مراجعات كتب

سوريات يروين… المرأة حرمة كلها في البيت والشارع/ وضاح شرارة

لم تزعم واحدة من التسع عشرة امرأة السورية اللاتي روين على سمر يزبك أخبارهن في “الثورة” أنها لم تفاجأ باندلاعها (تسع عشرة امرأة سوريات يروين، دار المتوسط، بيروت، 2018). وتشترك في الإعراب عن المفاجأة من كانت في العشرين في آذار/مارس ونيسان/أبريل 2011 (الراوية الرابعة، زين، ص73)، وهي صغيرة العقد، ومن كانت في الثانية والخمسين (الراوية الخامسة، ضحى عاشور، ص 89) أو في الثانية والسبعين (الراوية السادسة عشرة، حذام عدي، ص 234)، وهي كبيرتهن سناً. وكثرتهن من الشابات الموشكات على إنجاز المرحلة الأولى من دراستهن الجامعية، وبينهن وبين ما يسمينه “العمل السياسي” بون وبعد، وربما خوف وخشية مصدرهما الأهل ووسط الأصحاب القريب.

وفاجأت “الثورة”- وكلهن يُجمعن على هذه التسمية، على رغم أن الكاتبة، سمر يزبك، دوّنت رواياتهن في 2016- 2018، ومعظمهن يقمن في المهاجر ويرثين “الثورة” والمصائر التي صارت إليها- أوسعهن خبرة. فحذام عدي شهدت تظاهرة الخبز بحماه في 1948، ونشطت في أثناء العقد السابع من القرن الماضي، وناصرت المنظمات الفلسطينية في العقد الثامن، وكانت في عداد مجلس “فتح” الثوري إلى 1974… ولم يعصم السيدة عدي ولا زوجها من الغرَّة والمداهمة توقيعهما على بيان الـ99 مثقفاً سورياً في عام 2000. والبيان فاتحة “ربيع دمشق” وانتشار المنتديات في أرجاء المجتمعات السورية غداة انتقال السلطة من الأب إلى ابنه. والسيدة عاشور صحافية حرفةً وعملاً، وتقصّي الأحوال والأخبار والنظر في معانيها وأطوارها بعضٌ من الحرفة. وانتسبت إلى رابطة (ثم حزب) العمل الشيوعي، ونشطت في العمل السري أعواماً، وأقامت متخفّية في العشوائيات…

المفاجأة وما وراءها

لكن سبْق الخبرة وملابسة جماعات من “الشعب السوري” لم يجهّز صاحباته (أو صواحبه)، ولم يُعدّهن لـ”استقبال” الحادثة الكبيرة والغريبة. فمن رسمت في ذهنها رسماً أو صوّرت صورة عن ثورة السوريين على “الديكتاتور” وأجهزة قمعه وامتيازاته ومظالمه، وهي حال قليلات على ما مر، لم يسعها ولم يسع غيرها من غير شك، توقّع الرياح من حيث هبّت، ولا ما حملته معها من انتظارات وآمال من العسير، إلى اليوم، الدلالة عليها بكلمات. فالبرنامج الديمقراطي الشائع، وهو نص في بيان الـ99 على رفع حال الطوارئ وشطب المادة 8 (قيادة البعث الدولة والمجتمع) من الدستور وإطلاق مسجوني الرأي وإلغاء هذا الجرم أصلاً…، لا يسعف على معرفة السياقة العملية التي قد تؤدي إلى إنجاز البرنامج، بعضه أو معظمه. وليس في مقدوره “امتلاك” هذه المعرفة التي لا يبلغ صاحبها درجة الاجتهاد، على قول أحد كبار بروتستانتيي القرن السادس عشر الفرنسي في السياسة.

وما ترويه “الراويات” السوريات، والشابات اللواتي تنبّهن على الحياة العامة والمنازعات السياسية والأهلية وشاركن فيها مشاركة قاسية في 2011 على الخصوص، لا يقتصر على تقرير المفاجأة والجِدّة اللتين تصاحبان المنعطفات التاريخية. فهن يروين ولادة ما يسمّينه “الثورة”، ويروين ولادتهن السياسية وانخراطهن في الإعلام والإغاثة والتعليم والتطبيب والتظاهر والدراسة والاعتقال ونادراً جداً في القتال، معاً وفي وقت واحد. ولعل تزامن “الولادتين”، ليس في حالهن وحدها بل في أحوال أهل “الثورة” جميعاً، هو “السبب” في السمات التي وسمت الحركة السورية: ارتجالها، وبعثراتها، وتقطّعها، وإقدامها، وتهوّرها، وانشطاراتها، وانكفاءاتها، وارتداد أجزائها بعضها على بعض، وعودها على ما قبل تاريخ منازعها السياسية والجامعة الأولى. وذلك إلى أبرز سماتها، مقارنة مع حوادث سياسية معاصرة، عربية وغير عربية: التفاوت الهائل في ميزان القوى المادية بين طرفي النزاع في مرحلتها الأولى، وهذا التفاوت نجم أولاً عن فرق من غير قياس بين صعيدي الفعلين السياسيين، صعيد فعل المعارضة المدنية الأهلية والديمقراطية وصعيد “رد” السلطة وأجهزتها وقواها العصبية.

وغالبية “الراويات” الشابات، وهن في العقد الثالث من العمر، ينسبن أنفسهن إلى بيئات عائلية محافظة، وعدد المحجّبات بينهن يفوق عدد السافرات أو يكافئه. وثلاث منهن، إن لم أخطئ الحساب، قبيسيات سابقات، أي مريدات إسلام اجتماعي محافظ يتولى، على قول إحداهن، رعاية الفتيات والشابات، من بنات الطبقات الوسطى العليا المدينية، على طريق زواج آمن وتقليدي، على وجهي السنن الدينية والاجتماعية. وترتفع المحافظة المزدوجة والمتواشجة، قبيسية منظمة أم تلقائية، حاجزاً سميكاً وعالياً بين الفتيات والشابات وبين الشاغل العام، الثقافي والسياسي والاجتماعي. وما فاجأهن، في وقت أول، ليس قيام “الثورة” وشهرها مضمونها الديمقراطي، والأرجح أن هذا المضمون بقي خفياً على معظمهن حين انخراطهن في التظاهرات، بل اقتحام وقائع عامة مشهودة وجادة، وقريبة في آن، عوالم عائلية منكفئة على همومها وعلاقاتها وقيمها.

ذاكرة خرساء

فلم تسبق “مثاقفةٌ” سياسية تمهيدية، وإن ضعيفة وجزئية، هجومَ وقائع التظاهر والتنديد بالسلطة والاعتقال الجماعي والقتل والتمثيل والانقسام، وما لحق بها من توقعات ومخاوف وأطياف ماضية وأمانٍ- لم تسبق هجومَ الوقائع على معارك الشابات العائلية والدراسية.

وعلى هذا، لم يسعهنّ، وربما لم يسع جمهور السوريين الأعظم، قياس الوقائع الجديدة وغير المسبوقة على تصورات وأحكام واختبارات سورية، متقاسمة ومتداولة (وهي المقصود بالمثاقفة). ويلاحظ، في هذا المعرض أو قريباً منه، أن الوقائع السياسية والاجتماعية والعسكرية والاستخبارية و “القضائية” التي تتطرق الروايات إليها لا تذكّر واحدة منهن بسابقة (الاستثناء هو الراوية الخامسة عشرة، ص219، حدّثتها أمها عن مجزرة حماه في آذار/مارس 1982، ونجاتها منها)، لا محلية ولا إقليمية. فلبنان، مختبر الانتهاك والتسلّط وإدارة النزاعات الأهلية وانقساماتها على الطريقة الأسدية السورية، ليس إلا بوابة خروج ثلاث راويات من جحيم بلدهن. والمناضلة “الفلسطينية” التي أقامت ببيروت أعواماً لم يحملها اختبارها السوري المرير على المقارنة ببيروت “السورية”. والذاكرة الخاوية، أو المؤثثة بأثاث كاذب أو مقلَّد، هي صناعة حزبية و “ثقافية” أرادت التعويض عن تعقيد الوراثة التاريخية وعسرها وامتناعها في حال الأحزاب اليسارية والإسلامية، ببيع صكوك مزيفة.

وحين خطت الحركة السورية خطواتها الأولى، وتقدّم صفوفها النابتة من الأرض شبان “الوسائط” الاجتماعية وبعض الحزبيين، باغتتها الأجهزة البوليسية والعسكرية، وهي جسم واحد، بهجوم استئصالي لا هوادة فيه. وقضت المفارقة بقيام المباغتة الساحقة هذه بدور راجح في جر الشابات الراويات إلى المشاركة في الحركة الوليدة. ويذهب عدد من المراقبين، فيهم ميشال ديكلو (مقالة الكاتب في كتابه، المدن، 28/9/2019)، إلى تعليل اتساع المشاركة في التظاهرات النواتية والضيقة الأولى بواجب الحداد على القتلى الأقارب والعزّل، وشعور المتظاهرين والمتظاهرات بردّ دَيْنهم ودَيْنهن عليهم وعليهن.

وتقول آمنة خولاني (من داريا، 35 سنة في 2011، خريجة قسم التاريخ، التأهيل التربوي، من جامعة دمشق) أن ضعف “جاهزية” المجتمع السوري للثورة لم تخفَ عليها (ص153)، ولم تغب عنها حين مثّل “الأمن” في أطفال درعا. وتسوغ تظاهرها، شأن معظم زميلاتها في الرواية، بالقول: “لكن أصدقاءنا اعتُقلوا وقُتلوا في التظاهرات، فقررتُ التظاهر ضد النظام”. وتظاهرت في 25 آذار 2011. ودعت صديقات لها، غلبهن الخوف “لأن قصص الاغتصاب داخل السجون كانت ترعبنا”، إلى التظاهر. “قلت لهنّ إننا كنساء يجب أن نكون فاعلات، ولنا دور في عملية التغيير”. وجمعت تظاهرة داريا في 22 نيسان/ أبريل 2011 عشرة آلاف متظاهر، وسقط قتلى فيها. وفي تشييع هؤلاء خرج أربعون ألف متظاهر (ص154)، وسقط قتلى فيها… وحفظت الراويات أسماء القتلى الذين دعاهن قتلهم إلى التظاهر والتعرض للقتل. فجَسَد صاحب الاسم العلم فلان، القتيل المدمّى والمعذّب، هو عنوان الحرية في زمن طغيان الآلة البوليسية (ثيودور أدورنو).

النفي

وأنكر الأهل والمتظاهرون جميعاً، ولم يكن هؤلاء قد انقسموا إلى فصائل “جيش حر” وإلى “كتائب” إسلاميين، على النساء تظاهرهن وتعرضهن لعدوان أوله لكمة أو ضربة هراوة (كهربائية)، وآخره تهشيم المرأة وتقطيعها أجزاء وحرقها. ويخيّم على النساء طيف الاغتصاب الأسود، وعوده بـ “العار” على عائلة الضحية، على إخوتها وأخواتها، وزوجات الإخوة وأزواج الأخوات… لا إلى حد. واشترك في “كراهة” تظاهر النساء، على قول أهل الفتوى، وإعلانها أشد المتظاهرين حماسة وإقداماً على موتهم وسقوطهم قتلى، من الفريقين السياسيين، وبعضهم صرح لزميلته أنه لا يتزوج بامرأة اختلطت بالرجال. فجاء التظاهر المحض أو الخالص علامة وضيئة على دخول المتظاهرة في جماعة مشتركة، تختارها بعاطفتها ورأيها، ولا تنسلخ بدخولها من عالم حياتها اليومية (العائلة والحي والمدرسة…). ومن هذه الطريق دخلت من باب “الفعل” على قول السيدة خولاني، باب “التغيير” (باب الوجود؟). وجَبَهت نفيها، ونفي اسمها الخاص (وهي تتقاسمه على مقادير متفاوتة مع أخريات وآخرين)، على صور النفي التي تتشاركها العائلة و “الأخوات” والتقاليد والأعراف والقوانين والهيئات السياسية وغيرها.

فكانت “المرأة” السورية- كناية عن النساء، وظاهرات جنسهن البيولوجية والاجتماعية، وأدوارهن- عَلَماً على المعاني العميقة والمتشابكة التي يصدر عنها مجتمع من المجتمعات، وتخصص رسومَه وهيئاته التي تعرّفه. والنساء هن، في رواياتهن، أجسادهن المولودة (المولودات) شرعاً من “زواج” أسرتين وحلفهما و “شرفهما”. وقانون الأجساد النسائية (“الإناث”) يقضي باعتزالها الجنس الآخر ومفاصلته، وقصر الاختلاط ورفع العزلة على حال الزواج في كنف الأسرتين، إلخ. وتوسّطت أجسادهن ولباسهن وعريهن و”فتنتهن” وانتهالهن وفنون إذلالهن ومهانتهن و “محارمهن”، على أنحاء مختلفة ومشتركة، مشاغل الجماعات المتحاربة، وعلى رأسها جماعة “الدولة” ومعتقلاتها وأفرعها ومقراتها. والوقائع والحوادث التي تدور على مواضع الضرب واللمس والإيلام، والستر والكشف، والحلال والحرام، وعلى النظافة والغسل أو على الوسخ والنتن، وعلى التجويع والطعام، وعلى الحمل الظاهر أو كتمه، وعلى الاغتصاب والجنون والانتحار واتصالها، لا تحصى. وكان حرياً بدار النشر أو تلحق بمتن الروايات فهرساً أو فهارس بالأعلام والحوادث والأماكن والأشياء. ولو فعلت لوسع القارئ إحصاء تواتر “أسماء” بارزة تنم بآلات حَيْونة أو بَيْلجة (من بيولوجيا) لا يبلغ قاع فظاعتها.

والأرجح أن هذا الوجه من “الثورة” السورية، وخنادقها ومسارحها و “أسلحتها” ولغاتها، ما كان ليظهر ويُرى ويُسمع لولا روايات النساء وأخبارهن وخبراتهن. فكشفن بعض الغطاء عن خيط غليظ يربط الفعل السياسي (النسائي) بمجرد الحضور المادي والجسدي، ويحمل الحضور الجسدي على جواز انتهاك لا تحصر فنونه (ومنها الستر “الداعشي”)، ويُعمل في الأجساد تقطيعاً وتمثيلاً ونزفاً وتفريقاً وقتلاً صناعياً، ويصور السلطة في صورة “إعطاء الموت” (الإماتة) وإنزاله من غير قيد ولا حسبة (على معناها السابق!).

المدن،

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى