الناس

تفكيك الركبان… خطّة روسيا “اللاإنسانية” لسحب البساط الأميركي/ أحمد الأحمد

في منطقة صحراوية نائية، تقع على المثلّث الحدودي بين سوريا والعراق والأردن، أنشأ نازحون مخيّماً عام 2014 عُرف بـ”مخيّم الركبان”، تقول عنه وسائل الإعلام إنّه “أسوأ مكان على وجه الأرض”. ويعيش قاطنوه في حصارٍ خانق منذ مطلع العام الحالي، فلا مياه، ولا كهرباء، ولا رعاية طبّية أو غذائية أو تعليمية.

إلّا أن هذا الحصار ليس مشكلة النازحين الوحيدة، إذ إن روسيا لم توفّر على مدار الأشهر الماضية أي جهد لتفكيك هذا المخيّم، وإعادة قاطنيه الذين يُعتبر معظمهم مطلوبين أمنياً إلى مناطق النظام.

معظم قاطني المخيم البالغ عددهم حوالى 40 ألفاً، أتوا من أرياف حمص والرقة وحماة ودرعا، ووصلوا إلى هذا المخيّم بعد الهجمات الجوّية العنيفة على مناطقهم.

خطّة روسيا اللاإنسانية

في أواخر العام الماضي، سيطرت قوات النظام السوري المدعومة من روسيا على غوطة دمشق الشرقية، ثم تابعت معاركها وأجبرت مقاتلي “القلمون الشرقي” القريب من البادية، على الاستسلام.

بعد ذلك، حاصرت قوات النظام مقاتلي تنظيم “داعش” في منطقة تل الصفا الواقعة في الريف الشرقي لمحافظة السويداء جنوب البلاد. وبعد معارك استمّرت أشهراً، انسحب التنظيم من تل الصفا.

هذه المكاسب الميدانية التي حقّقتها قوات النظام على مشارف البادية السورية، فتحت الطريق أمامها نحو عمق المنطقة التي يقع فيها مخيّم الركبان، حيث حوصر المخيّم منذ أواخر العام الماضي، وانتشرت حواجز القوات النظامية في محيطه، منعاً لتحرّك أي مدني في منطقة البادية، وكذلك الأمر لمنع وصول أي مساعدات أو سلع غذائية أو طبّية إلى المخيّم.

لم تتمكّن قوات النظام من مهاجمة المخيّم لأسباب عدة، يأتي على رأسها أن منطقة المخيّم (المنطقة 55 كلم) تحميها قاعدة التنف العسكرية الأميركية، التي يتمركز فيها جنود أميركيون، إضافةً إلى مقاتلين معارضين من جيش العشائر وفصائل مسلّحة أخرى.

في أيلول/ سبتمبر الماضي، أعلنت الأمم المتحدة، أن 15600 شخص غادروا المخيم مذ فتحت روسيا معابرها “الإنسانية” لخروج المدنيين، مع بقاء نحو 26 ألفاً فيه يعانون من ظروف معيشية “مزرية”.

تنصّ الخطّة الروسية على خروج المدنيين من مخيّم الركبان، عن طريق المعابر الروسية، بعد تسهيل القوات الأميركية الموجودة في التنف خروجهم.

ولكن بعد مضي فترة تنفيذ الخطّة، فشلت بسبب رفض المدنيين الخروج من المخيّم خوفاً من الملاحقة الأمنية التي قد يتعرّضون لها من قبل النظام السوري.

وبحسب بيان صادر عن مقر التنسيق الروسي- السوري في 1 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، فإن خطة إخراج المدنيين من مخيم الركبان فشلت، بسبب عدم تنفيذ الولايات المتحدة الأميركية التزاماتها.

وقال البيان: “الخطة كانت تنص على إخراج خمس دفعات من المخيم تتضمن كل منها من 2000 إلى 2500 لاجئ سوري، لكن الجانب الأميركي لم يفِ بالتزاماته وعطل تنفيذ الاتفاق، إذ خرج 336 شخصاً فقط، عبر معبر جليب “الإنساني”، بدلاً من 2000.

أموت لتعيش ابنتي؟

بين سعيه إلى إيجاد غذاء وأدوية لطفلته، وخوفه من العودة إلى مناطق النظام وتعرّضه للاعتقال، يقع النازح السوري أبو عمار من ريف حمص الشرقي في حيرةٍ من أمره.

وصل أبو عمّار إلى مخيّم الركبان هارباً من بلدة القريتين شرق حمص، بعد تعرّضها لقصف ومعارك، واستقرَّ في مخيّم الركبان في الفترة الأولى لإنشائه.

يقول لـ”درج”: “على رغم قساوة المنطقة الصحراوية صيفاً وشتاءً، ولكن كنّا نحتمل المعيشة في المخيّم ولا سيما مع توفّر مسلتزمات الحياة بشكلٍ جزئي، ولكن عندما اشتدَّ الحصار بات الأمر أكثر صعوبة من ذي قبل”.

يشرح الأربعيني أنّه مطلوب لدى الأجهزة الأمنية السورية، في حين أن طفلته البالغ عمرها 8 سنوات، تعاني من مرضٍ حاد في أمعائها، ولا تتوفّر لها الرعاية الصحّية. ويضيف: “منذ أشهر نقوم بمنحها المليّنات المعوية وبعض المشروبات التي تساعد على استقرار حالتها، ولكن لا يمكن البقاء على هذا الوضع”، موضحاً أنه وقع في حيرةٍ من أمره، بين البقاء داخل المخيّم والمغامرة بحياة طفلته، وبين الخروج إلى مناطق النظام السوري والمغامرة بحياته مع بقاء أسرته من دون معيل.

يقول محمد درباس رئيس المجلس المحلي في الركبان لـ”درج”: “إن الحياة سيّئة داخل المخيّم، فالمياه تأتي ملوّثة من الأردن، وهي بعيدة من المنازل ومكلفة جدّاً للنقل، إذ إن الساتر الأردني حيث تتوفّر المياه يبعد مسافة كبيرة من مناطق تمركز المدنيين”.

يؤكّد درباس، أن المخيّم لا يحتوي على أي مدرسة، وإنما هناك خيم يتم تعليم الأطفال فيها الأحرف الأبجدية وبعض الأشياء البسيطة لذلك لا يمكن اعتبارها مدارس، كما أن المخيّم الذي يضم أكثر من 25 ألف مدني، فيه مستوصف طبّي واحد يُدعى “مستوصف الشام” للإسعافات الأولية، وفيه أشخاص حاولوا التمرّس ليكونوا ممرّضين ويقدّموا الإسعافات الأولية.

ثمّة نقطة طبّية على الحدود السورية – الأردنية في الداخل الأردني، ولكن الدخول إليها شبه مستحيل، بسبب رفض استقبالها أي مريض حتّى لو كانت حالته سيّئة إلّا بعد وصول موافقة من الأردن على دخول المريض، وغالباً لا تأتي الموافقة، بحسب درباس.

في هذا السياق، يقول الناطق الرسمي لهيئة العلاقات العامة والسياسية في مخيم الركبان شكري شهاب لـ”درج”: “المخيّم أنشئ عام 2014 واليوم نحن في نهاية عام 2019، وحتى اليوم، لم يدخله طبيب واحد”، موضحاً أن من يقوم بالخدمة بعض الممرّضين إضافة إلى قابلتين اثنتين.

يعتبر شهاب أن المخيّم يمثّل “وصمة عار” على جبين العالم، ففي القرن 21، هناك ناس يعيشون في هذه الظروف المريرة، ويكمل: “بقينا 3 أشهر نشرب مياه تجمّع الأمطار التي كانت تشربها الحيوانات في المنطق. شربنا منها والعالم يشاهد ويستمتع بآلامنا ومرضنا”.

يسرد شهاب إحدى الوقائع التي عاصرها قائلاً: “لديَّ شهادة معهد تمريض لذلك أدير نقطة طبّية في المخيّم، وفي فجر اليوم الأول من عيد الأضحى قبل الفائت، جاءت إليَّ سيّدة تحمل طفلاً عمره 6 أشهر يلفظ انفاسه الأخيرة، بسبب إصابته بإسهال منذ أسابيع، وعدم توفّر الدواء اللازم فارتفعت حرارته وتدهورت حالته الصحّية. بعد الفجر بنحو ساعة كنت أنا والمرأة نشاهد الطفل أمامنا وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، من دون أن نستطيع فعل أي شيء”.

مساعدات بنكهة الدعاية السياسية

يقول محمد درباس رئيس المجلس المحلي في الركبان لـ”درج”: “إن المخيّم يعاني من حصارٍ شامل منذ مطلع العام الحالي”، مؤكّداً أن ما يدخل إلى المخيم من سلع يتم إمّا من طريق التهريب من مناطق النظام بأسعار تعادل عشرة أضعاف سعر السلعة الحقيقي، أو من خلال مساعدات تدخلها الأمم المتّحدة مرّة واحدة كل أشهر، ولكنها تكفي لأسبوعٍ واحدٍ فقط”.

يرى درباس أن النظام يطمع بالخزان البشري من الرجال الموجودين في الركبان لتجنيدهم في صفوفه، لذلك يسمح بإدخال كميات محدودة من المساعدات، لتبقي السكّان على قيد الحياة، فضلاً عن ترويج دعاية النظام بأنّه يسمح بتقديم هذه المساعدات تمهيداً لفكرة تفكيك المخيّم من خلال إيصال رسالة بأن أمر المدنيين هناك يعني حكومة الأسد، مبيّناً أن الأمم المتحدة لم تدخل المساعدات الطبّية المتّفق عليها، وإنما اقتصرت مساعداتها على بعض الأغذية التي تنفد بعد أيام.

كما أن قوافل الأمم المتحدة التي كانت بصدد الدخول إلى المخيّم لإدخال المساعدات، كان من المفترض أن تجلي معها نحو ثلاثة آلاف مدني من المخيّم إلى مناطق النظام، ولكن المجلس المحلّي في المخيّم رفض إجلاء المدنيين بسبب عدم التزام الأمم المتحدة إدخال المساعدات الطبّية المتّفق عليها.

وأصدر المجلس المحلّي قراراً في 29 أيلول الماضي، رفض فيه دخول وفد الأمم المتحدة والهلال الأحمر السوري إلى المخيّم، إلّا بعد إتمام الاتفاق وإدخال المساعدات الطبّية المتّفق عليها، ما دفع روسيا إلى إصدار بيان على لسان “مقر التنسيق الروسي السوري”، قال فيه: “إن خطة إخراج المدنيين من مخيم الركبان في سوريا أُحبطت لأن الولايات المتحدة لم تنفذ التزاماتها”.

سحب الشرعية من الوجود الأميركي

يعتبر درباس، أن هدف روسيا الرئيسي من تفكيك المخيّم، هو سحب الشرعية من قوات التحالف الدولي، التي تنتشر في قاعدة “التنف” العسكرية، وتستمد شرعيتها من وجود المدنيين، حيث يُلغى الهدف من إنشاء المنطقة الآمنة “55 كلم” عندما تكون خالية من الوجود المدني.

يضيف أيضاً، أن قاعدة “التنف” تقع على المثلّث الحدودي بين سوريا والأردن والعراق، وبالتالي تُعتبر منطقة مهمّة بالنسبة إلى إيران، لأن ذلك سوف يمكّنها من بسط سيطرتها على الجهة الجنوبية من البادية السورية، وعدم العبور من الجهة الوسطى للبادية، التي ما زال يتمركز فيها الآلاف من مقاتلي تنظيم “داعش” ويستهدفون الأرتال الإيرانية بشكلٍ مستمر.

ويؤكّد شهاب، أن الهيئة لم تتفاوض مع النظام أو الروس لإجلاء المدنيين أو إدخال المساعدات، بسبب عدم التزامهم وعودهم السابقة، مبيّناً أن المفاوضات تتم حصراً من طريق التحالف الدولي إذا حدثت مستقبلاً.

لا ضمانات على حياة المدنيين

يتابع شهاب، أن المدنيين الذين يخرجون من المخيّم لا ضمانة على حياتهم، ويقول: “يضع النظام الخارجين من المخيّم في مراكز إيواء في ريف حمص، بعضهم ما زال في المركز منذ أكثر من عام”.

وأوضح أيضاً، أن هناك مدنيين تم اعتقالهم فور عودتهم، وآخرين تم سوقهم للتجنيد الإجباري، ومنهم من اختفى ولا معلومات عن حياته حتى الآن.

وأكّد أن الأمم المتحدة ترفض أن تكون ضامنة لأي اتفاق، فهي تضمن فقط أن يتم إيصال من يخرجون إلى مراكز الإيواء ولكن لا ضمانات على حياتهم بعد ذلك.

يسلك المدنيون طرقاً صحراوية، تبدأ من مخيّم الركبان باتجاه الغرب، حيث يسير المدنيون مسافة نحو 15 كلم، خارج المنطقة منزوعة السلاح (المنطقة 55 كلم) وبعدها يصلون إلى حاجز لقوات النظام السوري يُدعى حاجز “جليغم” الذي يقوم باستلام المدنيين ونقلهم إلى الداخل السوري.

يختصر شهاب مطالب المدنيين في مخيّم الركبان حالياً بأحد الخيارين، إمّا فتح طريق آمن بإشراف الأمم المتحدة والتحالف الدولي ليغادر سكّان المخيّم نحو إدلب عن طريق الصحراء مع ضمان عدم اعتراض قوات النظام طريقهم، وفي حال تعذّر هذا الخيار، يكون البديل تأسيس قرية نموذجية في الصحراء، تقع في منطقة بعيدة نسبياً من الحدود الأردنية، فيها بئر للمياه مجهزة لهذا الغرض، على أن تكون تلك المنطقة تحت وصاية التحالف الدولي ريثما يتم إيجاد حل سياسي في سوريا يدعم عودة المدنيين بكرامتهم إلى منازلهم.

وقال: “وجهنا الكثير من الكتب إلى الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والتحالف الدولي، بفتح طريق إلى الشمال السوري لأهالي المخيم عبر الصحراء ولم يتجاوب معنا أحد ولم يعطنا أحد أي إشارة أو موافقة على هذا الأمر”.

وأكمل شهاب: “عدنا إلى المطالبة بوضع المخيم تحت وصاية التحالف الدولي لرعايته أو إنشاء قرية نموذجية تكون للمتبقين في المخيم، إلى حين إيجاد حل سياسي في سوريا”.

درج

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى