ثقافة وفكر

الفاشية حسب ألبرايت: التنويعات كثيرة والدروس قليلة/ صبحي حديدي

في «الفاشية: تحذير»، أحدث مؤلفات مادلين ألبرايت (وزيرة الخارجية الأمريكية في ولاية الرئيس الأسبق بيل كلنتون الثانية، وأوّل امرأة تتولى المنصب في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية)، يأتي ذكر رأس النظام السوري مرّة واحدة؛ حين تعتب ألبرايت على «الدبّ الروسي» لأنه «وضع ثقله الهائل إلى جانب بشار الأسد، الطاغية الذي تلطخت يداه بدماء آلاف كثيرة». لا إشارة البتة، بالطبع، إلى أنها شخصياً كانت على رأس المعزّين بوفاة الأسد الأب، وكان حضورها بمثابة تصديق من البيت الأبيض على سيرورة التوريث ومواصلة التعاقد ذاته مع الابن، بعد أبيه. والمتابع لتاريخ ثلاثة عقود ونيف من عمر العلاقة بين البيت الأبيض والنظام السوري منذ انقلاب «الحركة التصحيحية» التي قادها حافظ الأسد أواخر العام 1970، لم يجد صعوبة في إدراك طبيعة «العزاء» الذي تحمله ألبرايت، وكيف يندرج بجلاء في أحدث جولات الاتساق مع سياسات أمريكا في المنطقة.

ولا يلوح أنّ فصول الكتاب تعطي أيّ معنى فاشي لعشرات المجازر التي ارتكبها آل الأسد، سواء في أطوار أواخر السبعينيات ومطالع الثمانينات، أو منذ 2011 حين عمّت تظاهرات الاحتجاج مختلف المناطق السورية وانطلقت معها انتفاضة شعبية شاملة. الفاشية عند أولبرايت هي أدولف هتلر أوّلاً، بالطبع، ولكن بصفة شبه حصرية أيضاً في الواقع؛ وانطلاقاً، كذلك، من ذاكرة الطفولة التشيكية، مسقط رأس الطفلة ماري آنا كوربولوفا التي ستهاجر مع ذويها إلى الولايات المتحدة سنة 1948. والفاشية هي الهولوكوست، غنيّ عن القول، وآلام بعض أفراد الأسرة ويهود تشيكوسلوفاكيا خصوصاً؛ حيث لا يجوز عقد مقارنات بينها وأيّ عذابات بشرية أخرى سواها، في أيّ مكان على وجه البسيطة. وأخيراً، الفاشية هي بينيتو موسوليني، الذي (كما تسرد ألبرايت) نال المدائح من أمثال توماس إديسون والمهاتما غاندي وونستون شرشل.

ولكن… «هل يمكن للفاشية أن تضع لها موطئ قدم في الولايات المتحدة؟»، سألت ألبرايت مجموعة من طلابها، فسارع أحدهم إلى الإجابة هكذا: «نعم، يمكن لها ذلك. لماذا؟ لأننا على ثقة تامة من أنها لن تتمكن من هذا!». وساجل الطالب بأنّ مواطني أمريكا يحملون إيماناً راسخاً بمرونة مؤسساتهم الديمقراطية، بحيث أنهم تجاهلوا الاهتراء المتواصل الذي أصاب تلك المؤسسات، ولن ينتبهوا حتى ساعة استفاقة صباحية تضعهم وجهاً لوجه أمام دولة شبه فاشية. الطالب ذهب أبعد حين اقتبس صعود دونالد ترامب من زاوية خاصة، هي أنه لا الجمهوري ولا الديمقراطي يعرف كيفية التعامل مع ترامب، وكلا الحزبين غير قادر على إدراك السبب في أنّ قاعدته الشعبية تظلّ ثابتة، واسعة نسبياً، رغم كلّ تخبطاته وفضائحه. ولقد علّمنا التاريخ، تساجل ألبرايت نفسها هذه المرّة، أنّ الفاشيين يمكن أن يبلغوا أعلى المناصب الحكومية، عن طريق صندوق الاقتراع وليس الانقلابات العسكرية. وأوّل ما سيفعلونه هو تقويض المؤسسات ذاتها التي يمكن أن تشكّل مراكز قوّة مضادة، مثل البرلمانات.

والحال أنّ هذه المنهجية في استعراض إشكالية الفاشية، بل فكرة تأليف كتاب عنها في الولايات المتحدة والآن تحديداً، كانت ستبدو مقبولة ومعقولة ومبررة؛ لولا أنّ المؤلفة ليس سوى السيدة ذاتها التي صرّحت ذات يوم أنّ «قتل خمسمائة ألف طفل عراقي، كان أمراً يستحق العناء»، حتى إذا كانت قد تنبهت إلى مقدار الفاشية العارية في تصريح كهذا، فسحبته من التداول لاحقاً واعتبرته «تصريحاً عاثراً».

وهذه، أيضاً، ومن موقع وزيرة الخارجية، هي السيدة التي أنذرت قادة الاتحاد الأوروبي ألا ينسوا، وهم يعملون على توسيع رقعة الاتحاد، أنّ أمريكا أنقذت أوروبا من غائلة الجوع عبر «خطة مارشال»، وحفظت أمنها طوال الحرب الباردة من خلال الحلف الأطلسي. وبالتالي، ليس مسموحاً لأوروبا الغربية (الرأسمالية، الحرّة، المعافاة نسبياً بسبب من جميل الولايات المتحدة…) أن تزدهر أكثر من ازدهار الولايات المتحدة نفسها، وأن توحّد صفوفها بالانتقاص من مبدأ الهيمنة الأمريكية على النظام الدولي!

«ذاكرة أمّتنا طويلة، وسطوتنا واسعة»، أنذرت ألبرايت في أوّل تعليق لها على انفجارَي السفارتين الأمريكيتين في نيروبي ودار السلام، صيف 1998، قبل أن تعلن تخصيص مكافأة المليوني دولار لمن يدلّ على هويّة الجناة. وفي ذلك التصريح الشهير امتزجت نبرة التهديد والوعيد بأطروحات فلسفية حول الأسباب الكبرى التي تجعل الأمريكي المعاصر رائداً للديمقراطية والحرية والتسامح، وقائداً للعالم الخيّر ضد العوالم الشريرة، وهدفاً للإرهاب والإرهابيين. غير أن أولبرايت أثارت سؤالاً بريئاً في مظهره، لكنه أوحى بالكثير من السذاجة المعلَنة: «لماذا يحدث هذا الأمر الرهيب لعدد من الناس كانوا يقومون بعمل خيّر للغاية»؟ ولقد أجابت بنفسها، هكذا: «لعلهم تعرّضوا للهجوم لأنهم يقومون بعمل خيّر للغاية. ربما أُفردوا لأنهم يمثّلون بلداً هو الأعظم عالمياً في الدفاع عن الحرّية والعدالة والقانون. ربما لأننا نمثّل قِيَم التسامح والانفتاح والتعددية، التي تنهض الآن في كل جزء من أجزاء العالم. ربما لأننا أقوياء، ولأننا نستخدم قوّتنا لحلّ النزاعات التي يريد البعض الإبقاء عليها إلى الأبد».

هذا الطراز من «الذاكرة الطويلة» يتضح أنه قصير جداً، بل قزميّ التكوين، حين تراكم ألبرايت التحذير تلو التحذير من إمكانية صعود الفاشية، في أنماط سياسية أو اقتصادية أو عسكرتارية أو عنصرية أو إيديولوجية شتى، في الولايات المتحدة ذاتها، قبل أيّ بلد آخر ضمن «مجرّة» الأنظمة الديمقراطية الغربية. وفي ولاية جورج بوش الابن الثانية صوّتت الديمقراطية الأمريكية مرّة ثانية للرجل الذي شنّ حرباً ضدّ العراق على أسس كاذبة، وكان يواصل احتلال البلد للأسباب الكاذبة ذاتها. ولم يكن مستبعداً أنّ تلك الديمقراطية صوّتت وقد تناست تماماً بربرية أبنائها في سجن «أبو غريب» العراقي، والأسوأ أن يكون بعض الناخبين قد صوّتوا وهم على استعداد لتبرير سلوك السجّانين من جنود أمريكا. وتلك ديمقراطية صوّتت وهي تعرف جيداً أنّ المرشح الذي تمنحه أربع سنوات إضافية من حكم أمريكا/ القوّة الكونية الأعظم (وحكم العالم بأسره، في نهاية المطاف)، سوف يواصل حملاته الصليبية هنا وهناك؛ محاطاً بالبوارج وحاملات الطائرات، وجيوش المحافظين المتشدّدين والرجعيين المتدينين والمكارثيين الجدد والقدماء…

واستطراداً، لم كلّ هذا التخوّف من صعود ترامب إذا كان التاريخ الأمريكي حافلاً بالسوابق في هذا المضمار، حتى إذا اتفق الكثيرون أنها كانت أقلّ حدّة، وتغافلوا عن حقيقة اشتداد النموذج الترامبي بناءً على مفاعيل تلك السوابق تحديداً؟ وذات يوم كان فيليب جيمس، أحد أبرز متقاعدي التخطيط الستراتيجي في الحزب الديمقراطي الأمريكي، قد أطلق صفة «الكابوس» على التسجيلات الهاتفية التي أمر الرئيس بوش الابن، شخصياً وبناء على توجيهات سرّية، بأن تُجرى بحقّ عدد من الشخصيات الذين تزعم الإدارة إنهم على صلة بمنظمة «القاعدة». «هل تنقلب أمريكا إلى الشاكلة التي تخشاها كلّ الخشية»، تساءل جيمس قبل أنّ يحدّد الشاكلة تلك: «دولة على غرار الأخ الأكبر [في إشارة إلى الاتحاد السوفييتي، والدولة التي تخيّلها الكاتب البريطاني جورج أورويل في روايته الشهيرة «1984»]، حيث الحكم للأوامر العليا، ولا أحد مستثنى من تنصّت البوليس السرّي، وكلّ شيء مسموح به دفاعاً عن الوطن، بما في ذلك التعذيب»؟

فما الذي سيقوله اليوم، أو يتوجب أن تقوله ألبرايت (إنْ آنست من نفسها برهة صدق واحدة!) إزاء تحقيقات الكونغرس المتعاقبة حول سلوك الرئيس الأمريكي في فضيحة المقايضة الأوكرانية؟ وكم من التنويعات الفاشية تحتاج صاحبة التضحية بنصف مليون طفل عراقي، حتى تقرّ بأنّ دروس هتلر وموسوليني والهولوكوست ليست وحدها خواتيم أحزان البشرية؟

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى