ثقافة وفكر

الربيع العربي بين موجتين: دروس الماضي ومستقبل التحوّل الديمقراطي/ حسام أبو حامد

(1)

في منتصف سبعينيات القرن العشرين، انطلقت من جنوب أوروبا الموجة الثالثة من موجات الانتقال الديمقراطي في العالم، لتتمدد خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات، في بلدان أميركا اللاتينية، وآسيا، وأفريقيا، وشرق أوروبا ووسطها، بينما بقيت آفاق التحولات الديمقراطية غير مؤكّدة إلى حد كبير في العالم العربي، الذي نُظر إليه بأنه يمثل استثناءً على هذا الصعيد. لكن انطلاق الموجة الأولى من الربيع العربي، في أواخر العام 2010، أطاح هذه الاستثنائية المزعومة، وبدا أن العالم العربي على موعد مع التغيير الذي طال انتظاره، وأن عقودا من استبداد عربي معاصر قد ولت وإلى الأبد، لتتحرر الشعوب العربية من تلك “الصفقة الفاوستية” التي كُرّست، في غياب العقد الاجتماعي أساساً للدولة الحديثة، صيغةً أساسيةً للعلاقة بين الشعوب العربية وحكامها، يحصل بموجبها المواطن على الأمن والخدمات لقاء ولائه للنظام السياسي. لم تعد الشعوب تقبل أن تحتكر تلك الأنظمة إدارة شؤونها، والفشل فيها في الوقت نفسه.

موجة أولى

منذ تسعينيات القرن العشرين، انتقلت دول عربية كانت محسوبة على المعسكر الاشتراكي، من اقتصادٍ موجّه نحو القطاع العام، إلى اقتصاد السوق. ومع ترسيخ عمليات الخصخصة، لم يستطع القطاع الخاص توفير ما يكفي من فرص عملٍ وفّرها سابقا القطاع العام، على الرغم من عثراته اقتصاديا تنمويا، لترتفع البطالة بين صفوف الشباب إلى مستوياتٍ غير مسبوقة، نمت معها عدم المساواة الاقتصادية.

وتطلعت الفئات الاجتماعية، المهمّشة والمقموعة المستبعدة من فوائد التنمية الاقتصادية، إلى الحصول على مزيد من الحرية والمشاركة السياسية، في ظل انفتاح على العالم الخارجي بفضل التطور الهائل في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات. وقد تراكمت عوامل اقتصادية وسياسية، وغيرها من عوامل أساسية تفاعلت سنوات لتدفع في اتجاه حيّز ديمقراطي في المنطقة، وأدت الدوافع المباشرة في بعض الدول العربية إلى خروج المعارضة من قيودها الحزبية، الضيقة والمعطّلة غالبا، ممتدةً إلى فئاتٍ كانت قد أقصيت من المجال العام، على شكل انتفاضات جماهيرية.

اكتسحت موجة أولى من الانتفاضات المنطقة العربية، وتساقط المستبدون كأحجار الدومينو، وانتعشت آمال الملايين ظنّا بأن حريات سياسية وحياة كريمة باتت قاب قوسين أو أدنى، وأن العالم العربي يسير في ذات الطريق التي سارت فيه دول أوروبا الشرقية، بعد سقوط جدار برلين، وأنه ستكون له حظوظ مشابهة لحظوظ دول أميركا اللاتينية التي تخلصت، بعد عقودٍ، من حكم الديكتاتوريات العسكرية.

كانت الظروف مختلفة؛ حصلت تلك الدول على مستوى مناسب من دعم الأسرة الدولية، لتصبح دول في أوروبا الشرقية أعضاء في النادي الديمقراطي الغربي ومؤسساته، العسكرية والمدنية (الناتو، الاتحاد الأوروبي)، وتوفرت لدول أميركا اللاتينية حُزم مساعدات سخية من واشنطن، ومن جهات دولية مانحة، واستوعبها نموذج إقليمي إيجابي، هو منظمة الدول الأميركية. هذا الاحتواء وفر دفعا إلى الأمام لتحولاتها الديمقراطية، وهو ما لم يتوفر لدول العالم العربي.

باستثناء تونس، التي استكملت مسيرتها الديمقراطية، كانت نتائج تلك الانتفاضات في عمومها كارثية؛ قمعت الأجهزة الأمنية والعسكرية المظاهرات السلمية، وأطلقت نيرانها على المتظاهرين، تسلحت انتفاضات، واخترقتها السلفيات الجهادية، ودخلت البلاد في حروب أهلية تدار بالوكالة الإقليمية والدولية (سورية، ليبيا، اليمن). وتلاشى النجاح الجزئي (مصر)، بعد الانقلابات العسكرية، والثورات المضادة الممولة من بعض دول خليجية. وطوّرت الأنظمة الاستبدادية في المنطقة آليات معزّزة للقمع، وأحلّت الإكراه الوحشي محل الحوار، وبدا أنها نجحت في ترويع شعوبها.

أصبح قمع الناشطين أكثر قسوة، وفضلت دول كالأردن والمغرب إجراء إصلاحات سياسية لتحقيق الاستقرار وامتصاص المد الجماهيري الغاضب، وحالت القبضة الأمنية والريعية النفطية والنسب العالية من السكان غير المواطنين دون انتفاضات مشابهة في دول خليجية. واستجرّت الانتفاضات تدخلا إقليميا ودوليا في الشؤون الداخلية، استُثمر لتحقيق أجنداتٍ خارجية، أو لتثبيت الأنظمة التي زعزعتها الانتفاضات. والدول التي خضعت للاستقطاب الناجم عن الصراع كانت أكثر تعثّرا، وتم استبدال الصراع على السلطة بمطلب التغيير الديمقراطي.

بعد عقود من غياب سيادة القانون، والافتقار إلى المعارضة السياسية الديمقراطية المنظمة، لم تتوفر المؤسسات الديمقراطية العاملة الفاعلة. أسقطت الانتفاضات العربية أربعة أنظمة ديكتاتورية في سنة واحدة، ولم يكن كافيا التخلص من رأس النظام فقط، بدون إرساء تلك المؤسسات. تبين أنه لا يمكن التركيز على مهمة التخلص من المستبد بإصرار كبير، مع تفكير محدود، وتخطيطٍ ضعيف، بشأن سؤال: ماذا بعد؟ وحول امتلاك قوى التغيير، المسيطرة حديثا على السلطة السياسية، استراتيجية اجتماعية اقتصادية شاملة وقدرتها على وضع حدّ لاستحواذ النخبة على القطاع العام، وتفكيك تحكّم الدولة العميقة في مفاصل الاقتصاد الوطني. ومع الفشل هنا وهناك. انسحبت الجموع الغفيرة من الشوارع والساحات ولكن أوجاعها بسبب غياب الفرص الاجتماعية والسياسية ظلت تقض مضاجعها.

النهر ضد المستنقع

في محاولة استشرافية تعتبر مبكرة، يذهب الأكاديمي الفلسطيني خالد الحروب (“في مديح الثورة: النهر ضد المستنقع”، بيروت: دار الساقي 2012) إلى أن “الحرية هي الآلية الوحيدة التي تمنع تحول المجتمعات المستقرة إلى مستنقعات”، فالمجتمعات العربية، بسبب وطأة الاستبداد، تحولت إلى مستنقعات، حين شلّ هذا الاستبداد تلك المجتمعات وامتص ثرواتها، واستنزف كل طاقتها، فمنعت “سيطرة حكم الفرد الواحد، والحزب الواحد، والعائلة الواحدة، بروز أية منافذ حقيقية للإصلاح التدريجي أو البطيء إلا في حالات قليلة… كان يتم تنفيس الاحتقانات… في المقابل، دافع الاستبداد عن وضع المستنقع كما هو، مبقيا على آليات تراكم التعفن وتأكل ما تبقى من الجسم الحي في المجتمع، وتؤبد الاحباط وتبذر بذور الغضب القادم والثورة الشاملة، وتستدعي تدفق النهر وفيضانه الكبير حلا أخيرا ولا بديل عنه”.

هكذا نقف مع الحروب على مفترق طرق عسير: إما التمسك بالمستنقع، وإما الانحياز للنهر المتدفق الذي سيجرف المستنقع ويقضي على العفن. إنه خيار صعب تنبع صعوبته من أن النهر/ الثورة ستنطلق بعد عقود بكل طاقتها المكبوتة وقد لا نعرف بأي اتجاه سوف نسير معها بعد جرفه المستنقع. برأي الحروب: هنا تكمن “المقامرة الكبرى”.

لكن بقدر ما تكون الثورة “مقامرة” فإنها أيضا قدر محتوم، فاندفاع النهر ما هو إلا مسألة وقت “تحوم حول سؤال متى سيندفع النهر؟ وليس في ما إن كان سيندفع أم لا؟”. لا مناص من المقامرة. وإلا “سنظل نغوص في مستنقعاتنا للأبد”. والانحياز للنهر/ الثورة إذاً هو أيضا “وبوعي كامل، انحياز مُقامر”، فلن تظهر الواحات الخضراء مكان المستنقع مباشرة، فقد دام تفوق شريحة معينة واستبدادها بغيرها من الشرائح عقودا، وتحتاج شعوبنا إلى زمن يمضي “كي تتقن ممارسة الحرية من دون اعتداء على الآخرين ومن دون الانزلاق إلى مهاوي استبداد جديد”.

يتعامل الحروب مع لحظة سقوط الأنظمة بعد ضغط الحشود في الشوارع بأنها لحظة غير مستدامة، لكونها مغرقة في المثالية، استطاعت توحيد الشعب على هدف اسقاط النظام الفاسد، لكن هذا الإسقاط هدف مرحلي سيتلاشى بعده التلاحم و”تعود التنافسات الطبيعية بين المجموعات المختلفة للظهور وطبع المشهد بصراعاتها. بل أكثر من ذلك، تأخذ هذه التنافسات والصراع بين المجموعات والأحزاب المختلفة أشكالا أكثر حدة لأنها تتم الآن في مناخ الحرية وليس القمع، وهذا كله شيء طبيعي. لكنه بالنسبة للغالبية الكاسحة من الرأي العام تحول مُحبط، مُربك، ومثير للخوف على الحاضر والمستقبل، ويدفع جزءاً من ذلك الرأي العام إلى الترحم على أيام المُستبد حيث كانت الحياة “مستقرة”! “مستقرة” نعم، لكنه كان استقرار الاستبداد وليس استقرار الحرية. إنه “استقرار القبور” باستعارة توصيف صادق جلال العظم لحال الأمن والاستقرار التي تفاخرت بها أنظمة الاستبداد العربي طويلا”.

موجة ثانية

لم تحقق الموجة الأولى من الربيع العربي الإصلاحات العاجلة المطلوبة، وربما أصبحت حياة الكثيرين بعدها أكثر صعوبة، مع استمرار البطالة، وتدني الأجور، وأنظمة التعليم التقليدي، وعدم تكافؤ الفرص، وفقدان الحريات.. لكن تلك الموجة، حسب ظني، أحيت على المدى الطويل الطاقات السياسية في العالم العربي، وأبقت على الحراك الاجتماعي، لتبرهن الموجة الثانية أن الطلب على الحرية والعدالة ما زال مرتفعا بين شعوب المنطقة.

إن إخفاقات الموجة الأولى منحت المستبدين وهما بأن الشعوب ستفضّل الاستقرار على الحرّية، ولم تستوعب أنظمة الاستبداد الدرس جيدا، واستمرت بالاحتماء بسلطويتها، ولم تُحسن استغلال فُرص التهدئة التي منحها إياها الشارع لإجراء الإصلاحات السياسية والاقتصادية المطلوبة، فكان عليها مجدّدا مواجهة شارع منتفض، لم تعد تُجدي معه نفعا محاولات تشويهه سياسيا وأخلاقيا، ولا تخويفه بنظريات المؤامرة، أو ترهيبه بالفوضى والفراغ، ويقاوم الشارع العربي اليوم محاولات إعادة تدوير السلطة لإعادة إنتاج النظام القديم.

على العكس، استوعبت الشعوب دروس الموجة الأولى، وتجاوزت بعض أخطائها، فبدا الشارع العربي اليوم أكثر خبرة، وأكثر تمسّكا بسلمية الحراك الجماهيري، برغم القمع العنيف، وبدا المتظاهرون أكثر ثقة بالنفس، وتأكّد انعدام ثقتهم ليس بالنظام السياسي ورموزه وحسب، بل أيضا بالأحزاب السياسية حتى المُعارِضة منها. وإلى جانب الحكومات، يضع المحتجون قوى المعارضة في سلة العجز عن الوفاء بوعود الإصلاح، ويفضّلون المغامرة انطلاقا من “صفر سياسي”.

ورغم تنوع انتماءات المشاركين في انتفاضات الموجة الثانية ساد شعور عام بالوحدة، وغابت الأيديولوجيا التي سبب حضورها توترا حاسما أسهم في إفشال الموجة الأولى. لم تسقط الأنظمة بالسرعة المطلوبة، لعدم توافر دعم خارجي مباشر، لكن ذلك انعكس إيجابا، موفرا على المتظاهرين مكابدة عناء الولاءات المتضاربة، والارتهان إلى الخارج، مانحا إياهم فرصة الاعتماد على الذات، واكتساب الخبرة عبر المراحل الانتقالية.

استطاع التونسيون سد الفراغ المؤسساتي، بعد إطاحة زين العابدين بن علي، بأن سارعوا إلى المأسسة وتدعيم روافعها الديمقراطية، فأثبتت مؤسساتهم الفتية جدارتها في العملية الانتقالية، وكذلك في تأمين تداول سلمي للسلطة بعد رحيل الرئيس الباجي السبسي. لكن في غيرها، أدّت حالة الفراغ، وعجز المعارضة عن تطوير مؤسسات تشريعية وحزبية ديمقراطية، إلى جانب عوامل أخرى، إلى انهيار الدولة وتغوّل السلطة، والدخول في دوامة الحروب الأهلية، أو إلى نجاح الدولة العميقة في ثورتها المضادة.

تواجه الموجة الثانية لا سيما في الجزائر والسودان مخاطر جدّية على طريق ضمان بناء دولة بمؤسساتٍ فاعلة، ذات كفاءة في إدارة الشؤون الاجتماعية، الاقتصادية والسياسية، في ظل تصدّع الأحزاب السياسية، وحالة عدم الاستقرار السياسي. ولا تبدو مخاطر انعدام الفراغ المؤسساتي أقل حدة في حالتي لبنان والعراق، المتمتعين بنظامين ديمقراطيين، لكنهما قائمان على المحاصصة الطائفية التي كانت سببا رئيسيا لفساد المؤسسات وفشلها، وعجز الحكومات، وعرقلة تشكيلها. مع ذلك، حطمت الاحتجاجات، ورد الفعل العنيف من السلطة لا سيما في العراق، أسطورة الطائفية التي ترعاها الدولة، بوصفها مبدأ تنظيميا للسلطة السياسية. لكن مهمة المتظاهرين هنا أصعب مع طائفيةٍ تشكل جزءاً من الهياكل السياسية الأساسية. ومع عفوية المظاهرات وزخمها، حجب تركيز المتظاهرين على المطالب الاجتماعية والاقتصادية بلورة بديل سياسي واضح المعالم، ما يهدّد مستقبل هذه التظاهرات وإنجازاتها، سيما وأن وكلاء الطوائف في كلا البلدين ما زالوا يدافعون بقوة عن سياسات الهوية الطائفية التي تؤمّن مصالحهم، مراهنين على بقاء التنافر المجتمعي لعرقلة مظاهرات الوحدة الوطنية، ما يثير القلق حيال قدرة المشاعر العلمانية التي تسود الشارعين، العراقي واللبناني، على الصمود طويلا في وجه الهياكل السلطوية الطائفية الراسخة. في حال نجاح هؤلاء الزعماء، ومع الإنهاك في معركة الشارع طويلة الأمد، قد يكتفي المتظاهرون بوعودٍ للإصلاح، أو بإصلاحات جزئية تتم تحت عملية الفساد ذاتها التي تقودها النخب الحاكمة.

القضاء على الطائفية السياسية، ومستلزماتها من المحاصصة على الدولة، قد يحتاج إلى أكثر من تمرّد شعبي، عفوي، بل على المتظاهرين إعادة تنظيم صفوفهم لإنتاج حراك ثوري منظم، مدعوم بحركة سياسية ذات قاعدة جماهيرية عريضة، وقيادة سياسية مسؤولة، تحوز شرعية تمثيل قاعدتها الشعبية التي تمكنها من النجاح في أي عملية انتخابية قادمة، والمشاركة في صياغة دستورٍ جديد، وضمان بناء مؤسساتٍ ديمقراطيةٍ فاعلةٍ، تسمح بتوسيع قاعدة صنع القرار، في ظل دولةٍ مدنية.

أصبح الربيع العربي يوتوبيا تعارض الواقع بالمثال، وتلهم ملايين من الجماهير العربية هنا وهناك، وسيبقى هذا الإلهام مستمرا في ظل استمرار الواقع الذي يعارضه مثال اليوتوبيا، والذي يبدو أسوأ مما كان عليه قبل عام 2010.

بشارة: ثورة ثقافية ورقي مهم لمستقبل الشعوب العربية

مؤخراً أكدّ الباحث والمفكر الدكتور عزمي بشارة، مدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، عبر لقاء مطوّل مع التلفزيون العربي حول الموجة الثانية من الربيع العربي في كل من العراق والسودان والجزائر ولبنان، أن الحراك الشعبيّ في العراق يعد اكتشافاً للهوية الوطنية وعابراً للطائفية، وأشار إلى أن الحدس والوعي الجماعيين كان لهما الفضل في الربط بين الطائفية وفساد الطبقة السياسية. ورأى أن النخبة السياسية من زعماء الطوائف نهبت البلاد باسم طوائفها وتشكلت حولهم شبكات زبائنية تتقاسم موارد الدولة بل ووظائفها ما أصبح يعلي من قيمة الولاء الطائفي على حساب الكفاءة وهو ما يضر بالتنمية. وقال إن الحراك الحالي في لبنان والعراق هو ثورة ثقافية ضد الطائفية قد تخرج عنها حركات مواطنيّة ديمقراطية تجمع كل الطوائف ولكن بشرط تغيير نظام الانتخابات لأن الشكل الحالي لا يسمح لقوى ديمقراطية بالنفاذ إلى البرلمان. وحول مشهد الاحتجاج العراقي، قال إن الشعب العراقي رفض إفقاره باسم الطائفية لا سيما في بلد هو خامس منتج للنفط على مستوى العالم. وتابع أن الاحتجاج على النفوذ الإيراني أثبت أن الشباب العراقي يرفض الولاء لدولة أخرى باسم الطائفية مشيراً إلى أن هذا تجلى أيضاً في أحد شعارات الحراك وهو “نريد وطن” والذي رأى البعض أنه يعني “نريد دولة”.

وتطرّق بشارة إلى الانتفاضة الثورية في لبنان فقال إنها جاءت في وقت زادت فيه الطائفية السياسية بشكل كبير إلى حد تحديد كل طائفة أسماء الوزراء المنتمين لها، وأشار إلى أن لبنان الدولة العريقة التي شهدت في السابق تطوراً اقتصادياً وصل إلى مجالي الزراعة والصناعة عانى من الطائفية السياسية والفساد إلى حد عجزه الآن عن توفير الكهرباء لمواطنيه. وقال إنه لا يعتقد أنّ الانتفاضة الثورية في لبنان قامت ضد حزب الله بل إن لها طابعاً أشمل ولكن الاحتقان الذي تحدث به الحزب صورها وكأنها ثورة ضده، ولفت إلى أن حزب الله استثمر للأسف إنجازات المقاومة ضد إسرائيل لتوسعة نفوذه في لبنان، وإلى أن الحزب قلق من التحركات لأنه تحوّل من حزب مذهبي متشدد مقاوم إلى حزب طائفي بات مهتماً بالوظائف والوزارات إلى حد التحالف طائفياً مع فريق يحرض ضد الفلسطينيين ويغازل إسرائيل.

كما رأى بشارة أن حراك الشباب منذ عام 2011 أظهر أن هناك جيلاً غير منقسم أيديولوجياً وتحركه القيم والأخلاق واصفاً ذلك بأنه ثورة ثقافية ورقيّ مهم لمستقبل الشعوب العربية رغم ما يحيط بذلك من عفوية زائدة قد تقود إلى الشعبوية، وقال إن الحراك الشعبي الذي ليس له قيادة في كل من لبنان والعراق والجزائر لا يجب أن ينزلق إلى الشعبوية بحيث يكون رافضاً لكل القيادات وكل النخب لأن الحراك إن لم يتبلور في حركات سياسية سيذهب إلى البيت وتتولى الأحزاب القائمة القيادة وإدارة البلاد.

وبرأي بشارة فإن شعار “الشعب يريد إسقاط النظام” نفسه هو شعار إصلاحي لأن الثورات تسقط النظام ولا تطلب منه إسقاط نفسه. وأشار إلى أن أبحاثه خلال الفترة الماضية، والتي اهتم خلالها بموضوع الانتقال الديمقراطي، وسينشر آخرها قريباً، كشفت أن الحراك الشعبي في عدد من الدول العربية يمثل ما أطلق عليه “ثورات إصلاحية”. وفي هذا السياق أشار إلى أن الانتفاضات الثورية في كل من العراق ولبنان والجزائر لا قيادة لها لذا تحتاج إلى حوار مع القوى القائمة الراغبة في الإصلاح في حال كان الهدف الانتقال إلى الديمقراطية لأن الثورات التي تسقط الأنظمة بالكامل لم تسفر عن ديمقراطيات بما في ذلك الثورة الفرنسية التي لم تتحول إلى ديمقراطية إلا بعد مرورها بمراحل من اللبرلة.

وعند تناول الشأن الجزائري قال بشارة إن الجزائر يعيد كتابة التاريخ لأن الحراك أفرز معارضة ديمقراطية ليس لها طابع إسلامي أو شمولي كما كان في السابق. وقال بشارة إنه لا يستطيع الجزم بنوايا الجيش لكن ما يراه هو أن الجيش تحرك وتخلص من بوتفليقة والمجموعة المحيطة به ولم يطلق الرصاص على المتظاهرين. وأضاف أنه في حال لم يكن للجيش طموح سياسي فالجزائر متجه نحو ديمقراطية. وقال إن حواراً كان من الواجب أن ينشأ بين الحراك الشعبي والجيش كقوة مسيطرة لأن هذا أفضل السبل للانتقال الديمقراطي.

وفي حالة السودان رأى بشارة أن الاتفاق الحالي كان الخيار الوحيد المتاح لتجنب تصعيد قد يصل إلى حرب أهلية، ولكن رأى في الوقت نفسه أن أمر طموح الجيش في الحكم لم يحسم بعد لأن هناك من بين العسكريين من يريد أن يحكم، وأشار إلى أن هناك مشكلات تواجه التسوية السياسية الحالية من بينها وجود قوى خارج هذا الاتفاق مثل الشيوعيين والإسلاميين إلى جانب مشكلة الفصائل المسلحة.

في ختام الحوار قال بشارة إن حدثين كبيرين أدخلا الحركات الإسلامية السياسية في أزمة وهما فشل أو إفشال حكم الإخوان المسلمين في مصر ما أوصل البلاد إلى حكم عسكري دموي، إضافة إلى ظهور تنظيم الدولة الإسلامية وما تبعه من أحداث. وأكد أن عدم تصدر الحركات الإسلامية للحراك الشعبي في الجزائر والعراق ولبنان والسودان حمى هذا الحراك وأن هذا سيستمر لفترة إلى حين خروج تلك الحركات من أزمتها والتصالح مع نفسها ومع الديمقراطية.

*****

نفتح هنا ملفاً خاصاً نتناول فيه المقارنة بين موجتي الربيع العربي (أو نسختي الربيع العربي)، ومدى استفادة كل من الشارع والنظام من دروس الموجة الأولى، وانعكاسات ذلك على فرص الموجة الثانية. ألسنا مجددا أمام السؤال: ماذا بعد سقوط الأنظمة والنخب التي سيطرت على السلطة حتى الآن؟ هل بلورت تلك الموجة التي لا تزال بدون رأس سياسي ملامح العقد الاجتماعي الذي ستقوم عليه دولة المواطنة؟

توجهنا بهذه التساؤلات إلى عدد من المثقفين العرب؛ باحثين وكتاباً، شاركوا معنا مشكورين في طرح آرائهم تعميقاً لفهم الموضوع، وتعزيزاً للنقاش المستمر حوله.

[غداً الجمعة نبدأ بنشر الجزء الأول من هذه المشاركات]

ضفة ثالثة

(2)

أعلنا أمس فتح ملف خاص نتناول فيه المقارنة بين موجتي الربيع العربي (أو نسختي الربيع العربي)، ومدى استفادة كل من الشارع والنظام من دروس الموجة الأولى، وانعكاسات ذلك على فرص الموجة الثانية. وتساءلنا حول ما إذا كنا لا نزال أمام السؤال: ماذا بعد سقوط الأنظمة والنخب التي سيطرت على السلطة حتى الآن؟ وهل بلورت تلك الموجة التي لا تزال من دون رأس سياسية ملامح العقد الاجتماعي الذي ستقوم عليه دولة المواطنة؟

توجهنا بهذه التساؤلات إلى عدد من المثقفين العرب، باحثين وكتاباً، شاركوا معنا مشكورين في طرح آرائهم تعميقاً لفهم الموضوع، وتعزيزاً للنقاش المستمر حوله.

نبدأ في هذا الجزء الثاني بعرض تلك الآراء:

أنور جمعاوي (أكاديمي وباحث جامعي تونسي): الفعل الاحتجاجي العربي يستعيد عنفوانه

استعاد الفعل الاحتجاجي العربي عنفوانه عام 2019. واندفع الغاضبون من سياسات الأنظمة الحاكمة بكثافة نحو ميادين الاحتجاج، ونحو منابر الإعلام الحر وشبكات التواصل الاجتماعي، تعبيراً عن ضيقهم بالمشهد الحزبي السائد، وعن سخطهم على المنوال الحُكمي والتنموي القائم في بلدانهم. وبدا واضحاً وجود شوق شعبي عارم إلى التغيير، والتطوير، وتحقيق العدالة والدمقرطة. ومع أنّ هذه المطالب كانت حاضرة في الحراك الاحتجاجي العربي عام 2011، فإنّها بدت في الموجة الثورية العربية الثانية أكثر إلحاحاً، وأبعد مدى. وثار الناس لأسباب واقعية، ومارسوا الاحتجاج بذكاء، ونجاعة على نحو ساهم في التفاف الناس حولهم، وزاد من عزلة النظام الحاكم.

ثار النّاس في القاهرة، كما في الخرطوم، وفي بيروت، كما في بغداد ووهران، لأنّهم سئموا طبقة سياسية تقليدية، وملّوا أحزاباً كرتونية قديمة تكرّر شعاراتها وبرامجها، ولا تجدّد قادتها وهياكلها. بل تهادن النظام القائم، وتعد ولا تفي، وتتعامل مع الحكم باعتباره غنيمة. وكره المحتجّون أيضاً سطوة العسكر، وهيمنة الطائفة، واحتكار الفرد، أو الأسرة، أو الحزب، دواليب الحكم. فالموجة الثورية الجديدة صرخة احتجاج في وجه طبقة سياسية متهرّمة بالية، تفتقر إلى الابتكار والتطوير، وترفض التشبيب والقيام بإصلاحات جذرية. وهي طبقة لا تمارس النقد الذّاتي الموضوعي، بل تدّعي امتلاك الحقيقة. وتستأثر في الوقت نفسه بأسباب السلطة، والثروة، والحصانة، والفخامة. وليس عليها رقيب ولا حسيب. بل تجد سنداً من عصبية حزبيّة، أو طائفية، أو قبلية، أو عسكرية. ومن ثمّة فقد فقدت هذه الطبقة السياسية، الحاكمة، أو المعارضة، على التدريج، ثقة الناس بها، واستنفدت، أو تكاد، وعودها البرّاقة. وخبر المواطنون تقصيرها في تأمين الكرامة والرّفاه، وضمان الحرّيات العامّة والخاصّة، وتحقيق العدالة والحوكمة الرّشيدة والتنمية المستدامة.  لذلك تداعى المتظاهرون إلى الشوارع، وامتلكوا

الميادين ليشكّلوا قوّة ضغط على الطبقة السياسية الحاكمة، وخيّروها بين القبول بمشروع التغيير والتداول السلمي على السلطة، أو الرحيل. واللافت للنظر هنا أن الحراك الاحتجاجي العربي الجديد عام 2019 لم يُطالب بإصلاحات جزئية، أو حلول مرحلية، كما فعلت الانتفاضة السورية، أو الليبية، أو اليمنية، في بداياتها عام 2011، بل طالب منذ البداية بتغيير شامل وتبديل كلّي للمنظومة السياسية السائدة. جلّت ذلك شعارات من قبيل “الشعب يريد إسقاط النظام”، “فِلّوا عنّا… كِلّن يعني كلّن”، “يتنحّاو قاع”، أي “يرحلون الآن جميعاً”، وفي ذلك دليل على وجود رغبة شعبية جامحة، توّاقة إلى التغيير، وميّالة إلى التأسيس لمعالم دولة جديدة. دولة طالب المحتجّون بأن تكون “مدنية لا عسكريّة” وفي ذلك إخبار بأنّ المواطن العربي الجديد لا يثور لأجل أسباب معيشية فحسب، تتعلّق بتدهور مقدرته الشرائية ومعاناته الفقر والبطالة، بل يثور أيضاً لرغبة منه في تغيير هوية النظام السياسي للدولة، وبغاية الانتقال بها من دولة عسكرية إلى دولة مدنية. والتوق إلى تمدين الدولة يحمل طيّه توقاً إلى تحرير الفضاء العام من سطوة البوليس والعسكر، وشوقاً إلى تكريس الحرّيات والتمكين للدمقرطة في سياق عربي. والثابت أنّ المحتجّين عام 2019 استفادوا من مآلات الدرس الاحتجاجي في مصر عام 2011، فاطمئنان النخب المصرية إلى بقاء العسكر مديراً للمشهد السياسي أدّى تالياً إلى تقويض التجربة الديمقراطية جملة وتفصيلاً. لذلك يحرص المحتجّون الجدد على تمدين الدولة وتحييد العسكرـ والتخفّف من وطأة الحزب، أو الطائفة، قدر الإمكان، حماية لمشروعهم الاحتجاجي من مطبّات الاحتواء، أو المصادرة، أو الهيمنة، من هذا الطرف، أو ذاك.

ختاماً، يبدو أنّ مشروع الدولة الشمولية العربية بدأ ينحسر، وأحرى بالفاعلين السياسيين بدل الحنين إلى الحكم الأحادي، تعديل ساعاتهم على مستجدّات الزمن الاحتجاجي العربي الجديد.

خيري حمدان (شاعر وروائي ومترجم فلسطيني): موجة الربيع الثانية مقدّمة للخلاص

يحتاج التغيير الاجتماعي، وإنجاز عمليات الإصلاح الحقيقية، إلى عقود طويلة، فهذه العملية مرتبطة عضوياً بأنماط التفكير التقليدي الرافض للتغيير الجذري القادر على قلب الموازين السياسية والاقتصادية، بما في ذلك هدم أساليب توزيع المنتوج القومي الظالمة بصورة عامّة.

موجة الربيع الأولى، التي وسمها كثيرون بالخريف القاتم، لم تتمكّن من تحقيق كثيراً من الأهداف المتأمّلة، لكنّها تركت مذاقاً مرّاً لدى معظم المواطنين الذين يتوقون للتحرّر من نير الاستبداد، كما أبقت أسساً هامّة لرفع هرم الديمقراطية، وتوخّي الشفافية. الموجة الأولى حصدت مئات الآلاف من الأرواح، وتسبّبت في تشريد الملايين، وأدّت كذلك إلى العبث بالتوزيع الديمغرافي في بعض دول المشرق، لكنّها في الوقت ذاته خلّصت المواطن من الخوف الكامن في أعماقه، وحثّته على رفض الرقيب الذاتي ليطرق أبواب الحرية والديمقراطية، كما هي حال العوالم المتقدّمة.

ربّما يتوجّب على الرؤساء وأصحاب القرار إعادة قراءة “مقدّمة ابن خلدون”، الذي وضع أسس علم الاجتماع لفهم أصول وأهمية بناء وتطوّر المجتمعات، وقراءة “طبائع الاستبداد” لعبدالرحمن الكواكبي، لإدراك تبعات التسلّط والتحكّم بمقادير السلطة، وتجميعها بين أيدٍ محدّدة لفترات زمنية طويلة، دون التقيّد بمتن كتاب “الأمير” لنيكولا مكيافيلي، الذي وضع أسس المكيافيلية والفقه السياسي، ومبادئ البقاء للنخب الحاكمة.

شهدت المنطقة عاصفة تمرّد جديدة أطلق عليها موجة الربيع الثانية، وأسوة بالموجة الأولى، نرى المجتمع العراقي الذي خرج إلى الشوارع والميادين قد قدّم كثيراً من الضحايا، لكنّ هذا لم يمنعه من التعبير عن رفضه وسخطه لتفشّي الفساد، وتغليب الطائفية في التقسيم الإداري، وتوزيع مقدّرات الدولة العراقية التي تعدّ ضمن كبرى الدول المنتجة والمصدّرة للنفط، لكنّ كثيراً من طبقات المجتمع العراقي بقيت دون خطّ الفقر تعاني الفاقة وتخلّف البنى التحتية.

الأمر لا يختلف كثيراً في لبنان. قد يبدو الفارق بطرق تعبير رفض الفساد، وثراء رجال الدولة والمتنفّذين، الطرق التي أخذت طابعاً أوروبياً، خاصّة ما شهده إقليم أوروبا الشرقية مع بداية المرحلة الانتقالية، وما بعد ذلك.

تبدو الموجة الجديدة ذات طابع شعبي، وموجّهة بصورة مؤطّرة للمناداة بمحاكمة الفاسدين، وبإقصائهم عن المناصب الرفيعة، محاولة في الوقت ذاته تهميش البعد السياسي والحزبي عن الطابع العام للإضرابات المعلنة. الأهداف التي وضعتها حركات الاضراب، والتمرّد الشعبي، تنحصر كما هو واضح في تحسين المعيشة، والتوزيع العادل لمقدّرات الدولة، والخزينة العامة. الحراك المدني هو الغالب على طبيعة الموجة الجديدة، بعد أن سئمت فئات المجتمع المختلفة سبل التفرقة الطائفية، ونهج التخوين والتكفير والعنف المصطنع، والأفكار الوطنية التي تدعم سياسة الأمر الواقع للإبقاء على سيادة وأمن الدولة، لكن يصعب الحفاظ على أمن الدول وسيادتها دون تحقيق ما يصبو إليه المجتمع من حياة كريمة وفرض العدالة، في القضاء، وكافّة المجالات والمرافق الحيوية.

أعتقد أنّ المجتمعات العربية تعيش حالة مخاض قد تمتدّ لفترات زمنية طويلة نسبياً، ما يعني كذلك إمكانية اندلاع موجة ربيع ثالثة، ورابعة، يصعب قمعها ومواجهتها، لأنّ الموجات المستقبلية ستكون أكثر نضوجاً وقادرة على طرح مطالب واضحة وعادلة. الحراك المدني المسؤول قادر على فرض أجندة قوية للضغط على الحكومات للحدّ من الفساد، ونهب مقدّرات البلدان الخاضعة للأنظمة الاستبدادية، وهذا ما لاحظناه خلال الثورات التي أطلقتها شعوب إقليم البلقان التي خضعت هي كذلك لأنظمة شرسة ومستبّدة على مدى عقودٍ طويلة، لكن الجدير ذكره أنّها كجزء من القارة الأوروبية تمتّعت بتاريخ برلماني إبّان الحقب التي سبقت الاشتراكية، لذا تمكّنت من تجاوز هذه المرحلة دون سفك دماء، باستثناء بعض الدول، كرومانيا مثلاً.

إذا سألت المواطن العربي عن ممارسته لحقّه الانتخابي، فقد تفيد إجابته بأنه شارك في استفتاء لانتخاب الرئيس ثانية، أمّا الأنظمة الملكية فحق الانتخاب غير وارد فيها على الإطلاق، بل وحتى انتخابات السلطة المحليةـ كالبلديات، والمحافظات، تبقى خاضعة لاعتبارات عشائرية وطائفية، يتمّ خلالها شراء الذمم بصورة مكشوفة ومفضوحة.

لعلّ الموجة الثانية، خلافاً للأولى، تتمكّن من فراز أوضاع مواتية لرفع مستوى عمل وأداء المؤسسات المدنية، باعتبارها المقياس الحقيقيّ لنضوج المجتمع، والتعبير عن طموحاته.

بيار عقيقي (كاتب وصحافي لبناني): انتفاضات ضد الطائفية

بين 17 ديسمبر/ كانون الأول 2010 ونوفمبر/ تشرين الثاني 2019، تسع سنوات تقريباً من “الربيع العربي”. في 17 ديسمبر 2010، لم يكن يدرك التونسي محمد البوعزيزي لدى إحراق نفسه، أنه سيتحول إلى أيقونة ومفتاح لكل الموجات الأولى للتظاهرات والاحتجاجات التي أسقطت أنظمة، بينما في نوفمبر الحالي، يدرك العراقيون واللبنانيون أنهم في سياق تفعيلهم زخم الموجة الثانية من هذا الربيع، إنما يمسّون أحد أخطر تركيبات الأنظمة في تاريخ الدول العربية.

المقارنة بين الموجتين وبلدانها تظهر أن الحراك في الموجة الأولى كان في البلاد ذات الطبيعة المائلة للأنظمة العسكرية، مثل تونس وليبيا ومصر، بينما استوعب المغرب والأردن التحولات، فيما غرقت سورية واليمن في حربيهما. أما الموجة الثانية، فعدا عن شمولها السودان، كبلدٍ ذي نظام عسكري ـ إسلامي يشبه الرئيس المتنحي عمر البشير، فإنها وصلت إلى الجزائر والعراق ولبنان. وإذا كان النظام العراقي الطوائفي المولود بعد الغزو الأميركي ـ البريطاني عام

2003، منسوخاً عن النظام اللبناني، واحتمالات سقوطه أكبر من احتمالات سقوطه في لبنان، خصوصاً أن عمره لم يبلغ عشرين عاماً في السياق الزمني، إلا أن سيل الاحتجاجات والتظاهرات التي عصفت به وبالنظام اللبناني، تشي بأمر كبير حصل.

في بغداد وبيروت، تبدو ما يُمكن تسميته بـ”الموجة الثانية” من الاحتجاجات العربية، أكثر وضوحاً عن الموجة الأولى. في البلدين رغبة عارمة بكسر القيود الطوائفية التي تحكم الحركة السياسية والبيروقراطية في البلاد، تحت اسم “حقوق الطوائف”، وهو ما يعوّق عملياً أي تقدمٍ اجتماعي أو تنموي، على اعتبار أن معظم المنخرطين في العمل تحت شعار “حماية الطوائف” هم من الفاسدين، كما تكشف الملفات العراقية واللبنانية. لكن الاختلافات بين الدولتين حاضرة أيضاً، فالعراق أسير الصراع الإيراني ـ الأميركي، وذو مخزون نفطي هائل. في المقابل، فإن الوجود الأميركي في لبنان رمزي، في مقابل وجود تيار مؤيد لإيران في النظام اللبناني، أكثر قوة من التيارات الأخرى.

هنا يكمن التحدّي، في الحالة العراقية سقط أكثر من 300 شخص ضحية التظاهرات والاحتجاجات، أما في لبنان فسقط 3 أشخاص (حتى لحظة كتابة هذه السطور). في العراق تبدو السلطة وكأنها تتجاهل إرادة الشعب، خصوصاً مع تمسكها بالحكومة، أما في لبنان، فصحيح أن الحكومة استقالت، لكن المطروح حالياً، أخرى مشابهة. يعني ذلك أن السلطات في البلدين، مدعومتين من جهات إقليمية أو دولية، ترفض تلبية مطالب المحتجين، بما ينبئ بتطورات أكثر حدّة مما يحصل حالياً. وهو ما لا “يراه” النظامان العراقي واللبناني. لكن هل يعني هذا نجاح، أو فشل هذه الموجة؟

بالطبع، إن مجرد حصول الانتفاضة على النظام هو مكسب للبنان والعراق، وإن تأخرت نتائجه، ذلك لأن الحقوق البديهية التي يطالب بها الناس ليست موضع مساومة، وإن كانت موضع نقاش حول كيفية تأمينها، لأن المساومة بما يمسّ البديهيات، هو نوع من أنواع إنكار وجود حالة إفساد واسعة النطاق. الأرقام لا تكذب. السرقات بلغت مليارات الدولارات في العراق ولبنان، في ظلّ غياب أي حالة محاسبة، أو سجن. جميع من في السلطة في بغداد وبيروت محمي من رجال دين في طائفته. العراقيون واللبنانيون يدركون ذلك، ويعلمون أن المسار طويل، ولا يمكن حصول كل شيء سريعاً. ستنجح هذه الموجة من الاحتجاجات، لكنها ستحتاج لوقتٍ، وهو ما يصبّ في خانة المنتفضين، لا في خانة السلطات، التي لم تقدّم حلولاً، ولم تبادر للحوار الحقيقي، ولم تسجن فاسداً واحداً، ولم تستعد أموالاً، بل قامت بما تجيده حقاً أي سلطة فاسدة: القمع.

محمد أحمد بنيس (شاعر وكاتب مغربي): الموجة الثانية وإعادة تعريف النظام السياسي

لا شك أن الحراك الشعبي في السودان والجزائر ولبنان والعراق يعيد إلى الواجهة قضايا كثيرة واكبت الموجة الأولى من الربيع العربي. فمرة أخرى تعود سردية المؤامرة إلى الخطاب الرسمي العربي الذي يربط هذا الحراك بجهات أو دوائر خارجية تستهدف هذه البلدان. ورغم اجتهاد الدولة العميقة والثورة المضادة في الترويج لهذه السردية، من خلال إعلام تابع وفاسد، إلا أنه يمكن القول إن الحراك الحالي وجه ضربة موجعة لهذه السردية، وكشف القوى التي تقف خلفها في الداخل والخارج.

في الموجة الأولى (2011)، طالب المحتجون بالحرية والديمقراطية والكرامة، وهي المطالب التي اختزلها الشعار الشهير ”الشعب يريد إسقاط النظام”، لكن هذا النظام اختزلته ثورات هذه الموجة في رأس النظام، وهو ما سمح للدولة العميقة بترتيب أوراقها جيداً من خلال التضحية برأس النظام، والانحناء للعاصفة، في انتظار استعادة المبادرة، وهو ما حصل فعلاً، سيما في الحالة المصرية، حين اعتقدت القوى الثورية والمدنية في ميدان التحرير أن نظام مبارك قد سقط بتنحيه. وقد أثبتت الوقائع اللاحقة خطأ هذا التقدير. أما في الموجة الحالية، فالمطالبة بإسقاط النظام تأخذ دلالات جديدة، من خلال إعادة تعريف هذا النظام الذي يشمل، إضافة إلى رئيس الدولة وعائلته وحاشيته، منظومة تصطف بداخلها نخب متعددة المشارب (قادة أحزاب، وزراء، برلمانيون، زعماء طوائف وميليشيات، رجال أعمال مقربون من السلطة…) استفادت من زواجِ سفاحِ بين السلطة والمال.

إعادة تعريف النظام السياسي الحاكم يعود إلى تَشكّل شعور عام في المنطقة مفاده أن النخب بمختلف مكوناتها الحزبية والحكومية والطائفية ليست إلا واجهة لإعادة إنتاج الريع السياسي. فهذه النخب تقف في صف الأنظمة حفاظاً على مصالحها، خاصة أنها تعاني نقصاً مهولاً في شرعيتها، بسبب غياب الديمقراطية في تدبير شؤونها. ولا مبالغة في القول، إن التحالف بين الأنظمة والنخب، والذي يتخذ أوجها متعددة حسب ظروف كل بلد، يمثل أحد العناوين البارزة لمعضلة الفساد في العالم العربي. ففي الجزائر مثلاً، تمثل الانتخابات الرئاسية بالنسبة للدولة العميقة (الجيش)، والأحزاب والشخصيات التي ستشارك فيها تجديداً، أو تعديلاً، لتحالف الطرفين في أفق الالتفاف على الحراك الجزائري.

كشفت الموجة الأولى انتهازية هذه النخب التي استغلت الاحتجاجات واستخلصت، بحكم خبرتها التنظيمية، جزءاً من العائد السياسي لهذه الاحتجاجات التي لم تكن شريكة في إطلاق شرارتها، وقفزت على تضحيات القوى الثورية والمدنية التي لم تكن تتوفر على قيادات قادرة على تحويل مطالبها إلى برنامج متكامل يمكن اعتماده في سياق قواعد جديدة للتدافع السياسي. وفي هذا الشق، لم تستفد الموجة الثانية (2019) من سابقتها، فعدا السودان الذي استطاع الحراكُ الشعبي فيه أن يفرز مخاطَباً في مواجهة تسلط المجلس العسكري، تبدو الاحتجاجات في الجزائر، ولبنان، والعراق، إلى غاية الآن، غير قادرة على إفراز قيادة سياسية تخترق جدار التعنت الذي تتحصن به الدولة العميقة.

من ناحية أخرى، تشكل مكافحة الفساد أبرز ما يميز الموجة الثانية من الربيع العربي. ففي الوقت الذي يتفشى فيه الفساد في مختلف مؤسسات الدولة العربية، تعاني فئات اجتماعية واسعة من انسداد الآفاق أمامها في ظل ارتفاع نسب البطالة والفقر وتردي الخدمات العامة.

كذلك ينبغي ألا نغفل أمراً في غاية الدلالة؛ فأن يتجاوز المحتجون، في لبنان والعراق تحديداً، سلطة الطائفية، والانخراط في حراك شعبي يسعى إلى الإطاحة بالفساد وتفكيكه، فذلك يدل على أن الفساد بات يشكل معضلة بنيوية لا يمكن السكوت عنها. صحيح أن مطلب مكافحة الفساد كان حاضراً في احتجاجات الموجة الأولى، لكنه لم يكن بالحدة نفسها التي نشهدها الآن.

شورش درويش (كاتب سوري): “الربيع العربي” بين موجتين

سعت دار ترجمة عربيّة إلى الحصول على الحق الأدبي لترجمة كتاب “قوّة المستضعفين” للرئيس التشيكي الراحل فاتسلاف هافل، ولمّا كان الوسيط في هذا الشأن صديق الرئيس والمترجم الخاص، بول ويلسون، فإن موافقة هافل جاءت بعد حوار مقتضب، إذ سأل الأخير، وهو على سرير المرض: هل العرب مستعدّون للديمقراطية؟ ليجيبه ويلسون: وهل كنتم أنتم مستعدّون لها عندما قمتم بثورتكم عام 1989؟.. “فهمت ما تعنيه” أجاب هافل.

على منوال سؤال الرئيس التشكي، وأحد أبرز قادة “الثورة المخملية”، طُرحت أسئلة مشابهة تحمل ذات المعنى منسوجة من ركود الواقع العربي المستنقِع نتيجة سنوات الاستبداد والشراكة المتينة بين كارتيلات الفساد والدولة الأمنية التي صاغت شكلاً للدولة العربية وُصفت بدقة بالغة بأنها دول “الأنظمة السلطانية المحدّثة”، أنظمة سلالية تُحكم القبضة على المجتمع، وتحول دون أي تقدّم ديمقراطي، ومن قلب الانقسام حول جدوى الثورات المفتوحة على  كل الاحتمالات، كان من حسن طالع الموجة الثورية الأولى انطلاقها من تونس التي وصفت بأنها الحلقة الأضعف في سلسلة الدول المستبدّة. هشاشة النظام التونسي تبدّت في الأدوار الحاسمة للجيش والأجهزة الأمنية، وفقدان نظام بن علي للمدد الشعبي الذي يمكّنه من إحالة الثورة العارمة إلى ثورة منقسمة ومشكوك في نسبها الشعبيّ، ذلك أن بنية المجتمع التونسي متجانسة بدرجة أكبر من مثيلاتها العربية، لجهة الدين والقومية والمذهب، الأمر الذي فوّت على النظام التونسي

فرصة استعارة الحكمة الكولونيالية “فرق تسد”. إلى ذلك، جسّدت تونس المعنى الفعلي لنظرية “أثر الفراشة” التي عرّفت بتطرّف وفق مقولة أن من شأن الهواء المنبعث من جناح فراشة في الصين إحداث إعصار في الولايات المتحدة، وإن كنّا في إزاء مبالغة دلالية هنا، فإننا شهدنا أثر جناح الفراشة التونسية في ليبيا، واليمن، وسورية، ومصر، وفي البحرين، الاستثناء الملكي الوحيد في سلسلة الثورات التي عصفت بأنظمة “جمهورية”.

تعثّر الربيع العربي في ليبيا ابتداءً، وفي بقية دول الموجة الأولى برمتها، حروب واحتكام للعنف والقمع العاري، فضلاً عن ظهور مريع للمؤسسات العسكرية والأمنية، وما استتبعه من بروز انقسامات طائفية وتدخّلٍ للجوار، كما في حالتي اليمن، وسورية، ومع تعمّل الوضع ازدادت حظوظ الحركات الإسلامية في بلدان الموجة الأولى التي تحيّنت الفرصة وفقاً لمنطق “إدارة التوحّش” القائم على إدارة الفوضى المتأتية من الفراغ، وانكفاء الدولة، وغياب البديل الوطني.

باستثناء تونس، أخرجت الموجة الأولى من تاريخ الثورات، ودخلت وفق ما لم ترغب إلى عالم العنف والحرب الأهلية، وانسداد أفق الانتقال الديمقراطي. في الأثناء، ركنت الأنظمة العربية التي لم تطلها الاحتجاجات الشعبية إلى راحة نسبية، حيث أنّ دوّامة العنف في بلدان الربيع العربي كانت كفيلة بوقف العدوى، بيد أن بدء الموجة الثانية قوّضت آمال الأنظمة الجمهورية المتبقّية، ففي الجزائر لم يكن في الحسبان أن يشهد بلد “العشرية السوداء” حركة احتجاجية سلميّة تحقّق هدفها المرحليّ في إطاحة الرئيس السقيم بوتفليقة، متحفّزة لاستكمال المسيرة، إلى ذلك نجح السودان في استيفاء شروط دخول نادي الثورات الناجحة بأكلاف أقل نسبياً مما طاولته يد العنف في بلدان الموجة الأولى. ولا يغيب عن مسرى موجة الربيع العربي الثانية إمكانية دخول لبنان والعراق إلى نفق الانسداد جرّاء الانقسامات الطائفية التي تطبع المجتمعَين، فضلاً عن حضور إيران في قلب المشهد في البلدين. وبقليل من استذكار المثال السوري، يمكن استشراف ما يمكن لإيران أن تحدثه في مناطق نفوذها العربية هذه. لكن أيّاً يكن من أمر، فقد طوّر المحتجّون في هذين البلدين ترسانة أسلحتهم السلمية عبر القفز على الطائفية والخروج من حفلة التكاذب المديدة التي تغنّت بالعيش المشترك، أو التجاور الأهلي، إلى فضاء المواطنة، وإن كان تجاوز الطائفية هو الشرط اللازم وغير الكافي، فإن مسألة إفراز قيادات تمثّل الحركة الاحتجاجية بات لزوم ما يلزم، كي لا تترك الثورات نُهباً للسياسات السلطوية، وروّاد الحروب الأهلية.

من المتعذّر التنبؤ بمآلات الموجة الثانية التي تبدّت أنضج من سالفتها، وفقاً لقراءات شعبية لكرّاسة الأخطاء التي انتابت الموجة الأولى، كالانزياح نحو العسكرة، ونموّ العصبيات الطائفية والإثنية والجهويّة، والاستقواء بالخارج، لكن المحتّم أن الموجة الثانية تبشّر بموجات ثالثة ورابعة، وفي هذا سلوى للقوى الديمقراطية، وللثورات الموءودة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى