الناس

طبقات غزو نظام الأسد/ مصلح مصلح

حزمة الإجراءات العقابية (المصادرة، الملاحقة القضائية، التشهير)، التي قرر رئيس النظام السوري اتخاذها ضد مجموعة من كبار رجال أعماله (رامي مخلوف، قاطرجي، الفوز، السواح)، ثم إعلانه المفاجئ عن إطلاق حملة مطاردة موازية، تتمثل بمكافحة الفساد في زواريب نظامه الحكومي، وعد رئيس وزرائه، عماد خميس، أن تطال جميع المؤسسات الحكومية بعد أن تم إفتتاح حفلتها الدعائية في وزارتي التربية والمواصلات، تبدو كما لوكانت استجابة لنداء الاستغاثة الذي سبق أن أطلقه مجموعة من فناني النظام، في معرض مناشدتم لرئيسهم  بالاقتصاص من تجار أزمة البرد والعتمة (الوقود ـ الكهرباء)، الذين أفسدوا عليهم فرحتهم بالنصر المؤزر على الإرهاب والإرهابيين، إلا أنها في العمق لا تتعدى مهمة تلميع النظام شعبيًا وتأكيد ثقته اليقينية بقدرته على تجاوز جميع الأزمات التي تعصف به.

في بحثنا عن الأسباب العميقة التي تجعل من الفساد الحكومي (نهب المال العام، الإثراء غير المشروع عبر استغلال سلطة الوظيفة الحكومية)، صفة جوهرية من صفات النظام الحكومي الأسدي، لا نجده في ضعف الأجهزة الرقابية الحكومية (الجهاز المركزي للرقابة المالية والهيئة العامة للرقابة و التفتيش) التي تعجز عن الكشف عن كم التجاوزات الهائلة التي يحفل بها النظام الإداري، بل في طبيعة النظام السياسي الأسدي نفسه القائم على معادلة ” التمتع بمغانم السطة مقابل الموالاة المطلقة لها”. وفق تلك المعادلة لا يبدو النظام أكثر من جهاز غزو منظم يقوم بتحصيل الأتاوات والغنائم من المقهورين ليتم توزيعها على أنصار سلطته (الجيش ،أجهزة الأمن، الموظفين الحكوميين، موظفي الدعاية الحزبية) الذين يتولون مهمة تثبيت أركان سلطته في الفضاء العام.

يكاد لايبالغ المرء بالقول بأن نجاح حافظ الأسد في الحفاظ على سلطته التي ظفر بها بالانقلاب العسكري عام 1970، لا يعود في جزء كبير منه لسياسة المراقبة والعقاب التي اتبعها ضد كل من قد يشكل تهديدا لسلطته المطلقة وحسب، بل يعود في جزء منها لإدارته الناجحة في توزيع تلك الغنائم على الأشخاص الذين شاركوه غزوة الحركة التصحيحية تلك، التي صار بموجبها رئيسًا مطلق الصلاحيات. ففي الوقائع كان الأسد أول من إبتدع فكرة تخصيص جزء من موارد القطعات العسكرية لصالح قادتها، كما تعمده سياسة غض النظر عن توظيف تلك الموارد أو جزءا منها لصالح إستخداماتهم الشخصية، كأن يتم توظيف جزء من حديد البناء المخصص للإنشاءات العسكرية لصالح منازل الضباط أو مزارعهم المخصصة للترفيه والتنعم بالثروة المحدثة، هذا ناهيك عن تشريعه الخفي لسياسة حصول ضباطه على الرشوة المعلنة أو المقنعة من جيوب مجنديهم أو توظيفهم في نظام سخرة موجه لمنافعهم الشخصية.

إن كان النظام السياسي في دولة الأسد قد صمم على طريقة نظام الغزو الذي يقوم بمهمة النهب الدائم لموارد البلد ومن ثم القيام بتوزيعها على شركائه في السطة كل حسب مساهمته ومقدار شأنه في هرمية النظام السلطوي، فما السبب الذي يدعو الرئيس للقيام بين الفينة والأخرى بحملات تطهير ضد أنصاره الذين سبق له أن شرع لهم الحصول على حصة من غنائم دولته الريعية؟

في الواقع تبدوعلاقة الأسد مع الفساد علاقة دنكشوتية لا سبيل للتغلب عليها أبدًا مهما بلغ من الحصافة والفهم والعزم، ذلك أنه كلما أزاح فاسدًا حل محله من جديد فاسدًا آخر أكثرمنه نهمًا وجشعًا ودهاءا، وكلما نوى على اجتثاث الفساد من جذوره وجد نفسه وجه لوجه أمام حقيقة هدم الأسس الموضوعية التي تنبي عليها سلطته الاستبدادية القائمة على مبدأ المشاركة بالنهب مقابل المشاركة بحماية تلك السلطة من الانهيار، الأمر الذي يجعل من حملات الأسد في مكافحة الفساد عملًا فنيًا محضًا يختص بتحديد مقدار الفساد أو الغنيمة المسموح بها على نحو لا يتجاوز مساهمة تلك الجهة في الحماية المقدمة منها، وإلا ناله العقاب الرئاسي على نحو مشين.

في الممارسة المتعينة تميز السلطة الرئاسية بين نوعين من الفساد، واحد يتم على حساب الميزانية العامة لدولة الأسد وواحد يتم على حساب الناس المستعبدين في دولته، الأول مذموم ومراقب ومحدد بنسب وقواعد، لانه بشكل أو بآخر يعتبرعدوانا على المالية العامة لآل الأسد المالك الفعلي لكل ما يوجد في سوريا، والآخر محمود ومقبول ومرضي عنه كونه يمول على حساب نوعية الخدمة أو السلعة المقدمة للجمهور، كما في عقود لجان الشراء التي تعرف بعقود ال10 بالمئة التي تبدو كما لو كانت تمول من جيوب المقاولين فيما هي في الحقيقة تمول من جيوب الناس العاديين، فأن تكون نوعية الرخام المقدم من قبل إحدى الجهات المقاولة بجودة اقل من المتفق عليه أو سيء أو سيء جدًا أمر يمكن تفهمه والتسامح معه كونه لا يعد مسًا مباشرًا بمال بيت الأسد، بقدر ما هو تقديم خدمة سيئة لرعاياه الذي يجب عليهم القبول بما تجود به مكرماته عليهم.

تمثل حملات الفساد التي تنفذها السطلة الأسدية ضد أنصارها خطة محكمة لتعزيز صورة رئيسها كشخص منقذ، زاهد بمنافع السلطة و مغانمها، مع أنه يحوز على حصة الأسد فيها، نقي القلب و السريرة، أمل كل مظلوم ومحتاج، مع أنه يترك أنصاره يعيشون تحت خط الفقر، محل ثقة كل صاحب حاجة ومتزلف للسطة بقصد طلب الحماية منه او مشاركته بما حصل عليه من ثروة غير شرعية في غفلة منه، مع أن لاصاحب له و لا صديق سوى من يخدم مصالحه، الأمر الذي نرى تجليه الفعلي في الفيديو الذي تم بثه قبل أيام من قبل بائع أو مهرب القطع الأثرية المدعو، شادي عاصي، من مدينة مصياف، الذي ناشد فيه معالي سيادته بالتفضل بشرف مقابلته شخصيًا، ليقوم بتسليمه مجموعة من القطع الأثرية المهربة التي سبق له أن اشتراها كما يبدو من بعض ضباط النظام الذين سبق لهم أن نقبوا عليها في مدينة تدمر الأثرية، وما كل ذلك سوى أنه لا يثق بأحد من حاشية الرئيس غير سيادته المنزه عن اللصوصية والجشع التي صارت قيمة القيم في المجتمع السوري الذي يرعاه الأسد بعطفه!

إذا كان للمرء أن يتفهم غضبة الرئيس على المفسدين أو اللصوص الذي يتجاوزون الحد المخصص لهم في عملية النهب، فإنه يتساءل عن سر كل هذا السعارالرئاسي على بعض رجال الأعمال الذين دخلوا في خدمته منذ اللحظة الأولى لتربعه على عرش السلطة كرامي مخلوف، أو أولئك الذين دخلوا في سلك خدمته أثناء فترة حربه على السوريين كأمثال سامر الفوز ومحمد قاطرجي، إلى الدرجة التي وصلت به لفبركة أغنية شعبية بإخراج مخابراتي تنهض على فكرة المطالبة الشعبية بخسف الأرض بهم، جراء الفعل الذي أرتكبوه، فما هو حقًا ذلك الفعل الذي ارتكبوه هؤلاء المقاولين الماليين لينالوا كل هذا السخط الرئاسي ؟.

لا يخرج مرجل الغضب المتصاعد الذي يجول في صدر بشار الأسد على وكلائه الماليين، الذين خصهم بإدارة حصته المالية من أموال النهب، عن إحباطه الشديد من خيانتهم للثقة التي منحها إياها في إدارة تلك الأموال، التي بدل أن يحرصوا عليها ويكثروها من حيث كونهم مأتمنين عليها، لجؤوا إلى مشاركته بها وبأرباحها من جهة و إلى محاولة سرقتها من ناحية أخرى، عن طريق التعلل بعدم وجود السيولة المالية لتحويل ما يطلبه منهم لتدبر شؤون حكمه الغارق بتكاليف الحرب والحصار.

في معركته ضد رامي مخلوف ومن في حكمه يحرص الأسد أشد الحرص على تمويه غضبه من أناس خانوا ثقته المباشرة بإدارة أمواله الشخصية ليبدو كنوع من الغضب الموجه ضد أناس خانوا ثقة الشعب بإدارة أموالهم المأتمنين عليها، لذلك نراه يسارع لافتعال حملة مكافحة الفساد ليغطي على أزمته الحقيقية الكامنة في ضياع جزء من ماله الخاص الذي خبأه واستثمره لمثل هذه الظروف العصيبة، ربما لاعتقاد عميق في داخله بأن بيت مال السلطة الخالي من الغنائم والأموال القابلة للتوزيع هي سلطة هشة يسهل الانقلاب عليها وإدارة الظهرعليها في أي وقت وحين، لذا لا عجب أن نراه مستشيطا في غضبه على كل شخص يعتقد أنه استفاد من سلطته ويرغب الآن بتركه وحيدا في محنته المالية، ولا عجب أن تصل رسائل الخوف والوعيد والتهديد لكل من يهمه الأمر من كبار وصغار التجار ورجال الأعمال والصناعيين الذين تفتقت ذهنيتهم الكلبية عن فتح حسابات لهم في الدولار في بنوك دولته مع قبول استردادهم لها باليرة السورية أو حتى التخلي عنها للأبد.

في محنته المالية اليوم لا يوجد لدى النظام الأسدي من أدوات حقيقية للحصول على بعض المال الذي يحتاجه لمواصلة حربه ضد السوريين، سوى التلويح بالمصادرة أو التخويف بها ضد كل شخص استفاد من النظام وتنكر له، إلا أنه لا يعي أن مصادرة الأصول والأموال على الطريقة الأسدية، يشبه إلى حد بعيد طريقة المتوحشين بقطع الشجرة من أجل الحصول على ثمارها، أي تدمير كل فرصة مستقبلية له بمصادرة أموال جديدة لقيامه بتدمير الأصول المالية أو الاقتصادية التي تأتي منها، فإذا ما تم تدمير ومصادرة الأموال الأجنبية بأيدي التجار والصناعيين فمن أين سيحصلون عليها من جديد في ظل اقتصاد ضعيف غير قادر على التصدير؟ وفي ظل وضع لا يمكن فيه تصدير أية كمية من الغاز أو النفط السوري للعالم الخارجي الموجودين تحت السيطرة الأمريكية في مناطق شرق الفرات، ناهيك عن الفاعلين الدوليين الذين يرفضون تمويل إعادة ما دمره الأسد بدون موافقته على إنجاز عميلة تحول سياسي حقيقي.

في وضعيته كأسد جريح ماليًا لا يفكر الأسد في كل ذلك، بقدر ما يفكر بإنقاذ نفسه في اللحظة الراهنة، ذلك أن لديه يقينًا تامًا بأن نظامه السياسي باقٍ ما بقيت الخدمات التي يقدمها للمستفيدين منه في كل صوب وحدب.

الترا صوت

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى