بين مؤمنين، كما يشكو صحافيون ومثقفون؟

– هذا سؤال نطرحه على أنفسنا دائماً. هل يجب أن نمتلك ماكينة إعلامية تنظّر لعملنا وترصد أثره، وتؤثر في الرأي العام؟ نعاني، بلا شك، غيابَ تمثيل إعلامي جامع لنا، كفاعلين ومتدخلين في الشأن السياسي من طريق عملنا في الثقافة والفن والمجتمع، تماماً كما عانَينا ونعاني أزمةَ التمثيل السياسي. لدى الكثير من السوريين وعي بأهمية وقوة وتأثير التمثيل على الأصعدة كافة.

صحيح ان المشهد ملبّد، لكني أعتقد أننا، وكغيرنا من مئات المبادرات والمشاريع والإنتاجات السورية الصلبة والدؤوبة، في مجالات عديدة، استطعنا، كالنجوم خلف الغيوم – وبالإذن من ميخائيل نعيمة – خرق الرواية السائدة والحفاظ على مستوى من الحضور، قطَعَ الطريق على أحادية السردية وهيمنتها على أكثر من مستوى.

أما عن اختراق المقلب الثاني، فمثلاً، علِمنا منذ مدة أن أحد أساتذة كلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق اعتبر ان الموقع يجب أن يُفتح للطلاب، حتى يتمكنوا من معرفة كيف عبَّر الفن، بشكل خاص، عن الواقع، وما كان دوره وتأثيره في الفنان وفي المجتمع. فهل نستطيع أن نعتبر ذلك خرقاً؟ إن استثنينا مَن هم من جِلدة النظام، فهدفنا هو أن نصل الى كل السوريين، وأن نصون حق المعرفة، وأن نبقي عيناً متبصرة على الأجيال القادمة، مقدمين كل شيء في سياقه بأكثر دقة ومصداقية ممكنة. فلا شيء هبط علينا فجأة من السماء أو نبز من الأرض على غفلة.

* ماذا عن جزء من المعارضة يُعتبر متورطاً في جرائم حرب؟ أو الجزء المتطرف دينياً؟ هل هناك إنتاج “إبداعي” لهؤلاء؟

– لا نستثني من أرشيفنا أياً من التعبيرات الإبداعية عن كل مراحل الثورة والحرب، والعسكرة، والأسلمة والانتهاكات، كائناً مَن كان مرتكبها. فها هنا غرافيتي من دوما يقول: “الحرامي حرامي.. إن كان حرّ ولا نظامي”. وهناك من سراقب حملة تحت عنوان “عبّر عن رأيك”، ضد تدخل الفصائل الإسلامية في حياة الناس وعاداتهم ولباسهم وشكلهم. أمّا معايير انتقاء الأعمال، فأساسها كل ما يعبّر عن قيم الثورة والإيمان بالحياة العادلة للسوريين جميعاً ومقاومة الاستبداد بأنواعه كافة.

* ماذا إلى جانب مكافحة النسيان وإعادة امتلاك السردية؟

– لا أفضل صيغة “مكافحة النسيان”، حتى لا يُفهم بأننا نصادر حق النسيان لمن شاء. الحفظ من الضياع والتشرذم، بناء ذاكرة سوريا والسوريين بحرية ومن دون إكراه، تلك هي المهمة الشاقة جداً مهنياً، والمؤلمة جداً للاشخاص المشتغلين عليها، وهنا تحيّة ‪كبيرة لأمل إلياس ورنا متري وندى مهنّا، ولكل من عمل في هذا المشروع وأعطاه معنىً. ما انتدبنا أنفسنا له منذ العام 2012، يحتم علينا فعل التذكر وواجب التفكّر في هذا التذكّر.. حدوده وتشعباته وارتباطه بالعفو وتحقيق العدالة وبناء علاقات المجتمع الجديد الذي نعمل لأجله.                                                                                                            

اعتَقت الثورة الكلام، وأحدث ذلك تغيراً اجتماعياً هائلاً، نراه في بيئة النظام نفسه، وأجزمُ بأنه تغيّر لا رجعة عنه. ومع تحرر رواية الحاضر، شُرّعت أبواب الماضي الممنوع، وتدفقت روايات عن حياة ما قبل زمن الثورة، وهو ما لحظناه غزيراً وجديداً ومدهشاً في الفترة الأخيرة. يلزمنا ذاكرة… للنسيان على حد قول محمود درويش.

* هل ما زال الإنتاج الإبداعي للثورة مستمراً؟ وبأي وتيرة؟

– الإنتاج الإبداعي ارتبط عضوياً ومباشرة مع الأحداث، ووتيرتها ونوعها. الضربة القاضية كانت مع الهجوم الكيماوي على الغوطة في آب 2013. قبلها، كان الإنتاج غزيراً جداً، بالكاد تمكنّا من ملاحقته. صارت وتيرة الإنتاج، بعدها، تعلو وتهبط، وفقاً لأحداث معينة: أسلمة فصائل الجيش الحر، مؤتمرات جنيف، اللجوء، داعش،..الخ صارت هناك مواضيع، أو قولي حياة داخل الثورة، ضد الاستبداد، استبداد النظام وغيره من القوى على الأرض. صار هناك إبداع ناقد للمعارضة وهيئاتها السياسية، كمُطالبات الدفاع المدني للحكومة المؤقتة (المعارضة)، بحقوقهم ومواردهم مثلاً. مرة أخرى، أجزم أن الثورة غيّرت الكثير، يرى ذلك ويفنده ويبني عليه، مَن تسمح له ظروفه بالتمرّن على أخد المسافة اللازمة والنظر والاستخلاص.

* هل أرشفة العمل الثقافي هو إنتاج ثقافي بحد ذاته؟

– نعم أعتقد ذلك، ونعتبر مشروعنا فعلاً ونتاجاً ثقافيا في آن. فقد طلعت الثقافة هي أيضاً من البيت الضيق النخبوي ومجال “الفاعليات والأنشطة” محدود الفعاليّة، نحو الحيز العام، بقوة وغزارة تعكسان علاقة السوريين، الجديدة، بمحيطهم. لم يسبق للعمل الثقافي أن امتلك هذه المكانة والمساحة من الفعل والتأثير وانتشار الأفكار وحامليها، كما حدث منذ لحظة الثورة، وصولاً إلى الشتات. أدت الثقافة دوراً تمثيلياً بارزاً، وهذا بالضبط ما جلب على أصحابها النقمة، وصولاً الى التهديد، الاعتقال والقتل تحت التعذيب، والأمثلة كثيرة.

* ماذا عن إشكالية الثقافة التفردية لدى السوريين عموماً، والناشطين والمبدعين والمثقفين خصوصاً؟

– السوشال ميديا والساحات الافتراضية أصبحت مكاننا السوري الافتراضي الذي حل مكان العالم الواقعي الممنوع والمقتول. أدت أدواراً واضحة، وسهل قياس أثرها في مكان وزمن ما… وما زالت تؤدي دوراً، خصوصاً في واقع الشتات الكبير اليوم. لكن ما حدود هذا الدور واستمرارية فعاليته؟ وهل تمكنا وجدّدنا على الدوام أدوات استثمارنا لهذه الساحة؟ لا أعلم… هل كمية “اللايك” والمشاركة والتواجد المحموم في الصفحات كلها، وطوال الوقت، تُعتبر مدخلاً ومقياساً فعلياً للأثر مثلاً؟ ظاهرة لا شك في أنها تستحق البحث والتقييم بكل تفاصيلها. هناك غياب واضح لتضافر الجهود، فهل المانع فضاءٌ من الشِّللية والمنافسة والشهرة، مغلق وقليل الفعالية، على ما يردد الكثير من السوريين؟ أم أنه أحد ملامح الشتات السوري؟ أم شيء من خوف وتوجس السوريين من بعضهم البعض، أنتجته في ما أنتجته تجارب منظمات الـNGO والتي تركت بصمات من عدم الثقة والاحتقان؟                                                                       

* كل إظهار هو حجب. فما الذي يحجبه أرشيفكم؟ ما الذي يبقى خارجه؟ وهل يمكن الحديث عن إيديولوجيا لأرشيفكم، مُقابلة لإيديولوجيا النظام.. وربما أيضاً لجزء من المعارضة التي لا تتفق “قيمها” مع القيم التي تستقون منها معاييركم؟

– هذا سؤال مهم، طرحته عليّ أيضاً، بحدة، مؤرشفة أميركية خلال ورشة عمل، قائلة: ماذا يترك ولمن يُترك ما لا يؤرشف؟ ثم أعقبت، بلطف، أنها لا تنتظر إجابة حاسمة، لأن مثل هذه الأسئلة ما زال مفتوحاً إلى اليوم، وهذا ما يسرنا في مكان ما حين نرى أننا مواكبون بعملنا وهواجسنا. ولقد ذهب السؤال أبعد مما توقعنا، حين طُرحت مؤخراً فكرة “عنف الأرشيف” مؤرخة فرنسية خلال مؤتمر مهم عن الأرشيف دُعينا إليه من قبل MUCEM (متحف حضارات أوروبا والبحر المتوسط المشهور، في مدينة مارسيليا)، وقد أرادت بذلك “عنف الانتقاء”!

وأجابت على جزء آخر من السؤال، مسؤولة الأرشيف في المكتبة الوطنية العامة، BNF إحدى أهم المؤسسات العامة والمرموقة في فرنسا، قائلة: لا يمكن أرشفة كل شيء، هذا وَهم. لكل جهة محدوديتها في الموارد والاستطاعة، فلتعمل بجد وجدية وفق حدودها. سعيدون جداً بأننا نعمل اليوم مع هاتين الجهتين من قرب، وكلاهما تنظر إلينا باحترام وتحيّة.

أما عن كلمة الإيديولوجيا، فالردّ يستوجب تمرّساً في السياسة والثقافة. لكن عندي بعضاً من جواب، وهو أنه غالباً ما يتم الضرب بهذه الكلمة عن خبث لتقليل وإضعاف معنى جهود واضحة الهوية والهدف. الثورة ليست إيديولوجيا، إنها أحد أفعال مشروع تغيير الواقع السياسي، القديم والمستمر، والذي حمله من قبلنا، خلف الأبواب الصامتة وفي غياهب السجون، على مدى خمسين عاماً، أهلُنا وجيرانُنا وناسُنا الطيبون الأقوياء. حفظ الذاكرة، الحاضرة والماضية، ليس إيديولوجيا، إنما ذهب الأيام المقبلة.

المدن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى