وجها لوجه

عودة الاستبداد السياسي: حوار مع نعوم تشومسكي

[حاوره س. ج. بوليكرونيو]

ترجمة محمد اكزار

بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، بدأت الديمقراطية تزدهر في معظم بلدان العالم الغربي، وكانت مؤسساتها وقيمها مطمحا تصبو إليه الحركات والأفراد تحت وطأة الأنظمة الاستبدادية والقمعية، لكن ومع تصاعد النيوليبرالية، صارت كل من مؤسسات وقيم الديمقراطية الحديثة بشكل متواصل ومتسارع هدفا للمحاولات الساعية لتعميم المنطق والممارسات الربحية للرأسمالية في جميع جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية.

يسعى هذا الحوار إلى رسم الخطوط العريضة لعودة التوجهات السياسية والاجتماعية السلطوية في المجتمعات الغربية الحالية، بما في ذلك صعود حركات اليمين المتطرف التي يشعر أتباعها بالتهديد إزاء السيرورات التي أطلقت لها السياسات الاقتصادية النيوليبرالية العنان. في الآن ذاته، تشهد بلدان العالم غير الغربي والبلدان الشيوعية سابقا بدورها تصاعدا في النزعة السلطوية، باعتبارها جزئيا بقايا للإرث السلطوي بتلك الدول وجزئيا رد فعل على التهديدات المتصورة التي تمثلها الرأسمالية العالمية بالنسبة للثقافة القومية واستقرار المجتمع.

هل بالإمكان مواجهة هذا التصاعد في الشعبوية المتطرفة؟ في هذا الحوار يقدم عالم اللغويات ومفكر الشأن العمومي الشهير نعوم تشومسكي، صاحب أكثر من مائة كتاب وآلاف المقالات الأكاديمية ذائعة الصيت – رؤيته الفريدة حول هذا الموضوع، متناولا بعين الفحص والتمحيص قضايا وأسئلة نادرا ما تتناولها النقاشات الراهنة حول عودة الاستبداد السياسي.

س.ج. بوليكرونيو: في عام 1992، نشر فرانسيس فوكوياما كتاباً أثار حرجا فكريا عنونه ب” نهاية التاريخ والإنسان الأخير” تنبأ فيه ب”نهاية التاريخ”، بعد انهيار الكتلة الشيوعية، وقال فيه إن الديمقراطية الليبرالية في طريقها لتصبح آخر أشكال الحكومة البشرية، ومع ذلك، فما حدث في هذا العقد على وجه الخصوص، هو أن مؤسسات وقيم الديمقراطية الليبرالية تعرضت لهجوم من قبل عشرات من القادة المستبدين في جميع أنحاء العالم. كما بدأت القومية المتطرفة ورهاب الأجانب، والنزعات الفاشية الناعمة في إعادة تشكيل المشهد السياسي في أوروبا والولايات المتحدة. كيف تفسرون عودة الاستبداد السياسي في أوائل القرن الواحد والعشرين؟

في الحقيقة، إن “المشهد السياسي” لينذر بالشؤم. فرغم أن الظروف السياسية والاجتماعية اليوم هي أقل خطورة من ذي قبل، فإنها تذكرنا بالتحذير الذي وجهه أنطونيو غرامشي من غياهب سجون موسوليني حول الأزمة الشديدة التي عاشها في أيامه، والتي “تنطوي بشكلٍ دقيق على حقيقة أن القديم يموت والجديد لم يتمكن من أن يرى النور”. وفي هذه الفترة الفاصلة، تبرز جملة كبيرة ومتنوعة من الأعراض المرضية”.

يتمثل أحد تلك الأعراض في عودة الاستبداد السياسي، وهي مسألة بالغة الأهمية تحظى بقدر كبير من الاهتمام في النقاش العام. لكن قولنا أن أمرا ما يحظى “بقدر كبير من الاهتمام العام” ينبغي أن يكون دومًا مدعاة للحذر:هل تعكس الطريقة التي تتشكل من خلالها القضايا مصالح القوة، التي تصرف الانتباه عما قد يكون عوامل أهم كامنة وراء الشواغل العامة؟ في الحالة الراهنة، أعتقد أن الأمر كذلك، وقبل أن أتطرق إلى المسألة البالغة الأهمية المتمثلة في عودة الاستبداد السياسي، أود أن أتحدث عن بعض المسائل ذات الصلة والتي يبدو لي أنها لا تحظى بالاهتمام الذي تستحقه، بل هي في حقيقة الأمر شبه مستبعدة كليًا من اهتمام الرأي العام واسع النطاق.

صحيح تمامًا أن “مؤسسات وقيم الديمقراطية الليبرالية تتعرض للهجوم” على نحو غير عادي، ليس فقط من قبل القادة المستبدين، وليس للمرة الأولى. أفترض أن الجميع سيتفق على أن الأولى من بين قيم الديمقراطية الليبرالية هي أن على الحكومات ان تستجيب للناخبين. وإن هي فشلت في ذلك، فلفظ “الديمقراطية الليبرالية” مجرد مهزلة.

من المعلوم جدا أن الوضع صار أشبه بذلك، إذ أظهرت مجموعة من الأبحاث في العلوم السياسية أن غالبية الناخبين لم يعودوا ممثلين من طرف منتخبيهم الذين صاروا يستجيبون لأصوات أخرى – أصوات الجهات المانحة وأصحاب الثروة الضخمة وقطاع الشركات (انظر كتاب مارتن جيلنس بعنوان Affluence and Influence: Economic Inequality and Political Power in America 2014، وكتاب بنيامين بيدج ومارتن جيلنس Democracy in America? What Has Gone Wrong and What We can Do About It 2017؛ وكتاب لاري بارتلز بعنوان Unequal Democracy: the Political Economy of  a New Gilded Age  2018. بالإضافة إلى ذلك،وكما يظهر الفحص الثاقب الذي قام به طوماس فيرغسون، لعهد طويل تمت المتاجرة بالعملية الانتخابية على نحو كبير، بما في ذلك الكونغرس، وذلك مستمر إلى اليوم.

تظهر هذه الحقائق لوحدها أن استياءنا من التدخل الروسي المزعوم في عمليتنا السياسية “الخالية من العيوب”، دليل على التلقين العميق التي تعرضنا له، ليس في القيم الديمقراطية بل القيم الرأسمالية.

وفضلا عن ذلك، ينبغي  لمن يجد في التدخل الأجنبي على الرغم من هامشيته  مدعاة للقلق، أن يبصر بكل وضوح ما يجري في اتجاه آخر. لا شك أن لإسرائيل دوراً كبيراً في الانتخابات ونظام الحكم في الولايات المتحدة، وحتى على نحو يبعث على الفخر والتباهي. إحدى الحالات الأخيرة التي كانت قاسية على نحو غير مألوف كانت عام 2015، حيث ألقى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو خطابا في الكونغرس دون أن يبلغ الرئيس أوباما في محاولة لتقويض برنامجه الخاص بإيران، وهذا مجرد جزء صغير من مساعي إسرائيل المتواصلة وواسعة النطاق للتأثير على السياسة الأمريكية.

وإذا ما وضعنا هذه المسائل الثانوية جانبا ، يتمثل الهجوم الرئيسي على مؤسسات وقيم الديمقراطية الليبرالية في النخب التجارية القوية، التي هي في تصاعد منذ حقبة الرئيس ريغان، حيث انجرف كلا الحزبين نحو تبعية أكبر لمصالح تلك القوى، أخص بالذكر الجمهوريين الذين بالكاد يمكن وصفهم الآن ب”الحزب السياسي”. وأي شخصٍ يفاجئه الأمر ينبغي أن يكون على جهل بالمجتمع الأمريكي وآليات اشتغاله. إلى الآن، ومع إطلاق العنان لسلطة المال من قبل خدامها في الحزب الجمهوري، بلغ الهجوم التجاري التقليدي على “مؤسسات وقيم الديمقراطية الليبرالية” مستويات لم نعهدها منذ العصر المذهب، بل حتى في ذلك الوقت.

بكل تأكيد، من القانوني تمامًا شراء الانتخابات، وبعث جماعات الضغط إلى مكاتب الكونغرس لسن القوانين، وأن تبلور السياسات العمومية على نحو يخدم المصالح الضيقة للأقوياء من الخواص”. بالفعل، يمثل ذلك جزءا سياسيا ومحسوبا من استراتيجية الشركات” كما عبرت عن ذلك زيفر تتشاوت في دراسة قيمة لها. تشير التحقيقات، كما تضيف الباحثة، إلى أن استثمار الرؤساء التنفيذيين في التأثير على القوانين لخفض النسب الضريبية يأتي بعائد أكبر بكثير من الاستثمار في خفض تكلفة الإنتاج. لا غور أن هذا كله يعد استراتيجية عادية تنتهجها الشركات.

وتورد تيشاوت قرارا للمحكمة العليا لسنة 1874، ورد فيه أنه ” متى قامت إحدى الشركات الكبرى باستئجار مغامرين كوسطاء ماليين لها من أجل خدمة مصالحها الخاصة،  بوسع أي امرئ سوي وذي ضمير أن يخلص فطريا الى أن تلك الشركة ومستأجريها قد استشرى فيهما الفساد”. كان ذلك، بالتأكيد، قبل أن تصل ايديولوجيا تفوق الشركات إلى مستوى “المنطق السليم المهيمن”(Hegemonic Comnon Sense)، كما أسماه غرامشي. يبرز هذا التحول الحاد بجلاء قوة  التلقين الذي نتعرض له في مجتمع تسوده مجموعة  قوية من الخواص ذات وعي طبقي عال.

جاء مشروع ريغان / تاتشر لشد عضد سلطة المال اللامحدودة، الذي عمل خلفهما على مواصلته وتوسيع نطاقه، كانعكاس سياسي لحملة منسقة وحازمة تشنها الطبقات التجارية  لعكس “أزمة الديمقراطية” لفترة الستينيات، والتي قضت مضاجع النخب الليبرالية الدولية، والتي خصصت أول منشور أساسي للجنة الثلاثية لهذه المعضلة. تمثل الشغل الشاغل بالنسبة لهؤلاء في الانخراط المتزايد للطبقات الشعبية في العمل السياسي من أجل تحقيق مطالبها، والتي كانت تمارس ضغطا كبيرا، فضلا عن الدولة (وان بدا ذالك ضمنيا)، والتهديد الذي تمثله لهيمنة قطاع المال والأعمال. وكما لاحظ ذلك بشكل نوستالجي المقرر الأمريكي، وأستاذ الإدارة السياسية في جامعة هارفارد، صامويل هنتنغتون: “تمكن ترومان بمعية ثلة من  المحاميين والمصرفيين بوول ستريت من إدارة الوضع في البلاد”، لكن ذلك العهد الجميل كان يتلاشى تحت وطأة الهجوم الذي قادته الغالبية العظمى، والتي كان الدور الموكول إليها في الديمقراطية الليبرالية هو أن تبقى جامدة وخانعة، وذاك معتقد ذو أهمية بالغة حاولت أن أعرض له في أعمالي.

هذا على الطرف الليبرالي من الطيف السياسي. أماعلى الجانب المحافظ، وفي نفس الحين، نادت المذكرة التي سلمها لغرفة التجارة محامي القطاع الخاص لويس باول (الذي عينه نيكسون في المحكمة العليا لاحقًا)، بحرب مفتوحة تشنها الشركات لحماية نفسها من سطوة القوى الراديكالية التي كانت تستهدف”المنافسة الحرة”، والتي تزعمها رالف نادر وهربرت ماركوز وغيرهما من “المتطرفين الخطرين”.

الرسائل متشابهة إلى حد كبير، لكن الخطاب مختلف تمامًا. الخطاب الليبرالي متحفظ بشكل كبير، بينما لهجة الشركات صارت شبيهة بالصرخة المسعورة لصبي في سن الثالثة، يملك كل أنواع الألعاب و يخشى أنه قد يخسر واحدة.

بالطبع، لم يكن قطاع الأعمال بحاجة لتلك النذر حتى يوجه مصادره لقلب المسار الديمقراطي والتنظيم العالي النجاح للاقتصاد الرأسمالي، خلال فترة  ما بعد الحرب التي أضرت بسلطة المال، ومثلت تهديدًا أساسيا لأرباحها، كما بين ذلك الخبير الاقتصادي السياسي روبرت برينر. جاءت الهجمة النيوليبرالية المضادة بشكل كبير كمحاولة لصد تلك التهديدات،ولتزيد بشدة من سلطة القطاع الخاص ومن ثروة شريحة صغيرة من المجتمع، بينما تُركت الغالبية وحيدة في مواجهة الركود والتدهور الاقتصاديين، الهشاشة الاجتماعية المتزايدة، والفقدان الطبيعي للتأثير السياسي نتيجة بلوغ القوى المحتكرة للاقتصاد درجة من الهيمنة هي أكبر من ذي قبل.

كل ذلك مستمر في ظل  عودة أزمة القطاعين العقاري والمصرفي و المستمرة تحت إدارتي كل من أوباما وترمب. فوفقا لآخر تقرير صادر عن وزارة الشغل، انخفض متوسط الدخل الحقيقي في الساعة بنسبة 0.1% وفقا للتعديلات الموسمية، صحب هذا الانخفاض ارتفاع في متوسط ساعات العمل الأسبوعية بنسبة 0.6% كان نتاجها ارتفاعاً في متوسط الدخل الحقيقي الأسبوعي بلغت نسبته 0.5% خلال نفس الفترة”. في حين ارتفعت  أرباح الشركات التي هي في تزايد على إثر الاحتيال الضريبي التي يعد بمثابة الجوهرة في تاج حزب ترمب الجمهوري، والذي يتم توظيفه بشكلٍ هائل في عمليات الاستحواذ على الشركات الأخرى وغيرها من الآليات لتزيد الأغنياء ثراءً، بدلًا من أن تستعمل عائدات تلك الضرائب كاستثمار منتج من شأنه أن يعود بالنفع على المجتمع وأن يرفع من الأجور.

يتمثل الوجه الآخر للعملة في الهجمة التي شنها كل من ريغان و تاتشر على الاتحادات العمالية، والتي بلغت أشواطا متقدمة إثر قوانين الاستجداء، أو في (القاموس الأورويلي “الحق في العمل”) * التي شنتها المحكمة العليا الأكثر رجعية منذ مائة عام. الاعتقاد الموجه لهذا الهجوم يتمثل في خلق عالم من الأفراد المنعزلين عن بعضهم البعض والخاضعين  لسلطة خاصة ومركزة، وذلك تماشيا مع المذهب التاتشري القائل ب”لا وجود للمجتمع”، وهي صياغة مغايرة وغير مقصودة  من تاتشر لإدانة كارل ماركس المريرة للزعماء السلطويين الذين سعوا لتحويل المجتمع إلى “كيس من البطاطس”.

هناك مصادر أخرى للضيق الذي تعرفه العامة. أدى التمويل المفرط للاقتصاد وإيلاء الأولوية للمساهمين، وهي إجراءات تم تعجيلها من قبل مجموعة “شيكاغو بويز”*  التي جاء بها ريغان ، أدى إلى تغيير حاد في سلوك الشركات التي تحولت من نموذج “الاستبقاء والاستثمار” الخاص بسنوات الرأسمالية المقيدة التي سجلت نموا اقتصاديا كبيرا إلى نموذج اقتصادي مبني على الاسترداد (إي إعادة شراء الأسهم) الذي جاءت به الرجعية النيوليرالية، وهي قضايا عرض لها بشكل مستنير الباحث ويليام لازونيك.

كانت شركة أبل، وهي أكبر شركات العالم من حيث القيمة التجارية، في ما مضى موجهة للابتكار وتطوير المنتجات. لكنها صارت في ظل مديرها التنفيذي الجديد، تيم كوك، “ملكا للاسترداد” (buyback king)، مما زاد المساهمين وإدارة الشركة ثراء. تقوم شركات أخرى بالشيء ذاته. وحسب تقدير لازونيك فإن “تريليونات الدولارات التي كان بالإمكان تخصيصها للاستثمار المنتج تم  توظيفها لاسترداد الأسهم طمعا في الرفع من قيمتها”، مما زاد الأغنياء ثراء دون أن يصحب ذلك توفير  لوظائف قارة وحقيقية أو سلع مفيدة. كان للاحتيال الضريبي الجمهوري عام 2018 آثار مشابهة، كل ذلك ألحق الضرر  بالشغيلة وعموم الشعب. نفس الآثار ترتبت عن الزيادة السريعة في عمليات المضاربة. وينطبق الأمر ذاته على الأزمات المالية المتكررة عقب إلغاء الضوابط التنظيمية، مما أضر بالفقراء والعمال، بدل الجناة الحقيقيين من ذوي المال الخاص الذين يتم إنقاذهم على حساب العامة، فيصيرون أكثر ثراء من ذي قبل.

تبقى هناك سبل إنصاف، لكن مناصريها لا زالوا إلى الآن على هامش الاقتصاد السياسي، وإن ليس لأمد طويل ربما.

تلك بالتأكيد اعتبارات عامة، فكغيرها من العمليات المعقدة، يخضع صعود الزعماء الاستبداديين والنزعات المعادية للمجتمع التي تصاحب ذلك لقوانين محددة. هناك المزيد من العوامل الخاصة، لكن الجوهر في تصوري، يندرج  ضمن الخطوط التي رسمتها للتو.

سؤال: يتمتع أقوى زعماء العالم السلطويين اليوم من أمثال فلاديمير بوتين في روسيا، وفيكتور أوربان في المجر، ورجب طيب أردوغان في تركيا، وبنيامين نتنياهو في إسرائيل، ودونالد ترمب في الولايات المتحدة -على سبيل المثال لا الحصر- بشعبية واسعة لدى الجماهير، وفي الواقع، وصل هؤلاء إلى السلطة عبر وسائل ديمقراطية. ما الذي يجري هنا إذن ؟ هل من خطب مع الديمقراطية اليوم؟

هناك أسباب محددة. ففي حالة الديمقراطيات الغربية -ترمب، وأوروبا الغربية- يكمن مشكل الديمقراطية في التراجع الذي تعرفه نظرا للهجمة المصاحبة التي تستهدف إمكانيات العيش الكريم، حيث سقط النظام السياسي بشكل متزايد في يد السلطة المركزة لقطاع المال في ظل الهجوم الليبرالي الجديد وصار أقل استجابة لحاجيات الإنسان. تلك هي النتائج الطبيعية لتركز الثروة في ظل الهجوم الليبرالي على التوجهات الاجتماعية الديمقراطية في العقود الأولى لما بعد الحرب. ينبغي التذكير بأن الكساد الكبير والحرب العالمية الثانية، كانا قد أطلقا العنان للقوى الديمقراطية الراديكالية في أجزاء كثيرة من العالم، وبالرغم من أن ردة فعل عالم الأعمال كانت سريعة (قانون تافت-هارتلي لعام 1947، على سبيل المثال)، فقد ظلت منحصرة إلى حين الاضطرابات الاقتصادية لفترة السبعينيات التي هيأت الظروف لاندلاع حرب طبقية حامية الوطيس.

ومن الجدير بالذكر أيضًا إقرار دوغ فريزر، رئيس اتحاد عمال قطاع صناعة السيارات سنة  1978 أن رجال الأعمال ” اختاروا شنّ حرب طبقية أحادية الجانب في هذه البلد، حرب على العمال والعاطلين والفقراء والأقليات، وصغار وكبار السن، وحتى جزء كبير من الطبقة المتوسطة، كما قاموا بنقض الميثاق الهش وغير المكتوب الموجود إبان فترة النمو والتقدم الاقتصادي والاجتماعي”. في الواقع، كانت الحرب الطبقية قائمة حتى قبل ذلك، في الأيام الأخيرة من سنوات النيوديل (The New Deal) (خلال فترة ما قبل الحرب، لكنها لم تكن من جانب واحد، حيث نشطت حركة عمالية قوية  صارت هدفا لحرب طبقية محتدمة أحادية الجانب بنحو تزايدي خلال سنوات ما بعد الحرب.

في أوروبا، يتعالى صوت الهجمة على الديمقراطية بفعل المؤسسات اللا ديمقراطية للاتحاد الأوروبي. حيث يتم اتخاذ قرارات محورية من طرف ترويكا غير منتخبة  متمثلة في المفوضية الأوروبية وصندوق النقد الدولي والبنك المركزي الأوروبي، مدعومة ببنوك الشمال. لم يتبق الكثير للجماهير لتقوله، وهي تعي ذلك، وذاك سبب رئيسي في انهيار أحزاب الوسط التي حكمت تلك الدول منذ الحرب العالمية الثانية.

وفي تحقيق مفصل للغاية، يستعرض الخبيرالاقتصادي مارك ويسبروت، تقارير مشاورات صندوق النقد الدولي المنتظمة مع الحكومات الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. يكشف الباحث “نمطا ثابتا ومقلقا على نحو مميز”، حيث تم  استغلال الأزمة المالية كفرصة لتمرير الاصلاحات النيوليبرالية، من تخفيض للإنفاق الحكومي على القطاع العام بدلًا من فرض زيادات ضريبية على الأغنياء، وخفض الخدمات والإعانات الاجتماعية، خفض الميزانية المخصصة للتغطية الصحية، وإضعاف سلطة المساومة الجماعية، وبشكل عام، السعي نحوخلق مجتمع يسوده الفقر واللامساواة، بمؤسسات عمالية ذات قدرة محدودة على المساومة، وأجور هزيلة، وخلق حكومات وشبكات أمان إجتماعي أضعف، إلى جانب تدابير أخرى تقلل من النمو وفرص الشغل.

يخلُص ويسبروت إلى أن “وثائق صندوق النقد الدولي تعد تفصيلا لأجندات صناع القرار بأوروبا، الذين تمكنوا من تحقيق جزء مهم منها على مدار السنوات الخمس الماضية”. الأجندات مألوفة في الولايات المتحدة، وفي الواقع حيثما امتدت رقعة الهجوم النيوليبرالي.

وفي إنجلترا، كان لأغلبية ثاتشر، وحزب العمال الجديد بزعامة بلير، متبوعين بالسياسات التقشفية للمحافظين آثار مشابهة. هذا وتعد الحركة التي يقودها كوربين رد فعلاً مشجعاً تعارضه بشدة المؤسسة الحزبية للعمال وكذلك الإعلام.

للحالات الاخرى سالفة الذكر بدورها ما يميزها.

يبدو أن بوتين يتمتع بشعبية حقيقية طوال فترة ولايته. وعلى ما يبدو، فسكان القرم يؤيدون الاستيلاء الروسي على الإقليم. بدت هناك إمكانية لإحداث تطور ديمقراطي اجتماعي في روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وربما حتى إقامة علاقات دعم متبادل مع الديمقراطيات الاجتماعية بأوروبا. لكن سرعان ما تلاشت تلك الآمال نتيجة للآثار القاسية للإصلاحات الاقتصادية المدعومة من طرف الولايات المتحدة، التي دمرت الاقتصاد وأودت بحياة الملايين، فضلا عن أنها مهدت الطريق أمام فساد هائل استولت على إثره الأوليغارشية على أصول الدولة. نظرت الجماهير إلى بوتين كتصحيح للكارثة النيوليبرالية وللتراجع الروسي على الساحة الدولية. بوتين زعيم مستبد من دون شك، بل حتى وحشي، لكنه على ما يبدو يحظى بشعبية حقيقية.

في إسرائيل أيضًا يتمتع الائتلاف القومي-الديني اليميني بشعبية حقيقية. التهديد بالنسبة لنتنياهو آت في المقام الأول من حزبه اليميني. يختلف ذلك كثيرا عن الفترة التي احتلت فيها إسرائيل الأراضي الفلسطينية عام 1967،  وسرعان ما وضعت برامجها الاستيطانية غير المشروعة . تم التنبؤ بالتغيير في وقت مبكر من قبل من فهموا الديناميات الطبيعية لسحق الشعوب تحت الآلة العسكرية الثقيلة. أحد المعلقين كان  صريحا على نحو خاص، وهو الحكيم الإسرائيلي يشعياهو ليبوفيتش، أدان هذا الأخير الاحتلال بشدة، ليس رأفة  بالفلسطينيين، الذين أعرب بازدراء عن مصيرهم، بل خوفا من الأثر المرتقب لذلك على الإسرائيليين، الذين حذرهم من أن يصيروا ” نازيين يهوداً ” بسبب ممارستهم للقمع والتهجير.

الإشارات إلى الآن دراماتيكية، سواء على مستوى الفعل أو التشريعات، وسواء تعلق الأمر بالممارسات الإجرامية في الأراضي المحتلة أو وبالانتقال نحو عنصرية مستترة في الداخل الإسرائيلي. تشمل الأراضي المحتلة غزة أيضا، على الرغم من ادعاء إسرائيل للعكس، وهو الأمر الذي لا يقبله حتى مؤيدها المخلص المتمثل في الولايات المتحدة. وبالرغم من إلمامها التام بأنه من المرجح أن يصبح موطن مليوني شخص فعليا غير ملائم للعيش في غضون بضع سنوات ، كما أنذر بذلك المراقبون الدوليون، لازالت إسرائيل تحكم قبضتها، ومصممة رسميا على إبقاء أهالي القطاع في “نظام حمية”، بينما يمارس جيشها الذي يسم نفسه ب” أكثر جيوش العالم أخلاقية ” أفظع الجرائم التي ما فتئت تروع العالم.

تركيا هي الأخرى حالة خاصة. للبلد تاريخ طويل ومعقد منذ أن أخذت الدولة التركية الحالية شكلها بعد الحرب العالمية الأولى. إلى حين قريب، في عقد التسعينيات، كانت تركيا مسرحا لإحدى أعنف المجازر في تاريخ الفترة إذ شنت الدولة حملة من الإرهاب ضد الأكراد، لقي خلالها عشرات الآلاف مصرعهم، بينما  دُمِرت آلاف المدن والقرى، وهجر الآلاف أو ربما الملايين منازلهم، بالكاد يعيش البعض منهم في مباني مهجورة في اسطنبول. تعتبر واشنطن الداعم الأكبر لتلك الجرائم، حيث كان الرئيس كلينتون مسؤولا عن تزويد تركيا ب 80 % من الأسلحة على نحو تصاعدي تزايدت معه نسبة الفظائع التي لم يتم الإبلاغ إلا عن القليل منها، بالرغم من أن الصحف الرئيسية كانت لها مكاتب في تركيا بكل تأكيد. معظم المعلومات المتاحة حول تلك الجرائم صادرة عن التقارير المفصلة للباحث البارز لهيومن رايتس ووتش، جوناثان سوغدن، الذي بلغت حنكته درجة أقدمت معها الحكومة على طرده. من الأهمية بمكان  تواجد طائفة من الكتاب والفنانين والصحفيين والناشرين وغيرهم الذين لم يعترضوا على الجرائم فحسب، بل أيضا شنوا حملة عصيان مدني مواجهين، وأحيانا تعرضوا لعقوبات قاسية وطويلة الأمد. لم يسبق لي أن رأيت مثيلا لهؤلاء في أي مكان آخر.

بحلول القرن الحالي، كان الوضع في تحسن، وفي وقت وجيز جدا، بما في ذلك السنوات الأولى لأردوغان. لكن سُرعان ما بدأ التراجع تحت قيادته، ليشتد للغاية. امتلكت تركيا أسوأ سجل في العالم فيما يتعلق باضطهاد الصحفيين، وامتد القمع إلى الأكاديميين وغيرهم، كما ازدادت الهجمات الشرسة على المناطق الكردية. وتنقسم الدولة بين قطاع يساري ليبرالي علماني، وجناح متدين بشكل كبير، يتواجد معظمهم في الأرياف. وكإسلامي صرف، سعى أردوغان إلى دعم هذا القطاع واعتمد عليه في إنشاء دولة استبدادية عنيفة وقمعية ذات  مكونات إسلامية قوية. من المؤلم حقا أن نرى ما يحدث، ليس فقط بفعل الجرائم ولكن  نظرا للآمال التى كانت معقودة بأن تصير تركيا  بمثابة همزة الوصل بين الغرب والشرق، اقتصاديا وثقافيا.

حالة أخرى مشابهة تتمثل في المجر. وهي جزيرة ثقافية- لغوية حققت إنجازات ثقافية ملحوظة لكنها تحمل سجلًا قبيحًا من الفاشية والتواطؤ مع النازيين. انطلاقا مما قرأت -إذ ليس عندي معرفة وثيقة بالموضوع- كانت البلاد منذ زمن بعيد تخشى الازدهار، وحتى التلاشي – مخاوف زاد من وقعها مرور اللاجئين- نحو أوروبا عبر البلاد. يتناقص تعداد سكان المجر جزئيا إثر انخفاض معدل الخصوبة، وجزئيا إثر نزوح الكثيرين نحو الغرب. استغل فيكتور أوربان تلك المخاوف لبناء “ديمقراطية غي رليبرالية” مكرسة “لإنقاد المجر” و”القيم التقليدية للبلاد،” بما تتضمنه تلك الشعارات من تلميحات معتادة تبعث على الكراهية والعنصرية.

الكثير يمكن قوله عن العنصرية في أوروبا، وهذا أمر غير مرئي عندما يكون السكان متجانسين إلى حد كبير، لكنه يظهر بسرعة بمجرد وجود أي “تلويث” من جانب من هم مختلفون قليلًا. لا داع للخوض في تاريخ اليهود والغجر.

سؤال: مادمنا نتحدث عن الزعماء السلطويين، صُدِمت من رد فعل المؤسسة السياسية في الولايات المتحدة تجاه تعامل ترمب في قمة هلسنكي مع بوتين. ما المانع من أن تعمل الولايات المتحدة وروسيا سويا لمعالجة القضايا الرئيسية التي تواجه العالم في الوقت الحاضر، بما في ذلك تهديد الأسلحة النووية؟ ما رد فعلكم على هذا الأمر؟ هل كان ترامب مخطئًا؟ هل كان بتصرفه ذاك “مناهضا لأمريكا”؟

لا مانع بكل تأكيد من أن تسعى الولايات المتحدة وروسيا إلى التقارب والتعاون بشأن تلك القضايا. بل ذاك ضروري لإحياء الآمال في مستقبل أفضل، بل وحتى لضمان البقاء على الكوكب. على روسيا ألا تمتنع عن التعامل مع أمريكا وأن تفرض عقوبات (لو كان ذلك ممكنا) على الولايات المتحدة وبريطانيا لكونهما قامتا بغزو وتدمير العراق، بكل العواقب الشنيعة لذلك الغزو إقليميا، و أنهما (بمعية فرنسا) ألحقتا الدمار بليبيا متسببتين في آثار رهيبة امتدت إلى غرب إفريقيا وحتى بلاد الشام، من بين قائمة أخرى طويلة من الجرائم لا يسعنا ذكرها في هذا المقام.

هناك قضايا عديدة يتوجب على الدولتين التعاون فيها، والحال هي احيانا كذلك ، كما في سوريا، لتجنب الصدامات التي قد تؤدي إلى نشوب حرب. الحاجة لذلك أكبر بكثير على الحدود الروسية، حيث يحتمل وقوع حوادث ذات عواقب لن يكون من السهل وصفها نتيجة لتوسع حلف الناتو والزيادة في التواجد العسكري. هناك حالات أخرى كثيرة تستدعي الحوار الجاد، أكثرها المسألة المتعلقة بالسلاح النووي، وكما سبق لنا أن ناقشنا في مناسبة أخرى، زادت برامج أوباما الخاصة بتحديث الترسانة النووية من “قوة التدمير”  على نحو يكفي “لخلق ما يمكن للمرء توقعه بالضبط في حال أقدمت دولة مسلحة نوويا على القتال وأن تفوز بحرب نووية عبر نزع سلاح أعدائها بضربة أولى استباقية مفاجئة”،  كما أوضحت ذلك دراسة مهمة في “مجلة خبراء الطاقة الذرية”. زادت برامج ترمب النووية من شدة التهديد مع وجود أنظمة أسلحة جديدة وخطيرة للغاية مما يشكل تهديدا وجوديا لروسيا والعالم بأسره. بل حتى صاحب “الضربة الأولى” سيلقى حتفه على إثرها، هذا ويشكل انسحاب الولايات المتحدة من معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية في عهد بوش الابن تهديدا آخر للروس. مبادرة الأسلحة وردود الفعل الروسية أيضا تعزز خطر الدمار النهائي.

وبالعودة إلى ترمب، فأفعاله لا معنى لها على الإطلاق إذا ما استرشدت ببعض الاستراتيجيات الجيوسياسية. فمن جهة، يتحدث الرجل بأدب إلى بوتين (بخنوع، يقول آخرون) وينادي بخفض حدة التوتر، لكنه ومن جهة ثانية، يعمل على التصعيد ورفع نسبة التهديد. البرنامج النووي الذي ذكرناه للتو مثال خطير للغاية. ترمب عازم أيضا على إرسال الأسلحة إلى أوكرانيا والزيادة في قوات حلف الناتو ومن العمليات العسكرية على الحدود مع روسيا، وهي إجراءات قد يعتبرها أي زعيم روسي بمثابة تهديد حقيقي. تم فرض عقوبات قاسية على روسيا وهي ليست بأي حال من الأحوال على جهل بالتهديد المتزايد، كيف لها أن تكون كذلك؟ فكما لاحظت الصحافة الاقتصادية، مستشهدة بتقارير الخزينة الأمريكية، تعمد روسيا إلى تصفية أصولها من الدولار بوتيرة قياسية، وبيع أربعة أخماس مخزونها من الدين الحكومي الأمريكي بقيمة 81 مليار دولار على مدى شهرين من أجل حماية الأصول في حال استمرت العلاقات في التدهور.

وبينما سياسات ترمب فاقدة للمعنى من وجهة نظر جيو استراتيجية، إلا أنها واضحة على افتراض أن الرجل مستمر في خدمة أجندات “أنا أولا” التي جاء بها، مهما كانت عواقبها على العالم، وهي قضايا وقفنا عندها سابقا. تستدعي تلك الأجندات الحفاظ على ولاء قاعدته الشعبية والتأكد من أنها ستبقى موالية له في حال أسفرت  تحقيقات مولر عن ما قد يضر بالرئيس. كان محور مؤتمر ترمب الصحفي مع بوتين والذي أدانته بشدة نخب الرأي، يتمثل في مساعيه لتشويه سمعة مولر. أبدى هذا التكتيك نجاحا باهرا. توافقت غالبية كبيرة من الجمهوريين مع الطريقة التي تعامل بها ترمب مع بوتين، وكما تظهر الاستطلاعات تراجعت صورة مولر الشعبية عن سابق الأوقات، في حين نال الرفع الحاد من لهجة الوعيد والتصعيد استحسان صقور الأمن القومي.

يشكل هؤلاء طيفا واسعا، ومع أن الأمر صعب تصديقه أحيانا، لا يمكن التغاضي على حقيقة أن حتى المعتدلين الأكثر احتراما من بين هؤلاء يتشبثون بشدة، وبشكل جد حرفي، بمعتقدات غريبة جدا على النقاش. على سبيل المثال، وبصراحة فظة، يرشدنا الخبير والدبلوماسي المرموق ورئيس مجلس العلاقات الخارجية ذو النفوذ الكبير، ريتشارد هاس قائلا: ” بني النظام الدولي منذ زهاء أربع قرون على عدم التدخل في الشؤون الداخلية للآخرين واحترام السيادة. انتهك الروس هذا المبدأ باستيلائهم على شبه جزيرة القرم وتدخلهم في الانتخابات الأمريكية عام 2016. ينبغي أن نعامل روسيا بوتين كدولة مارقة”. يعجز اللسان عن الكلام.

سؤال: في إسرائيل، تم تمرير مشروع قانون مثير للجدل حول “الدولة القومية اليهودية” لم تتم الإشارة فيه إلى حقوق الأقليات. هل من جديد وراء إصدار هذا القانون، شيء لم يكن موجودا أصلا من وجهة نظر إسرائيلية؟

للأسف، داخل إسرائيل نفسها، لم يكن قانون الجنسية الصادر في يوليو / تموز لسنة 2018 مثيرًا للجدل، رغم أنه أثار فزعا داخل الأوساط الليبرالية الدولية. وما يحدث في الولايات المتحدة أمر معتاد. منذ عام 1967 والدولة تلعب دور الداعم الرئيسي لإسرائيل. كانت إسرائيل لوقت طويل محبوبة الرأي الليبرالي والتقدمي. الأمر مختلف إلى حدٍ كبير اليوم. “فوفقًا لمسح أجراه مركز بيو للأبحاث في نيسان/أبريل 2018، صارت نسبة المتعاطفين مع الفلسطينيين ضد إسرائيل أكثر بضعفين مما كانت عليه قبل عامين فقط. وبلغت نسبة المتضامين من الليبراليين 40 % وهي النسبة الأكبر منذ عام 2001، بينما فضل 33 %الاصطفاف إلى جانب إسرائيل”.

تحول الدعم لإسرائيل إلى اليمين القومي المتطرف والمسيحيين الإنجيليين ممن يزاوجون بين التأييد الشديد لإسرائيل والاعتقاد  بالمجيء الثاني ليسوع المسيح، الذي يعتقد حدوثه قريبٍا جدًا، و الذي سيصلى اليهود على إثره عذاب الهلاك الأبدي باستثناء طائفة صغيرة جدا منهم، سيتسنى لهم لقاء المسيح في الوقت المناسب – وهو مستوى من معاداة السامية لا يجد ما يضاهيه حتى  في ألمانيا النازية.

تدرك إسرائيل تماما فقدانها المتزايد للدعم بين شرائح الرأي العام الدولي ممن لهم على الأقل بعض الاهتمام بحقوق الإنسان والحقوق المدنية. لذا فهي تسعى إلى توسيع قاعدة دعمها تجاه الشرق، الصين والهند في المقام الأول ، حيث صارت الأخيرة حليفًا طبيعيًا للغاية لعددٍ من الأسباب، بما في ذلك انجراف كلا المجتمعين وراء النزعة القومية المتطرفة، والسياسات الداخلية الرجعية، والعداء للإسلام. كما تعمل على تعزيز التحالفات الضمنية مع الدول العربية الأكثر رجعية ووحشية، وعلى رأسها السعودية والإمارات، والتي انضمت إليها الآن مصر في ظل حكم العسكر الديكتاتوري القاسي القائم.

ينص قانون الجنسية الجديد على أن إسرائيل دولة قومية للشعب اليهودي، ويحط من قدر اللغة العربية ويرخص رسميًا لتكوين المجتمعات اليهودية فقط. يفتح القانون أرضية جديدة، لكن ليس على نحو كبير. الجديد هو الارتقاء بهذه المبادئ العنصرية لمستوى القانون الأساسي أي الوضع الدستوري. أقرت المحكمة العليا في إسرائيل منذ وقت طويل أن “إسرائيل دولة ذات سيادة للشعب اليهودي – لكنها ليست كذلك بالنسبة لخمس مواطنيها من غير اليهود” وذلك في الأساس نفس العقيدة.

يذكّرنا الكاتب الإسرائيلي المرموق وأحد أبرز منتقدي القانون الجديد يتزهاك لاور بما أعلنه زيراك فارهابتيغ، مؤسس الحزب القومي الديني وأحد الموقعين على إعلان الاستقلال في نقاش حول الأراضي لعام 1960 والذي نصه: “نتمنى أن يتضح أن أرض إسرائيل هي ملك لأمة إسرائيل. أمة إسرائيل هي مفهوم أوسع من الأمة التي تعيش في صهيون، لأن أمة إسرائيل موجودة في العالم بأسره … [في هذا القانون الجديد] هناك تجديد قضائي رائع جدًا: فنحن نعطي غطاءً شرعيا لما نصت عليه قوانين الكيرين كايميت ( الصندوق القومي اليهودي)”.

تلزم قوانين الصندوق المنظمة بالعمل لمصلحة “الأشخاص ذوي الأصل أو الدين أو العرق اليهودي”. لنا أن نضيف أن هذه الانتهاكات الجذرية للحقوق المدنية يتم تمويلها من قبل دافعي الضرائب الأمريكيين بفضل وضع الصندوق كمنظمة خيرية معفية من الضرائب.

كان فارهابتيغ محقًا تمامًا منذ ما يقرب 60 عامًا. لقد سطرت جملة من القواعد القانونية والإدارية لضمان حيازة الصندوق القومي اليهودي للسلطة على جميع أراضي الدولة -93% من أراضي البلد- وبالتالي، سلطته لضمان أن الأراضي ستكون مخصصة لليهود دون غيرهم، مع استثناءات ثانوية لا تستحق الذكر. تفاصيل ذلك مُوضّحة ومُوثّقة في مؤلف “نحو حرب باردة جديدة” الصادر لي عام 1982.

يذكرنا لاور أنه منذ سن القانون،” تم إنشاء 700 مستوطنة، كلها لليهود، باستثناء مدن قليلة للبدو (تعد مدعاة للسخرية)”. وفي الوقت نفسه، تم حصر الأقلية غير اليهودية البالغة 20% في 2% من الأراضي عندما تأسست الدولة قبل 70 عامًا.

وفي عام 2000، وصلت الترتيبات العنصرية لإدارة الأراضي أخيرًا إلى المحكمة العليا في إسرائيل. وأصدرت قرارا ضيقا منح أصحاب الالتماسات وهما زوجان عربيان موظفان- الحق في الانتقال إلى مدينة كتسير ذات الساكنة اليهودية كليا. بعد فترة وجيزة، بدأت الترتيبات للتحايل على القانون، لكن هذا الأمر لم يعد ضروريا بعد الآن، لأن الفصل العنصري أصبح مرخصًا له قانونيًا بموجب قانون الأساس.

الكثير مما تقدم ينبغي أن يكون مألوفًا لدى الأمريكيين. اقتصرت مشاريع الإسكان التي أتت بها برامج النيوديل على البيض من السكان من خلال قوانين ظلت سارية حتى أواخر الستينيات، إذ كان الأوان قد فات لمد يد العون للأمريكيين السود لأن سنوات النمو السريع والمتكافئ بعد الحرب والتي أتاحت لهم بعض الفرص – كانت قد بلغت نهايتها، ولأن الهجمة الليبرالية كانت على وشك الحدوث، لتفرض الركود الاقتصادي. فصل قاتم آخر من فصول العنصرية في أمريكا. من الأمور المألوفة أيضا لدى الأمريكيين كون بلادهم وحيدة  في دعمها لهكذا إجراءات (مع وجود استثناءات بالغة الأهمية تمت الإشارة إليها سابقًا)، والذي وصل الآن مستويات جديدة في ظل إدارة ترمب. في الأيام الأخيرة لنظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، كان ريغان وحده في العالم من يؤيده، بل وأنه حتى أنكر وجود نظام الفصل العنصري أصلا، وحتى بعد أن غادرت تاتشر وإسرائيل مصاف الداعمين لهذا النظام. نذكرأيضا أنه خلال المخاض الأخير من الفصل العنصري، في عام 1988، قامت إدارة ريغان بإدراج المؤتمر الوطني الإفريقي التابع لنيلسون مانديلا على اللائحة ك”أحد أسوء الجماعات الإرهابية ” في العالم. ورغم أن  مانديلا يحظى باحترام دولي واسع، إلا أنه بقي على لائحة  الإرهاب حتى سنة 2008، عندما سمح له قرار الكونغرس أخيرًا بدخول “أرض الأحرار” دون إعفاء خاص. عادة، لا جديد تحت الشمس.

سؤال: يواصل البنك الدولي دعم الأنظمة الاستبدادية في دول العالم الثالث من خلال توفير الأموال وكفالات الإنقاذ المالية. كيف سمحت الأمم المتحدة والحكومات الديمقراطية الغربية لمثل هذا الموقف من جانب البنك الدولي؟

لسوء الحظ، الإجابة بالغة الوضوح. وكما تظهر ذلك ممارساتها باستمرار “فالحكومات الديمقراطية الغربية” تنهج سياسات مماثلة و بحماس. لاداع للمزيد من التوضيح، لكن ما دمنا نعيش جوا من الاحتفاء بالذات، من المفيد ربما سوق مثال واحد على الأقل. ولنأخذ دولة  الكونغو، التي كان من المفروض أن تصير إحدى أغنى بلدان العالم وأكثرها تقدمًا، بموارد هائلة وانعدام للتهديد، أقصد من جيرانها. في الوقت الذي كانت فيه أوروبا تنهب خيرات إفريقيا، كانت الكونغو تحت وصاية ليوبولد ملك بلجيكا، الذي فاقت جرائمه الشنيعة المقاييس العادية للغرب “المتنور”. لم يمر ذلك مرور الكرام، ،إذ نجد مقالا في الطبعة الحادية عشرة من الموسوعة البريطانية يشيد بإنجازات الملك، مع إضافة عبارة في النهاية تفيد بأنه كان يعامل رعاياه بقسوة- يذبح الملايين ويأمر بالتعذيب الوحشي لحشو جيوبه الممتلئة بعائدات المطاط.

انتهى “الرعب أخيرًا في الستينيات بعد نيل الكونغو استقلالها. أبرز شخصيات هذا الاستقلال كان القيادي الكاريزمائي باتريك لومومبا، الذي كان سينتشل الكونغو من مستنقع الاستعمار، لكن ذلك لم يكن ليحصل حيث تولت وكالة الاستخبارات المركزية أمر قتله، لكن البلجيكيين كانوا سباقين، وجنبا إلى جنب مع الديمقراطيات الليبرالية، عملوا على جر البلاد مجددا نحو الإرهاب والدمار تحت قيادة السفاح ومهووس النهب موبوتو المقرب من الغرب، والذي حرص على أن تتدفق ثروات الكونغو في المنحى الذي رسمته تلك القوى. وإذا ما أسرعنا بالزمن نحو الحاضر، سنجد أن من ينعمون بالهواتف الذكية والأجهزة المتطورة الأخرى في الحقيقة يستغلون المعادن النفيسة التي تجود بها أرض الكونغو الشرقية، والتي تسلم للشركات لمتعددة الجنسية التي تحوم بمكان قريب من الميليشيات المتحاربة واللصوص القادمين من رواندا المدعومة من الولايات المتحدة، بينما يرتفع تعداد القتلى ليبلغ الملايين.

ليس بتلك الدرجة من الغموض إذن أن تسمح ديمقراطيات الغرب بدعم الأنظمة الاستبدادية.

سؤال: في اعتقادكم ما الذي يستلزمه وقف انتشار الاستبداد السياسي في العالم؟

السبيل المألوفة يسهل وصفها، لكن صعب اتباعها ، وإن وجدت سبيل أخرى، فقد بقيت في طي الكتمان. تتمثل النصيحة في المشاركة الصادقة والدؤوبة، الشجاعة والمتواصلة، بدءا من التعليم والتنظيم مرورا بالنضال المباشر، والمحشود بعناية ليكون فعالا في ظل الظروف السائدة. إنه العمل الجاد واللازم، النوع الذي نجح في الماضي ويمكنه النجاح مجددا. 

[صدرهذا الحوار عن موقع truthout.org بتاريخ 25 يوليو/تموز 2018. عنوان الحوار الأصلي هو: The Resurgence of Political Authoritarianism: an Interview with Noam Chomsky.]

[ترجمة: محمد اكزار]

هوامش

* – قوانين الحق في العمل: (right-to-work laws) ليس بالمعنى الظاهر للعبارة، أي حق الفرد في الحصول على وظيفته، كما نجد مثلا في الميثاق العالمي لحقوق الإنسان، بل معنى مغاير تماما، إذ تسعى هذه القوانين إلى منع العمال من أداء رسوم أو مبالغ للاتحادات العمالية التي يريدون الانخراط فيها، وهو إجراء يراد منه إفشال التنظيمات النقابية وإضعاف سلطة المساومة والتفاوض لدى الاتحادات والمؤسسات العمالية، كما تسعى إلى الحد من انخراط العمال في تلك المؤسسات إلى غير ذلك من الأنشطة التي من شأنها تحسين ظروف الشغل. (المترجم).

* – شيكاكو بويز Chicago Boys: مجموعة من خبراء الاقتصاد اللاتينيين، اشتهروا خلال السبعينيات والثمانينات، وتلقى معظمهم تكوينه في شعبة الاقتصاد بجامعة شيكاغو، وفور عودتهم إلى أمريكا الجنوبية، شغلوا مناصب رفيعة كمستشارين اقتصاديين في العديد من الدول، بما فيها تشيلي، تحت الحكم الديكتاتوري العسكري للجنرال أوغستو بينوشيه. ساهم هؤلاء بشكل كبير في إعادة صياغة التشريعات الاقتصادية بتلك البلدان على نحو يخدم مصالح الشركات الأمريكية والسياسات النيوليبرالية لريغان، انعكست تلك السياسات سلبا على شعوب أمريكا اللاتينية التي عانت إثر ذلك من ارتفاع حاد في نسب التضخم ومعدلات البطالة.

جدلية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى