وجها لوجه

هموم شعرية: مع يوسف خديم الله


تقف هذه الزاوية مع شاعر عربي في علاقته مع قارئه وخصوصيات صنعته ولا سيما واقع نشر الشعر ومقروئيته. “المتقبّل ما زال محكوماً بذائقة تقليديّة يبلّدها ارتدادٌ ثقافي مريع نحو نماذج لاتاريخية” يقول الشاعر التونسي يوسف خديم الله (شاعر سابق) لـ”العربي الجديد”.

■ من هو قارئك؟ وهل تعتبر نفسك شاعراً مقروءاً؟

لأنني على يأسٍ من قارئٍ لا “يعملُ” مثلما “يعرقُ” الكاتبُ/الشاعر، قارئٍ له ضميرٌ مهنيٌّ وحصانةٌ ضدّ بلادةِ أو سوء طويّةِ من يقرأ بدلاً عنه، من مدرّسين أو صحافيين أو مديري الشأن الثقافي في المؤسّسات ومن الوشاةِ من “جيران الحبر” أنفسهم، فإنني أكتبُ في حلٍّ من أي ارتباطٍ بأولئك. أما بعدَ أن أكتب، فالغالب أنني أتحاورُ مع الرّقيبِ.. الرّقيب، الضمني أيضاً، الذي ألفتهُ طيلة ربع قرنٍ تقريباً من تمنّعٍ وامتناعٍ عن نشرِ كتبي، عدا بعض النصوص في جرائد عربية متفرّقة لأثبتَ لأولئك، لا غير، أنني ما زلتُ حيّاً.

■ كيف هي علاقتك مع الناشر، هل لديك ناشر وهل هو الناشر الذي تحلم به لشعرك؟

يوم فكّرتُ جدّياً في النّشر وعرفتُ أن النّاشرين -وإن كانوا زملاءَ حبرٍ- هم مجرّد تجّارٍ، وسطاءٍ بين الكاتب والمطبعة، ويقبضون مالاً مزدوجًا، من الدّولة التي تدعمهم بالمنح وما شاكلَ، و من الكاتب نفسه، لم أندم على صومي الطويل ذاك. لا لأنّهم لصوصٌ، بل لأن نشرَ الكتاب هو اختبارٌ جديدٌ لحصانتك ضدّ المؤسّسة: إمّا أن تنحني لقنواتِ التّرويج الرسمية الرخيصة وتدفع من ضميرك المهني ليراك النّاس كما “يجبُ” أن يروكَ، أو أن تنتظرَ عملَ النّاشر الذي لا يوزّع كتابك أصلاً، بل يغمطهُ ويخفيه، لأنه قد قبض ما يكفي، ولأنّ همَّ القراءة عنده هي “كسر دماغ” لا دواء له إلّا غزوة أخرى مع حريفٍ آخر. وإن كان الأمر كذلك فعلاً لا مغالاة فيه، فإن كتابي الأول صدر إثر مصادفةٍ لم أشأ أن أعرقلها، عن طريق “بيت الشعر” التونسي، بعد “التغيير الثوري المبارك”. والحقيقة أنني لم أرَ له أثراً لا في مكتبةٍ عموميّةٍ ولا في جريدٍة ولا في إذاعةٍ أو تلفزيون. ولا يعود ذلك طبعاً إلى أنني في الهامش الجغرافي، المعزل الذي أتماوتُ فيه بعيداً عن المركز في العاصمة. كان عليّ أن أثأرَ من ذلك كلّه بإهداء حوالي مئة نسخة -أنا الأجدر في الحقيقة بعائداتها لأجدّد هواء مكتبي على الأقلّ- لمن أعرفُ ولمن لا أعرف.. فقط. أما كتابي الثاني الصادر عن ناشر خاص، وإن لم يُكتب له التوزيع، كالعادة، فإن أفضل ما في التجربة هو التعامل الشفّاف مع ناشرٍ لم يطلب مالاً وترك لي حرية تصوّر فنيّ للكتاب، بلا تضييق أو تبرّم، وهذا كان كافياً لأنشر معه كتابي الثالث، النّثري.

■ كيف تنظر إلى النشر في المجلات والجرائد والمواقع؟

الجرائدُ والصحف التي لها حيّز مستقلٌّ وخطّ تحرير ثقافيّ بيّنٌ لا وجود لها في “تونس الشقيقة”. وإن حصل ونشرتُ مقالاتٍ -بعد التغيير ذاك- فإنّ أملَ حياة نشاطي فيها لا يتجاوز ثلاثة أو أربعة أعداد. من دون ادّعاءٍ، ما أكتبُ محرجٌ للذائقة وللغة الخشبيتين السائدتين، ما يكفي لإحراج حرّاسِ المؤسسة من جيران الحبر أولئك..

■ هل تنشر شِعرك على وسائل التواصل الاجتماعي، وكيف ترى تأثير ذلك في كتابتك أو كتابة زملائك ممن ينشرون شعرهم على وسائل التواصل؟

رغم أنني على حذرٍ كبير من الوسائط الحديثة هذه التي دخلتها صدفة أيضاً، أنا مدينٌ لها بمزاولتي حريّتي تلك. وإن عثرت على من يقدّرها من قرّاءٍ لا علاقةَ مهنيّة لهم بالكتابة إلاّ على سبيل الاستهلاك، فإنني وقفت مرّةً أخرى على حقيقة الإعاقات الذهنية والنفسية العميقة للكتّاب، ما يمنع من تواصلٍ ثقافيّ يمرّ عبر الحوار الحرّ الذي لا يساوِم كلّما تعلّق الأمر بحماية الأدب من الغشِّ، و الثقافة من التّحيّل، والفكر من مهادنةِ السائد، والسياسة من التواطؤ الضمني مع المؤسسات. في الحقيقة، الأمر أفضع من ذلك على مستوى السلوك الافتراضي اليومي الذي، إن لم يكن توادداً وتحابّاً ساذجاً، فهو تراشقٌ بسكاكين ينظرُ إليها الجميع ولا يرونها: إما أن تحبّهم ليحبّوك فتخسرَ ضميرك المهني الثقافي، وإما يكرهونك، إن بقيت كما أنت: حرّاً. حرّاً من “حبٍّ” و “كرهٍ” معاً!

■ من هو قارئ الشعر العربي اليوم في رأيك؟

هناك قرّاءٌ لا ريب، لكن لا قراءةَ. القراءةُ التي لا ترتقي إلى ممارسةٍ ثقافية يوميّة منتجة للمعنى، نقضاً وبناءً حرّاً وخلاّقاً لا تزوّرُ رهاناتها بوضع المتعالِمين مكان العالمين والموظّفين مكان المبدعين ليست قراءة. هي ديباجة وأوسمةٌ وتأشيراتُ عبور نحو استرزاقٍ غير مأمون ووجاهةٍ واهمة لا غير.

■ هل توافق أن الشعر المترجم من اللغات الأخرى هو اليوم أكثر مقروئية من الشعر العربي، ولماذا؟

لا أظنّ.. هناك، في الغالب، ولعٌ “موضويّ” بالأعلام والنجوم التي تصنعها مؤسسات الإعلام وأسواق الإنتاج الثقافي المسنودة إلى تصوّراتٍ استهلاكيةٍ، مدسوسةٍ إيديولوجيّاً. أرى أن الشعر الذي يجدرُ الانتباهُ إليه يوجد في مكان آخر لا أحد يريد أن يراه لأنّ الذائقة الأدبية لم تسلم من التلوّث السمعي البصري السائد.

■ ما هي مزايا الشعر العربي الأساسية وما هي نقاط ضعفه؟

الشعر العربي مطلقاً؟ الأمر معقّد بعض الشيء. المتقبّل ما زال محكوماً بذائقة تقليديّة يبلّدها ارتدادٌ ثقافي مريع نحو نماذج لاتاريخية مضاعَفةٌ بخليطٍ هجينٍ هابطٍ من السائد “الحديث” . المدرسة والجامعات، بمدرّسيها وطلّابها، والمؤسسات الثقافية بمريديها، تضاعف هذا الخلط رغم ما تضجّ به من لافتات وشعارات التحديث وما شاكل..

■ شاعر عربي تعتقد أن من المهم استعادته الآن؟

ليس المطلوب استعادته بل استلهام التّجارب التي ساهمت في إحداث قطائع ذهنية وفنية مع سائد عصرها. أنا آسف كثيراً أننا نعيش نكوصاً ثقافياً كهذا بعد المجهود الذي قام به أدونيس، مثلاً، كفاعلٍ ثقافي طبعاً وليس حصرياً، كشاعر.. أطروحاته ما تزال راهنة، في الحقل الثقافي، الآن أكثر من أي وقت مضى.

■ ما الذي تتمناه للشعر العربي؟

لا شيء. ربّما فقط أن تبتعدَ عنه المؤسسة. لكن هيهات. الشاعر، للأسف، مؤسسةٌ “سائدة”.

بتوقيع “شاعر سابق”

شاعر تونسي من مواليد عام 1958. درس علم الاجتماع في الجامعة التونسية، وله أبحاث في سوسيولوجيا الأدب والثقافة. يوقّعُ نصوصه في الصحف والمجلاّت، منذ أكثر من ربع قرن، بـ”شاعرٌ سابقٌ”. من إصداراته الشعرية: “هواءٌ سيّئ السمعة” (منشورات بيت الشعر التونسي، 2013)، و”عرَقٌ ذهنيٌّ” (ديار للنشر، 2017)، كما صدر له كتاب نثري بعنوان “لا الأوّل الذّي.. لا آخرُ من..” (ديار للنشر، 2018).

العربي الجديد



اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى