مقالات

عن الكتابة والعزلة/ تغريد عبد العال

يقول الشاعرُ المكسيكي أوكتافيو باث في كتابِه “متاهة العزلة”: إن احساسنا بالحياة يعبر عنه كانفصال وقطيعة، كتيه وسقوط في بيئة معادية وغريبة، وبقدر ما ننمو، بقدر ما يتحول هذا الإحساس البدائي إلى شعور بالعزلة، وبعد ذلك إلى وعي، فنحن محكومون أيضاً بتجاوز عزلتنا، واستعادة الصلات التي كانت تربطُنا بالحياةِ في ماضٍ فردوسي. فالعزلةُ هي المكانُ الذي من خلاله يحققُ الفردُ وجودَه كإنسان وحيد في هذا العالم، فهل الكتابة هي ذاك الوجود وتلك العزلة التي من أجلها يبحث الكاتب عن ذاته، وعن تفرده في العالم؟

يجيبُنا الشاعرُ الألماني راينر ماريا ريلكه، الذي أمضى حياته في اكتشاف العلاقة بين العزلة والفن، أن العزلةَ هي المكان الأصعب الذي عليه أن يتحمله الشاعر حتى يستطيع أن يتعلمها ويكون ذاته. يقول ريلكه لصديقه كابوس: عزيزي كابوس، أحب عزلتك، وتحمل الألم الذي تسببه لك. فما ثمن هذا الألم الذي ندفعه في تحمل تلك العزلة؟ يتابع ريلكه ويقول: لأن الناس القريبون منك بعيدون عنك، كما تقول لي، وهذا يدل على أنك تخلق فضاء واسعاً حولك.

اهتم ريلكه كثيراً بالعزلة، وكانت سؤاله الكبير في الشعر والحياة، فقد كان شعره هو تلك العزلة التي نحت فيها حياته، فالشاعر هو رجل العزلة، كما أوصى الشاعر الشاب، وأوصاه لكي يكون

“يقول ريلكه لصديقه كابوس: عزيزي كابوس، أحب عزلتك، وتحمل الألم الذي تسببه لك. فما ثمن هذا الألم الذي ندفعه في تحمل تلك العزلة؟”

شاعراً عظيماً بضرورة العزلة.

يقول عبدالقادر الجنابي في أنطولوجيا شعرية سماها كائنات العزلة: “كل قصيدة هي سبب العزلة بقدر ما هي مظهرها الأسمى. حتى الشعر المجمهر والمزوق بالبهجة والفرح، يضج عزلة”.

إذاً، هو صوت الشاعر في تلك القصيدة، صوته وحده في هذا العالم، يبتعد الشاعر عن الآخرين، لكن هذه المسافة هي للإبداع، وقول صرخته الخاصة في هذا العالم.

يقول الشاعر خوان ريمون خمينيث: أنا هذا السائر بجانبي الذي لا أراه/ الذي أكاد أحياناً

أزوره، وهنا يبدو الآخر هو الأنا، يحاول الشاعر الوصول إلى أقصى حالات العزلة، حيث لا يعرف نفسه.

في حديثه عن العزلة، يقول عبدالقادر الجنابي في كتابه (كائنات العزلة): “هناك من يختار العزلة بمعناها المباشر، أي الانسحاب من العالم، والإقامة في الذات، كإيميلي ديكنسون التي حبست نفسها في غرفة وهي في الثلاثين، وبقيت حبيسة فيها حتى مماتها، ولم تترك ورقة واحدة تخرج من غرفتها المقفلة”. وهذه العزلة التي اختارتها إيميلي هي التي ضجت بها قصائدها التي كتبت داخلها: هذه رسالتي إلى العالم الذي لم يكاتبني قط. وهكذا تصبح العزلة هي الجواب على أسئلة العالم حول الوجود، وعلى قبائلية العيش في عالم يحد لنا تطلعنا إلى الإنسان، كذات منفصلة ومستقلة ولها عالمها الخاص.

ما أريد قوله هو أن بحث الإنسان الوجودي عن ذاته هو مخاض صعب، فمن الممكن أن لا يصل أحياناً إلى تلك الوحدة التي سيكرس لها وللكتابة حياته، ولكن تبقى الكتابة نفسها هي السؤال عن تلك الوحدة. فكما يقول محمود درويش: العزلة مصفاة، لا مرآة. فمن الممكن أيضاً أن نكون اختياريين لما نحب أن نكونه في هذا العالم، نختار أشياءنا وأحلامنا، ونجيب عن أسئلتنا، لا بل نعيش هذه الأسئلة حتى لو كان الطريق إلى تلك الكتابة، أو ذاك النص، أو تلك الحياة، مؤلماً. وهذا لا يعني أن ينأى الإنسان، أو المثقف، أو الشاعر، عما يحدث حوله، بل أن يشارك بكل روح ما يستطيع فعله، وأن يكون له موقفه الخاص من العالم. هذا الموقف هو الرؤية، وهو الضوء الذي يشده، ويشدنا، نحو نهاية النفق المظلم.

وأتذكر هنا لوحة بول غوراغوسيان (المغادرة)، هذه اللوحة، التي تعكس صورة شخص مع الجماعة، ويعطي ظهره لها وصورة للجماعة بدون الشخص، وكأنه غادرها. وربما العزلة تكون أحياناً، لا بإعطاء ظهرنا، ولا بالمغادرة، بل برؤية مختلفة تضيف للكل وتزيح عنه.

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى