مقالات

“الشيطان بيننا” عن جرائم لا يمحوها الصفح ولا المغفرة/ علي سفر

أطلقت شبكة نتفليكس قبل أيام لجمهور متابعيها السلسلة الوثائقية القصيرة “الشيطان بيننا”، لتعيد عبرها ومن خلال خمس حلقات مثيرة، سرد قصة محاكمة الأوكراني جون ديميانيوك، الذي اتُهم ومن خلال وقائع غريبة بارتكابه جرائم ضد الإنسانية.

فقد ألقت السلطات الأميركية في العام 1988 القبض على عامل متقاعد في شركة فورد للسيارات، عاش لسنوات كميكانيكي لطيف في كليفلاند، بعد أن توصلت المباحث الفيدرالية إلى أن من تم اعتقاله ليس هو هذا الرجل المحبوب من قبل عائلته وجيرانه وزملائه في العمل، بل إنما هو المجرم الملقب بإيفان الرهيب، الذي قام بسوق مئات الآلاف من السجناء اليهود إلى غرف الغاز في معسكر تريبلينكا الذي أقيم على الأراضي البولونية المحتلة من ألمانيا النازية.

صدمة المحيطين بجون ديميانيوك بالاتهامات الموجهة له قابلها رد فعل مختلف في إسرائيل التي تم ترحيل المتهم إليها بعد أن سحبت منه جنسيته الأميركية ليتمكن الادعاء من توجيه التهم إليه ومحاكمته، حيث تم تجييش المجتمع للاحتفال بانتصار على المجرمين الذين روعوا الماضي اليهودي في أوروبا!

وهكذا سيستعرض وثائقي نتفليكس تفاصيل المحاكمة المثيرة التي مرت بمرحلتين انتهت أولها بالحكم عليه بالإعدام بعد أن اقتنع القضاة بأقوال الشهود الناجين من المحرقة الذين تعرفوا على المتهم. ولكن المرحلة الثانية أفضت إلى إلغاء الحكم إثر حصول فريق الدفاع الذي ترأسه محام إسرائيلي على وثائق من الأرشيف الاستخباراتي في أوكرانيا إثر انهيار الاتحاد السوفيتي. حيث جاء في اعترافات حراس معسكر سبيبور أن إيفان الرهيب شخصية مختلفة عن ديميانيوك، وبالتالي فإن الأخير ليس سوى ضحية خطأ في التعرف على الشخصية! وبناء على هذا حصل المتهم على البراءة واستعاد جنسيته الأميركية بعد أن خلف القرار صدمة هائلة في الأوساط الإسرائيلية، ولا سيما عائلات ضحايا المحرقة الذين بذلوا جهداً هائلاً في سبيل إثبات الأفعال التي اتهم بها الرجل الذي أظهرت الأفلام الإخبارية المستعادة من أرشيف وكالات الأنباء التي تابعت القضية أنه قد صمد بقوة في وجه محاكميه، وظل محافظاً على رباطة جأشه حتى في أسوء اللحظات التي مرت بها قضيته!

غير أن قصة الرجل لم تنته، بل إنها تستعاد على يد إيلي روزنباوم القائم بأعمال مدير مكتب التحقيقات الخاصة بالولايات المتحدة، والذي كان مسؤولًا بشكل أساسي عن التعرف على مجرمي الحرب النازيين وترحيلهم. بعد أن ورث القضية عندما عاد ديميانيوك إلى الولايات المتحدة.

ففي العام 2009 ألقي القبض على ديميانيوك مجدداً وسحبت منه جنسيته أيضاً ليتم ترحيله إلى ألمانيا حيث عقدت محاكمة جديدة له، بُنيت على وقائع مختلفة عن الاتهامات السابقة توضح أنه قد شارك في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية في الحرب العالمية الثانية. وهكذا سيحكم عليه في عام 2011 بالسجن مدة خمس سنوات، لدوره كمساعد في قتل أكثر من 28000 يهودي، ولكنه في العام التالي وبعد تقديمه للاستئناف سيموت في السجن عن 91 سنة، قبل أن تتمكن المحاكم من سماع استئنافه! ووفقًا للقانون الألماني، فإن هذا يعني أن افتراض البراءة للمتهم كان لا يزال سارياً، وبالتالي فإن ديميانيوك تمكن من التملص من الإدانة الجنائية.

العودة إلى فتح ملفات محاكمة مجرمي الحرب النازيين، ليس أمراً هيناً على المشاهدين الذين صدمتهم هذه المحاولة البارعة من قبل شبكة نتفليكس لتلخيص مجريات القصة التي امتدت على مسافة زمنية بلغت عدة عقود. ولكن الصدمة الأكبر في الواقع لن تتوقف عند البحث في الوقائع التاريخية للحرب وللجرائم التي ارتكبت فيها، والتي مثّلها احتجاج رئيس الوزراء البولندي حينما كتب على صفحاته في شبكات التواصل الاجتماعي رافضاً سكوت صُناع الوثائقي عن حقيقة أن بولونيا التي أشير إليها في السلسلة والتي كانت المعسكرات الدموية مقامة على أراضيها لم تكن بلداً مستقلاً بل كانت محتلة من قبل ألمانيا النازية، وبالتالي فإن عدم توضيح هذا الأمر وثائقياً سيحمل دولته تبعات كبيرة أخلاقياً حيث ستبدو مشاركة في ارتكاب الأفعال الجرمية!

الصدمة الأكبر التي أحدثتها سلسلة “الشيطان الذي بيننا” تم توجيهها للمشاهد الأميركي نفسه، فبحسب الشهادات التي وردت في نهاية قصة ديميانيوك، فإن الرجل لم يكن النازي الوحيد المتهم الذي تعرف الولايات المتحدة بوجوده على أراضيها، بل هو واحد من عدد كبير من المجرمين الذين استفادت منهم تقنياً عبر إعادة توظيف قدراتهم ضمن عجلة المصالح الأميركية، وبالتالي فإنها غضت النظر عن كونهم مجرمين وحولتهم إلى مواطنين صالحين جرى غسل ماضيهم من الآثام، طالما أنهم يفيدون الدولة التي يعيشون فيها! وفي سياق هذه المراجعة ستروي ​​إليزابيث هولتزمان من مكتب التحقيقات الخاصة التابع للحكومة الأميركية، كيف جاء إليها رجل يدعي أن لديه قائمة بالنازيين الذين سمحت لهم الحكومة الأميركية بدخول البلاد. فلم تصدقه في البداية ولكنها اكتشفت أن ما قاله كان صحيحاً، كما ستذكر إحدى الشهادات أن النازي فيرنر فون براون الذي كانت صواريخ اخترعها بنفسه تُدمر مدن أوروبا أثناء الحرب، لجأ بعد هزيمة النازية إلى الولايات المتحدة ليصبح أباً لمشروع الصواريخ التي أوصلتها إلى الفضاء!

وفي مقابل الصدمة، كان ومازال ثمة خلخلة قاسية تتسلل للمشاهدين الذين تؤرقهم مفاهيم راهنة كالغفران أو الصفح، لتعيدهم إلى مربع القضية الأول كما يقال، إذ كيف يمكن التعامل مع شخصيات مثل هذه التي عرضتها سلسلة نتفليكس؟ فبعد الوتد الأخلاقي العميق الذي ثبتته مجزرة الحرب العالمية الثانية، ولا سيما منها قضية المحرقة، في الوعي العام في أوروبا وفي العالم عموماً، لم تعد المسألة مرتبطة بوقائع الجريمة بذاتها، بل بما نتج عنها، وبما نتج وينتج عن تكرار وقوع جرائم مماثلة لها، إذا لم يتوقف المجرمون عن ارتكاب أفعالهم المفجعة ضد الإنسانية!

فإذا كان السؤال في الغرب هو: ماذا نفعل بتركة أشخاص مثل جون ديميانيوك؟ فإن السؤال الذي يشغل العالم الآخر إنما هو كيف يسمح العالم المتحضر بعد كل ما جرى بوقوع جرائم جديدة، يرتكبها أشخاص يبدو أن يد العدالة لن تطولهم طالما أنهم يؤدون أدواراً وظيفية تناسب منظومة المصالح الدولية الفاسدة!؟ وكيف يمكن لإسرائيل التي كانت وما زالت جزءاً راسخاً في القصة الأخلاقية المرتبطة بضحايا المحرقة، أن تبني وجودها على مأساة الشعب الفلسطيني، وأن تساهم في مأساة شعب آخر هو الشعب السوري، عبر جعلها لقاتليه حراساً لها، تمنع انهيارهم، وتسعى لتدمير الثورة ضدهم أيضاً!؟

وعلى مستوى الضحايا الذين ما زالوا أحياء يحاولون التعايش مع آثار الجرائم الطازجة على حيواتهم، فإن الأسئلة تصبح أقسى وأشد مرارة، إذ كيف يمكن للمرء أن يمضي للتفاوض وللتعامل مع القتلة؟ وفي حال اضطر الضحايا لعقد معاهدات السلام مع قتلتهم، كيف سيمضون أوقاتهم مع أفكار الثأر التي ستسمم أيامهم، وهم يرون قتلة أولادهم يعيشون بقربهم كالشياطين؟!

هنا لا يمكن لأحد أن يفتي للآخرين بخارطة طريق للتصالح مع الماضي أو السكوت عنه، فما وقع في الماضي من جرائم من مثل المحرقة يبدو غير قابل للصفح فهو وبحسب الفيلسوف الفرنسي فلاديمير جانكليفيتش “لا يتناسب والسلم الإنساني فالمحرقة تتجاوز حدود ما هو إنساني وحدود الشر، لتطول إنسانية الإنسان، إنها تدخل في باب “ما لا يقبل التكفير، وما لا يمكن تجاوزه والتغاضي عنه، بمجرد إقامة مصالحة وصفح ساذجين. إن ما ارتكب لا يطوله الصفح، ولا يقبل التجاوز، إنه يدخل في ما لا يقبل التقادم، وما لا يتقادم، إنها جرائم تتطلب أن تبقى الذاكرة متقدة وحية، بل ويجب أن تظل الذاكرة شاخصة في الماضي، في ماضي الأحداث، حتى يصبح هذا الماضي حاضراً بصيغة الماضي، أو بعبارة أخرى، تعيش الذاكرة الماضي بصيغة الحاضر” (يراجع مقدمة كتاب الصفح، لجاك دريدا)

وبالتالي فإن مصير الضحايا سيبقى معلقاً بكونهم ضحايا فالعبرة لا تتوقف عند من يموت بفعل القتل فقط بل تمتد لتشمل كل من يحيط به من أهله ومحبيه وغيرهما، فكل هؤلاء يريدون لأنفسهم وقبلها لأرواح من رحلوا العدالة، قبل أن يطالبهم أحد بالصفح والمغفرة، فكيف بهم وهم يحاولون إثبات وقوع الجرائم، وكذلك الدفع إلى محاسبة من ارتكبها، ولعل الكارثة كما في الحالة السورية، أن الجميع من حول السوريين (عدا حلفاء النظام طبعاً) يثبت وقوع الجرائم بحقهم ويقر بوقوعها ولكنه يدفع إلى مصالحة آنية ووقتية، تاركاً الباب مفتوحاً على مصراعيه لسلسلة غير منتهية من المحاكمات المستقبلية، التي قد يجد المجرمون فيها ثغرات تناسب مقاساتهم فيفرون منها إلى نجاتهم، بينما يبقى الألم السوري معلقاً بالأبد!

تلفزيون سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى