مقالات

هل هناك صناعة كِتاب في العالم العربي؟/ عماد الدين موسى

(1)

الكِتاب قد يكون أداة لإنتاج معرفةٍ زائفةٍ للتسلُّط على العقل، وطريقة تفكيره، فيؤسِّس لغياب حضاري، وقد يكون ضرباً من الحفر المعرفي يؤسِّس لثقافة النقد والاستيعاب. هذه أحياناً يتم خلطها عند أصحاب دور النشر، هذه الدور التي تحولت إلى مؤسَّسات أغلبها غايتها الربح، طالما أنَّ للكتاب سوقاً، مُنتَجاً ومُستهلكاً. فمن كتب تروِّج للسحر والشعوذة والجن، إلى كتب تروِّج للجنس والحظ، إلى كتب تحتفي بالعلوم الإنسانية من رياضيات وفلسفة وطب وأدب وموسيقى وقانون. إلا أنها جميعاً مُنتَجٌ القصدُ والغايةُ منه الربح عندَ صُنَّاعه، هذا عدا السطو على طباعة كتب ذات حظوة علمية أو أدبية.

وبموازاة ذلك، نرى العديد من المعارض المحلية والعربية والدولية للكتاب، وما يرافقها من نشاطات ثقافية، وحفلات توقيع، وبيع الكتب من مؤلفيها.

في هذا الملف، نستقصي آراء كتاب ومثقفين، جنباً إلى جنب مع آراء أصحاب دور النشر، حول صناعة الكتاب، بوصفهم صنّاعه ورُسل ثقافة ومعرفة، يؤسِّسون وينشرون المعارف والعلوم، ما يُشكِّل خيالنا الثقافي والاجتماعي ويبلوره. هنا، الجزء الأول:

محمد طه العثمان (مدير دار موزاييك): تمويل ذاتي

في موزاييك، نعمل بتمويل ذاتي منذ تاريخ تأسيسها وحتى الآن، ونهدف إلى نشر كل ما هو عالي المستوى، من حيث المحتوى والمضمون في كافة المجالات (الأدبية والعلمية والأبحاث والدراسات)، من دون التحيّز إلى نوع معين من هذه المجالات. ونعتمد في تقييم الأعمال المقدمة إلينا على لجنة من الكتّاب والباحثين حسب نوعية الكتاب المقدم، وعلى ضوء القراءة والمراجعة للكتاب المقدم يتم قبول الكتاب، أو رفضه، ويحوّل بعد ذلك إلى التدقيق اللغوي، ويتم العمل على إخراجه فنياً، ومن ثم طباعته. وغالباً ما يتم طباعة الأعمال المقبولة على نفقة الدار، ولا سيما الأعمال الفكرية، أو الروايات، بشتى مجالاتها، المترجمة منها، أو العربية. أما الشعر، فيتحمل الشاعر جزءاً من نفقة الطباعة.

يتم الإعلان عن الكتاب في المرحلة الأولى بعد الموافقة على طباعته وتصميم الغلاف الخاص في مواقع التواصل الاجتماعي. في أغلب الأحيان تقوم الدار بحفل توقيع للكاتب يكون ضمن معرض، أو ضمن ندوة حوارية، أو أمسية أدبية (حسب مضمون العمل) تهدف إلى لقاء الكاتب بالجمهور، وتفاعلهم حول العمل، أو الكتاب المنجز. في الفترة الحالية، تتم هذه النشاطات في مدينة إسطنبول، كون مقر دار نشر موزاييك فيها.

تواجه دار موزاييك صعوبات ومعوقات أهمها عدم القدرة على تبني كل ما يصل إليها من كتب وأبحاث وترجمات، لأن الموضوع المالي يشكل عائقاً أساسياً في تطوير وتبني كل هذه الأعمال.

وجدي الأهدل (كاتب يمني): حقوق الملكيّة الفكريّة

لكي يتحول (الِكتاب) إلى مصدر دخل جيد لشريحة من المجتمع لا بد من تشديد قوانين حقوق الملكية الفكرية، وتجريم الطبعات غير القانونية، ومحاربة قرصنة الكتب وطرحها رقمياً بدون مقابل. هذه هي الخطوة الأولى التي تحفظ لدور النشر حقوقها المادية والمعنوية.

الخطوة الثانية هي إلزام دور النشر بتوظيف لجان قراءة، بحيث لا يُجاز أيّ كتاب علمي، أو أدبي، للنشر، إلا بعد موافقة نخبة من الخبراء كُل في مجاله، والهدف من هذا الإجراء هو حماية القارئ من الغث.

الخطوة الثالثة هي إلزام دور النشر بتوظيف “محرر أدبي”، والهدف من هذه الوظيفة هي التجويد والإتقان.

الخطوة الرابعة، وهي المفقودة تماماً في عالمنا العربي، أن تنشأ “وكالات أدبية”، والهدف من هذه الوكالات هو تحصيل الحقوق المادية والمعنوية للمؤلف العربي.

وفي حال نجحنا في القيام بهذه الخطوات الأربع، فإنه يمكن أن نشهد ازدهاراً حقيقياً لصناعة الكتاب العربي.

وكما نلاحظ فإن البداية – الخطوة الأولى – تقع على عاتق الحكومات العربية التي يجب أن تطبق قوانين حقوق الملكية الفكرية بصرامة، كما هو معمول به في الدول المتطورة التي تحمي حقوق المبدعين والمخترعين. والخطوتان الثانية والثالثة تتعلقان بدور النشر، وأقترح أن توضع قوانين تنظم عملية النشر، وأن يُسحب ترخيص دور النشر التي تخلو من وظائف لجان القراءة ووظيفة المحرر الأدبي.

والخطوة الأخيرة – الوكالات الأدبية – تتعلق بتطور المجتمع، حيث نفترض أن يظهر هذا النوع من الوظائف كنتيجة لقوة القوانين التي تفرضها الدول لحماية حقوق الملكية الفكرية، فيتضاعف المردود الاقتصادي لشريحة المؤلفين، وتتعدد مواردهم، ما يستدعي التعاقد مع وكالات أدبية مختصة تتابع وتستقطع المستحقات المالية لهؤلاء المؤلفين.

مي عاشور (مُترجمة مصرية): مرحلة ركود

لا أحد يقفز من قمة جبل إلى أخرى، فعليه أن ينزل أولاً إلى أسفل، ثم يتسلق مجدداً. ونحن الآن نقف أسفل الجبل، ونحاول الصعود. وهذا ما كنا عليه، وما نمر به الآن.

لا يمكن أن ننسى دور الحضارة العربية، وما أضافته. يمكن أن نذكر أنفسنا دائماً بذلك، ونحن نعلم أننا في مرحلة ركود، وفي الوقت نفسه لا يمكن ألا نكون منصفين، ونتغافل عن المحاولات الموجودة في المجالات الثقافية المختلفة. ولكنني ذكرت من قبل أننا في حلقة متصلة غير منفصلة؛ بمعنى أنه لا سبيل لازدهار الثقافة في عصور مظلمة، هناك محاولات قد تترك أثراً كبيراً في ما بعد. وفي الوطن العربي، هنالك محاولات لصناعة الكتب، ولكن تصير المحاولات أكثر فاعلية عندما تصبح اتجاهاً سائداً للدول نفسها، ويمكننا أن نأخذ الصين كمثال على ما أقصده، ففي الصين هناك صناعة ضخمة للكتاب، مدعومة من الحكومة، تشمل الترجمة والتأليف، وتدعم الحكومة الحركة الثقافية في داخل الصين وخارجها. بالطبع، لدى الصين تطلعات لانتشار ثقافي واسع، ولكن ترسخ فن صناعة الكتب في الصين منذ أن قررت الصين الصعود. ويمكن لمس ذلك الآن من خلال المؤتمرات، ومعارض الكتب المختلفة، والورش، البرامج الثقافية المتبادلة بين الصين ومعظم دول العالم.

هناك ناشرون محترمون هدفهم ثقافي حقيقي، وآخرون يتعاملون مع الثقافة على أنها تجارة. حفظ حقوق المترجم، أو الكاتب، وتقديرها، يتوقف على نظرة الناشر للثقافة. ببساطة، سيتعامل الناشر الحقيقي مع المؤلف والمترجم بطريقة مختلفة تماماً، ويقدره معنوياً أولاً، ويضمن له حقوقه كاملة، وسيكون التعامل بينهما سلساً، وهدفهما واحداً، أما الناشر التاجر فسيتعامل مع النشر والكتابة والترجمة والطباعة والبيع، وكل شيء، على أنها صفقات ربحية لا غير، وسينظر إلى المادة، لا الثقافة، ولا المحتوى المقدم إلى القارئ.

هنالك تحديات كثيرة تواجه المترجم والكاتب، وأكبر تحد يقابل المثقف بشكل عام هو عدم تغيير مساره الفكري وخضوعه للسائد أو الرائج. ومرة أخرى، لا يمكن فصل التحديات المختلفة عن أرض الواقع، والشكوى ستبدو ساذجة، لأن معناها عدم إدراك الواقع الذي نعيشه. ولكن يمكنني أن أقول إن هناك مترجمين وكتاباً وناشرين حقيقيين يحاولون الوقوف أمام تيار جارف، وعاصفة تطيح بكل شيء، لأنهم يؤمنون بما يقومون به، رغم شراسة التيار المعاكس، وظلام الواقع، وقسوة الظروف.

عز الدين بوركة (شاعر وباحث جمالي مغربي): الصناعة المعطوبة

لا يخرج أبداً مفهوم “صناعة الكتاب” عن صناعة الأفلام والمسلسلات، وحتى الأبطال الرياضيين والنجوم، لأن الأمر كله يدور – بشكل من الأشكال – ضمن السلسلة التسويقية نفسها، بكل ما تتطلبه من مهارة وإعداد. فأي حديث عن صناعة الكتاب يتطلب بالضرورة استحضار الآليات الكلية التي تعمل ضمن هذه الصناعة، بدءاً من الكاتب نفسه وصولاً إلى المتلقي، مروراً بدار النشر، وما تستدعيه من وجود موظفين يهتمون بتنقيح الكتاب وتصفيفه وإخراجه وتسويقه، وحتى مختاري العناوين، قبل بلوغ دار التوزيع التي عليها أن تهتم بتوزيعه ليصل إلى أقصى عدد من القراء الممكنين. بالتالي، فصناعة الكتاب هي عملية تجارية كبرى تتطلب حضوراً مكثفاً لفاعلين في سلسلة الإنتاج في ما بعد الكتابة… إلا أنه وفي ظل الحديث عن العالم العربي وما يعرفه من “هشاشة” نشر وتوزيع الكتب، يصعب علينا الحديث عن صناعة الكتاب بالمعنى المراد من المفهوم.

يدخل اليوم الكتاب ضمن سلسلة الاستهلاك العالمية، ولهذا نجد دور نشر عالمية تبحث بكل الطرق عن استمالة القارئ وجذبه لاقتناء منشوراتها، وكما تعتمد على آليات اشتغال تختلف من دار إلى أخرى، فإنها تتحد في كونها تسعى بالقدر المستطاع إلى إبراز كُتابها عبر آليات إعلامية وتسويقية، لا تختلف عما يقوم به صناع النجوم السينمائية، بل، وفي إطار التسويق المتوسع، تبحث هذه الدور عن ترجمة مؤلفات الكتاب المتعاقدين معها إلى القدر الأكبر من اللغات الحية. إذ إن صناعة الكِتاب تدخل في باب الصناعة الثقافية والترويج لثقافة البلاد عبر الترجمة والانفتاح على الثقافات الأخرى. وبالتالي، فالمؤلف ليس إلا حلقة أولية ضمن الصناعة الثقافية والأدبية والمعرفية، كأني به منبع المواد الخام التي تسعى “المؤسسات” لتسويقها وبيعها وترويجها. فيغدو الكاتب موظفا مهمته محددة ومهمة ضمن سلسلة الإنتاج الكبرى.

تكاد تكون “صناعة الكتاب” في عالمنا العربي “معطلة” و”معطوبة”، يتخللها خلل كبير، لا على مستوى النشر، ولا على مستوى التوزيع، كما التسويق والترويج. لهذا فهي تواجه صعوبات كبرى وكثيرة، تعرقل حماسة الكُتاب لنشر إبداعاتهم وأفكارهم ورؤاهم، في ظل عدم القدرة حتى على طبع مؤلفاتهم على الأقل. فرغم وجود مؤسسات عربية رسمية تسيرها وزارات الثقافة، أو هيئات حكومية، لا يزال أمر صناعة الكتاب يشوبه عطب مهول. يرجع الأمر في أساسه إلى غياب إرادة حقيقية لتوزيع ونشر الكتاب، وأيضاً لتبخيس دور الكاتب في الصناعة الثقافية للبلاد، كما غياب تام لأي متابعة صارمة لتوزيع المؤلفات التي يتم دعمها من لدن المؤسسات الرسمية للدولة. هذا بالإضافة إلى غياب تام لاستراتيجية فعالة من قبل القائمين على الشأن الثقافي لبناء أجيال واعية بأهمية الكتاب واقتنائه وقراءته. فحينما تكون آخر حلقة في سلسلة الصناعة تشوبها أعطاب تختل بالتالي السلسلة بالكامل، إذ يجد الناشر نفسه أمام عدم جدوى نشر الكتب بالشكل الكبير، ويجد الموزع نفسه مضطراً للتعامل مع أنواع من الكتب دون غيرها.

وجاء في “تقرير التنمية البشرية”، الذي نشرته منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم “اليونيسكو” عام 2003، أن المواطن العربي يقرأ في السنة أقل من كتاب بكثير، فكل 80 شخصاً عربياً يقرأون كتاباً واحداً في السنة. لهذا ليس من الغريب أن نجد كتب الطبخ توضع في الرفوف جنباً إلى جانب الكتب الفكرية والروايات. ووصل الأمر بدور نشر معينة إلى التخلي النهائي عن نشر نوع من المؤلفات الأدبية، كالشعر نموذجاً.

إلى جانب هذا الأمر، يغيب بشكل تام لدى الدور النشر العربية الوعي بأهمية التسويق للكتاب، بكل ما تتطلب الكلمة من آليات فعلية، إذ نجد كثيراً من دور النشر لا تسعى سوى نحو الدعم الذي تتحصل عليه لنشر المؤلفات، بينما لا يتحصل الكاتب عن أي إيرادات ومستحقات في حالات كثيرة ومتعددة.

يتطلب الأمر بالتالي عملية فعالة، ورؤية حقيقية، لبناء أجيال قارئة ومهتمة باقتناء الكتاب، لنستطيع إحداث “صناعة الكتاب” بكل ما تتطلبه من شروط تسويقية وتجارية، يكون كل الأطراف المكونين للسلسلة مستفيدين، وبالتالي نكون قد خطونا خطوة هامة نحو “صناعة ثقافية” تهتم بالمؤلف والقارئ العربي.

أشرف عويس (ناشر مصري، مدير دار النسيم): أزمة حقيقية ومسؤولية مشتركة

الحديث عن أزمة النشر ومشكلاته لا يحتاج كثيراً إلى تقسيمات ما بين مؤسسات نشر حكومية، ومؤسسات نشر خاصة. هذا التقسيم (في رأيي) ما هو إلا مجرد توزيع شكلي لمسؤوليات مشتركة عن أزمات ومشكلات حقيقية نحن في الأساس شركاء في أسباب حدوثها، وشركاء في تحمل نتائجها أيضاً، شئنا أم أبينا، وعلينا أن نكون شركاء بحق في البحث عن حلول لهذه الأزمات، لأنها لن تحل مطلقا – أؤكد.. لن تحل مطلقاً – إذا تم تقسيم الأمر إلى قسمين، وبحث كل منا عن حلول لنفسه في جزيرته الخاصة. فنحن من البداية للنهاية نتحدث عن واقع ثقافي مشترك يسهم فيه كل منا بقدر معيّن، سواء كان منتمياً للعمل في مؤسسة رسمية تابعة للدولة، أو في مؤسسة خاصة.

فالمؤلفون مشتركون، وكثير منهم له إصدارات تم نشر بعضها في مؤسسات النشر الرسمية، وبعضها الآخر تم نشره في مؤسسات نشر خاصة.

والقارئ واحد يتابع ما يصدر من هنا، أو من هناك، وينتقي منه ما يناسب ذائقته.

والعاملون في المجال أيضاً تربطهم صداقات وعلاقات وثيقة. فأنا على سبيل المثال بوصفي مؤسس ومدير دار نشر خاصة (دار النسيم للنشر) تربطني صداقة وطيدة ومعرفة بالمسؤولين عن النشر في هيئة الكتاب، وفي المجلس الأعلى للثقافة، وفي المركز القومي للترجمة، وفي الهيئة العامة لقصور الثقافة، وفي المركز القومي لثقافة الطفل.

ولهذا يصبح من غير المنطقي أن يتم تقسيم المشكلة بشكل حاد إلى قسمين. بالطبع، مؤسسات النشر الرسمية لها آليات تحكمها تختلف عن الآليات التي تحكم دور النشر الخاصة. ونصيب المؤسسات الخاصة من الروتين والبيروقراطية أقل بكثير من المؤسسات الرسمية. لكن هذه أمور ربما تؤثر على أسلوب العمل وطريقة الأداء، لكن يظل جوهر المشكلة واحداً، ويظل السعي نحو خلق بيئة ثقافية جيدة، وتقديم كتاب ناجح ومؤثر هدفاً مشتركاً لكلا المؤسستين.

وعند الحديث عن دور النشر الخاصة في ما يتعلق بأزمة النشر ومشكلاته ومستقبله، ستجد نفسك مضطرّاً لعمل مقارنة مبدئية بين مؤسسات النشر الرسمية، ومؤسسات النشر غير الرسمية. وبنظرة أولية، سنجد أننا في دولة عريقة وكبيرة، مثل مصر، لا نملك في هذا المجال إلا مؤسستين فقط معنيتين بالنشر بشكل أساسي، حيث يمثل هذا النشاط جوهر الفلسفة التي أنشئت من أجله كل مؤسسة منهما، وهما:

1 ــ الهيئة المصرية العامة للكتاب: المؤسسة المعنية بنشر الإصدارات والمؤلفات المكتوبة باللغة العربية.

2 ــ المركز القومي للترجمة: المؤسسة المعنية بنشر الترجمات من اللغات المختلفة إلى اللغة العربية.

بينما يمثل نشاط النشر جزءاً من مهام عدد من المؤسسات الأخرى:

1 ــ الهيئة العامة لقصور الثقافة، ممثلة في إدارة النشر.

2 ــ المجلس الأعلى للثقافة، ممثلاً في إدارة التحرير والنشر.

3 ــ المركز القومي لثقافة الطفل، ممثلاً في نشاط النشر.

4 ــ المركز القومي للمسرح والموسيقى والفنون الشعبية، ممثلاً في نشاط النشر.

5 ــ مكتبة الإسكندرية، ممثلة في قطاع النشر.

وكلنا يعلم ما تعانيه هذه المؤسسات الرسمية من غياب الرؤية في كثير مما تصدره من مطبوعات، فالمسألة لدينا تحدث على عكس المفترض تماماً. فالطبيعي أن تضع كل مؤسسة رؤية لتوجهها، وخطة لما يمكن أن تقدمه من مطبوعات، بما يخدم هذه الرؤية، ويحقق الهدف منها. بينما ما يحدث أن المطبوعات تصدر وفق ما يرد إلى هذه المؤسسات، ويتم الانتقاء منه وفق رؤية هيئة التحرير لكل سلسلة، التي تعمل وكأنها جزيرة منعزلة عن السلاسل الأخرى. وتكون النتيجة النهائية صدور مطبوعات تغيب عنها الفلسفة العامة والرؤية الواعية، ناهيك عن سياسة التوزيع السيئة لهذه الإصدارات، لدرجة أن كثيراً منها لا يستطيع القارئ العادي الوصول إليه والحصول على نسخة منه.

ودور النشر الخاصة التي نجت من المأزق السابق بقدرتها على الانتقاء، والرفض أو القبول، ووضع فلسفة عامة لإصداراتها تتحكم فيها بشكل أكبر، لديها هي الأخرى مآزق خاصة بها تتمثل في التمويل وتكلفة إنتاج الكتب العالية، ومحاولة خلق توازن بين إنتاج كتاب جيد من ناحيتي الشكل والمضمون يمكنه في الوقت ذاته أن يحقق ربحاً عند طرحه في السوق كسلعة من خلال مكاتب البيع. وهو أمر ضروري لهذه المؤسسات حتى تستطيع الاستمرار في ظل حالة تراجع عامة لوضع الثقافة المصرية، وفي ظل حالة متفاقمة من ضعف وسوء التوزيع.

لذا يصبح من المهم جداً البحث في جذور المشكلة بالأساس: كيف بدأت؟ وما الأسباب التي أدت إلى حدوثها؟ حتى يمكننا بشكل عملي الوصول إلى حلول عملية يمكن تطبيقها لإيجاد مخرج مناسب للتغلب على المشكلة، بدلاً من التحدث بشكل نظري فضفاض تنتهي فعاليته بمجرد الانتهاء من الحديث عنه.

(2)

الكِتاب قد يكون أداة لإنتاج معرفةٍ زائفةٍ للتسلُّط على العقل، وطريقة تفكيره، فيؤسِّس لغياب حضاري، وقد يكون ضرباً من الحفر المعرفي يؤسِّس لثقافة النقد والاستيعاب. هذه أحياناً يتم خلطها عند أصحاب دور النشر، هذه الدور التي تحولت إلى مؤسَّسات أغلبها غايتها الربح، طالما أنَّ للكتاب سوقا، مُنتَجا ومُستهلكا. فمن كتب تروِّج للسحر والشعوذة والجن، إلى كتب تروِّج للجنس والحظ، إلى كتب تحتفي بالعلوم الإنسانية من رياضيات وفلسفة وطب وأدب وموسيقى وقانون. إلا أنها جميعاً مُنتَجٌ القصدُ والغايةُ منه الربح عندَ صُنَّاعه، هذا عدا السطو على طباعة كتب ذات حظوة علمية أو أدبية.

وبموازاة ذلك نرى العديد من المعارض المحلية والعربية والدولية للكتاب وما يرافقها من نشاطات ثقافية وحفل تواقيع وبيع الكتب من مؤلفيها.

في هذا الملف نستقصي آراء كتاب ومثقفين، جنباً إلى جنب مع آراء أصحاب دور النشر، حول صناعة الكتاب، بوصفهم صنّاعه ورُسل ثقافة ومعرفة، يؤسِّسون وينشرون المعارف والعلوم، ما يُشكِّل خيالنا الثقافي والاجتماعي ويبلوره. هنا الجزء الثاني:

شربل داغر (شاعر وناقد لبناني): أين حضور الكِتاب في المجتمع؟

هناك مصاعب تواجه صناعة الكتاب العربي، وهناك تحديات يتعرض لها. أما لجهة المصاعب، فأرى أنها متشعبة، منها تراجع الحاجة إلى القراءة لدى فئات واسعة في الأجيال الشابة والمتعلمة.

وتعود أسباب التراجع الى ميل الشباب المتعاظم الى التحاور الكلامي بدل التفاعل الثقافي القرائي. ومنها فعالية متعاظمة وعالية للصورة على حساب فعالية الكلمة. ومنها تراجع قيمة العربية في حسابات هذه الأجيال، التي تعود إلى كون العربية باتت ترتبط، في أذهانهم، وبصورة مزيدة، بالعنف والضيق والظلامية.

تتناقص، إذاً، الحاجة الى الكتاب بالعربية عند هذه الفئات وغيرها… فكيف إن لم تكن هناك سياسات لتنمية حضور الكتاب في المجتمع. هذا ما لا تُعنى به حكومات في برامجها… ولا يكفي بالمقابل أن تشتري هذه الوزارة أو تلك أعداداً من نسخ الكتب المعروضة في معارض الكتاب.

لا حياة للكتاب من دون برامج: في المدارس والجامعات ووسائل الإعلام. لا تنامي للكتاب، إن لم يتحول إلى “هدية” يتبادلها الأفراد في ما بينهم، في المناسبات والأعياد، أو فوق طاولات صالوناتهم. فكيف إن أضيفت إلى هذه المصاعب مشاكل الرقابة المتعاظمة، ومشاكل القرصنة المتفاقمة!

أما التحديات، فهي كثيرة. منها القدرة على انتقال الكتاب من الورقي الى الإلكتروني. وهو انتقال صعب، كما أتحقق منه، في بلادنا وكتابنا. وهو تحدٍ أجده كبيراً، ما دام أن منسوب الثقافة يتراجع بقوة فظيعة…

وإذا كان للثقافة من قيمة، فقد باتت تتعين في ثقافات أجنبية، وبلغات أجنبية. لهذا أجد بأن تحديات صناعة الكتاب العربي هي تحديات عميقة تطاول الثقافة قبل الكتاب نفسه.

أحمد م أحمد (ناشر سوري، مدير دار أرواد): أثر الحرب على الثقافة

يعود تاريخ ترخيص دار أرواد للطباعة والنشر إلى 1993. ومنذ ذلك التاريخ وحتى الآن، يُقدر عدد منشورات الدار بـ 1500 عنوان، رغم غيابي عنها وإغلاقها لسنوات طويلة.

كانت (أرواد) الدار الأولى في طرطوس، وأولّ من (صنّع) كتاباً كاملاً في تاريخ المحافظة. وحين رجعتُ من وزارة الإعلام في دمشق إلى طرطوس ومعي الترخيص، لم أتوقع أبداً كمَّ النشر الذي هبط على الدار، وعليّ أنا، فاضطررتُ للاستعانة بأفراد العائلة، وتشكيل ورديات عمل شملت 24 ساعة في معظم أيام الشهر.

وبين 1993 و2000، نشرت الدار أكثر من ثلثي عدد منشوراتها المذكور أعلاه، أي بمعدل يقترب من كتاب كلّ ثلاثة أيام. وبعد عودتي من السفر في 2010، لم تستغرق انطلاقة الدار الجديدة أكثر من أيام لنبدأ (نشوة) النشر التي توقفت لعشر سنوات.

بعد 2012، توقفت الدار عن إنتاج الكتب تقريباً، واتجهت إلى تنفيذ الكتب على نفقة أصحابها بسبب تراجع الإقبال على القراءة، وغلاء الكتاب. وبدأت أعداد النسخ التي يريد كتّابها طباعتها بالتناقص بسبب ارتفاع سعر المواد الأولية، وهي خاضعة بأكملها لسعر صرف الدولار. ففي بلد كان متوسط رواتب أبنائه الشهرية يعادل ألف دولار أميركي، ثم انخفض في سنوات الحرب إلى النصف، والآن يعادل الـ 75 دولاراً- في بلد كهذا، لن يشتري أحدنا كتاباً كان يشتريه في سنة 2010 بـ 200 ليرة، ويشتريه الآن بثلاثة آلاف من أصل 40000 ليرة لن تكفي بطبيعة الحال لأكثر من الخبز اليومي والكهرباء والماء والهاتف وجرة الغاز.

وانعكس الأمر على منتج الكتاب. ففي حين كان متوسط ربح الناشر/ منفّذ الكتاب 5000 ليرة في 2010، أصبح ينفذ الكتاب بلا أي هامش ربح، وفي أغلب الأحيان بخسارة في المواد الأولية، لأننا نطلب من الكاتب ضعفي راتبه الشهريّ، لتنفيذ 200 نسخة من كتاب متوسط مثلاً، وهذا الرقم يعادل ربع راتبه قبل عشر سنوات. ومع تناقص عدد النسخ وعدد العناوين المنشورة، أصبحتُ أنا شخصياً تحت خط الفقر، لدرجة أنني صببت كلّ اهتمامي ووقتي على الترجمة، وفكرتُ أكثر من مرة، بسبب الإرهاق الناجم عن الترجمة، بالعودة إلى أميركا للعمل في محطة وقود.

لم يقيّض لدارنا أن تكبر وتصبح مؤسسة كبيرة لها مكانها في المعارض الخارجية التي تنقذ دور النشر الأخرى، فانكفأنا، ولولا دخلي من الترجمة لاشتغلتُ، مثل بعض أصدقائي من الناشرين البسطاء، حارساً ليلياً، أو معلِّماً في ورشة بناء.

موسى حوامدة (شاعر فلسطيني): صناعة تجارية فردية

في الزمن الاشتراكي كانت هناك صناعة للكتاب وترجمات محترفة، وحين تقرأ رسول حمزاتوف وهو يتحدث عن الناشرين والمحررين والمترجمين في كتابه تدرك أن هناك مؤسسات كانت تقف وراء صناعة الكتاب إبان الاتحاد السوفييتي. وفي الدول الرأسمالية نرى كيفية صناعة الكتب عبر دور نشر كبيرة ومتخصصة وبغض النظر عن نشر الكثير من الكتب التي لا تعنينا لكن من الواضح أن هناك صناعة للكتاب في العالم الغربي لها تقاليد وقيم. ولكن نحن في العالم العربي وباستثناء بعض مؤسسات الدولة فإن صناعة الكتاب في أغلبها هي صناعة تجارية فردية بحتة.

هناك دور نشر خاصة لا تضع لجان تقييم ولا محررين، وتأخذ ثمن الطباعة من المؤلفين، وبعضها يذهب إلى بعض الروائيين ويوقع معهم على النشر بعد أن يضمن تسويق الكتاب وبيعه، وباستثناء الهيئة المصرية للكتاب وبعض الاتحادات العربية البسيطة لا توجد لدينا صناعة كتاب بمعنى محدد.

العديد من دور النشر المهمة صارت تجارية بحتة وتضع أسعارا أعلى من أي كتب أخرى، ولا يوجد توجه لإيجاد سبل لدعم صناعة الكتاب رغم كثرة معارض الكتب، ولا خطط أو استراتيجيا. ولأن دور النشر مؤسسات فردية تنشر لأسباب تجارية وعلاقات خاصة تم إغراق السوق بآلاف الأسماء، مع أن المستهلك العربي محدود واقتناء الكتاب ليس ظاهرة متأصلة عندنا بل تعتمد على مستوى الدخل لبعض الدول العربية التي يتم ترويج بعض الكتب فيها.

نحن نتحدث بشكل عام عن السوق ونشر الكتب الرائجة، ولأن الشعر يمر في أزمة حقيقية ويتعرض إلى حملة إقصاء وتخل فلا تحقق كتب الشعر مردودا تجاريا كما يقال، تتوقف حركة نشر الدواوين الشعرية إلا في حالات نادرة وليست مؤسسة.

لا توجد لدينا صناعة كتاب بمعنى حرفي. لدينا دور نشر خاصة وشخصية تحقق بعضها نجاحات تجارية لا تنعكس بتاتا على عملها ووظيفتها فتظل فردية ومحلية.

وحال الكتاب هي حال العرب في شتى الميادين؛ تهميش ولا مبالاة وتغليب الرداءة على الفن الجدي والجيد، فطفت على السطح قيم نشاز، وتراجع الأدب، حيثُ حلت مكانه العلاقات العامة والجهويات والإقليميات وحتى توزيع جوائز الكتاب تذهب لمآرب لا أحد يعلمها.

شريف صالح (كاتب مصري): “بسطات” الشوارع هي الحل

أظن أن صناعة النشر في الوطن العربي تشبه صناعة النسيج والألبان وأجهزة الكمبيوتر، فهذه المنطقة من العالم خارج معايير الإنتاج والتصنيع، وتعيش كسوق استهلاكية فحسب. وليس من المتوقع أن تشذ صناعة الكتب عن سياق الانحطاط العام.

لا أعرف كيف أطلق مصطلح “ناشر” على من يعاني لتوزيع خمسمئة نسخة من ديوان شعري في منطقة بها حوالي أربعمئة مليون ناطق باللغة العربية؟! بل إن بعضهم يكتفي بطبع مئتي نسخة موهماً بطباعة ألف، كي يحصل على تكلفة الطبع كاملة من جيب المؤلف.

وإذا افترضنا أن الناشر مجتهد لا يستغل المؤلف، ويوفر “محررين” أكفاء، لتحضير المخطوط، فإن طموحاته سوف تتحطم أمام عقبة التوزيع. فالموزع عادة ينال حوالي 30 أو 40% من سعر الغلاف، وهذا المبلغ تقريباً ثلاثة أضعاف ما يناله المؤلف ـ في حال نال شيئاً! ـ وهي مفارقة عجيبة، أن المبدع الأصلي للكتاب الذي عانى لشهور وربما سنوات، ينال أقل نسبة من سعر الغلاف مقارنة بالناشر والموزع.

يُضاف إلى ذلك أن الكتاب العربي يفتقر إلى شبكة توزيع جادة.. رغم التطور التقني وشبكة الإنترنت، وتظل “بسطات” الشوارع البدائية هي الحل الأمثل، رغم كل ما يتعرض له الكتاب من طقس سيء وإساءة عرض!

ويندرج ضمن أزمة التوزيع عمليات القرصنة الإلكترونية، والنسخ المزور خصوصاً للكتب الرائجة التي صنعت سوقاً سوداء يتربح منها كثيرون، لأن الناشر المزوِر غير ملتزم بدفع أي حقوق.

كما يدخل فيها التكاليف الباهظة المتعلقة بنقل الكتاب بين الدول العربية، والمعاناة مع الرقابة.. وكانت لي شخصياً تجارب مضحكة في أكثر من دولة عربية، حيث يظهر أفراد الأمن ارتياباً هزلياً مثيراً للشفقة إزاء أي مجموعة كتب تحملها معك. وبعضهم لا يفرق أساسا بين “الكتاب” و”المجلة”! رغم أنه بالتأكيد يعلم أن كل شيء الآن متاح على الإنترنت.

وإذا كان إنشاء المعارض العربية للكتاب بهدف المساهمة في نشره، فإنه ـ وكعادة العرب ـ انقلب الأمر إلى عقاب وتعذيب للكتاب ونصب مشانق له، عبر المنع، أو فرض رسوم عالية على الشحن وإيجار منصات العرض، ليصبح الاقتناء عبئاً يفوق القدرة الشرائية للمواطن العربي.

بالتالي، ومثلما لدينا “ماكيتات” دول تفتقر إلى مقومات الدولة الحديثة، لدينا أيضاً “ماكيتات” دور نشر تفتقر إلى مقومات صناعة النشر، تُدار بالفهلوة والاسترزاق إلا من رحم ربي، سواء على مستوى النشر أو التوزيع والتسويق أو معارض الكتب، أو التحرير، أو حقوق المؤلف.

لا أود أن أبدو متشائماً، مثلما لا أود تجميل واقع في منتهى السوء والفساد. بالتأكيد هناك حركة تأليف، وهناك مبدعون عرب كبار، وثمة محاولات لإنعاش ذلك السوق (الجوائز مثال على ذلك)، ومحاولات لوضع مدونة معايير وتطبيق حقوق الملكية الفكرية. لكنها ما زالت دون صناعة كتب محترمة، لأنها لو كانت موجودة لكنتُ أنا نفسي قد استفدتُ منها ـ ككاتب نشر ما يزيد عن عشرة كتب.

في ظني، هذا التدهور يتسق مع قلق الحكومات العربية عموماً، من كل ما يتعلق بالثقافة، وتقاعسها عن تطبيق قوانين صارمة وضبطية قضائية خاصة بالقرصنة والتزوير، وضمان النسب المقررة لاتحادات الكتاب، والإصرار على رفد مكتبات المدارس والجامعات بكل جديد في عالم النشر.

باختصار نحن لدينا سوق نشر متواضعة جداً ـ بلغة الأرقام ـ لا ترقى إلى مفهوم “صناعة نشر”.

صابرين فرعون (كاتبة فلسطينية): سر نجاح الكاتب

القراءة فالقراءة فالقراءة هي سر نجاح الكاتب، فهي التي تغني قاموسه اللغوي وتعابيره ومفرداته وتسبر أعماق فكرته وموضوعه، وتمنحه ينبوعاً لا ينضب من المعرفة، وتمنحه الثقة لخوض تجربتيّ الكتابة والنشر من ضمن أمور أخرى. الكتابة إثبات للوجود ومواجهة للقهر، يرصدها بحواسه الخمس ويصقلها بتخصيص أوقات منتظمة لها ولا يهملها، فيتحرى ويتقصى ويتحدى، ويتمرن على تكثيف خياله والتدقيق في التفاصيل والاستماع للملاحظات والانخراط في الحياة الاجتماعية والاحتكاك بالناس والإصغاء لهموم الناس وملامسة أوجاعهم والتأمل في الكون وعلاقة الإنسان بنفسه وخالقه ومحيطه، وتنويع القراءات بحسب اهتماماته وقدراته الذهنية، ويتذوق من كل علم وأدب ويطور في مناهجه ويتفنن ويبتكر في صنع جماليات للنص، وهذا لا يعني التكلف والاستعراض اللغوي، بل تصفية الذهن ووضوح الفكرة وغرس جمله بالمشهدية الجذابة والمُشوِّقة والابتعاد عن استخدام المفردات الميتة التي تختلف استخداماتها باختلاف الوقت واتساع القاموس للكلمات الدخيلة واللغة المحكية بما يخدم رسالة الكاتب في نصه أو عمله أو تقريره.

برأيي، الكاتب المبدع يحفر اسمه في عالم الكتابة من خلال نضوج تجربته الحياتية ووعيه، واجتهاده الفردي ونجاحه في مخاطبة القراء وتحقيق مساحة تواصل بينه وبين القراء بأمانته الأدبية والعلمية في نقل المعلومة أو تصوير المشهد أو سرد الأحداث والوقائع، وبأن يحافظ على كينونته الإنسانية ولا ينجر لخطابات الكراهية الآخذة في التصاعد في مواضيع الحريات وقضايا الرأي العام والانقسامات الحزبية خاصة على منابر التواصل الاجتماعي، وأن يغربل عقليته وشعوره عما يكتب ليحافظ على صوته المحايد وإن كان واحداً من المجتمع.

مع الوقت، التدوين والنشر على مواقع التواصل الاجتماعي باتا جزءاً من عملية الكتابة، وبهذا الاعتبار كل من يكتب أو يدون أو ينقل معلومة هو كاتب وإن اختلفنا على إلصاق صفة الكتابة بمن لا يملك اللغة أو الأسلوب أو حتى يسرق منشوراً أو يشاركه بأمانة، وتكشف المنشورات رسائل خفية ما وتظهر ثقافة الكاتب وأسلوبه وتفكيره ونظرته وميزانه للأمور.

الكاتب والناشر طرفان أساسيان في معادلة النشر الورقي، لكن الناشر عموماً يقيس الأمور بموازين تجارية ما يوجه البوصلة إلى وجود فرق بين فن الكتابة وصناعة الكتابة وصناعة الكتب؛ فالفن مرتبط بالكاتب وما يفجره من صدى في نفوس القراء والنقاد، وصناعة الكتابة تُعنى بصقل موهبة الكتابة من خلال الورشات التدريبية وجلسات العصف الذهني ودورات التنمية البشرية وتثقيف الكاتب بأهمية تطوير أدواته وتنويع أساليبه والتنويه أن الكتابة موهبة غير مُكتسبة تحتاج لصقل وتغذية، أما صناعة الكتب فهي تختص بالناشر الذي يدرس حالة السوق ومؤشرات الكتب الأكثر طلباً ومبيعاً والموارد المالية المتاحة للطباعة الورقية والنشر والتسويق في المكتبات ومتاجر الكتب الإلكترونية والمشاركة في المعارض الدولية والترويج وتوفير نسخٍ مجانيةٍ للنقاد والصحافة والتعاقد مع الكاتب لعمل طبعات من الكتاب بحسب كمية الطلب عليه.

إن سوق الكتاب الورقي في العامين الماضيين في تراجع كبير لدخول من هب ودب على الساحة الثقافية من ناشرين وكتاب، ورقابة المنع تقتصر على الشعر السياسي أو الكتابة التي تخالف الدين أو بحجة خدش الحياء، وأظن أن الإقبال على سوق الكتاب الورقي في العامين القادمين في انخفاض هائل، لأن عقود النشر الورقي تمتص دم الكاتب وتسرق ثمرة جهده لصالح جشع الناشر الذي يختلف السعر الذي يطلبه باختلاف ما يتم عرضه وتقديمه من خدمات مميزة للزبائن، وخاصة الشباب أصحاب الكتب الأولى! ويعاني الكاتب ويكابد لتحصيل فيزا للمشاركة في معارض الكتب ومشاركة القراء ملاحظاتهم وخسارة متعة الحوار والتواصل مع ثقافات وجنسيات مختلفة، وتعاني الكاتبات في العالم الإسلامي من قيود تُفرض عليهن في السفر والتواصل وحتى الكتابة والنشر، وقلة هن من ينجحن في ظل غزوات العيب والحرام والشرف.

كذلك فإن الثورات العربية وأحداثها وما ترتب عليها من تدخلات أمنية أسهمت في ترتيب الأولويات وفقدان الشغف في كتابة حلم المواطن العربي وتحدي الواقع وانتزاع نفسه مما يلف مجتمعه من فساد وجرائم وقصور طبي وتناقضات اجتهادات المرجعيات الدينية وعدم التفريق بين التدين والدين السياسي الموجه للتحكم بالعقول وغلاء المعيشة وتأخر الرواتب وغيرها من الأمور التي تشغل العقل والفكر.

ضفة ثالثة

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى