شعر

مختارات شعرية لآدم فتحي

الفرحةُ العمياء

أخرج إلى الفرحة منذ خمسين عامًا عينِي إلى الشمس قدَمِي في العطش، مثلما ولدتني أمّي. والفرحةُ لا تظهر.

أبْذر جسدي خطوةً خطوة تحت سياط النار على رمالٍ تتحرّك. أقول اخْضَرِّي يا شجرة الصبر.

الشمس محبرة الأحياء. العطش قلم العابرين. الرمال كلمات تتفتّت والخطوات نوعٌ من القراءة الماشية.

هذه المرّة لم أخرج وحدي. مشينا طويلاً أنا وإخوتي نساءً ورجالاً، جمرةً جمرةً، على حصير الحلفاء.

كثيرون توهّجت دماؤهم وهم يهتفون: هذه المرّة قد تظهر الفرحة. بينما الزمن يتفرّج غارسًا مرفقه في الأرض.

تونس كلُّها فراشٌ لعظامي، أقول لروحي. الحيّ يحتاج أحيانًا إلى جرعة من الموت كي يعيش.

لم يكونوا نساءً ورجالاً فحسب. كانوا صبرًا أحمر. دُمَّارًا أزرق. حريّةً تكظم غيظها.

ولم تكن حلفاء تمامًا، بل لسانًا قصرِينيًّا أصهب يدغدغ الأقدام المشقَّقة في طريق الفرحة العمياء.

كثيرون يدهنون شعرهم بالزيت مثلما يُدهَن رأس الخطاف. يقولون وعيونهم تلمع إنّ لهم موعدًا مع الفرحة.

لكنّ الفرحة لا تضرب موعدًا لأحد. الفرحة عمياء لا تهتدي إلى بشرٍ إلاّ إذا سمعَتْهُ يرقص مع المستقبل.

فجأةً تظهر وتمدّ يدها لتصافحك. وعليك أن تسافر دائمًا برقصٍ مسموع ويدٍ مفتوحة، وإلاّ اختفت الفرحةُ مثلما ظهرت.

أغمس جسدي في حوض المناجم، أكتب به حاضرًا لا ينظر إلى الخلف لا يدير ظهره إلى الأفق.

أقول لإخوتي على المسيرة أن تستمرّ. الفرحة تحبّ أن تقتُل عشّاقها في الموعد.

لكنّ بعضهم يلوذ بظلّ خيمة. يجلس ليرقع أيّامه ريثما يروي له الشيوخ حكايات الحُور والحرير المقصّب.

فجأةً يدقّ طبولَ فرحةٍ ليست له. أمّا أنا فأضع يدي في يد المستقبل وأواصل المحنة.

المستقبل ابن اليوم لكنّه لا يحبّ الثياب المرقَّعة. أَفْضَلُ له أن يظلّ قبّعتهُ الشمس وحذاؤُه العطش.

اللّقاء مع الفرحة يحدث دائمًا فجأةً في الطريق إلى الحياة. ولا فرق في المتاهة بين النباح وهدير السيّارات.

أضع يدي في يد المستقبل وأمشي. بُهْرَةٌ في البعيد تشير إلى أنّ هناك حياة ما. وعليَّ أن أُواصل.

أحيانًا ترتفع رائحة الشّواء، دوائرَ دوائر، من بين الأكشاك المتشابكة على جانبَي الطريق.

تقول لي الرائحة: خروف سيدي بوزيد لذيذٌ لكنّ لحمها مرّ. تَمْرُ نفزاوة عسلٌ لكنّ شوكتها واقفة.

– إلى أين؟

– إلى الأمام…

أضع يدي في يده دون أن أعرف مَن منّا خائفٌ على الآخر، أنا أم المستقبل؟

في أحيانٍ أخرى يرتفع النباح والهدير من بعيد أو من داخل الضلوع. أقول لروحي لا تخافي.

يدي في يد المستقبل وفي جيبي سنبلةٌ أحدف بها كلاب المتاهة، أرجم بها السيّارات المصفّحة والسكك الجاهزة، حبّةً حبّة.

في هذه المتاهة، المحظوظُ من يعرف الطريق إلى الليل كي يعرف طريقه إلى النهار.

وعمّا قريب يفضح اللوزُ أسراره البيضاء، تحمرُ خدود الرمّان، تضحك شجرة الصبر.

المستقبل طفلةٌ لا تعرف الخوف. لذلك تفتح ذراعيها للغريب القادم حتى حين يكشّر عن ماضيه. والفرحة تنتصر في النهاية لأنّها ابنة الرفيقين: العطش والشمس.

العطش يمنع من النوم

وتحت الشمس حتى الخوف يذوب.

* * *

الصنم

ظهر كلّ شيء دفعةً واحدة:

المرآةُ الكاذبة بصدقٍ تونسيّ أصيل. بطاقةُ البريد السياحيّة التي لم تعد تصلح حتى للفّ السندويتشات. الأمراضُ المزمنة التي أخذت تتمخّط كالقطط في سيقان المتظاهرين.

تجّارُ الحرب. الواثبون على الغنيمة. سُرّاقُ التركة. باعة الموت المعلّب في الفتاوى والهراوات. ثوّارُ المطرة الأخيرة. أثرياءُ الغضب الشعبيّ الجدد. زارعو الألغام في اللغة وفي الأرض.

الثوّار الحقيقيّون الذين أرادوا أن يفرحوا لكنّهم لم يجدوا مطرحًا للفرح. البسطاء الذين أوقدوا النار من شرر احتكاك ضلوعهم في البرد والجوع، وتركوا غيرهم يتدفّأ عليها.

الزرزور الضائع. الجائع الذي يناديه رغيف الخبز في فيترينة المخبزة. الذي يلبّي النداء ويظلّ ينقر المرّة تلو المرّة، حتى يدمى منقاره، بينما المارّة يضحكون. لا يفهمون أنّ

الجدار أقسى حين يكون من زجاج.

القنّاصةُ الذين يوزّعون شهائد الصيد من سطوح الشارع الرئيس. يتقاسمون الأوسمة والغنائم بشراهة ذئبيّة. بينما أنا أصرخ أصرخ. لا أحد منهم ينتبه إلى أنّي أصرخ من داخل فم الذئب.

وخاصّةً لمبة النيون المحترقة في عتمة النهار بينما البعوض يرقص في حلقات. أومئ لها من بعيد دون أن يطرف لها ضوء. أسمّيها أخي الذي احترق كي يضيء. أخي الذي أقاموا له صنمًا، بينما احترق كي تتحطّم الأصنام.

* * *

صبرة

جدّاتٌ كثيرات قلن لأحفادٍ كثيرين كيف انتزع الوحش صبْرة من أهلها الخائفين. كانوا يرتعدون حبيسين في أجسادهم ويعوون مثل قصباتٍ ذبلت فيها الحكمة.

“زوِّجوني ابنتَكم” زأر فهمسوا “زوّجناك”. هكذا حملها على كتفه إلى مغارته الدامسة. بينما الكلاب تتغامز وحدّادون غلاظٌ يقدّون من الرياح مفاتيح لإغلاق الأفق.

أجدادٌ كثيرون قالوا لحفيداتٍ كثيرات كيف عاشت صبرة في فم الوحش عمرًا دون أن تخاف أو تكذب. ظلّت تعجن خبزها بالبرق في انتظار اكتمال الدائرة.

“فَمُهُ أبخر” وشوشت في أذن أمّها والوحشُ يسمع. صار للزمن بين الأنياب مذاقٌ فاسد ورائحة عطنة. بعد عمرٍ قال الوحش “موتي لأنّكِ قلت الحقيقة”.

حُداةٌ كثيرون غنّوا لقوافل كثيرة كيف تصلّبت الظهور مثل القرميد. كيف امتدّت الأشرعة رموشًا للعواصف. كيف صنع الوحش من شريعته حكمةً شعبيّة:

“الجرح يبرا يا صبرة/ وتبلى عليه الضميدة

وكلمة السوء يا صبرة/ تمسي وتصبح جديدة”

لكنّ دماءً كثيرة انفجرت من جراحٍ كثيرة. الفصول تبلبلت. البحرُ تبخّر. الحجارةُ صارت أقراصًا من جمْر. حتى لمسات الحنان أصبح لها زعيقٌ مثل سيّارات الإسعاف.

غطس بصيرٌ في عين شمسٍ اسمُها سيدي بوزيد ففتح العميان عيونهم. انتفضَ الخطّاف الذي كاد يموت من صوت الرعد فأصبح الرعد يولد من منقاره.

جدّاتٌ كثيرات وأجدادٌ كثيرون وحُداةٌ أكثر عددا من الحصى وأحفادٌ وحفيدات استنشقوا غاز اللاكريموجان، سمعوا فينيقًا يتنفّض من الرماد، رأوا صبرة تغنّي:

“الجرح يبرا يا صبره/ وينطفي مثل الحريقة

وكلمة السوء يا صبرة/ هي اللي ما تقول الحقيقة”

* * *

خُطّاف النار

في السابع عشر من ديسمبر 2010 غادرت صبرة فم الوحش. تجرّدت من ثيابها القديمة. تنفّضت من أيّامها الجافّة. اغتسلت في حوض المناجم. صارت خُطّافًا من نار.

في الرابع عشر من جانفي 2011 فتحت باب البحر. لملمت ما تبعثر من عشّاقها. لسعتْ عقارب الساعة. نظرت إلى الوحش في عينيه. قالت “فَمُكَ أبخر”.

في الثالث والعشرين من أكتوبر 2012 خرجت من البراءة. كسرت مرآة الوهم. ارتطمت بجدار الخيبة. رأت الفرح يُراوغ. عرفت أنّها لم تعبر المحنة.

الحكاية هي الحقيقة.

هذا ما لم يعرفه المكسيكيّ الطائر، صاحب فلامنورا باني متاهة العزلة، البصيرُ الذي اقترح أن نمنح الكلمات عيونًا كي ترى.

الحكايةُ هي الحقيقة. وعلينا أن نمنح العيون حكايات كي تبصر.

هذا ما تعلّمته التونسيّة البتّارة، ابنةُ الشعانبي وبوقرنين، بعد أن أصبحت خُطّافًا طار من فم الوحش.

لم يبق للشاعر إلاّ أن ينتظر اكتمال القمر كي يعوي من جديد. أن يُنصت إلى عماه السحيق كي يرى. أن يغمس قلبه في الشمس كي يكتب.

في السابع عشر من الشهر الأصمّ، في الرابع عشر من الشهر الأعمى، في الثالث والعشرين من الشهر الأبكم، حدث ما لم يحدث: خُطّاف من نارٍ قال للربيع كُنْ… فكاد.

وعلينا أن نكون ريشاته السريّة، مخالبه وأنيابَه.

الربيع الذي يلدُهُ خُطّافٌ واحد،

تقتله ورقة خريفٍ واحدة.

* * *

أهل الكهف

غادرتُ جسدي يومها ونسيت طريق العودة. ظلّ أصدقائي يحلّون مشاكل الأرض مسندين مرافقهم إلى كونتوار مقهى الكون. لم ينتبهوا إلى جوهر المشكلة:

أنّنا نسينا أجسادنا. أنّ ساعة الساحة الكبيرة توقّف عقرباها. أنّ الأرض نفسها توقّفت عن الدوران. كأنّ يدًا خفيّة تمسك بالريموت كنترول قرّرت لها أن تتوقّف.

فجأةً لم أجد جسدي. لم أجد مقهاي. لم أجد أصدقائي. لم أجد الكونَ نفسَه. كأنّ اليد الخفيّة علّقت على كلّ شيء لافتة كبيرة مكتوبا عليها: مغلق في انتظار الإصلاح.

الكلمات نفسها تحوّلت إلى أوراق جافّة، تطايرت في هواءٍ محاصر بالمقدّس والخصوصيّات والأسلاك الشائكة، دوّمت قليلاً في الجوّ مثل أوراق الخريف، قبل أن تقع على الأسفلت.

تاريخٌ جديد يُكتَب. وحيثما أتلَفّتُ، أرى الأيدي التي تكتبه تتلوّى من ناحية الكهف، قادمة من خارج التاريخ.

لم أشعر بالرعب من المجهول الممكن. لم أتذكّر كافكا ولا كلبه. لم أتلفّت تحسّبا من القنّاصة. لم أتحسّس جيبي لأطمئنّ على حليب ابنتي. لم أتمخّط في قصيدة جديدة.

لم تبدُ لي الحياةُ جديرة بالحياة، جميلةً، فاتنة، ممكنةً، مطمْئِنة، كما تبدو لي الآن. حتى أنّي لا أسأل ما الذي يطمئنني تحديدًا: الممكن لأنّه مجهول أم المجهول لأنّه ممكن؟

فجأةً تغمرني ثقة عارمة في أنّي لا أحتاج إلى أكثر من امرأة عابرة، تحرّك ردفيها فتعيد الحياة إلى أهل الكهف.

* * *

المسطرة

على امتداد الشارع تتدلّى عناقيد مكتنزة بالنيون. الأيدي التي تمتدّ إليها تبدو شبيهة بخراطيم الفيلة. فيلة من تعب وهشاشة. وبين الحين والآخر، تهوي المسطرة على اليد سيّئة الحظّ.

خلف النوافذ ترسم المصابيح ظلالا صينيّة، تتبادل المسافات والهمس. السيّارات نفسها في بريقها الأعمى تلعب الغمّيضة مع مساطر الأضواء الحمراء والبوليس السياسي.

خوار الأبقار في الزرائب. نقيق الضفادع. الغبار المتصاعد من القرى والأرياف المنسيّة، المخفيّة مثلما تُخفَى بثور الجدري، كلّها تمسك أنفاسها كي لا تهوي عليها المسطرة.

كان علينا أن نثور كي نعيش.

بعد خسارات كثيرة عرفنا أن الحياة لا تكون إلاّ خارج السطر،

لكنّنا لم نعرف بعد أين تقع المسطرة.

لا أحد يعرف أين هي تحديدًا. لا أحد يسأل في يد مَن هي. ثمّة من يقول لا مسطرة بعد الآن ولا هم يسطّرون. حتى العشبُ حرٌّ اليوم في أن يتطفّل على الجدران والأسفلت.

لكن إذا أردتم برهانًا على أنّها مثل الموت حقيقة لا شكّ فيها، فانظروا جيّدًا إلى ما تحت الجلدة: كلٌّ يحمل في الداخل مسطرة. كلٌّ خائف من أن يُضبط آخَرُهُ خارج السطر، متلبّسًا بالحياة.

في تلك اللحظة تحديدًا قلت: لولا نهود الفتيات الراقصة خارج قانون الجاذبيّة، لامتنع الزمن نفسه عن الخروج على السطر.

في تلك اللحظة تحديدًا فهمت لماذا كتب أحد الصحافيّين لنيكوس كازنتزاكي: لم أرغب في المجيء لرؤيتك لأنّك ضميري وأفضّل عدم الإنصات إليه.

* * *

خبزُ الأمل

أظلُّ أغرف النارَ بعينيَّ

بعد أن احترق أخي في الساحة العامّة. التضحيةُ مصباحٌ وسكّين. وعلى اليد الناجية أن تجرح العتمة كي لا يذهب الحريق هدرًا، كي لا يعشّش الصبر في المسامّ مثل الصمغ.

أظلُّ أمشي وفي يدي النار. كلّما حككْتُ قدمي بالأرض سمعتُ غناء الرمل، شممتُ رائحة الزمن المتسرّب من بين الأصابع، خَفَتَت الضجّةُ الحيوانيّة المنبعثة من تحت الأقنعة والكمّامات.

ليس من عتمةٍ تنهار بسهولة لا هنا ولا هناك. ليس من عتمةٍ تنهار حقًّا في أيِّ مكان. إنّها تزداد قوّةً كلّما وقعَتْ أرضًا كأنّها ترضع أنهارًا لا تُرى بالعين المجرّدة.

وعليك أن تُلقي بها دائمًا إلى حيث لا جذور.

أظلُّ أمشي ومن حولي تتضوّر الأساطير. الطريقُ طويلةٌ والكلُّ يجوع حتى الأمل الأخير. وعليك أن تحتفظ دائمًا بشيء من اليأس في جيوبك الداخليّة. اليأسُ خبز الأمل.

كائنات كثيرة يجلبها الضوء. بعوضٌ. ذبابٌ. أسرابٌ من الحشرات السامّة. أقول لها هذا حريقي وليس كعكةً لكنّها لا تبالي. لا تترك المغارات إلاّ إلى وليمة.

لذلك تعلّمتُ أن لا أتوقّف عن المشي. لن أضع من يدي النارَ حتى إتمام المهمّة. وكذلك إخوتي النّساءُ والرّجالُ والصّبيةُ مثقلو الجيوب بهواتفهم وحواسيبهم المحمولة.

حتى الخرّوبُ لن يتوقّف عن المشي ومن حوله النخلُ والزيتون والبرتقال وشجر الدفلى. على كلٍّ أن يمشي بما في يده من الحريق، وأن يُلقم الآخرَ أحلامَهُ مثل طائرةٍ تُرضِعُ أختها في الجوّ.

لن يخيفنا أن نرى العتمة تتمطّى. لن يخيفَنا حتى أن نشعر أحيانًا بشيءٍ من اليأس. قَدَرُ الضوء أن يجلب دائمًا البعوض. ولماذا الخوفُ ما دام الأملُ نفسهُ يحتاج إلى يأسٍ يغذّيه.

 ليتني حجر

لَيْتَنِي حَجَرٌ يا ابْنَتِي لَيْتَنِي مِنْ حَجَرْ

كَيْ أرَى ما أرَى دُونَ أنْ أنْفَجِرْ

لَيْتَنِي كُنْتُ لَوْحًا مِنَ الزِّنْكِ أو خشَبًا أوْ رُخامًا

فلا أتوجَّعُ أو أتفجَّعُ أو أتصدَّعُ أو أتبَعْثَرُ أو أنْتَثِرْ

كُلَّمَا امْتَدَّ فِيَّ السُّؤالُ شُروخًا وأَقْبِيَةً وسِهَامًا

إلى أَيْنَ بَعْدُ، نِيامًا وماشِيَةً ونَعامًا؟

وماذَا فَعَلْتُمْ بِأَحْلامِكُمْ يا أبِي، مُنْذُ خَمْسِينَ عَامًا؟

وأَيَّ بِلادٍٍ تُرِيدُونَ أَنْ تُورِثُونَا، حَشِيشًا وبرْدعَةً ولِجَامًا؟

وماذا تُرَى تَفْعَلُونَ بِأَحْلاَمِنَا وَهْيَ تُولَدُ كَيْ تتَدَاعَى

وتَكْبُرُ كَيْ تَنْكَسِرْ

*

آهِ يا مَيُّ يا مَيُّ لَوْ تَغْفِرِينَ ولَوْ مَرَّةً لأَبِيكِ

خَصاصَةَ عِيشَتِهِ وهَشاشَةَ حِيلَتِهِ

وهْوَ أعزَلُ يحْرُسُ وَرْدَتَهُ في فَمِ الذِّئْبِ

لَوْ تَسْمَعِينَ لَهُ كَيْفَ يَطْوِي على خَفْقَةِ القَلْبِ

أعْذارَهُ دُونَ أنْ يَعْتَذِرْ

كَيْفَ يَشْكُو ويَكْتُمُ شَكْوَاهُ كَيْ لا يُرَى شاكِيًا

كيْفَ يَبْكِي ويَضْحَكُ كيْ لاَ يُرَى باكيًا

كَيْفَ يَدْفنُ دَمْعَتَهُ في الذَّهابِ

ويَدْفنُ شَمْعَتَهُ في الغِيابِ

ويَفْرشُ لَوْعتَهُ في طرِيقِكِ

كَيْ لا تَعُوقَ خُطاكِ الحُفَرْ

آهِ كَمْ ضاعَ يا ابْنَتَهُ فِيهِ

يَجْرِي ورَاءَ هَوَاءٍ جَدِيرٍ بِفَاكِهَةِ الرُّوحِ

مُنْشَغِلاً عن سماءٍ مُطّوقةٍ بالسُّفُوحِ

مُطِلاًّ على نفْسِهِ في بلادٍ تَليِقُ

بما سَالَ مِنْ دَمِنَا في عُرُوقِ الشَّجَرْ

ليْسَ فيها قراصِنَةٌ فَوْقَ ما يُسْتَطاعُ

ولا فُقَرَاءُ يُطِيعُونَ ما لا يُطاعُ

ولا أُمَرَاءُ يَبِيعُونَ مَا لاَ يُبَاعُ

ولا تتخَفَّى طَواحِينُها في ذِئابِ البَشَرْ

مائِلاً عنْ طَريقِ القوافِلِ

مُلْتَحِفًا بأغانِيهِ في كُلِّ عاصِفةٍ

واقفًا في سفينَتِهِ

يتحَصَّنُ ضِدَّ الشِّباكِ وضِدَّ الجِهاتِ

وضِدَّ الهَلاكِ وضِدَّ النَّجاةِ

وضِدَّ دَوَاهٍ أُخَرْ

مُوحِشَ البَحْرِ مُسْتَوْحِشَ البَرِّ

مُسْتَأْنِسًا بنَدَى قَلْبِهٍ ونِدَا شَعْبِهِ

مُصْغِيًا في سُكُونِ اللَّيالِي

إلى خُطُواتِ السَّلُوقِيِّ مِنْ خَلْفِهِ

راجِيًا أن يَطُولَ السَّفَرْ

رَيْثَما يَتبَيّنُ ماذَا يُرِيدُ

وعَنْ أيِّ سِرٍّ يُراوِدُ هذا المَدَى

ومتى يَتسَنَّى لَهُ أنْ يَعُودَ من البَحْرِ

أو أَنْ يَعُودَ من الحِبْرِ

أو أَنْ يَعُودَ من الحَرْبِ

في هَيْئَةِ المُنْتَصِرْ

هُوَ ذَا…أَكَلَتْهُ الدُّرُوبُ

فلاَ هُوَ عادَ بِعُشْبَةِ جِلْجَامِشَ الأَبَدِيَّةِ

لا هُوَ لاَقَى عَرَائِسَ عُولِيسَ

لا هُوَ شَيّدَ قَلْعَتَهُ عَاليًا

لا هُوَ ارْتَدَّ عَنْ حُلْمِهِ وانْكَسَرْ

*

لَكِِ أَنْ تَحْمِلِي المِشْعَلََ الآنَ يا مَيُّ

فَلْتَحْملِيهِ. دَمِيتُ،

ولكنّني سأظلُّ على عَهْدِنَا مَا حَيِيتُ

يَدِي في يَدَيْكِ وكَفِّي على الجَمْرِ

كَيْ لا يَعَضَّ على قَدَمَيْكِ

وإنْ طالَ هذا السَّفَرْ

تَتَمَشَّيْنَ حذْوِي على حَذَرٍ

مِثْلَ مَنْ يَتَمَشَّى على كِسَرٍ مِنْ شَذَى الرُّوحِ

شَعْرُكِ يُومِضُ في لُجّةِ الكَلِماتِ

وأنْتِ تُعِيدِينَ تَرْتِيبَ فَوْضَى الحيَاةِ

وتَأْثِيثَ قَلْبِي بمُسْتَقْبَلٍ مُمْكِنٍ

مُتَسَائِلَةً كَيْفَ تَنْمُو صِغَارُ النَّبَاتَاتِ

والدُّودُ كَيْفَ يَرَى دَرْبَهُ في المَسافاتِ

والحاجِبُ المُتَقَوِّسُ في قُزَحٍ

هَلْ يَنَامُ وتَنْصُلُ ألْوانُهُ في المَطَرْ

والنُّجُومُ التي انْتَثَرَتْ في السَّماواتِ

كالبَيْضِ أَيُّ الدَّجاجاتِ

تَحْنُو عليها لِتَفْقسَ أمْ أنَّها صَدَفُ الذِّكْرَياتِ

وحَلْوَى تَنَاثَرُ مِنْ عَرَباتِ السَّهَرْ

لنْ أَخِرَّ على الأرْضِ

إِلاَّ لأَزْرَعَ فيها مَزِيدًا من الحُلْمِ لَمْ يَحْتَضِنْهُ الرَّبِيعُ

وحُرًّا كَمَا أسْتَطِيعُ، سَعِيدًا على قَدْرِ مَا أسْتَطيعُ

سَأَمْضِي إلى آخِرِ القَهْرِ، أمْضِي إلى آخِرِ الصَّبْرِ

أمْضِي إلى موْعدِي المُنْتَظَرْ

رغْمَ يَوْمٍ يَحِنُّ إلى أمْسِهِ لاَ إلى غَدِهِ،

وغَدٍ يَتَعَمَّدُ إِخْلافَ مَوْعِدِهِ

صارِخًا في المَدَى

حَيْثُ لا شَيْءَ يُرْضِي البَصِيرَة

لا شَيْءَ يُرْضِي البَصَرْ

غَيْرَ شعْبٍ يمُوتُ ليَحْيَا،

ويَكْتُبُ بِالدَّمِ فوْقَ عِبَارةِ يَحْيَا

إذَا الشَّعْبُ يَوْمًا أرادَ الحياة

ولم تُوقِظِ الرُّوحُ فِيهِ المَوَات

ولم يَنْفُضِ القَلْبُ عَنْهُ الحَجَرْ

فَهَيْهاتَ أَنْ يَسْتَجِيبَ القَدَرْ

*

لَيْتَنِي قَشَّةٌ يا ابْنَتِي لا تخافُ العَجَاجةَ

بل لَيْتَنِي مَوْجَةٌ لا تُبَالِي

إِذَا هَزَّها بَحْرُ بنْزرْتَ أَيْنَ تَقُودُ الزُّجَاجَةَ

أو قَمْحَةٌ تَتَكَسَّلُ في شَمْسِ بَاجَةَ

أو حَنَشٌ في مَسَارِبِ نَفْزَاوَتِي

يُوقِظُ العَنْزَ مِنْ نَوْمِهَا ويُثِيرُ الدَّجَاجَةَ

مُلْتَحِفًا بِشُعَاعِ القَمَرْ

لَيْتَنِي لِحْفَةٌ في رِيَاحِ المَرازِيقِ

أو سَعْفَةٌ تَحْتَ حِمْلِ العَلِيقِ

تُزَخْرِفُ رَمْلَ الجَرِيدِ

ولا تَتَوَقَّفُ إِنْ نَسِيَتْ نَفْسَهَا في الطِّرِيقِ

لِتَسْأَلَ عَنْ حَجَرٍ أو بَشَرْ

لَيْتَنِي حَجَرٌ خَرَّ مِنْ بَيْنِ غَمْضِ الجُفُونِ على رَأْسِهِ

في الطَّرِيقِ إلى تَاءِ تَالَةَ أو بَاءِ بُوزِيدَ

فاصْطَرَّ كالحلَزُونِ على نفْسِهِ

لا رِسَالةَ تَشْغَلُهُ لا بَرِيدَ

ولاَ صَرَّ لا قَرَّ لاَ بَرْدَ لا حَرَّ لا صالِحِي لا مَطَرْ

لَيْتَنِي مَا وَرِثْتُ دَمَ المُتَنَبِّي ولا قَلْبَ دَرْوِيشَ

بَلْ لَيْتَنِي مَا عَبَثْتُ مَعَ المَوْتِ حتّى أَعِيشَ

إلى حِينِ أَصْرُخُ لَيْتَ الفَتَى حَجَرٌ

لَيْتَنِي حَجَرٌ

لَيْتَ رُوحِي وقَلْبِي وعَقْلِي حَجَرْ

لَيْتَنِي حَجَرٌ كَيْ أَرَى مَا أَرَى:

الدَّمَ يُهْرَقُ والحُلْمَ يُزْهَقُ والصَّمْتَ يُطْبِقُ

مِنْ غَيْرِ أَنْ أَتَفَطَّرَ أو أَتَفَجَّرَ أو أَنْتَحِرْ

لَيْتَنِي حَجَرٌ، كيْ أَرُدَّ على كُلِّ هذا الرَّصَاصِ،

وأَهْدِمَ سَقْفَ الرَّصَاصِ،

وأَصْرُخَ في جَبَرُوتِ الرصَاصِ

ارْفَعِ اليَدَ عنْ دَمِنا،

وارْفَعِ اليَدَ عن شَعْبِنَا،

وارْفَعِ اليَدَ عنَّا،

فقدْ نَفَدَ الصَبْرُ منْ صَبْرِنا وانْدَثَرْ

لَيْتَنِي حَجَرٌ…غَيْرَ أنِّي بَشَرْ

قَدَرِي أَنْ أَظَلَّ أدُقُّ على بَابِ حُلْمِي

بلَحْمِي وعَظْمِي

إلى أنْ أمُوتَ على البابِ أو أَنْتَصِر

( كتبت في 10 جانفي 2011

ونشرت على الفايسبوك في 11 جانفي 2011  )

القراصنة

*

قَبْلَ أَنْ يَصِلُوا بِقَلِيلٍ، جَلَسْنَا على رُكْبَةِ البَحْرِ نَغْسِلُ

أَيَّامَنَا مِنْ دُخَانِ الحُرُوبِ القَدِيمَةِ…كُنَّا بَعِيدِينَ عَنْ

غَدِنَا، فَهُرِعْنَا عُرَاةَ الجُنُوبِ حُفَاةَ القُلُوبِ إلى حُفَرِ

المَاءِ نُخْفِي سَفِينَتَنَا الخَائِفَةْ

قِشْرَة الجَوْزِ هذي التي يَخْرُجُ الأَبْيَضُ المُتَوَسِّطُ مِنْ

قَلْبِهَا وَهْوَ أَزْرَقُ. هذي التي تَتَرَقْرَقُ في حَلْقِ بَحْرٍ

يَغَصُّ بِهَا ثُمَّ يَشْهَقُ، لاَ هِيَ تَطْفُو وَلاَ هِيَ تَغْرَقُ في

لَحْظَةٍ وَاقِفَةْ

عِنْدَ نِصْفِ الطَّرِيقِ إلى غَدِنَا…

ثُمَّ لم نَدْرِ كيف شُوِينَا على رَغْوَةِ النَّارِ، مُخْتَرَعِينَ

أَسَاطِيرَ عَنْ شَعْرِ شَمْشُونَ، عَنْ جُزُرٍ قَادَهَا بَرْبَرُوسُ إلى

حَتْفِهَا، عَنْ بَرَاءَةِ سِيبْيُونَ مِنْ ملْحِ قَرْطَاجَ، عَنْ أَنَّ

كَالِيغُلاَ كَانَ سَمَّى حِصَانًا لَهُ قُنْصُلاً حِينَ جَاشَتْ بِهِ

العَاطِفَةْ…

*

قَبْلَ أَنْ يَصِلُوا بِقَلِيلٍ جَلَسْنَا على رُكْبَةِ العَاصِفَةْ

نَتَنَفَّضُ مِثْلَ النَّوَارِسِ مِنْ طُحْلُبِ البَحْرِ…

لَكِنَّهُمْ قَوَّسُوا البَحْرَ وَالبَرَّ…حتّى الشُّعَاعُ الذي يَتَسَلَّلُ

مِنْ جِهَةِ الشَّمْسِ في وَمْضَةٍ خَاطِفَةْ

حَادَ عَنْ يَدِنَا، وَتَقَوَّسَ في يَدِهِمْ مِنْجَلاً

لِحَصَادِ سَنَابِلِ أَحْلاَمِنَا النَّازِفَةْ…

*

عَضَّنَا البَحْرُ. لَمْ يَكْتَرِثْ لَحْمُنَا. ضَرَّجُونَا قَرَاصِنَةً

وَطَوَاحِينَ. لَمْ ينْتَفِضْ فَحْمُنَا. قَبْلَ أَنْ يَبْطُلَ السِّحْرُ

فَاضُوا قَبَاطِنَةً وَقَرَابِينَ. لَمْ يَنْتَبِهْ حُلْمُنَا. نَاحَ

خَطْمُ السَّفِينَةِ. لاَحَ السَّلُوقِيُّ يَنْشُجُ في إثْرِهِمْ.

أَمَرُونَا بِأَنْ نَحْطِبَ الليْلَ مُنْطَفِئِينَ. وَأَنْ نَشْتَعِلْ

كَيْ يَرَوْا جَيِّدًا أَيْنَ يَخْتَبِئُ الفَجْرُ فِينَا، وَأَيْنَ يَنَامُ الأَمَلْ…

طَقَّ عَظْمُ السَّفِينَةِ في السَّطْحِ. عَضَّتْ عَلَيْنَا الصَّوَاعِقُ

فَاحْتَرَفُوا صَقْلَ أَنْيَابِهَا. لَمْ نَكُنْ ذَاهِبِينَ إلى الرِّبْحِ

كَيْ تَتَعَشَّى الحَرَائِقُ. هَمَّ السَّلُوقِيُّ بِالنَّبْحِ حتّى إِذَا

شَمَّ حُرْقَتنَا بَحَّ. مَالَتْ صَوَارِي السَّفِينَةِ مِنْ عَطَشِ

الحُبِّ. لَكِنَّهُمْ حَارَبُونَا بِهَا. لَمْ نَزَلْ

نَتَرَاشَقُ بِالصَّبْرِ. لاَ الفَجْرُ صَحَّ وَلاَ المُدْلَهِمُّ اكْتَمَلْ…

طَقَّ عَظْمُ السَّفِينَةِ مِنْ جِهَةِ القَبْوِ، فَانْتَبَهُوا

لِلسَّلُوقِيِّ. لَمْ يَعْوِ لَكِنَّهُمْ خَوَّفُونَا بِهِ. كَلْبُ

عِزْرِيلَ قَالُوا، لِنَرْحَلَ بِالخَوْفِ مِنْهُمْ إِلَيْنَا وَمِنَّا

إِلَيْهِمْ. وَمِنْ فَوْرِهِمْ حَرَّضُوهُ عَلَيْنَا…وَلَكِنَّهُ ظَلَّ

يُقْعِي على ذَيْلِهِ ثَابِتًا كَالجَبَلْ

لَمْ يُبَصْبِصْ لَهُمْ مِثْلَ بَعْضِ ذَوِينَا، وَلَمْ يَمْتَثِلْ…

*

قَبْلَ أَنْ يَصِلُوا بِقَلِيلٍ، ظَهَرْنَا على ظَهْرِهَا صُدْفَةً،

وَكَبُرْنَا على ظَهْرِهَا صُدْفَةً، وَنَذَرْنَا على المَوْتِ أَنْ لاَ

نَمُوتَ على ظَهْرِهَا صُدْفَةً…بَيْضَة الجِصِّ

هذي التي تَتَفَتَّتُ مِنْ تَحْتِنَا…

ثُمَّ سُرْعَانَ مَا وَصَلُوا…فَنَذَرْنَا على عُمْرِنَا أَنْ نَخُوضَ

حُرُوبَ المَوَاقِعِ مُلْتَحِفِينَ بِجَمْرِ الفَواجِعِ، نَحْفَظُ

وَرْدَتَهَا وَنُحَصِّنُ قُمْرَتَهَا، وَنَسُدُّ الثُّقُوبَ التي

يَزْرَعُونَ على وَجْهِهَا…

لَمْ يَكُنْ مِنْ سِلاَحٍ لَنَا غَيْرُنَا، فَامْتَشَقْنَا أَمَارَاتِ

أَسْنَانِنَا في المِيَاهِ. وَلَكِنَّهُمْ نَهَبُوا المَاءَ والملْحَ،

والدَّمَ والجُرْحَ، والصَّحْوَ والنَّوْمَ، والغَدَ والأَمْس واليَوْمَ،

والغَضَبَ العَامَّ والغَضَبَ المَنْزِلِيَّ، وحتّى الغَبَاءَ الغَبِيَّ

الذي كَانَ طَبَّلَ في عُرْسِهِمْ ورقَصْ…

نَهَبُوا مَا غَلاَ نَهَبُوا مَا رُخُصْ

نَهَبُوا مَا حَوَتْهُ الجُيُوبُ وَمَا خَبَّأَتْهُ القُلُوبُ

وَمَا دَنْدَنَتْهُ الأَغَانِي وَمَا وَشْوَشَتْهُ القصَصْ

نَهَبُوا كُلَّ مَا ظَلَّ أَخْضَرَ، حتّى الغُصَصْ

وَهْيَ تُولَدُ في الحلْقِ…لَمْ يَتْرُكُوا فُرْصَةً للفُرَصْ

كَيْ تُؤَاتِيَنَا، فَنَعِيشَ وَلَوْ مَرَّةً أو نَمُوتَ

بَعِيدِينَ عَنْ جَزْرَةٍ في قفَصْ…

*

هَلْ جَلَسْنَا؟

جَلَسْنَا نَعُدُّ خَسَارَاتِنا قُرْبَ صَحْنِ السَّلُوقِيِّ: بَحَّارَةٌ

أَوْثَقُوا بِالسَّلاَسِلِ أَنْفُسَهُمْ لِلصَّوَارِي. على الجَانِبَيْنِ

مَدَافِعُ فَوْهَاتُهَا نَحْوَ رُكَّابِهَا. كَلِمَاتٌ تَدُقُّ على

بَعْضِهَا كَالعِصِيِّ. مَنَاظِيرُ عَمْيَاءُ. سَطْلٌ على رَمَدِ النَّارِ.

بِضْعُ خَرَائِطَ غَدَّرَهَا الدَّمُ وَالمَاءُ. بَوْصَلَةٌ جَفَّ فيها

الشَّمَالُ فَخَرَّتْ على السَّطْحِ تَلْحَسُ ظِلَّ البَلَلْ

حِيَلٌ لِلبَقَاءِ تُحَاوِلُ أَنْ لاَ تَمُوتَ بِتَرْكِ الحِيَلْ…

*

هَلْ هَمَسْنَا؟

هَمَسْنَا بِأَسْمَائِنَا فَاخْتَنَقْنَا. هَمَسْنَا بِأَحْلاَمِنَا

فَاحْتَرَقْنَا. الْتَمَسْنَا مَكَانًا لِمَأْسَاتِنَا في كِتَابِ

الخَلِيقَةِ ثُمَّ انْشَقَقْنَا عَنِ الكُلِّ، جُغْرَافِيَا

وَأَسَاطِيرَ…مَأْسَاتُهُمْ: أَنْ يَسِيبُوا وَأَنْ يَحْلُمُوا

وَيخِيبُوا وَيَمْضُوا إلى قَدَرٍ في النِّهَايةِ لاَ

يَستجيبُ…وَمَأْسَاتُنَا: أَنْ نَعِيشَ النِّهَايَةَ مُنْذُ البِدَايَةِ،

مَوْتًا طَوِيلاً ثَقِيلاً، يُؤجَّلُ حتّى بُلُوغِ الأَجَلْ

لاَ ضَمِيرَ لِيَشْهَدَ، لاَ شِكْسبِيرَ لِيَحْفَظَنَا في كِتَابِ الأَزَلْ…

*

هَلْ غَطَسْنَا؟

غَطَسْنَا؟ وَلَمْ يَظْهَرِ القَاعُ. عَضُّوا عَلَيْنَا قَرَاصِنَةً

وَثَعَابِينَ. هَلْ شَبِعُوا؟ لاَ. وَلَكِنَّهُمْ حِينَ لَمْ يَتْرُكُوا في

السَّفِينَةِ مَا يُشْتَرَى أَوْ يُبَاعُ اشْتَهَوْا لَحْمَنَا. كُلَّمَا

أَكَلُوا مِنْهُ جَاعُوا، وَقَامُوا إلى عَظْمِنَا يَشْحَذُونَ

السَّكَاكِين.َ مَاذَا تَبَقَّى لِنَخْسَرَ؟ أَنْ يَأْمُرُونَا احْمِلُوا

نَعْشَكُمْ فَنَخِفَّ إلى نَعْشِنَا؟ لاَ حَجَلْ

يَحْرُسُ البَيْضَ في عُشِّنَا. لاَ نُهُودَ تُرَطِّبُ أَشْعَارَنَا لِلغَزَلْ…

*

هل يَبِسْنَا؟

يَبِسْنَا طَوِيلاً إلى أَنْ تَيَبَّسَ في رُوحِنَا شَجَرُ الصَّبْرِ،

وَالرُّوحُ خَضْرَاءُ. لَكِنَّهُمْ أَطْرَدُونَا مِنَ الخُبْزِ وَالحِبْرِ،

وَاحْتَضَرُونَا طَوِيلاً. فَمِتْنَا قَلِيلاً وَعِشْنَا قَلِيلاً، على

وَهْمِ أنْ يَرْحَلُوا مِنْ على ظَهْرِنَا. وإذا لم يكن مستحيلاً، على وهم

أن يرحلوا مِنْ على ظَهْرِهَا. لَمْ نَمِلْ عَنْ قَصِيدَتِنَا. لَمْ نَمِلْ

عَنْ سَفِينَتِنَا. وَدَعَوْنَا السَّلُوقِيَّ كَيْ نَتَقَاسَمَ خُبْزَ المَلَلْ…

*

هَلْ نَعَسْنَا؟

نَعَسْنَا وَلَمْ نُغْمِضِ العَيْنَ. لَكِنَّهُمْ أَغْمَضُونَا سِنِينَ.

وحَثُّوا الخُطَى مُتَعَامِينَ، كَيْ يَصِلُوا وَقِحِينَ إلى حَيْثُ

يُخْجِلُنا أَنْ نَصِلْ…

*

هَلْ يَئِسْنَا؟

يَئِسْنَا إلى آخِرِ اليَأْسِ. يَا كَمْ يَئِسْنَا إلى آخِر اليَأْسِ

لَمْ يَبْقَ في الأُفْقِ إِلاَّ الأَمَلْ…

*

عَضَّنَا البَحْرُ. لَمْ يَنْتَبِهْ نَجْمُنَا. كَانَ يَشْوِي على

ظَهْرِنَا سَمَكًا، عِنْدَمَا أَصْبَحَ البَحْرُ كَمَّاشَةً بَيْنَ عُكّازِ

مُوسَى ومِهْمَازِ خُوفُو وسَاقَيْ هِرَقْلٍ وَنَهْدَيْ أَثِينَا.

فَمَزَّقَنَا الصَّبْرُ وَالصَّخْرُ حتّى نَسِينَا حِرَاسَةَ أَوْصَالِنَا.

لَمْ نَكُنْ غَيْرَ بَحَّارَةٍ هَارِبِينَ بِأَحْلاَمِ أَطْفَالِنَا.

لاَ زَلاَبِيَةٌ لاَ جِرَارُ عَسَلْ

في صَنَادِيقِنَا، لاَ بَطَلْ…

رُبَّمَا يَهْدَأُ البَحْرُ قُلْنَا. وَلَمْ يَهْدَأِ البَحْرُ. لَنْ

يَهْدَأَ البَحْرُ إِلاَّ إِذَا ثَارَ فِيناَ. وَلمْ يَخْجَلُوا. لَمْ

يَقُولُوا لَنَا كَيْفَ صَارُوا قَرَاصِنةَ البَحْرِ أو كَيْفَ صَارُوا

بَرَابِرةَ البَرِّ. لَمْ يَرْحَلُوا. لَمْ تُغِثْنَا الجِهَاتْ

كَيْ نَعِيشَ. وَكِدْنَا نَمُوتُ وَلَكِنَّنَا

لَمْ نَجِدْ غَيْرَ ذَيْلِ السَّلُوقِيِّ حَبْلَ نَجَاةْ…

*

مَا الحياةُ إِذَا أََصْبِحَ المَوْتُ نَوْعًا مِنَ الحَلِّ؟

خُذْ يَا سَلُوقِيُّ عَظْمَتَنَا…خُذْ غَنِيمَتَنَا المُشْتَهَاةْ

خُذْ بِثَارَاتِنَا…آخِرُ الأُمْنِيَاتْ

أَنْ نَرَى كَلْبَ عِزْرِيلَ يُنْصِفُنَا مِنْ كِلاَبِ الحَيَاةْ…

نافخ الزجاج الأعمى

كيف تكتبُ؟ (سألت الطفلةُ أباها وكان أعمى) كيف تكتب؟

أنظرُ في نفسي (قال) أنظر في نفسي طويلاً

إلى أن أرى ثقبًا في الورقة

أضعُ على الثقب كلمةً صغيرة

ثمّ كنافخ الزجاج

أنفخُ في الكلمة كي تكبر (قال) أنفخ في الكلمة

كي تكبر قليلاً

هكذا أحصلُ أحيانًا على قصيدة

ثمّ ماذا (سألت الطفلة أباها) ماذا بعد ؟

لا شيء يا ابنتي (قال) لا شيء يا ابنتي

يستحقّ الذكر

سوى أنّي

قد أقع في الثقب فلا أعود.

ورقةٌ على طريق الفِيلة

الفِيَلَةُ حين تَهْرَمُ في الحكايات تسْمَعُ طبْلَةَ الموت: دُمْ دُمْ دُمْ

فتأخذ طريقها إلى مقبرة الفِيَلة، هناك، حيث لا يُسْمَعُ إلاّ أنينُ العاج.

– والشعراءُ (سألَتْ الطفلةُ) ألا يهرمون في الحكايات؟

بلى (قال الطفل ) لكنّهم يسمعون طبلة الحياة: دُمْ دُمْ دُمْ

فيأخذون طريقهم إلى مقبرة الشعراء:

ورقة بيضاء مرميّة على طريق الفِيَلَة.

صاحِبُ الخُطْوة

ظَهْرُهُ إِلىجِذْعِ الأرْضِ، في يَدِهِ الجَرِيحَةِ جَرَّةُ كَلِمَاتٍ، وبَيْنَ الجرْعَةِ والأخرى يَمْسَحُ فَمَهُ بِكُمِّ قميصي، فتَدْفِنُ الأشجَارُ رُؤوسَهَا مَذْعُورةً في دَمِنَا المُضِيء.

– ما اسْمُكَ؟

– لا أَعْرِف. اِرفَعْ ذاكَ الحَجَر (كانَ وَرْدَةَ رَمْلٍ) سَمِّنِي بِلَوْنِهِ، شُمَّ تِلْك الزَهْرة (كانت زَهْرَةَ شَمَّامٍ) نَادِنِي بِرائِحَتِهَا. وأنْت؟

– يَقُولُونَ ثَمَّةَ مَنْ يَحْمِلُ عن الشاعِرِ اِسْمَهُ، لِيَفْرَغَ إلى حِفْظِ أَسْماءِ الآخرين.

– ذاكَ هو اسْمِي. ألا تَعْرِفُ أنَّ الآخرِينَ

أَحَدُ أَسْمَاءِ الشاعِرِ الحُسْنَى؟

يَشْرَبُ كانَ وفَمُهُ إلى الجَرَّةِ، فَيَحْدُثُ شَدْوُ البُلْبُلِ والكنارِي وأُمِّ الحسن. بِكُمِّي يَمْسَحُ شَفَتَيْهِ فَتصِيرُ المَرَايَا والجَداوِلُ. وفيما يُلْقِي بِالجَرَّةِ إلى جِوارِهِ، قطراتٌ من الكَلِماتِ والدَمِ تتطايَرُ وحيثُ تحُطُّ تَنْبُتُ قَصَائِد

في البَعِيدِ حيثُ يهشُّ بيدِهِ الجرِيحَةِ على الرذَاذِ

يخضرُّ الخرّوبُ والسرْوُ

تكْسُو القصائِدُ أجْنِحَةَ الحجَلِ والزرْزورِ والحساسين ذات المناقير المُضِيئة

الجِبَالُ والمُدُنُ

البُنُوكُ

نَاطِحَاتُ السُحُبِ

تتضَاءلُ في حَضْرَتِهِ المهِيبَةِ، تُصْبِحُ

رُؤوسَ أرانِبَ برِيّةٍ

تُطِلُّ مِنْ جُحُورِهَا، مَذْعُورَةً، على

عَابِرٍ غَرِيب.

جُبْتُ البِحَارَ السَبْعَةَ، قَالَ، وَقَفْتُ على جَبَلِ النُحَاسِ، هُنَاكَ إِذا سَقَطَ القَلْبُ رَنَّ كَجَرَسِ البَقَرَةِ الحَلُوبِ. جَرَّبْتُ قَاعَ الحَيَاةِ، قاعَ الحَيَاةِ السُفْلَى التي هِيَ سَمَاءُ الحَيَاةِ. حَارَبْتُ التِنِّينَ ذَا الرُؤوسِ السَبْعَةِ. أَقْطَعُ الرأْسَ كُنْتُ فَيَنْبُتُ مَكَانَهُ الفجْلُ والبَصَلُ والقرّاص. شربْتُ الشايَ معَ جازِيَةِ الهِلالِيّينَ. دَخَلْتُ أورشَلِيم، كانَ الليلُ شابًّا لكنَّ الخَمّارِينَ أغْلَقُوا الأبواب. دَخَلْتُ بَيْتًا فإذا أنا في العراءِ، عن يَمِينِي بَغْدَادُ وعن شمالِي تَلْمَعُ أضواءُ تامغزاءَ أو بيروت.

أَنَا صَاحِبُ الخطْوَةِ، قالَ، كُلّما وضعْتُ قَدَمًا

أمامَ أُخْرَى

سَلَحْتُ جَسَدًا وراءَ آخَرَ ولمْ أَجِدْ

روحي

دَخَلْتُ نَدَمًا بَعْدَ آخَرَ ولمْ أَجِدْ

سلامي

تَرَكْتُ بَلَدًا خَلْفَ آخَرَ ولمْ أَجِدْ

حتّى الآن

سارِقَ النار

لمْ أَجِدْ

حامِلَ المصباح.

سيّدُ الظِلال

أَمْسِكْ بِجَسَدِكَ (قَالَ) أَمْسِكْ بِجَسَدِكَ جَيِّدًا، وهَشَّ بظلّه على قطيع ماعزٍ لم يرهُ أحدٌ. كُنَّا هَابِطَيْنِ مِنْ أعَلى البَراءةِ وقد تأخّرَ الوقتُ، على أكتافِنَا غُبَارُ الحِكاياتِ وتحْتَ أَقْدَامِنا تَنْزَلِقُ الكُهوفُ بئرًا بعد أُخْرَى. أَمْسِكْ بِجَسَدِكَ الضَعِيفِ كي لا تَسْقُطَ غريبًا.

– لَكِنِّي لا أخافُ السُقوطَ. السُقوطُ صديقي الوَحِيد.

أَمْسِكْ بِجَسَدِكَ (كَرَّر) ولم يُجِبْنِي.

…………………………..

هَبَطْنَا مع المطَرِ (هل كنت ُ قُنْفُذًا جرحهُ الصمتُ؟) هبطنا في هوّةِ المطر (هل كان أَحَدَ أَيائِل الجبالِ؟) وفي قاعِ الهُوّةِ دخلْنَا سراديبَ لمْ يَدخُلْها قبْلَنَا أحدٌ، جلسْنَا نأكُل التمرَ على صناديق مَخْتُومَةٍ بالليْلِ، وعند المنعطَفِ الأخيرِ، تراءتْ لنا قُرًى رخْوَةٌ، لعلّها ظلالٌ، تنظر إلى نفسها وتعْوِي من وراء نوافذَ حجريّةٍ، مثلما تعوي الذئابُ، أَشارَ إِلَيْهَا ورَفَعَ ظِلَّهُ مِنْ على الأرض، رَفَع ظِلَّهُ مثلما تُرْفَعُ العَصا أو النخلَةُ وبِهِ وخَزَنِي في صدْرِي مَرَّتَيْنِ، ثلاثًا. أَرَأَيْتَ (قالَ) عاقِبَةَ مَنْ لَمْ يُمْسِكْ بِجَسَدِهِ؟

– لَمْ أَرَ شَيْئًا. لَمْ أَرَ إلاَّ ظِلالاً تَعْوِي مِنْ وراءِ نَوافِذَ عَمْيَاءَ.

وَلَمْ يُجِبْنِي.

كانَ قدْ نَسِيَ أنْ يُمْسِكَ بجَسَدِهِ جَيِّدًا، ومات.

………………………..

لَمْ أَغْفِرْ لَهُ بَعْدُ.

لَمْ أَغْفِرْ لِأَحَدٍ، مِنْ يَوْمِهَا أَنْ أَهْبِطَ المَطَرَ وَحْدِي، وَلاَ أنْ أُمْسِكَ بِذِقْنِي (علىرأيِكَ يا جَدّ)أو لَحْدِي (برجي المُمَدَّد)أو نَدَمِي(غِمْد أحلامي) دون أن أرى الكهوف تَبْتَعِد عن قَدَمِي، وَلاَ أَنْ أَسْمَعَ صَوْتًا يشيرُ إلى فَرَحٍ لا يراهُ أحدٌ.

هَاهُوَ سَيِّدُ الظِلاَلِ

أَمسِكْ بجسدكَ (يقول) أَمْسِكْ بِجَسَدِكَ من ضعفه

أَمْسِكْ بجَسَدِكَ من ضُعْفِهِ البتّار

قُلْ لَهُ اِمْضِ في طريقكَ، اِمْضِ في طريقك إلى آخر الطريق، سترى الحصانَ الأَبْلَقَ لا تَقْرَبْهُ، والسنابلَ الذهبيّة دَعْها تترنّح كنهايات القرون، سَيَلُوحُ لك القصر المرصود ذو الأبواب السبعة، والينبوعُ المتدفّق من حرائقك الداخليّة، ستشمُّ رائحة التفّاح الذي يفوح دون أن يَرُدَّ الروح إلى أحدٍ، ستسمعُ من بعيد صوت الناي السحريّ، وخشخشةَ أحلامك تتقاطر حجرًا حجرًا، في قاعِ بئرك التي بين الضلوع، ستمرُّ بحانات عديدةٍ لا يدخلها أحدٌ، فيما يخرج منها الجميع، وفي الضباب سيتراءى لك شبحٌ يشبهني، ستراه يَلُوحُ ويختفي محفوفًا بالخسارات، لا تسأله من أين جاء، ولا كيف أمكن له أن يفرح…

اِمْضِ في طريقك إلى آخر الطريق

ستراه كلَّ صباحٍ يَسْتَقْبِلُ

فُرَصَ الفرح

كما لو أنّه يعرض

صدرهُ

لرصاصةٍ

طائشة…

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى