مقالات

اللغة والعنف -مقالات مختارة-

اللغة والعنف/ نائلة منصور

من الصعب الكتابة عن العنف. يُكتب عن أسبابه وعن نتائجه، ولكن عنه هو وتزامنياً مع حصوله تصعب الكتابة. قد يعود ذلك إلى  ما يذكره أغمبن في بداية رسالته إلى حنة أرنت، والتي ترجمها كرم نشّار ضمن ملفنا هذا، من حيث أن اللغة هي الموطن الأول للسياسة، والسياسة هي تعريفاً وتاريخياً اللاعنف. يصبح العنف عندها لا مُقال ولا مكتوب حتماً. في مرحلة متقدمة من رسالة أغمبن عينها، يقول أنه تبين عبر التاريخ بأن اللغة والسياسة يشكلان -بعكس ما اتُفق عليه- موطناً أساساً للعنف، العنف المستمر الأذى بعد القول. وبناء عليه، يقول في آخر الرسالة بضرورة ترافق كل عنف ثوري بتحطيم اللغة المرافقة، لبدء لغة جديدة بعيدة عن العنف.

ما هو إذاً المحمول العنفي للغة؟ لغة الخطاب السياسي المباشر، ولكن أيضاً اللغة باستخداماتها اليومية الاجتماعية، والتي تشربت أو شَرَّبت السياسي عنفاً؟ وكيف يمكن تفكيك هذا العنف المتسلل دون وعينا؟ وهل يمكننا في هذا التفكيك فصل الإرث والثقافة وطبيعة اللغة كمسؤول عن العنف، عن الفاعلين السياسيين حاملي الخطاب العنيف؟ وهل يمكننا تفكيك هذا التراكب نظراً لأن «اللغة المسمومة» 1  تتسلل بخبث وصمت لتحتل أدواتنا نفسها في التفكير والتعبير، ونصبح بالتالي فاعلين في نفس الحلقة من العنف وإعادة إنتاجه؟

الأكثر عفويّة لمقاربة عنف الخطاب واللغة هو البدء بكلمات، شيء يشبه العمل المعجمي. كيف انفصلت دالّة  «حضن الوطن» و «سقف الوطن» في أذهاننا وأذهان الأجيال الجديدة من السوريين عن مدلول الوطن والأمان أو البيت والمسكن، وأضحت تحيل إلى مفهوم قسري، غالباً ما يسعى إلى إزالة الشرعية عن الأفراد في هذا الوطن وشلّ قدراتهم؟ وتزال عنهم الشرعية كذلك بجمل أدائية قانونية من قبيل «خائن»، «مثير للنعرات الطائفية»، «موهن لعزم الأمة».. إلخ. نزع الشرعية وشلّ القدرات الحياتية هي السلاح الذي يوجهه جلادو النظام المنحرفون نفسياً عن بعد، دون الحاجة لأقبية تعذيب بعينها داخل البلد، ونتواطأ أحياناً مع أولئك الجلادين بنزع الشرعية والقدرة عن أنفسنا مكرسين ذلك العنف اللغوي. كيف أصبحت «المكرمة» المشتقة، مثل الكرامة، من الكرم، والتي يتناولها محمد جلال في مقالته، وصمة إذلال للسوريين؛ ما المعاش المقابل لصفة المخاطب «معلم» في مقالة محمد أمير ناشر النعم؛ أو معاني ومحمولات «خلصنا» في مقالة منى رافع؟ ويمكننا أن نضيف إلى المقاربة هذه:  كيف أصبح اسم «فلسطين» مرتبطاً بمركز أمني يموت فيه الناس تحت التعذيب بحجة خيانة قضايا الوطن، ومنها قضية فلسطين؟ كيف يعبر عن واقع السجون وواقع مراكز الاعتقال في تطور لغة النظام السياسي القائم، ولكن أيضاً في لغة الناس اليومية؟ حتى يصبح الاعتقال هو الناظم الطبيعي لحياة الناس في سوريا، حاله حال المجزرة، وكأنه مرض جدري الماء الذي يصيب كل الأطفال أو معظمهم، الأكثر شغباً؟ كيف لم يعد أحد منّا ينتبه إلى المحمول الإيجابي في كلمة «طلائع» وأصبحت المفردة التي تعني مبدأياً السبق والإستكشاف والتجريب تحيل في أذهاننا إلى البلادة أو الانصياع والتدجين؟ وعلى نفس المنوال يمكننا أن نطرح تساؤلاتنا حول مفردات مثل «سوريا المفيدة» والتي استخدمتها مراكز الأبحاث الأجنبية بشكل خاص وأصبحت تحيل إلى واقع ما، «تجانس»، «جراثيم»، «مندس»، «بيئة حاضنة» وغيرها الكثير.

ثمة مخاطرتين في مقاربة معجمية تتخذ الكلمات والألفاظ مدخلاً للتفكير بالعنف على العموم عبر التفكير بالعنف اللغوي، الأولى هي تحديد مدى جدية معيار اختيار الكلمة التي يُودّ معالجة بعدها العنفي: أهو تواتر ورود الكلمة؟ أهو أثرها السياسي أو النفسي؟ وكيف يمكن تحديد الأثر تماماً، وفق أي منظور وأي ذاتية؟ والمخاطرة الثانية هي أن تأخذ الكلمات منحى التداعي النفسي لكل ما يتصل بلفظة أو حقل دلالي أو حتى جذر، حيث شطط الاستغراق في انطباعات نفسانية غير دقيقة، وبالنتيجة شديدة الذاتية، عما تولّده اللغة العنيفة في كل منّا. والاستغراق في التمارين اللغوية قد يبدو محصلة الحاصل (توتولوجيا)، لا يثمر إلا لغة. إلا أنه عندما يتعلق الأمر بالكلام، تلك المساحة المتقاطعة مع الكثير من المساحات الاجتماعية والنفسانية والسياسية، فلا مفرّ من الخوض في هذه الانطباعات الذاتية والفردية لأثر العنف بهدف التفكيك. إن التتبع التأثيلي للكلمات، وتفكيكها عبر التحليل وعبر ربط المُقال والمقام لكلمة أو تعبير، بمقالات ومقامات أخرى لكلمة أو تعبير آخر،من شأنه أن يخطو الخطوة الأولى تجاه تفكيك بداهة اللغة وبث القلق تجاه تمثلها الآلي، والذي يتم بصمت ودون ضجة منبّهة. نحاول بذلك تفكيك المحمولات العنفية في كل كلمة أو تعبير نعمل لمقاربته. الشهادات ذات الطابع النفساني للعنف اللغوي لها أهميتها في مقاربتنا وكذلك استعادة مقاربات نظرية خاضت هكذا مشروع في تجارب أخرى، آملين أن تكون الأدوات مفيدة نقدياً.  قد تكون كتابة معجم للمصطلحات العنيفة عملاً نضالياً، دون أن يكون بالضرورة علمياً  وليس هو المهم برأينا، المهم هو أخذ المسافة الكافية من الخطاب والكلمات لكي نتمكن من تفكيكها. ولن نزيد العالم معرفة جديدة إن استذكرنا، مرة أخرى، أن الخطاب والكلمات تصنع واقعاً. ولكن لمقاربة الكلمات ميّزة إضافية، وهي استعادة حالات ووقائع وسرديات مصغرّة لم تعد تبرز ضمن التيار الجارف للوقائع والسرديات الكبرى، تحفّز تفاصيل مصغرة أخرى على الخروج إلى النور.  

من الكلمات نحو الخطاب المركب، يمكننا أن نصوغ الكثير من الأسئلة، بيد أن طرحنا لثيمة العنف واللغة حفزّ مستوى آخر من النقاش، لنسمّه عنف ما وراء اللغة  أو ميتا-لغوي، كيف تُستخدم اللغة نقدياً لتعنيف الإنتاج الأدبي ووصمه بالركاكة، هذا ما يحيلنا إليه تباعاً مقالا زينة الحلبي ورنا عيسى، حيث تستعيد رنا عيسى  محطات تاريخية من عصر النهضة العربية، كان التقريع بين النخب الأدبية يستخدم مقولة الركاكة للجم بروز إنتاجات أدبية غير معيارية بمقاييس ذائقة العصر حينها؛ وتتابع زينة حلبي كيف كانت النخب المصرية، الأدبية والفكرية، خلال القرن العشرين تستخدم نفس الحجة بالركاكة لقمع مبدعين وفنانين لا تحاكي منتجاتهم ما ينبغي. في نفس السياق وذات النفس الأكاديمي تأتي مادة إيلاف بدر الدين لتبحث في الترجمة كفعل قد يكون حاملاً للعنف، ترجمة بالمعنى التقني الأول اللغوي، في اختيار المعادلات المعجمية والتراكيبية، وكذلك الترجمة كنقل لقضية، تخضع لمقيدات وضواغط سوق وسياسات الترجمة العنيفة في تراتبيتها وعدم تناظرها بالعنى السلطوي للكلمة.

استعادة التفكير اللغوي من الفضاءات الاختصاصية  هو ما نطمح للبدء به مع هذا الملف  ونرجو أن نكون قد وفقنا نوعاً ما.

1. يعود تعبير «اللغة السامّة» للفيلولجي فيكتور كليمبرر، وكان أكاديمياً في ألمانيا قبيل الحرب العالمية الثانية، أستاذاً للآداب واللغات الرومانية. ضيّق عليه النظام النازي كل سبل حياته وأقيل من عمله ولم يعد في حوزته إلا قلمه ودفتر ملاحظاته والراديو ليتابع حياته الفكرية، فقرر أن يسجل ملاحظاته عن لغة النظام النازي في دفتره الذي اعتبره عصا الأمان ضد الجنون، وخرجت تلك الملاحظات في كتاب بعد عشرين عاماً تحت عنوان لغة الرايخ الثالث «LTI » . 

*****

نائلة منصور: مدرّسة جامعية وكاتبة ومترجمة في مجال اللسانيات والعلوم الاجتماعية، مهتمة بالتغيرات المجتمعية في زمن الثورات، وهي عضوة هيئة محرري الجمهورية.

موقع الجمهورية

—————–

العنف المُضمر في النقد الأدبي المعاصر/ زينة الحلبي

انتبهوا إلى الكنوز التي لا يطالب بها أحد

 – جورج حنين

الناقد المُعنِّف

في لقاء تلفزيوني أدارته الإعلامية ليلى رستم في منتصف الستينيات، جلس الأديب طه حسين متصدّراً عشرة كتّاب مصريين كان قد بدأ يلمع اسمهم في مجالي الأدب والصحافة. تناوب المحاورون على طرح الأسئلة على طه حسين حول القضايا الفكرية التي شغلت الحقل الثقافي العربي في تلك المرحلة، ومنها ثنائيات فكرية كالفصحى/ العامية والرمزية/ الواقعية، إضافةً إلى مفهوم الالتزام في الأدب كما تصوّره جان بول سارتر وكما وصل إلى العالم العربي محمَّلاً معانيَ ثورية ألهمت جيلاً من المفكرين اليساريين حتى وقوع حرب 1967.

فرضت مكانة طه حسين جواً من الرهبة على الحلقة، وبدا التوتّر واضحاً لدى الكتاب المحاورين الذين أدركوا سريعاً أنهم ليسوا هناك لمناقشة طه حسين، بل لمجرّد استفتائه حول قضايا الساعة. في ختام الحلقة، طلب المفكر الماركسي محمود أمين العالم الكلام، وطرح سؤالاً على طه حسين بعبارة لبقة وحذرة، وبعامّية فصيحة، يطلب فيها رأي عميد الأدب بالتجارب الأدبية الجديدة. يسأل محمود العالم:

    إيه رأي دكتورنا في أدب الجيل الجديد؟ الدكتور طه حسين دائما بيعَنِف، في الحقيقة، بأدباء الجيل الجديد ونحن نرى في عنف الدكتور طه حسين بهم نوع من الأبوة الكبيرة والأستاذية الكبيرة، بل يمكن عنف الأستاذ طه حسين بهم هو عنف الدكتور طه حسين بنفسه. حقيقة، نحن نتربّى بهذا العنف ونتعلّم منه. ولكن ما رأي الدكتور طه حسين في ما أضافه هذا الجيل الجديد للأدب؟ هل أضاف إضافة جدية لتراثنا العربي أم لم يقدّم شيء؟ (…) يشرّف الجيل كله لو الدكتور طه حكم علينا، وطبعاً، هو حكم منصف.

فيجيب طه حسين بعبارة فصيحةٍ حازمة:

أتمنّى دائما للكتاب الجدد أن يقرأوا بمقدار ما يكتبون وأن يقرأوا قبل أن يكتبوا. وآخذ عليهم أنهم قليلو القراءة جداً ولا يحبون أن يتعمقوا شيئاً. أي هؤلاء الكتّاب الجدد قرأوا الأدب العربي القديم؟ ومن يعرف منهم لغة أجنبية؟ أظنّ أن الذين يقرأون منهم أدب هذه اللغة أو بعض ما ترجم إلى هذه اللغة من آداب اللغات الأخرى، اظنّ أن هذا نادر جداً. وعلى كل حال، ما يكتبون لا يدلّ على ثقافة واسعة وعميقة. وأستثني من هؤلاء محمود العالم. أنت لا تُعدّ مع الشباب الذي لا يثقّف نفسه.

كان محمود أمين العالم قد دخل قبل ذلك بسنوات قليلة في سجال كبير مع طه حسين حول ماهية الأدب 1 كما كان قد خرج لتوه أيضاً من السجن بعد معارضته لهيمنة مصر على سوريا خلال الوحدة. ولكن بالرغم من وقوفه بوجه قطبي الثقافة والسياسة المصريين المتمثّلين بطه حسين وجمال عبد الناصر، لم يشأ العالِم المسّ بامتيازات عميد الأدب. فتوجّه إلى طه حسين بعبارات تشكّل دعائم خطاب نقدي يضع الأبوة («الأبوة» و«الأستاذية») شرطاً للتأديب ومسوِّغاً للعنف، مانحاً بذلك طه حسين الكلمة الأخيرة في تقييم وتقويم جيل جديد من الكتاب المصريين. فصدر حكم الأب-الأديب، وكان حُكماً قاسياً.

بدا ارتباك معدّ الحلقة، الكاتب أنيس منصور، واضحاً وهو يمسح عرقه، فيما ركّزت الكاميرا على وجوه الكتّاب الجالسين أمامه كيوسف السباعي وعبد الرحمن الشرقاوي وهم يتساءلون إن كان الحكم يشملهم. اللافت أن التعنيف طال أيضاً نجيب محفوظ قبل عقدين من حصوله على جائزة نوبل وتصدّره الحقل الثقافي العربي. فتوبيخ طه حسين، وإن استثنى محمود العالم، أطاح بجيل كامل من الأدباء القوميين واليساريين الذين نَسب إليهم الجهل بتراثهم العربي الإسلامي أولاً، وبتراث الأدب العالمي ولغاته ثانياً، يختتم طه حسين الحلقة وكأنها العشاء الأخير، يضع فيه المثقف-النبي وصاياه حول اللغة والتراث والآداب العالمية لمن سيليه من كتّابٍ، آملاً أن يتّخذوا النهج عينه وأن يصبحوا رسلاً يؤتمنون بدورهم على الرسالة.

لهذا النقاش التلفزيوني دلالات عدّة حول مكوّنات الخطاب النقدي كما تجلّى في تلك المرحلة. فقد جسّد طه حسين في الحلقة دور الأديب الذي راكم رأس مال رمزياً لا يخوّله الحكم على من جاء بعده وحسب، بل أيضاً تأديب كلّ من خرج عن النهج الأدبي الذي وضعه، أي الانغماس العضوي بالتراث العربي واستقاء مكوِّنات منه تنهض بالعرب نحو حداثة قائمة على التواصل مع لغات الغرب وآدابه. لقد برز حقّ صاحب رأس المال الرمزي بتأديب جيل جديد من الماركسيّين المعنيّين بمادية النص الأدبي وارتباط الشكل بالمعنى. كما برزت ثنائية الفصحى والعامية، وعملية المد والجزر بين دعاة المزج بين المستويين اللغويّين في العمل الأدبي وآخرين كطه حسين يقبلون بالمحكيات في حالات خاصة محصورة، ويرون في تسيّد المستوى الفصيح من العربية بداية تحقيق الوحدة بين الجماعات العربية.

رغمَ أنّ هذا النقاش قد بُثّ منذ نصف قرن، فإنّه لا يزال راهناً. فهو يحاكي بعض الخطابات النقدية المعاصرة التي تستند إلى سلطة الناقد الأبوية لتأديب نصوصٍ وتجاربَ طرحتْ مفهوماً مغايراً للّغة والقول السياسي. في ما يلي أمثلة عن تجلّي مثلث الأب-الأديب-المؤدِّب في أربع مقاربات نقدية لا يتبنّاها نقّاد أدبيون وحسب، بل أيضاً مؤرخون وقانونيون وناشطون في الحقل الثقافي يتولّون مهامّ الناقد، فيستخدمون اللغة معياراً والعنف منهجاً في عملية التقييم الأدبية.

الناقد المُطهِّر

كان لنشأة مجمع اللغة العربية في القاهرة سنة 1932 دورٌ في وضع تصوّر للغة العرب ومنهجية للحفاظ عليها في عصر الحداثة. ارتكزت النشاطات البحثية إلى مفهوم النقاوة اللغوية، فشدّدت على قواعد النحو، وعادت إلى المعاجم، وشككت بالدخيل والأعجمي، وتمسّكت بأصيل المصطلحات. وكان لطه حسين مواقف عدّة حول دور اللغة العربية في مسيرة تنوير العرب. فرأى طه حسين في الفصحى لغةً للتواصل بين العرب، لكن أيضاً لغةً مشتركة بين الطبقات الاجتماعية بحيث لا تغدو فقط لغة الأعيان والعلماء.2 ودعا مراراً إلى تيسير قواعد اللغة كي لا ينفر منها متعلموها فتصبح في طي النسيان. ولكن بالرغم من انفتاح طه حسين على تحديث قواعد النحو، إلا أنه حذّر من انسلال العامية إلى النص الأدبي، كي يبقى الأدب لغة التواصل لدى الشعوب وفي ما بينها.

قدّم طه حسين في عدد من النقاشات والسجالات اللاحقة قليلاً من التنازلات في هذا المجال، فلم يمنح الكتّاب الحق في الجنوح إلى العامية إلا في حالات محصورة جداً. كما أبقى عميد الأدب على الفصحى لغةً للحوار في مسرحياته المعرّبة، راجياً الجيل الجديد من الكتاب أن يتّبعوا هذا المنهج. إلا أن معتنقي الواقعية الاشتراكية من جيل العالم وإدريس بدأوا يرون في المحكيات مكمن الوعي الطبقي ومخزناً للقول السياسي الذي يجب أن يوضع في صلب النص الأدبي. أعاد هذا النقاش التأكيد على أن المواقف المتنوعة من ثنائية الفصحى والعامية ليست متّصلة باللغة وحسب، بل برؤية الكاتب الإيديولوجية للعالم أيضاً. فكانت تجارب عديدة لكتّاب غامروا في اختبار العامية لغةً روائية ومسرحية.

في العقدين الماضيين، عادت إشكالية العامية إلى النقد الأدبي في لحظة تحوّل تكنولوجي وسياسي في العالم العربي. ومن أسباب بروز العامية، كما ترى تيريزا بيبي، ابتعاد الكتّاب الجدد عن دور النشر الرسمية وخوضهم غمار روايتهم الأولى في دور نشر صغيرة هامشية محدودة الانتشار.3 فأدّى التحول في اقتصاد النشر في مصر إلى تكاثر نصوص سردية تضع العامية في صلب النقد السياسي. لعلّ أبرز هذه التجارب اللغوية وأكثرها إثارة للسجال هي أن تكون عباس العبد (2003) لأحمد العايدي ولصوص متقاعدون (2009) لحمدي أبو غليل ونساء الكرنتينا لنائل الطوخي (2013)، وغيرها من الروايات التي أضاءت فيها العامية على سرديات طبقية ومحلية كانت قد شذّت عن أقانيم المكرّس الأدبي العربي، فأُسقطت منه.نجد في عدد كبير من الكتابات النثرية والشعرية المعاصرة محاولات لاسترجاع الفصحى من خطابات سلطوية، دينية أم إيديولوجية، كانت قد أفرغت الفصحى من قدرتها على القول السياسي، وذلك عبر وضع تصوّر جديد لدور العامية أو الفصحى في القول السياسي. فلم تُستعَد الفصحى من أدراج النظام وحسب، بل تمّ التصالح أيضاً مع العامية كمستوى لغوي قابل للتسييس وقادر على القول الثوري. فتظهر المحكيات في عدد من الأعمال الأدبية المعاصرة قولاً بديلاً عن سطوة الخطاب القومي بطوره السلطوي الذي لطالما عتّم على التجارب الأدبية المحلية، وخصوصاً تلك المناهضة له.

أثارت أخيراً رواية نادية كامل المولودة (2018) سجالاً أعاد النقاد فيه طرح ثنائية الفصحى والعامية في الأدب. فالرواية التي تصفها كامل بـ«الرواية التسجيلية» جاءت بالعامية، تحديداً بعامية والدة نادية، المصرية ذات الأصول الأوروبية. غداة نشر الرواية، عاد طه حسين طيفاً ليحذّر من تداعيات تسلّل المحكية إلى الأدب. وما زاد السجال حدةً هو حصول نادية كامل على جائزة ساويرس الأدبية، فازداد القلق من مغبة تكريس رواية عربية كتبت بالمحكية. فكان لعدد من النقاد والمشتغلين في الحقل الثقافي المصري آراء مشككة ورافضة لمنطق النشر بالعامية أولاً، ولمنطق مكافأة رواية لم تقم على المكوّن الأساسي للجماليات الأدبية، أي اللغة الفصيحة، ثانياً. كما زعم بعضهم مخطئاً بأنّه ما دام ليس للمحكية قواعد، فهي إذاً ليست صالحة للتدوين والسرد، فيما شجب آخرون ما ظنّوه انحطاطاً في الأدب وتراجعاً في المعايير النقدية التي اتبعها محكّمو جائزة ساويرس، فنُسبت إلى الرواية «الركاكة».

كان لعالمة اللسانيات مديحة دوس رأيٌ مختلف في ما وصفته بـ«الخناقة اللغوية»، ففنّدت جميع الحجج التي وُظِّفت تاريخياً في سبيل نقد رواية نادية كامل، مستعينة بأمثلة من التراث الأدبي العربي تتشابك فيها مستويات لغوية مختلفة. وتحدثت نادية كامل، بدورها، عن السجال اللغوي الذي رافق الرواية قائلةً إن «التحقير من العامية طريقة للرقابة وفرض الوصاية»، مضيفةً أن «العامية ليست فصحى ركيكة، العامية أداة تعبير مستقلة بذاتها». يشير القلق الذي أفصح عنه النقد الذي تناول الرواية وجائزة ساويرس إلى أن القضية لا تتوقّف على مواقف متباينة من اللغة والأدب، بل تصل إلى حدّ التباين في الرؤى السياسية، أي في الإجابة على السؤال الأزلي الذي كان قد وضع أسسه جان بول سارتر: ما الكتابة؟ لماذا نكتب؟ ولمن نكتب؟

لعلّ أسباب التعنيف النقدي الذي طال رواية نادية كامل وعدداً كبيراً من التجارب الروائية المعاصرة لا تكمن في إشكالية العامية كمستوى لغوي غير رصين، بل في المحتوى السياسي الذي يفصح عنه هذا المستوى. بمعنى آخر، قد يكون الاستنكار المصاحب لرواية نادية كامل وحصولها على الجائزة متصلاً بالقول السياسي المتأصل في الرواية والذي يخشى النقاد تكريسه. فالرواية التي تصفها كامل بـ«التسجيلية» خارجة عن السرديات الإيديولوجية المكرسة. هي قصة أمها، ماري روزنتال المعروفة بنائلة كامل، والدها يهودي مصري من أصول أوكرانية ووالدتها إيطالية كاثوليكية هاجر أهلها من مصر فيما بقيت هي ناشطة في العمل الشيوعي إلى جانب زوجها سعد كامل. لا تستعيد الرواية حياة نائلة كامل وحسب، بل تعود بنا إلى تجربة مصر في مراحل سياسية وإيديولوجية عدة، منها العصر الكوزموبوليتي المتخيّل الذي سبق قيام جمهورية يوليو، وتجارب نائلة في السجون الملكية والجمهورية معاً، ثمّ عصري السادات ومبارك، وصولاً إلى ثورة يناير. فالسؤال المضمر التي تحاول الرواية طرحه، والذي ربّما يكون النقاد قد أدركوا تداعياته جيداً: هل الفصحى قادرة على التعبير عن ذاكرة فردية ملونة بتجارب وهويات عابرة للحدود القومية الأيديولوجية؟ وهل باستطاعة الفصحى نقل محكية امرأة اختزنت لكنات تعكس جذورها اللغوية المتنوعة وانتماءها السياسي؟ في المحصلة، قد يكون العنف النقدي الذي طال الرواية ليس إلا محاولات سلطوية للتعتيم على سرديات ممنوع تدوينها حرصاً على تماسك السرديات الرسمية الكبرى، أو بالأحرى خوفاً على هشاشتها.

الناقد القومي

قبل عام من صدور أرابيسك (1985)، الرواية الفلسطينية التي كتبها أنطون شمّاس بالعبريّة، والتي أقلقت الدوائر الأدبية العربية والإسرائيلية على حدّ سواء، شبّه شمّاس كتابته بالعبرية بحُلوله ضيفاً على اللغة.4 ضيفٌ، يقول شمّاس، «يأتيك إلى العشاء لتجده، بعد انتهاء الوجبة، في المطبخ يغسل الصحون مستمتعاً على طريقة هارولد بينتر، متعةَ من قد يكسر أي قطعة جميلة من غير قصد». يضيف شمّاس لاحقاً، «وفي الصباح التالي، يكون قد بدأ يستولي على المكان». بقدر ما تخبرنا استعارة أنطون شمّاس عن حكاية الضيف الذي يحتلّ تدريجياً لغة الآخر في سبيل استعادة أحقيّة القول فيها، فإنّها تتركنا حائرين بشأن بيت الضيف اللغوي الأول والأصيل. فالسؤال هنا، هل يحتفظ الضيف بملكيّته للحيز الذي ما عاد يشغله في لغته الأمّ؟ بمعنى آخر، هل يُبقي الكاتب-الضيف على مكانه في لغته الأم والحقل الأدبي الذي ينشأ في غيابه؟

كثيرة هي الأمثلة التي تدل على التشكيك النقدي بالسرديات التي تروى بلسانٍ الآخَر المستعمِر. آسيا جبار هي إحدى الكاتبات اللواتي استطعنَ في نصوصهنّ الفرنسية تقويض سردية المستعمِر عبر استملاكها وإضافة لكنةٍ سياسية إليها تستبدل سردية الاستعمار بسردية جزائرية عربية نسوية مغايرة. ولكن بالرغم من تمسكها بالقول السياسي شرطاً للكتابة السردية، بقيت جبّار خارج المكرّس الأدبي العربي. فلم يترجم من أعمالها إلا قليلها، كرواياتها الأولى وبعض أعمالها الأخيرة. باستثناء ذلك، ظلت آسيا جبار فرنسية، تتنقل في الدوائر اللغوية والأدبية الفرنكوفونية، فيراها الحقل الثقافي العربي رحالةً فرنسيةً ذات لكنة عربية، بعيدة كل البعد عن المُكرَّس العربي والقومي الذي ارتكز إلى العربية دون غيرها من اللغات المحلية (الكردية أو الأمازيغية مثلاً) لغةً للقول السياسي.

تحاكي تجربة آسيا جبار في الأدب العربي الفرنكفوني تجربة الروائي المصري ألبير قصيري الذي حلّ ضيفاً على بيت اللغة الفرنسية ولم يتركه يوما. كتب قصيري رواية مصرية بلسان فرنسي فصيح. كان قصيري قد استقرّ في باريس بعد انتهاء تجربته مع مجموعة «الفن والحرية» التي جمعت فنانين وأدباء مصريين سورياليين في الثلاثينيات نشروا بيانهم الشهير «يحيا الفن المنحطّ!». ولكن بعدما انتقل قصيري إلى باريس، انخرط في حقل أدبي أوروبي يعيد بناء نفسه على أنقاض تيارات أدبية قوّضتها الحرب العالمية الثانية، فتبنّى الفرنسية ليسرد قصة مصرية.

لكن قصيري، وإن امتلك اللغة الفرنسية تماماً، فإنه غالباً ما عبث بروحيتّها معيداً تركيب أجزائها على هواه، مغرقاً فرنسيته الفصيحة بلكنة عربيّة مزخرفة وبعبارات من السَّجَع العربي المُفَرنَس.5 محصلة قصيري، أذاً، رواية مصرية سردها بالفرنسية جعلت النقّاد يتساءلون إن كان قصيري يكتب «أدباً مصرياً بالفرنسيّة أم أدباً فرنسياً في مصر»6. يعود لنا السؤال إذاً بصيغة جديدة: أين مكمن القلق في صعوبة تصنيف قصيري لغوياً وأدبياً؟

قد لا تكمن الإجابة في إشكالية الكتابة بالفرنسية، بل في القول السياسي الذي تتيحه الكتابة بالفرنسية. فلم تُثر لغة قصيري الروائية وحدها قلق النقّاد، بل أيضاً سخريته من الإيديولوجيا. فالمقاربات الواقعية أو الوجودية التي تربّعت على عرش الحقل الأدبي العربي منذ بداية الخمسينيات صوّرت الكاتب كما نظّر له جيل محمود أمين العالم وجان بول سارتر من قبله، ككاتب ملتزم يتمتّع بوعي اجتماعي ويعبّر عن آمال مجتمعه الوطنيّ وآلامه، ملتزماً بنهج الواقعية الاشتراكية. ولكن شخصيات قصيري رفعت شعار الصعلكة والسخرية والألاعيب والمقالب والأكاذيب والفكاهة، واحتفت بالخمول وتغنّت بالكسل ولم تخفِ تململها من سطوة الخطاب الاشتراكي الثوري والواقعي الذي تسيّد الحقل الثقافي المصري بعد قيام جمهورية يوليو وبروز تصدّعاتها. فموقع قصيري اللغوي البعيد والمغاير فرض عليه استحالتين: لم يكن فرنسياً بما فيه الكفاية بحكم مخياله الأدبي الذي أخذ به إلى مصر، ولم يكن مصرياً بما فيه الكفاية بحكم لسانه الروائي وإلحاده الإيديولوجي.

قد يكون شطط قصيري عن الإجماع الإيديولوجي هو الذي منع عنه الإجماع النقدي. فلم تحظَ أعماله باهتمامٍ نقدي في مصر إلا في لحظات قليلة ومتباعدة تكثفت غداة موته سنة 2008. وكما في حالة آسيا جبار، لم تعرَّب أعمال قصيري الكاملة إلا مؤخراً. ويعود ذلك إلى ما سمّاه ريشار جاكمون «الرقابة بواسطة الإهمال»، أي عملية إسقاط كتّاب الشتات كقصيري ووجيه غالي وجورج حنين من المكرَّس المصري عبر تجاهل أعمالهم وعدم نقلها إلى العربية. يتجلّى هذا الإهمال لدى مقارنته بالعدد الكبير من الكتّاب الروس والفرنسيّين الذين تُرجمت أعمالهم في الستّينيات بمبادرات أغلبها رسمي. 7 وكما آسيا الجبار، لم يحظَ قصيري بتكريم رسميّ في بيته إلا بعد وفاته حين أصدر المركز القومي للترجمة طبعة مُعرَّبة عن دراسة بحثية حول أعمال قصيري. فعاد قصيري إلى مصر كاتباً فرنسياً مُكرّساً، عرّفت عنه الصحف العربية بعناوين متشابهة مكررة، فلُقِّب بـ «رسول الكسل» أو «صاحب فلسفة الكسل» وكأن النقاد تمسّكوا بمفهوميْ الكسل والسخرية كمقاربة وحيدة ونهائية لقراءة رواية قصيري.

لم يُقرأ قصيري بشكلٍ كافٍ عربياً، أي أن النقاد، وإن تحدثوا عن إسهاماته، لم يضعوا أعماله في سياقها العربي. ولكن بالرغم من ذلك، برزت بعض الأصوات التي تجرّأت على طرح السؤال حول تداعيات قراءة أعمال قصيري بأسلوب مقارن، أي من داخل المكرّس الأدبي. وقد أشار محمد شعير إلى لبّ الإشكالية عندما تساءل: «ماذا ‘لو’؟ لو بقي قصيري منافساً لمحفوظ في مصر، أما كان تغير شكل الرواية العربية؟»

يؤكد سؤال شعير الافتراضي على مركزية اللغة في الممارسة النقدية والتكريس، فيعود إلينا طيف أنطون شماس مرّة أخرى. فذاك الذي حلّ ضيفاً مؤقتاً على العبرية، كتب حكاية الفلسطينيين الذين وجدوا أنفسهم بعد النكبة منفيّين من جغرافيّتهم العربية الأوسع إلى الدولة الصهيونية، لا بل إلى هامشها. وإن كان شماس قد نشر روايته سنة 1985، أي في لحظة خاصة جداً من التاريخ الفلسطيني، إلا أنها لا تزال تحاكي ذاكرة فلسطينيي الداخل اليوم. فهل ستُترجم أرابيسك من العبرية إلى العربية، وهي التي استُقبلت في العالم العربي بحذرٍ في أحسن الأحوال؟ وإن حصل ذلك، هل ستجد مكانها في سردية الفقدان الفلسطينيّ الأوسع، إلى جانب أعمال الياس خوري وفدوى طوقان ومحمود درويش؟

لمّا كان ضيوف اللغات غير العربية يكتبون بلغات وأنساق ذات حمولة سياسية، فإنّهم يزيحون العربيّة اداةً وحيدة لرواية تجربة الحاضر العربية، لا بل يقدمون طرحاً مغايراً سياسياً، تحديداً لأنه مغايرٌ لغوياً. بمعنى آخر، إنّهم قادرون على تصوّر سردية بديلة بفضل ابتعادهم عن بيتهم اللغوي الأصلي. فاستعادتهم اليوم عبر الاقتباس والترجمة والقراءة المتأخرة تعني استعادة السردية التي لم تُقل بالعربية والتي ستقلق، بحكم اختلافها، سُكون الناقد القومي والمكرّس الأدبي العربي القائم على ملاءمة اللسان العربي للقول القومي والاشتراكي والواقعي.

الناقد الرصين

من الخطابات النقدية المؤدِّبة نوعٌ يتميّز في قدرته على وضع العبارة الرصينة والدقّة اللغوية معياراً للنقد، فيما ينسب إلى النصوص التي لا تستوفي شروط الرصانة صفة «الركاكة». تشير رنا عيسى في معرض بحثها عن مفهوم «الركاكة» وتبلوره في الفكر النهضوي، إلى أن المفهوم برز كآلية خوّلت مفكّرين مسيحيين من سوريا الكبرى أن يتمايزوا عن أسلافهم من العلماء المسيحيين الذين استقوا عربيّتهم من مستويات لغوية مختلفة من المحكيات ولغات النص الديني المسيحي. كما كانت الركاكة أيضاً وسيلة لمحاكاة التمايز اللغوي الذي لطالما رفع من شأن العلماء المسلمين. فجاء مفهوم النقاوة اللغوية في هذا السياق أداةً تأديبية فعّلت القطيعة مع الماضي العثماني والمملوكي القريب والمتنوع لغوياً، وشددت على التواصل مع ماضٍ بعيدٍ متخيّل يدعمه مفهوما الأصالة الثقافية والنقاء اللغوي. فقامت عيسى بقراءة معمّقة للسجال الشهير الذي جمع ابراهيم اليازجي بفارس الشدياق، النهضويّين اللذين دأبا على التعريف بالركيك: هل هو المخطئ في النحو أم في الاصطلاح؟

بالرغم من حدّة السجال بين الشدياق واليازجي، والاختلاف في موقفيهما من الركاكة، بقيت «الركاكة» مقياساً للقول النهضوي وأدوات النقد الحديث المعاصر. فلم تقتصر تهمة الركاكة على الشدياق واليازجي ومجايليهما، بل انسحبت أيضاً على محاوري طه حسين الذين اتُهموا بضعف العبارة وضيق الرؤيا، لتصل أخيراً إلى الروائيين المعاصرين.

تُستخدم «الركاكة» في الخطاب النقدي المعاصر وسيلة للتشكيك بقيمة الأعمال الأدبية وتحجيمها لضمان مكوثها في الهامش. للكاتبات النساء، والخليجيات منهنّ تحديداً، تجربة طويلة مع الركاكة. فغالباً ما يُسقط النقاد هذه «التهمة» على أعمالٍ روائية لنساء كتبن هامش الحقل الثقافي فخرجن على السردية الرسمية في التأويل التاريخي. فعلى سبيل المثال، كانت الرواية الأولى لرجاء الصانع بنات الرياض (2006) نقطة تحوّل في الأدب السعودي بشكل خاص. الرواية التي كُتبت كسلسلةٍ من الرسائل الإلكترونية المرسلة إلى قائمة واسعة من المشتركين، تسجّل حياة أربع نساء ميسورات خلال تنقلهن بين عالمين متقاطعين. الأوّل هو عالم الهويات المعولمة والأعراف الاجتماعية المتبدّلة في السعودية، والثاني هو عالم العوائق المفروضة من قبل الدولة على حركة الفتيات وجنسانيّتهن. لم تنجح السجالات العديدة التي أحاطت بالرواية في الحدّ من شعبيّتها في العالم العربي، بل سرّعت ترجمتها إلى لغات عدّة. وبين ليلة وضحاها، حوّل هذا النجاح التجاري العالمي رجاء الصانع إلى واحدة من المشاهير، وجذب الانتباه إلى الكاتبات السعوديات والعربيات العديدات اللواتي دأبن على النشر بكثافة في العقد الأخير. زينب حفني وسمر المقرن وصبا الحرز هي بضعة أسماء لكاتبات سعوديات عديدات ساهمن في ازدهار «الأدب النسائي» الخليجي المثير للجدل.

رغم تعقيدات ثيمات روايات الكاتبات السعوديات وتنوّع أساليبها، نادراً ما نظر النقاد إلى القيمة الأدبية لهذه الروايات، وقلّما تناولوها لأسبابٍ جمالية. فقد تميّزت الكتابات النقدية إمّا بالثناء على الكاتبات لمواجهتهن القمع الجنسي، وإمّا بالشجب لزعزعتهنّ الأدوار الجندرية التقليدية. ذلك أنّ النقّاد قاربوا هذا النوع الأدبي كمجرّد فورة لنصوص انطباعية هاوية لا تتطلّع إلى الإدلاء بأي مداخلة سياسية، ناهيك بقدرتها على فعل ذلك حتى لو أرادت.

لكن من الواضح أن هناك عدداً من الروايات الخليجية التي قدّمت طرحاً لغوياً وشكلياً مختلفاً في العقد الأخير، فأضافت إلى الحقل الأدبي العربي سرديات جندرية ومثلية ودينية وقومية جديدة. لكن، بالرغم من هذا التحول، بقي الخطاب النقدي العربي عاجزاً عن القراءة والتأويل، زاعماً أنّ الركاكة متأصّلة في هذا النوع الأدبي بجميع أطواره وأصواته. وغالباً ما تُنسب الركاكة المزعومة إلى سطحيّة هذا الأدب، أي تركيزه حصراً على كسر المحرّمات الدينية والانغماس في الملذّات، ومعالجته المحدودة والضحلة للمجتمعات العربية المعقّدة. ففي ذهن الناقد الرصين، لا تعدو تلك الأعمال الأدبية عن كونها محاولات صغيرة، محدودة، والأهم، ركيكة، في القول. فتتراوح الآراء النقدية بين التجاهل التام والإدانة الصريحة لأولئك الكاتبات بسبب مقاربتهنّ السطحية المزعومة ولغتهنّ السردية الركيكة.

تكشف القراءة المتأنّية لردود الفعل النقدية انتشار معجم نقديّ شاجب مؤدِّب، غالباً ما يحطّ من قدر روائيات خليجيات نظراً لـ«ركاكة» بنائهن اللغوي. وقد عرّف النقاد هذا النوع الروائي كـ«ظاهرة» بوصفه حدثاً غير طبيعي، تقف خلفه «طفرة»، أو نمو مفاجئ غير مستحبّ، يحيل إلى عوالم الأورام والأمراض العضوية العصية على التصنيف. كذلك قيل عن هذه الموجة الجديدة من الكتابات إنها «على الموضة»، في إشارة إلى نمط الاستهلاك السريع المنسوب إلى النساء. كما ربط النقاد بين الركاكة المزعومة ونمط من السلوك الاجتماعي المؤنّث كـ«الثرثرة»، ونظروا إليه ككتابة انفعاليّة ورجعيّة كما في استخدام عبارات منها «فورة» و«حدث أدبي صغير» للإشارة إلى الانفعالات السطحية. حتّى أنّ بعض النقّاد عبّر عن «الخوف» أو «الألم» من هذا «الانفلات الأدبي>، وهو مصطلح يحيل إلى التعابير السلطوية التي تذكّر القارئة بمؤسسات أمنية تحذّر من «الانفلات الأمني» وأخرى دينية تحذّر من «الانفلات الأخلاقي>، ناهيك بوصف بعض تلك الأعمال بالـ«إنزال»، بمعنيين متّصلين بالسلطة والذكورة، أي القذف والاجتياح العسكري.

تضيء تهمة الركاكة التي غالباً ما تسقَط على روايات لكاتبات نساء على سلطة الناقد في استعمال الركاكة لا كمعيار أدبي وحسب، بل كمعيار تأديبي أيضاً للتعبير عن القول السياسي الكامن في عدد كبير من هذه النصوص لكاتبات خرجنَ عن العرف السياسي والاجتماعي برؤىً مختلفة. طبعاً، لا يعني ذلك أن كل ما تُنتجه روائيات خليجيات متميز وجدي، ولكن الكلام عينه ينطبق على الروائيين الذكور الذين يحاكون السائد في الرواية دون تقديم أيّ جديد.

هكذا يستخدم النقاد المعاصرون تهمة الركاكة ومشتقاتها ظاهرياً لصون الفصحى من اللحن المعجمي والنحوي، وضمنياً للحد من القول «الشاذ والمنحط»، أي ذاك القول الذي تُنتجه تلك الركاكة المعجمية واللحنية المزعومة والذي يشاكس سياسياً، تحديداً من خلال تحدّيه لمنطق النقاوة اللغوية والأصالة الثقافية.((راجعوا مقالة رنا عيسى عن مفهوم الركاكة في هذا الملف .)) فتتحول تهمة الركاكة سبيلاً إلى التعتيم على القول السياسي.

الناقد الشرطي

هي قصة أب مصري سعى «لينير عقول بناته بالقراءة» فيهديهن مجلة أخبار الأدب التي نشأت عليها أجيال من المصريين. يكتشف الأب لاحقاً احتواء المجلة على مقتطف من رواية استخدام الحياة (2014) لأحمد ناجي التي زعم الأب أنها تحوي موبقات لفظية تفتك بإحساس بناته وتحرّضهنّ على الرذيلة. وإذا بالأب يستغيث بالعدالة في بلاغ ضد أحمد ناجي ومدير تحرير المجلة. فيتعرّض الكاتب أحمد ناجي للمحاكمة بتهمة استخدام «ألفاظ خادشة للحياء» والشذوذ عن الأعراف الأدبية واللغوية والاجتماعية.

ينتمي نص الادّعاء إلى نوع أدبي قانوني يُعرَف بالخطبة القضائية، أي المرافعات التي يُدعّم التعليل فيها على بلاغة متمثلة في تكثيف أساليب البيان والبديع حيث يتسلّح المرافع بمصطلحات نادرة من المدونة العربية لإضفاء شرعيةً على القول والتشديد على ركاكة النص الذي تبتّ بأمره المحكمة. فلما كان المدّعى عليه كاتباً وكانت التهمة لغويةً، كان على الادعاء أن يؤدي دور الناقد الأدبي ليثبت التهمة. 8

لم تكن هذه المرة الأولى التي أدّى فيها المدّعي العام دور الناقد. ففي التاريخ القضائي المصري سابقة تعود إلى معركة طه حسين نفسه مع القضاء بعد التهمة التي وجّهها له علماء من الأزهر عقب نشره في الشعر الجاهلي (1926). ففي نص النيابة العامة آنذاك تفكيك لمنهجية الكاتب والمنطق المنظم لأفكاره وغوص دقيق في تفاصيل الحجة وأسلوب المحاججة. خلص المدعي العام-الناقد آنذاك إلى إسقاط الدعوة عن طه حسين نظراً لاتباع الأخير منهج علمي ليس معصوماً عن الخطأ، ولأنّ «القصد الجنائي»- وهذا هو الأهمّ- لم يكن متوفراً. مذّاك، بدأ يترسّخ في النظام القضائي، تحديداً القضاء المعني بالمحاكمات الإبداعية، دور الناقد-الشرطي الذي عاد وظهر في قضية أحمد ناجي.

يتهم الادعاء أحمد ناجي بأنه يدعو إلى «الفتك بأصول الأخلاق وفكّ عرى الفضيلة» في ما رآه لغة نثرية واقعة ساقطة «انعقدت على محو القيم واهانة الفصحى بلغة سوقية ركيكة تنهل من ألفاظ جنسية متدنية». ليست الإهانة موجهة إذاً للأب المصري الساعي إلى إنارة عقول بناته وحسب، بل أيضاً إلى الفصحى بوصفها المكوِّن الثقافي العربي الأسمى. «ماذا نصنع؟» يتساءل المدعي العام مستنكراً، «إذا رأينا الخناصر قد انعقدت أنبتسم ابتسامة المهادنة؟ أم ابتسامة المداهنة؟». بلغ تحقير الفصحى إذاً مبلغاً من الفداحة استدعى المحاسبة القانونية، فمارس الناقد-الشرطي حقّه المطلق في عملية التقويم. ولكن المذهل في المحاكمة هو التعليل الذي استخدمه الادعاء والذي مارس من خلاله دور الناقد في تحديد ماهية الأدب واللغة الأدبية.

يستهلّ الادعاء المرافعة بإقراره أن الدستور المصري يحفظ الحق في حرية التعبير الفني والأدبي. لكن، في سبيل إثبات التهمة على أحمد ناجي، يقوم الادعاء بشرح كيف أنّ الدستور لا يلحظ نص أحمد ناجي لأنه، وهنا لبّ الحجة، ليس أدباً وليس أحمد ناجي بأديب. لماذا؟ لأن لا نصَّ أدبياً يقوم على ألفاظ جنسية تصف العلاقات الجنسية بشكلٍ مفصّل وبابتذال يجرح إحساس مواطنين ومواطنات ائتمنوا الدولة المصرية ومطبوعاتها القومية على تنويرهم. فإن كان نص ناجي يحوي بعض هذه المصطلحات، فهذا يدل على أنه خارجَ فئة الإبداع التي يلحظها القانون. اللغة السفيهة، اذاً، لا تصنع أدباً.

في محاكمة أحمد ناجي أيضاً، يحضر طيف طه حسين ليضفي شرعية على منطق الناقد-الشرطي في محاكمة صاحب اللغة السفيهة الساقطة. فيعود الادعاء في مرافعته إلى الأيام لطه حسين ليستثني عميد الأدب من جمع أولئك الساقطين لغوياً، «المتأخرين في الألفاظ والمعاني، الذين اتجهوا إلى الابتذال في استثارة الغرائز». هكذا تضع لنا المرافعة خارطة لفهم المعركة: الأديب الحق ينتمي إلى جيل المعلمين، أولئك الذين، وإن جنحوا الى المحكية مضطرين ملزمين، فإنهم يصونون لغتهم ويرتقون بها تنويراً للعقول. وذلك على عكس أحمد ناجي الذي «يقال عليه كاتب وروائي وما هو إلا قاتل لأحلام أبناء وبنات ذلك الوطن»، والذي يشبه، بحكم مشاكسته اللغوية والاخلاقية، نظراءه من الكتّاب، «صرعى المجون والشذوذ الفكري». يفضي ربط الأدب بالأخلاق هنا إلى أقنومَيْن: إن الكاتب المنحطّ لغوياً هو حتماً منحط أخلاقياً، وعليه، فإنّ الكاتب المنحط أخلاقياً ليس أديباً. هذه هي المعادلة الأدبية-القانونية التي يستند إليها الناقد-الشرطي.

تبرز أيضاً في عملية استدعاء روح طه حسين محاكاة للمحاكمة التي تعرّض لها عميد الأدب، من دون أن يخفى الفارق بين اللحظتين التاريخيتين. صحيح أنّ طه حسين تعرّض للمحاكمة بسبب ما نشر، لكنّ المحكمة برّأته تحديداً لأن صفتَيْ الباحث والمفكّر ضمنتا حقه في التعبير عن رأيه، حتى ولو كان مخطئاً في ما خلص إليه عن الشعر الجاهلي. فمحاكمة طه حسين، وبالرغم من تقاطعها السطحي مع محاكمة أحمد ناجي، فإنها تحيلنا إلى الأقنوم الثالث الذي يستند إليه الناقد-الشرطي: المحاكمة الفكرية وحدها لا تصنع أديباً والأديب الحق، كما طه حسين، لا يُجرّم.

بعد إثبات عدم أحقية ناجي بصفة الأديب، استبقت النيابة العامة المصرية تهمتَيْ الظلم والعنف اللتين قد توجهان ضدها، فبرّرت نفسها بأنها وإن بدت عنيفة اليوم، فإن ذلك يعود إلى إصرارها على وقوفها حصناً منيعاً في وجه الباطل. فكانت العودة للأدائية اللغوية المتمثلة في السجع وتكثيف المقابلات سبيلاً لإعلاء قول النيابة وابطال قول الروائي. فيقول المدعي العام:

يختم الادعاء المرافعة عبر التوجه إلى شعب مصر مقتبساً من سورة آل عمران: «أيا شعب مصر الأغرّ، لا تهنوا ولا تحزنوا فإن لكم قضاءً ماجداً لطالما ترددت بكلماته وبأحكامه أصداء الحق بين جدران هذه القاعات، فأشرقت بنور عدلها ليال ظلم طالت.» فيعد الادعاء هنا الشعب المصري بأن القضاء سيقف معه كما عهده دائماً في معركة الدفاع عن الذات ضد من شذّ عن أعراف الأدب واللغة.

تكتمل الصورة اذاً على تلاحم سلطتين اثنتين، سلطة الدولة وسلطة الناقد. تتمثل سلطة الدولة في قضاء يمنع المسّ بمشاعر المواطنين، وتتمثل سلطة الناقد في أداء النيابة العامة التي دأبت على تمييز الفصحى عن السوقية والأديب عن السفيه والأدب عن الانحطاط. فالناقد-الشرطي يقدّم إجابةً قاطعةً عن سؤال «ما الأدب؟» الذي لطالما شغل النقاد، ويعطينا درساً في القراءة: كيف نقرأ؟ من نقرأ؟ ولماذا؟

ومن خلال المقابلات المسجَّعة، تبرز معالم الأدب الجديد الذي يبشّر به الناقد-الشرطي ويدعو المواطنين إلى قراءته والقانون إلى حمايته. هو الأدب القائم على التوجيه والتنوير والتتويج والإنارة والرعاية والإنصاف والعلم والإعلام والعطاء والحوار والتعايش وإلى ما هنالك من مفاهيم تنويرية أفرغت الأنظمة الحديثة المتعاقبة معناها واستخدمتها أداة للتطويع السياسي.

وبهذا يكون قد اكتمل مثلث الأب- الأديب- المؤدِّب بتلاقي أبي البنات المنوّر مع المدعي العام الذي تنضح مرافعته بلاغةً ومع القاضي الذي أنزل بناجي عقوبة سنتين بسبب لغته الساقطة والخادشة للحياء. هكذا اذاً، يطوّع الحاكم الخطاب النقدي، خصوصاً ذاك الذي يرى في الأدب ارتقاءً للغة وإعلاءً للأخلاق، مُسخِّراً له القضاء المصري في طوره الأخير بعد 30 يونيو.

الكنوز التي لا يطالب بها أحد

يشير الخطاب النقدي الذي تناول السرديات غير العربية والمحكية والركيكة والخادشة للحياء، إلى معاييرَ أدبية ثابتة تضع القومية والامتثال للأعراف اللغوية معياراً للجودة الأدبية. فالأديب-الأب-المؤدِّب يلفظ من المكرّس الأدبي العربي القول الخارج عن العرف اللغوي العربي بوصفه دخيلاً على النخبة اللغوية التي تمسك بأحقية القول. كما يحرّم القول على كل من روى تجارب محلية وإقليمية ومثلية وجندرية لا مكان لها في المكرّس، تحديداً لأنها شرعت في تقويض السلطة عبر تفكيك جزئياتها اللغوية. بذلك يضع الناقد المعاصر لنا حقلاً روائياً ثقافياً وسياسياً تسوّره حدودٌ معيارية متقادمة لا تحاكي التجربة الروائية المعاصرة، بل تعيد انتاج سلطة الأب-الأديب-المؤدِّب الذي يعيد بدوره انتاج خطابه إلى ما لا نهاية.

يدلّنا الخطاب النقدي هذا، بحكم عنفه الممنهج، على سرديات كان ترحالها كما تنوعها اللغوي سبباً في تغذية هامشية كتّاب بقوا خارج الأدب العربي المكرّس. فعبّرت تلك السرديات عن ذوات متعددة ومشككة في أوج التوحيد الأيديولوجي، ذوات خرجت لا من مراكز الحقول اللغوية والسياسية والثقافية العربية، بل من المواقع الهامشية بحكم بُعدها عن السلطة وبحكم منفاها اللغوي والجغرافي. فبين سطور الأب-الأديب-المؤدِّب تبرز نصوص متمرّدة في عملها كخطاب مضادّ يفكّك عمليات التكريس في الأدب ويصوّب سهامه باتجاه تناقضات مراكز السلطة.

بين تلك النصوص الأدبية الملفوظة والمنسية والركيكة كنوز لم يطالب بها أحد.

*****

زينة حلبي: أستاذة جامعية في الأدب العربي. صدر لها مؤخراً كتاب في الإنجليزية عنوانه تقويض المثقف العربي: النبوة والمنفى والوطن عن مطبوعات ادنبرة الجامعية.

1. شكّل مفهوما الالتزام والواقعية الإطار النظري الذي دفع بروائيين اشتراكيين لإزاحة من سبقهم من أدباء، أبرزهم طه حسين، كانوا قد دعوا إلى تحييد الأدب عن الصراعات السياسية، لاسيما الطبقية منها. يلخّص محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس السجال مع طه حسين في مقالتهما «الأدب بين الصياغة والمضمون». في الثقافة المصرية، القاهرة: دار الثقافة الجديدة، 1955: 39-45.

2. راجعوا، مثلاً، المقالة الطويلة التي نشرها طه حسين حول هذا الموضوع والتي يضع فيها تصوره حول أهمية الفصحى في التعليم الرسمي وضرورة تيسير قواعد النحو. طه حسين، <اللغة الفصحى وتعليم الشعب>، المجمع العلمي العربي (1)1957: 44-57.

3. Pepe, Teresa. “Mixed Arabic as a Subversive Literary Style [2005–2011], in Philologists of the World: A Festschrift in Honor of Gunvor Mejdell. Eds. Rana Issa & Nora S. Eggen. Oslo: Novus Vorlag, 2017: 363-394.

4. See interview with Anton Shammas and Muhammad Siddiq. “Introduction and Dialogue with Anton Shammas.” Alif: Journal of Comparative Poetics. 20 (2000): 155-167.

5. خُذوا على سبيل المثال عنوان روايته الأخيرة غير المكتملة “Une Epoque de Fils de Chiens”. وهو عنوان في جملة فرنسيّة سليمة، إنّما يُقرأ وكأنّه بالعاميّة المصرية <زمن ولاد الكلب>

6. Creswell, Robyn. ‘Undelivered: Egyptian Novelists at Home and Abroad’. Harper’s Magazine, February 2011:77.

7. راجعوا تحليل ريشار جاكمون لسياسات الترجمة الرسمية في نظام عبد الناصر. Jacquemond, Richard. Conscience of the Nation: Writers, State, and Society in Modern Egypt. Translated by David Tresilian. Cairo: The American University in Cairo Press, 2008: 119–20.

8. راجعوا تحقيق خيري شلبي عن محاكمة طه حسين في محاكمة طه حسين. بيروت: المكتبة العصرية، 1972.

موقع الجمهورية

———————-

الخالصين/ منى رافع

خلصَ يخلص خلوصاً وخلاصاً فهو خالص، والجمع للمذكر «خالصون وخُلَّص»، وللمؤنث: «خالصات»، مع اختلاف المعنيين بالعامية للمذكر والمؤنث  في بعض الأحيان، واتفاقهما في أحيان أخرى، وذلك معروف تماماً لمن يعرف العاميّة السورية. و«خالص» هو الصرفُ من المعادن، والناصع من الألوان، والحلال من الشيء، والنقي من النَسَب، والسليم من النية، والبراءة من الدَّين، والنقي من الذهب، والموجز من الكلام، والراحة من التعب، والنجاة من الهلاك، لكن كلمة خالص تجمع أيضاً إلى ما سبق معانٍ متنوعة استُخدمت كثيراً في السنوات الأخيرة من قبل كثير من السوريين على تعدد فئاتهم، وغالباً ما يستخدمها السوري وهو يضرب كفّا بكف، أو يمطّ حروفها مع نغمة حزينة؛ يتابع أحدهم الأخبار على وسائل التواصل والتلفزيون ثم يصفن قليلاً ويقول متنهداً: خالصْ؛ يقوم المسعف بسحب جسد أم لثلاثة أطفال من أسفل مبنى منهار بفعل طائرة روسية، ثم ينظر بوجه حزين لمن هم حوله ويقول لهم: خالصْ؛ يمشي شخص فقد أطفاله وبيته وعمله وترك مدينته وهو يتحدث مع نفسه بصوت عالٍ  في الشارع، فيحوقل أصحاب الحارة الذين يرونه كل يوم ويقولون: خالصْ؛ ترفع امرأة سماعة التلفون لتسمع جواباً عن وضع ابنها المفقود منذ سنوات، فتسمع الرّد من الجهة المقابلة: خالصْ؛ يسأل الرجل عن بيته الذي تركه منذ سنوات في حارته القديمة، ليجيبه آخر شخصٍ رأى البيت: خالصْ؛ يسأل أحد الثوار وقد وَجَدَ نفسه مع أصدقائه وهم يخلون قريتهم بعد رباط سنين فيها: أين الذخيرة لنكمل؟ فيأتيه الجواب حازماً: خالصْ؛ يبكي مجنون الحارة الذي أصبح مجنوناً لحارة أخرى حين يلاحقه الأطفال وهم يصفقّون خلفه وينعتونه بالمجنون، فيقول الناس عنهم وعن المجنون: خالصْ. وهناك كلمات «خالصون/ خالصات» كثيرة، يأتي العديد منها مثل فأس تقطع رأس الحقيقة والحق والعدل والذي يجب أن يكون، ولكنّه لم يكن، لذا لا يمكن أن نقول إنّ أحداً منا بمنجى من هذه الكلمة المريعة التي تنسحب على حالة معظم السوريين على امتداد العصفورية السورية، وعلى امتداد دول اللجوء التي جمعت أبناء هذه العصفورية.

خالص، يخلص وتخلص و«خلصِتْ»، وهي الكلمة الأكثر شهرة بين السوريين، والتي كان الموالون للنظام يستخدمونها سابقاً بكثرة، للدلالة على انتهاء الثورة ضد رئيسهم وعلى فوزه وفوزهم، وعلى سحق خصومهم وقتلهم وتهجيرهم وتشريدهم واعتقالهم وسلبهم وإهانتهم وذلّهم، وعلى إعادة الأمور لنصابها كما يرونها باعتقادهم. و«خلصت» أيضاً كلمة يستخدمها المعارضون للتندر على كلام الموالين الذي سبق، لكن الكلمة بهتت بمعناها السابق، وأصبحت منذ سنوات مستخدمة من الجميع للدلالة على خراب كل شيء، حيث يتم الاتفاق هنا أن ضمير التاء في كلمة «خلصت» يعود تحديداً على سورية، هل من داعٍ لذكر الجملة الشهيرة: «سوريا خلصت والأزمة بخير!»، مع وضع خط تحت كلمة «أزمة» التي لها حديث طويل آخر. تقول إحدى الأمهات حين تسمع هذه الكلمة: «أي انشالله تخلص روحه»، وضمير الهاء اللاحق بالروح يعود على رأس الفتنة، أو كما يقال على الثور الكبير، أو بوضوح أكثر على من يسمى ظلماً وعدواناً «رئيس الدولة السورية».

خالص وخلصت، والخلاص، وهو الانعتاق والتحرر والانتقال من وضع متعب إلى وضع مريح، وهي تعني بالعامية المصرية كفى، أو النهاية من أمر ما. والخلاص أيضاً هو أمرٌ يبحث عنه السوريون منذ سنوات ولا يجدونه، لذا أصبح كثيرون منهم يبحثون عن «الخلاص» الذي يناسب كلّاً منهم؛ خلاصُ المؤيدين في انتهاء الحرب، وعودة أبنائهم من الجبهات، والحفاظ على مكتسباتهم، وهزيمة خصومهم وسحقهم، ولو بالكيماوي؛ بينما خلاصُ المعارضين يختلف بحسب ما يريده كلٌّ منهم، ويأتي بدايةً في سقوط النظام الذي قتلهم وشردهم واعتقلهم ودمر بيوتهم، ثم بعد ذلك تختلف أقوال الخلاص بحسب أدلجات من يريدون الخلاص التالي لسقوط نظامهم. خلاصُ الانتهازي من جميع الأطراف هو تحقيق مكاسبه الشخصية؛ خلاصُ الأم هو عودة أبنائها من الجبهة، أو معرفة أين هو ابنها وفيما إذا كان حيّاً، ومعرفة مكان جثمانه إذا كان ميتاً؛ خلاص المهجّرين بالعودة إلى بيوتهم؛ خلاص اللاجئين هو الحصول على جنسية البلد الذي يقيمون به؛ وخلاص المعتقلين في السجون في إطلاق سراحهم أو موتهم السريع بأقل ما يمكن من ألم ولقاء وجه ربهم، وهو من أشدّ أنواع الخلاص.

وأخيراً هناك الخُلاصة، وهي زبدة الكلام وموجزه، ونادراً ما نجدها عند الحديث عن الثورة السورية وأحداثها وآلامها، حيث لا يمكن إيجاز سرديات الدم والقهر والموت والنزوح والتهجير والغارات ومعارك الكرّ والفرّ، وتدخُّلِ كل من يعنيه ومن لا يعنيه الأمر في حدوث ذلك كله. وكخلاص أخير وخُلاصة حياة أخيرة، قرَّرَ رجل حمصي خمسيني في الثاني والعشرين من شهر شباط الماضي أن ينهي حياته، من خلال رمي نفسه من شرفة منزله، بعد أن نطق بضع كلماتٍ أبدعت مخيلة الحمصيين في تخمينها، وكذلك فعل شاب آخر قبله، حين فجَّرَ نفسه بقنبلة منهياً بذلك حياته. قيلَ إن الشاب كان يعاني من اضطرابات نفسية، ولن يُعرَف أبداً السبب الحقيقي وراء انتحارهما، لأنه لا يمكن توثيق أي حادثة من هذا النوع على حقيقتها في أي مدينة سورية، كما لا توجد دراسات جادة عمّن يرتكبون فعل «خُلاصة» الحياة والخلاص منها؛ الانتحار الذي تنبذه الأديان السماوية، وتطلبه النفوس البشرية أحياناً عند صعوبة الأحوال الدنيوية. يقول البعض إن معدلات الانتحار بين السوريين قد زادت بدليل ما يتم تناقله من أخبار، بينما يجادل البعض في ذلك مؤكدين أنه لا زيادة في هذا المجال؛ ولكن إذا كانت معدلات الانتحار بين السوريين لم ترتفع، فإننا لا نستطيع أن نقول إن هذا ناتجٌ عن حبّهم للحياة التي يعيشونها، أو تعلّقهم بها، بل لعلّه التسليم بما يحدث، أو لعلّه الاستسلام، أو لعلّها الشجاعة، من يدري؟

قبل أن يتوفى الفنان المصري محمود المليجي، كانت آخر جملة قالها وبَدَت كما لو أنها رسالته الأخيرة: «الحياة دي غريبة جداً»، ثم شرب فنجان قهوة وأطلق الروح؛ حينها قال له عمر الشريف الذي كان حاضراً: «إيه يا محمود؟ خلاص؟» وبالفعل كان الخلاص. وحين قررت إحدى السوريات «الخلاص»، مزجت مساحيق عدة أدوية منتهية الصلاحية ووضعتها في زجاجة، وانتظرت أن يأتي الوقت الملائم لكي تشربها، وعندما لم يأتِ هذا الوقت، أو بالأصح عندما شعرت أن كُلَّ وقت يصلح لأن تشربها، تراجعت عن الأمر، وانتظرت أن يأتي الخلاص بنفسه إليها بدل أن تذهب هي إليه. ربما يكون هذا دأب كل السوريين الخالصين والخالصات، الباحثين عن الخلاص والباحثات عن الخلاص، وخُلاصة القول إن هذا المقال الخالص، يخلصُ هنا.

*****

منى رافع: كاتبة صحفية سورية، مُشاركة في زمالة الجمهورية للكتّاب الشباب.

موقع الجمهورية

———–

زمن المعلم/ محمد أمير ناشر النعم

كنّا طلاباً في الصف السابع سنة 1982 عندما دخل مدرّب الفتوة لأول مرة إلى صفّنا!

كم كنّا توّاقين لرؤيته! فهو الحد الفاصل ما بين المرحلة الابتدائية والمرحلة الإعدادية! ودرسه هو العتبة التي تنقلنا من عالم الطفولة إلى عالم الشباب.

وقف العريف في منتصف الصف، على المصطبة، أمام السبورة، مبتسماً مبتهجاً يفرك يداً بيد بانتظار قدوم المدرّب في حصة الفتوة الأولى! كانت لهفتنا المشرئبّة المتطلّعة لا تقل عن لهفة العريف. أخيراً نزعنا صدرية الطفولة، وفولار الطلائع، ولبسنا البدلة العسكرية الزيتية، واعتمرنا السيدارة، وصرنا رجالاً نحضر حصة الفتوة.

دخل مدرب الفتوة لأول مرة، فقمنا له قومة رجل واحد بإيعاز من العريف:

ــ قياااااااام!!

وبادر العريف، الذي غدا للتو رجلاً، يلبس بدلة الفتوة العسكرية مرحّباً بالمدرب العسكري، وقال له وقد ارتسمت الابتسامة الجذلى على جبينه وحواجبه ورموشه وعينيه ومنخريه وشفتيه وأسنانه ولسانه وذقنه: أهلين أستاذ.

وفي عشر أعشار من الثانية تلقى العريف، من حيث لا يحتسب، صفعة على صفحة خده. جفلنا من هول انفجارها في وجوهنا، وصعقنا لدويّها في آذاننا، صفعة أطاحت به من المصطبة ورمته بين صفَّي مقاعد التلاميذ.

قال المدرب: ولاك حيوان! لا تقل أستاذ. الأستاذ تعني «الجحش»! نقول في العسكرية: سيدي أو معلمي.

وبصوت يشبه صوت الجرو الصغير الذي عفسته سيارة قال العريف الذي رجع، في أقل من نانو ثانية، طفلاً ينشج ويمسح مخاطه بكمّه: حاضر سيدي!

أما نحن فتضاءلنا وانكمشنا وتقوقعنا وتمنينا أن ندسّ أنفسنا، تحت المقعد، على هون ورعب وامّحاق.

ومنذ تلك اللحظة دخلنا زمن المعلم.

فذلكة تاريخية

كان أرسطو المعلم الأول، المعلم هنا كان المؤصّل والمقعّد لمجمل المعارف الإنسانية في عصره: مناهج التفكير والمنطق والفلسفة والعلوم الطبيعة والنقد الأدبي إلخ، وربما سُمّي بذلك لأنه كان معلم الإسكندر، أعظم قائد حتى ذلك الحين، فمعلم القائد قائد المعلمين وأول المعلمين. وفي حضارتنا الإسلامية كان الفارابي (ت: 339) هو المعلم الثاني، تشبيهاً له بالمعلم الأول في الأهمية والمكانة، وتجاوزاً دُعي المير داماد الأسترابادي (ت:1041 هـ) المعلم الثالث، على اعتبار أنه استأنف المنقطع وعاود إحياء المندثر من البحث الفلسفي. ولكن ما بين المعلم الثاني والمعلم الثالث انخسف مصطلح المعلم إلى أدنى درك، لأنّه اختص بمدرّسي الأولاد، الذين لزمتهم وسوم تحقيرية في الأجواء الثقافية العامة، على اعتبار أنهم مختصون بتعليم الأدنى رتبة ومنزلة ومكانة، أعني الصبيان. 1 وقد ذخر تراث الجاحظ والتوحيدي وابن الجوزي والآبي وسواهم بقصصهم ونوادرهم التي تجعلهم في مرتبة جحا تارة، وفي مرتبة أشعب مرة أخرى.

لكن في نهاية القرن التاسع عشر عاود مصطلح المعلم الظهور مكتسياً الهيبة والجلال فجأة بدون مقدمات، فرأيناه محط اعتبار ومصدر افتخار، ورأينا على صدر أغلفة الكتب عناوين من قبيل المعلم بطرس البستاني، والمعلم نقولا الترك، والمعلم جبر ضومط، والمعلم سعيد أفندي الخوري الشرتوني. وحتى رؤساء الأحزاب السياسية اختار لهم أصحابهم لقب المعلم إلى جانب لقب الزعيم، فرأينا المعلم أنطون سعادة والمعلم كمال جنبلاط، إلخ.

المعلم عسكرياً وأمنياً

ما زالت فترة تشكّل سوريا المعاصرة من أشد المراحل غموضاً، رغم عدم بعدنا الزمني عنها. لا نستطيع تحديد نشأة المفاهيم والمصطلحات فيها بدقة، ولا كيفية تدرّجها وانتقالها. لا تسعفنا المصادر بتفصيلات كافية عن تشكّل مؤسسات الدولة على اختلاف صنوفها! وعلى سبيل المثال: ما رتب الجيش العربي؟ وما تسلسل القادة فيه إبّان تشكله؟ هل كان في تلك الفترة مؤسسة أمنية؟ وما الحدود الفاصلة بينها وبين الجيش؟ حتى على مستوى المؤسسات الأكاديمية لا نملك معلومات كافية عن الجامعة السورية التي غدت فيما بعد جامعة دمشق. لا نعرف مدرسيها، سواء من العرب أو المستشرقين؛ لا نعرف أسماء المتخرجين منها، ولا نقع عليهم إلا بمحض المصادفة والاعتباط. لذلك لا ندري بالتحديد متى استُعمل مصطلح المعلم في الجيش العربي السوري. لكن سوف يتاح لنا أن نقرأ القانون الذي أطّر الجيش سنة 1949، وقسّم ضباطه إلى ثلاثة مراتب: الأمراء والقادة والأعوان، وسوف نرى أنّ سلسلة الرتب هي نفسها التي نستخدمها اليوم، ما خلا رتبة الزعيم التي حلّ محلها رتبة عميد، ورتبة الرئيس التي حل محلها رتبة نقيب.

والسؤال الذي نسأله هنا: لماذا غدت كلمة أستاذ مثار استهزاء وسخرية واستنكار في العسكرية السورية، وكلمة معلم محببة معتبرة محترمة؟ هل مصطلح المعلم الذي غزا المؤسسة العسكرية والأمنية هو مصطلح بعثي؟ على اعتبار أنّ فئة كبيرة من أوائل المنتسبين إلى البعث كانوا من المعلمين، وسيختص ميشيل عفلق بينهم بلقب الأستاذ، وسيغدو علامة عليه. وهنا نتساءل أيضاً: هل كانت معاداة هذا اللقب في الجيش من ابتداع حافظ الأسد ومجموعته ممن عادوا ميشيل عفلق وحاربوه، وسخروا من لقبه الذي غدا يعني الجحش؟

كلمة «المعلّم» بوصفها التفافاً

وُجدت كلمة المعلم في الجيش لتلتفَّ وتراوغ، فمن خلالها التفَّ الضباط الأقل رتبة على الضباط الأعلى، فتشاركوها معهم، وسوّوا أنفسهم بهم!

كانت كلمةً عابرة لسلسلة الرتب، فالملازم معلم، والرائد معلم، والنقيب معلم، والعقيد معلم، والعميد معلم إلخ، لذلك كانت كلمة التفافية على الرتب الأكثر تقدماً والأعلى مكانة. وهذا يقتضي أن يحرص عليها الأدنى رتبة ما دامت تطلق على الأعلى رتبة. إنها كلمة مراوغة من جهة، ومستعجِلة لحيازة السلطة وامتلاك المكانة جنباً إلى جنب مع الأقدم والأرسخ، وغالباً الأكفأ من جهة أخرى.

مع بزوغ الديكتاتورية في بداية السبعينات، تحوّلت كلمة المعلم من مجرد لقب إلى كينونة، وتخلّقت خلقاً جديداً غير معهود ولا مسبوق، وتضخّم فيها معنى الالتفاف، وغدا القوة المودعة فيها، كما أُودعت قوة الإحراق في النار، فـ المعلم يلتفُّ على كل ما يعنّ على باله الالتفاف عليه. يلتف على القانون. يلتف على الاطراد الطبيعي للأشياء. يلتف على الماضي فينكره أو يخفيه، وعلى الحاضر فيجمّده ويصلّبه، وعلى المستقبل فيوقف تقدمه.

وانتقلت كلمة معلم من المجال العسكري إلى المجال الأمني، بعد أن غدت المؤسسات الأمنية أكثر عدداً وحضوراً وبروزاً. فانتشرت فروعها في كل مدينة كالفطر، وانتقل المعلمون من القطع العسكرية خارج المدن، إلى الفروع الأمنية داخلها، وأقيمت على مداخل هذه الفروع، مقابل بنايات الناس وبيوتهم الحواجز والمتاريس وعناصر الحماية والمراقبة والحرس. وكان الحاجز يُفتح يومياً لسيارة المعلم وسيارات مرافقته، في الدخول والخروج مع قطع الطريق، وصراخ الحرس بالمارة، ورفع الكلاشينكوف عالياً إيذاناً بوجوب التوقف والتنحي، وتمهيداً لمرور المعلم. وعندئذ تخبط أقدام الحرس خبطاً مزلزلاً، فترجّ الأرض رجاً، وهي تقدّم التحية له في منظر يملأ النفس مهابة وخشية. فمن متمّات صورة المعلم أن يحاط بالمرافقة يفتحون له الأبواب، ويثيرون الجلبة لإعلام الحضور بحضوره، يحملون له حقيبته، بل وحتى المغلف أو المصنّف الرقيق من أجل أن يعرف الجميع أهميته ومركزيته. والمعلم لا يرافقه الأفراد فقط، ولكن السيارات أيضاً، فكلما زاد عدد السيارات زادت أهميته.

فرض المعلم زمنه الوجودي الخاص على وجود البلد والوطن بأسره، وفرض إيقاعه بالوتيرة التي اختارها بلا معقّب، 2 ، وكان زمنه زمن الإمكانات اللانهائية المشروطة:

    اصرخ. انبح. لكن بدون صوت.

    اعترض كما تشاء لكن بقلبك.

    اصنع مشاريعك، لكن شاركنا فيها.

    ابنِ سجنك بنفسك، وستقدّم لك المواد مجاناً. عليك أن تكون فقط مجدِّاً ومثابراً، غير متلكِّئ ولا متريث.

    احلم وارتفع، ولكن في عالمك الجواني. ألست ذا خيال رحب فسيح؟

كان زمن المعلم زمن التهديد والإهانة. المعلم فقط لا يطوله التهديد ولا الإهانة، ومن لا يطوله التهديد يغدو هو من يهدد ويهين. يهدد بالمرافقة، والنظارة السوداء، وسيارة البيجو 504، وبلور سيارته المفيَّم المعتم الذي يحجبه عن البشر. يجب أن يكون المعلم محتجباً غير متاح، وأن يكون له حاجب. الحاجب ضرورة كالإطار للصورة. المعلم كتوم وكتيم. كتوم لا يتكلم ولا يبين، وكتيم لا يمكن النفاذ إليه. المعلم غامض. والغموض بناءٌ وتوقّع وخيال. ذهولٌ وترقب وتوجس، وإرهاص للفاجعة التي ستأتيك. يجب أن تكون على قيد التأهب ومستعداً دائماً للأسوأ والأكثر فداحة! فغموض المعلم هو جماع غموضين: غموض الطبيعة الشرسة وغموض الحيوان الفتّاك. غموض المأسدة في الأجمة وغموض المستنقع في الدغل. غموض قوامه المفاجأة والاختطاف، فلا تعرف متى تأتيك العضّة المردية أو اللسعة المؤذية أو النهشة الممزِّقة.

زمن المعلم هو زمن سيادة الرعب التي يفرضها على كل ذرة في الوطن، وزمن سيادة الحيلة التي يلجأ إليها المواطن من كل بدّ، فالرعب قيد وإسار وتكبيل وشلّ وإحكام، وعلى المواطن أن يخترع كل صنوف الحيل ليضمن لنفسه الحدّ الأدنى من فكّ هذا الإسار والتكبيل. وأهم صنوف هذه الحيل الانغماس في اللاجدوى والارتماس في اللامعنى، والهروب إلى العماء، أو الانغلاق على النفس كمحارة، حين يمتد المعلم إلى كل شيء كأخطبوط.

أما الحيلة الأشد فظاعة فالارتماء في حضن الرعب نفسه فراراً منه، حيث يحرص هذا المرتمي بكل ذراته وملكاته وإمكاناته على أن يغدو هو بذاته معلماً في جملة المعلمين: الأستاذ والموجه والمدير في المدرسة، التاجر والصناعي في المتجر والمعمل، القاضي في المحكمة، الموظف في المكتب، وحتى الشيخ في دائرة الأوقاف والإفتاء. جميعهم يجهدون ويجاهدون ليغدوا معلمين، ويركبهم الحبور والسرور إذا ما خُوطبوا بكلمة معلم التي تعني أنهم صاروا ذوي حصانة وتميز، وأنهم دخلوا جنة المعلم الموعودة لكل زلمة من الأزلام. ورغم أنّ كلّ صنف منهم له سماته التي تميّزه عن بقية الأصناف فإنّهم يتزركشون في نسيج واحد، ويتداخلون في لحمته وسداه، ويتشكلون في بعد رابع، هو زمن المعلم الذي لا يشاركهم فيه باقي أفراد الشعب من نفس فئاتهم وأصنافهم.

المعلم ميتافيزيقياً

في لقاء تلفزيوني مع الممثل رشيد عساف حدثنا كيف أضحك السيد الرئيس عندما قصَّ عليه النكتة التالية، وهذا يعني أن هذه النكتة أجيزت وأريد لها أن تعمم وتشاع وتنشر:

شعر الرئيس المعلم في إحدى الليالي بضيق، فطلب من سائقه تجهيز السيارة لقضاء مشوار يروّح فيه عن نفسه. خرج المعلم مع سائقه وجال به في أنحاء المدينة، ثم امتدّ بهم المشوار إلى خارجها، وفي طريق العودة انتبه المعلم إلى نعس سائقه، وإلى رأسه الذي يخفق، فسأله:

ـ هل أنت نعسان يا ابني؟

ــ جداً يا سيدي.

ــ أوقف السيارة.

أوقف السائق السيارة، فأمره المعلم بالترجل والاضطجاع والنوم في المقعد الخلفي، واستلم قيادة السيارة، بينما غطّ السائق خلال ثوان في نوم عميق.

عندما وصل إلى القصر ذُهل الحارس وهو يرى المعلم يقود السيارة، وقال للحارس الآخر: افتح بسرعة بسرعة! المعلم وصل. المعلم وصل. ولدى دخول السيارة من البوابة سأل الحارس زميله: يا إلهي! إذا كان المعلم هو من يقود السيارة فمن هذا المضطجع في الخلف؟

أجاب الحارس: إذا كان المعلم هو السائق فلا يمكن أن يكون المضطجع إلّا الإمام علي!

وهنا ضحك الرئيس وسرَّ لهذه النكتة التي قالت بمنطوقها ومفهومها إنّ المعلم قد بلغ السدة، ولم يعد أمامه أحد سوى الإمام علي برمزيته الهائلة المتراوحة ما بين كونه إلهاً وكونه الإمام الأول أبا الأئمة، وعلى هذا الأساس يغدو المعلم ذا بعد ميتافيزيقي أيضاً.

وكما أنّه يُشار إلى الصادر الأول عن الألوهة في عالم الإشراق بــ: العماد، الجامع، حقيقة الحقائق، وجود الأحدية، العقل الأول، الروح الكلي، الروح الأعلى، الفيض المقدس، الفيض الكلي؛ فإنه أُشير إلى الصادر الأول عن الديكتاتورية بــ: المعلم الأول، العامل الأول، الأب القائد، القائد الخالد، الرفيق المناضل، الأمين العام، إلخ.

فالصادر الأول عن الديكتاتورية هو المعلم الأول المنزّه عن كل قيد في إمكانه، والمقيّد فقط بقيد الإطلاق، يشكّل مراتب عالم الإمكان كما يريد، ويسيطر عليه كما يشاء. فوجوده لا بشرط، كما يقول أرباب المنطق.

وعلى خلاف المشائين الذين رأوا أنه لا يصدر عن العقل الأول سوى تسعة عقول يطابق عددها عدد الأفلاك، فإنه فاض عن المعلم الأول معلمون لا حصر لهم وفق معادلة صارمة بين المعلم الأدنى والأعلى. فكل معلم أعلى هو قاهر للمعلم الأدنى، وكل معلم أدنى هو عاشق محب للمعلم الأعلى. أما أهم الفروق بينهما فهي أن المعلم الأدنى يتوق للسلطة بغية التنعم بثمارها وتحصينها بحسب موقعه ومكانته وإمكاناته، أما السلطة بالقياس إلى المعلم الأعلى فهي الغاية بحد ذاتها، وهي الهدف بتمامه وكماله، فلا بغية وراءها، ولا أمنية فوقها، وليست وسيلة لما وراءها.

من الحقيقة اللغوية إلى الحقيقة الأسدية

الكلمة حقيقة ومجاز. مجاز لخيال، أو وهم، أو استحالة، أو فنتازيا، أو ربما لحقيقة أعلى.

تتلاطم الحقائق في الكلمة، فتأخذها يمنة ويسرة ما بين حقيقة لغوية، وحقيقة عرفية، وحقيقة اصطلاحية، ولكن هنالك حقيقة لا تكتفي بلطم بقية الحقائق، بل تصفعها وتركلها وتسلح عليها، وهي الحقيقة الأسدية. الحقيقة العليا التي لا يضاهيها في علوّها مضاهٍ. فإذا كانت الإمبريالية هي أعلى مراحل الرأسمالية، فإن الأسدية هي أعلى مراحل الدكتاتورية، بل إنها روح الديكتاتورية المركّزة المصفاة القوية، تماماً مثل روح الخل الحارق الوخّاز. إنّها الديكتاتورية مرفوعة إلى أسٍّ، ومضروبة بنفسها مرات ومرات.

لقد وضعت الأسدية مفرداتها بكامل الوعي، واستعملتها بكامل التيقّظ، وحملتها على حقائقها المرادة بكامل الانتباه، وقدّمتها للشعب كحبات الزرنيخ المغلّفة ليبتلعها في غفلة ولا مبالاة، أو بإكراه وإجبار، ثم ظهرت آثارها عليه حروقاً وتشوهات، وصَرَعاً واختلاجات.

الحقيقة الأسدية حارقة، وكل ما فيها حارق: كلماتها ومصطلحاتها وتشبيهاتها وأوصافها واستعمالاتها، وكلهّا مركّبة تركيباً كيماوياً لتكون كذلك. المعلم يحرق حساً. يحرق البشر والشجر والحجر، وكلمة المعلم نفسها تحرق معنىً. تحرق الأعصاب. تحرق النفوس، والخواطر، والآمال، والأمنيات! تحرق الاستقرار. تحرق الحاضر والمستقبل!

لقد علّم المعلّم علينا وفينا بسكينه ومسدسه وتحقيقه وتعذيبه ومعتقله ومشنقته، وبمفرداته ومصطلحاته ولغته، وكان الكريّة البيضاء التي أخضعت الجميع لنظامه، ومن أبى غدا فيروساً توجب القضاء عليه بلا رحمة ولا شفقة، وما كانت تكتفي هذه الكريّة بمجرد الخضوع، بل أرادته خضوعاً مذِلاً، فبدون الإذلال هو مجرد استكانة ليست مستكينة بما يكفي. فالإذلال هو الضمان الوحيد لإنهاك الذات، وتجريدها من مركزها وتدويخها وتشتيتها والسيطرة على مقاليدها.

من أجل ماذا؟

من أجل أن يكون المعلم سقفاً يظلِّل الجميع، وبوطاً يعفس على الجميع.

*****

محمد أمير ناشر النعم: كاتب سوري مقيم في ألمانيا. تتركز دراساته وبحوثه حول الإسلام في نصوصه وتاريخه وممثليه، وواقعه المعاش، وآفاقه المستقبلية.

1. انظر: وسوم المعلم التحقيرية في التراث العربي الإسلامي

2. انظر: الأبديون الصغار في ظل الأبدي الأكبر

موقع الجمهورية

——————-

من هو الركيك؟/ رنا عيسى

في سنة 1871 تلاسنَ بشراسة كتّابٌ عرب كانوا قد أصبحوا مكرسين في الحقل الأدبي، حول مسائل لغوية تتعلق بما هو صحيح القول بالعربية. الشخصيات الأساسية كانت الكهل أحمد فارس الشدياق ضد الشاب إبراهيم اليازجي، وكان جدالهما يدور عمّا يُعتبَر أسلوباً كتابياً صحيحاً: كيفية كتابة بضع كلمات، ما هو المجاز وما هي القافية المقبولة، ومسائل في الإعراب تدور حول تحريك آخر الكلام تبعاً لقواعد اللغة. باختصار، كان النقاش الذي نُشر على حلقات في الجوائب، الصحيفة التي يملكها الشدياق؛ والجنان لمالكها بطرس البستاني، يدور حول ردّهما المتبادل لتهمة الركاكة في كتابتهما. جرَّ الشدياق في مقالته الثالثة اسم بطرس البستاني إلى أرض المعركة لسماحه بنشر مقالات اليازجي ضده، فقام الشدياق بفلت لسانه السليط على البستاني واليازجي واتهمهما بعدم معرفتهما الكافية باللغة العربية، ممّا هو متوقع من «نصارى بيروت».

بدأ الشجار عندما نشر الشدياق مرثاة في ناصيف اليازجي، اعتبرها الابن وقحة. قد يكون الشجار بدأ لأسباب شخصية، ولكن ما هو مؤكد أنه كَشَفَ عن صراع إيديولوجي على اللغة، بدأت معالمه تظهر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. لم يكن هذا أول تنافس لغوي بين هؤلاء الكتاب المؤسسين لعصر النهضة، ولكنه كان الصدام المباشر الأول حول كيفية التفكير بالفصحى كلغة معاصرة في متناول الجميع.

أتى هذا الشجار كتكريس بلاغيّ لأفعال لغوية كان قد ابتدأها البستاني والشدياق في أول حياتهما المهنية عندما كانا يعملان مع مرسلين إنكليز وأميركان في ترجمة الكتاب المقدس. في النصف الأول من القرن التاسع عشر، كان الشدياق قد باشر بالعمل مع المُرسَلين الإنكليز في مالطا وكامبريدج منذ سنة 1825، والبستاني كان قد أخذ بالعمل مع الأميركان في بيروت في أوائل الأربعينات. وفي سنة 1857 و1860 نُشِرت نُسخ متنافسة للكتاب المقدس كانا قد عملا عليها. بعد انتهائهما من عمل الترجمة، كتب الشدياق والبستاني في اللغة العربية، ونشرا دراسات ومعاجم أسست للنهضة كعصر تحديثٍ للّغة والآداب العربية، وتحضيرٍ للثقافة العربية للدخول في عولمة ثقافية مركزها أوروبا. أما إبراهيم اليازجي فكان ابن ناصيف، الذي عمل أيضاً على ترجمة الكتاب المقدس مع البستاني وعالي سميث، فمشى الابن على خُطا أبيه وعمل مع اليسوعيين على ترجمة جديدة للكتاب المقدس نُشرت سنة 1878.

بعد خروجهم من كنف المُرسَلين، أصبح هؤلاء المترجمون من رواد الثقافة العربية البيروتية المستحدثة وساهموا في تثبيت مكانتها الأدبية واللغوية منذ عصر النهضة. وضع هؤلاء الرواد أُسس اللغة الفصحى الحديثة، التي تشكل إلى الآن إطارنا اللغوي ووسائل التعبير على مدى قرن ونصف. الملفت في الشجار الذي نشرته صحفهم هو التمحور حول تناقضات فهمهم للركاكة كخطأ لغوي يجب تصحيحه، ليس فقط لتجميل النص وإنما من أجل صحة الوطن. فبلورتهم لمفهوم الركاكة، ورمي خصومهم بتهمة ارتكابها، يكشف عن مدى تغيّر الوضع السياسي للمسيحيين العرب في بيروت، سوريا؛ وتقبّل الحقل اللغوي لمساهماتهم وآرائهم في علوم اللغة العربية العريقة. أتاحت الركاكة لمسيحييّ النهضة أن يجترحوا مسافة تُبعدهم عمّا سبقهم من كتّاب مسيحيين من جهة، وأن يعيدوا من جهة أخرى تركيب علاقة ثلاثية مع اللغة: من خلال ربطها بالدين، وبالعامية، وبتاريخها كلغة يطغى عليها الدين الإسلامي وكتابه القرآن. تمحورت هذه العلاقات وصّبت في تكريس ثنائية الفصحى والعامية، واختلاق بعد تاريخي لها لم يكن موجوداً بالأساس في أساليب الكتابة المهنية والأدبية السائدة قبل عصر النهضة.

الطور اللغوي في المخيلة الوطنية

حصلت التغيرات التي طرأت على علوم اللغة العربية في سياق معرفي كان ينجرُّ بسرعة نحو العولمة، وسوق معرفي هيمنت عليه الترجمة من مصادر أوروبية اعتبرها الكتاب المحليون من أسرع المسارات لدخول الحداثة. لم تجاري المواقع الثقافية العضوية في العالم العربي سرعة المتغيرات الطارئة على السوق المعرفي آنذاك، خصوصاً في التغيير البطيء لأنظمة الرعاية والرقابة الثقافية التقليدية وعدم قدرتها على التنافس مع أشكال الإنتاج المعرفي المعولم و فضاءاته التكنولوجية واختصاراتها الزمنية. اعتمدت تلك الفضاءات على التكنولوجيات المعلوماتية والميكانيكية التي سهلت إنتاجاً ثقافياً سريع التوزيع وقابلاً للاستهلاك، كما بقية السلع المتبادلة والمتكاثرة عالمياً.

في المستعمرات، اعتمدت هذه الفضاءات على إدخال مكنات طباعة إلى المنطقة، كما على تكنولوجيات أخرى سهّلت عملية التخاطب العالمي، كالبريد وأنواع المواصلات الجديدة. بيروت كانت هكذا إحدى تلك الفضاءات، والعربية الفصحى كانت أيضاً موقعاً للفضاءات التكنولوجية المعتمدة. في خضم العولمة، كما لاحظ اسطفان شيحي1، أصبحت اللغة العربية الفصحى لغة سيّارة ذات قوة على توحيد الأسواق وتسهيل العمليات الاقتصادية والسياسية والثقافية، بالإضافة إلى العمليات السريعة الذي أصبحت ممكنة بعد جعل الفصحى لغة معيارية للسيران السياسي والاقتصادي المعولم. لقد وحَّدَت اللغة الفصحى مخيلة المجتمعات على قواعد واحدة ومعجم واحد. كان ظهور اللغة كفضاء تكنولوجي منتشراً في القرن التاسع عشر، وأصبحت اللغات إحدى الأدوات الأساسية لاجتراح الهويات القومية، من اللغة الصينية المندرية إلى الهندية، ومن السواحلية إلى التركية والعبرية أو الإنكليزية أو الفرنسية. تأصلت هذه الممارسات في ما يمكن أن نطلق عليه مصطلح الطور اللغوي، وهو عبارة عن بعد سياسي جديد للّغة نلحظ تناسله حول العالم في ذلك الزمن، وكان إحدى المقومات التي جعلت القومية تتأصل لغوياً في المجتمعات المحلية.

كما بقية اللغات، كان إنتاج العربية في القرن التاسع يعتمد على الطباعة على البخار، الأمر الذي تزامنَ مع امتداد أنواع معينة من الكتابة التي نعرفها اليوم بالفصحى. وكما حضارات أخرى، أصبحت الثقافة العربية تهتم بالنهج الأسطوري في معرفة التاريخ السحيق للحضارة، ذلك الذي لا يمكن أن يُحفظ في الذاكرة وفي العلاقة الفاعلة بين التاريخ القريب والحاضر. أدت هذه النزعة عند العرب المثقفين إلى قمع التاريخ القريب من خلال نعته بالانحطاط ، فسردية عصر النهضة تطالب بالتغلب على هذا الانحطاط من خلال استحضار تاريخ العباسيين الأدبي والاحتفاء به. سهَّلَت الفصحى هذا الانكسار في السردية التاريخية، كما أنها أسست لزمن أسطوري نهضوي يحتفي بالسلف الأدبي الصالح. ومعها نسي العرب أساليب كتابية كانت مغايرة وفضفاضة. انتشرت تلك الأساليب الفضفاضة، أو ما يسمى عند اللغويين بالمستويات اللغوية المغايرة، في الماضي القريب، بالتحديد في قرون الحداثة الأولى منذ القرن السادس عشر، فقام المثقفون الأوائل في عصر النهضة برفضها كنموذج سيء عن العربية، واتهموا كتّابها بأنهم بالكاد يعرفون أن يفكّوا الحرف. ظهر مفهوم الركاكة هنا كعورة. فاستعملوا الفصحى بدلاً عنها لتكملة الانكسار مع الماضي القريب. الكلام عن الركاكة كان منتشراً خاصة في أوساط الكتّاب المسيحيين الذين استعملوا المفهوم لإبعاد أنفسهم عن الكتّاب المسيحيين قبلهم. في القرن التاسع عشر، أصبحت الركاكة علامة تدل على الكتابة العربية المسيحية، في وقت كان المسيحيون يتمتعون فيه بمنفذ سبّاق إلى جمهورية العرب الكتابية. التغيرات التاريخية الطارئة على وضع المسيحيين، وتحسّن دخولهم في الحقل الأدبي، أدى إلى تغيرات في آرائهم بالعربية.

إن جدال 1871 بين بيارتة سوريا، هؤلاء الذين كانوا قد ترعرعوا في كنف عائلات كاثوليكية متعلّمة، يُظهر كم أن الركاكة كانت حصيلة رغبتهم في دخول الحقل الأدبي من بابه الأوسع. كان رجال الثقافة في ذلك الوقت قد تلقوا تعليمهم بطرق كلاسيكية متشابهة، وعاشوا في المنطقة نفسها في ضواحي بيروت في منطقة الحدث. وكان القدر المتربص بهم ينتهي بطموحهم بالعمل كناسخين وورّاقين عند أمراء المنطقة. عندما كبروا، كانت الحياة قد دارت، فوجدوا أن خياراتهم قد زادت مع دخول المُرسَلين المسيحيين إلى المنطقة، فعملوا معهم وترجموا كتبهم الدينية وعلّموا في مدارسهم. بعد ذلك، تشعبت طرقهم وأصبحوا يتعاطون الكتابة في أماكن مختلفة من العالم، وتحت أنظمة رعاية مختلفة تتنافس مع بعضها في الثقافة والسياسة والاقتصاد. فالعمل مع الإدارة العثمانية كان يختلف عن العمل تحت وصاية الأميركان أو الفرنسيين.

في إحدى أوجهه، كان مفهومهم للركاكة يتوسط هذه المنافسات، ويمكن أن يُظهرها لنا في بعض أوجهها. إحدى معاني الركاكة كانت متعلقة بالشدياق، الذي كان في ذلك الوقت تحت رعاية اسطنبول المادية. حدَّدَ الشدياق الركاكة في الاختيار الدقيق للمفردات، في خضّم حقل أدبي متعدد اللغات، وحيث الكلمات تتبدل وتندمج في العثمانية والفارسية والعربية بدون روادع كبيرة. في الضفة الأخرى، كان البستاني، الذي له أصدقاء إفرنجيون من المُرسَلين، وكان يعمل كمترجم في القنصلية الأميركية. البستاني كان مهتماً بعربيةٍ دقيقةِ القواعد، لا تُعرَب على قواعد لغة دخيلة. وبينما تتطلب المفردات الدقيقة تميّزاً منضبطاً، يفرض الانصياع للقواعد انضباطاً حسابياً في أسلوب محدد مسبقاً. في اختلاف التعريفين، تنافست طريقتان في التعامل مع الخطأ اللغوي، كلتاهما تنبثقان من كاتبين مسيحيين يتخيلان علاقتهما بلغة قوم تعتزّ بكونها لغة مقدسّة للقرآن.

ليس السجال حول «الخطأ» جديداً في اللغة العربية، فبعد تكريس الفتح الإسلامي للعربية كلغة مفضلة للسياسة والثقافة والاقتصاد في الإمارات العباسية، ومع دخول قوميات تحمل لغات أخرى إلى جانب العربية، انكبَّ اللغويون العرب على البحث عما سمّوه «اللحن» في الاستعمال اللغوي لأخصامهم العلماء. فإذا برهنوا أن هناك لحناً قاموا بالتشكيك في قدرة الكاتب على الاشتباك الفكري معهم، لا سيما فيما يتعلق بمواضيع دينية وفلسفية ولغوية. وهكذا، أصبح اللحنُ الشكلَ اللغوي لرفض دخول فرد إلى المجموعة، فعربيته ليست أصيلة بما يكفي لتخوله أن يكتب في شرائكها ولغتها وقرآنها. ما يميز مفهوم الركاكة في عصر النهضة عن مفهوم اللحن أن استعماله لم يقتصر على إخراج من ليس بعربي اللسان منذ الطفولة من المجموعة، ولكنه امتدّ ليحدّد من له الشرعية بين العرب للكتابة والتفكير في أسس اللغة والمجتمع والدين تحت المظلة العثمانية وتغيُّر العلاقة مع أوروبا. التغيير الذي نجده في النهضة هو تغيّر طائفي، بمعنى أن المسيحيين من الكتّاب كان لهم الرأي الحَكَم في هذا الموضوع، على خلاف العصر العباسي الذي كان يحكمه التمييز القومي، الذي فاضل العرب على جميع الأقوام المحكومة لهم. فالركاكة، كاللحن، واسطة للفهم التاريخي للتغيّرات المستجدة على اللغة والسياسة، وهي تختلف عن اللحن في كونها ترصد صعود مجموعة دينية من الهامش لتصبح الحَكَم الأساس في وضع الركيزة الأدبية لتاريخ الأدب العربي.

بعد دخول المُرسَلين إلى بيروت في ثلاثينات القرن التاسع عشر، وفي خضمّ التحولات الهائلة على الصعيدين السياسي والثقافي والاقتصادي التي رافقت وجودهم، كان أول جيل من كتاب عصر النهضة قد عدل عن مهنة النسخ التي كانت تطلبها الكنائس والأقسام الإدارية في السلطنة العثمانية، والتي كانت تنتظرهم ليتحولوا إلى مثقفين: متعهدين أدبيين يبيعون ما يكتبون ويقتاتون منه. هذا التحوّل، من الحماية العثمانية المحلية إلى حماية أجنبية، فتح لهم أسواقاً أدبية وعلاقات جديدة، وعرّفهم على أنواع جديدة من الممارسات والفضاءات الأدبية. استغلَّ هؤلاء الكتّاب القوة المالية المُعَولمة للمُرسَلين، كما استغلّوا الاحتلال المصري لبيروت، وبعد ذلك الأشكال التي أخذها الاستعمار الفرنسي في ذلك الوقت مع العناية بعدم قطع الحبل مع الدولة العثمانية بالرغم من ضعفها المتسارع. استغلَّ الكتاب هذا التعدد والتنافس على رعاية ودعم الأعمال الثقافية لبلورة مشروع أدبي وكتابي حديث. أما في المنحى الآخر، فقد طرأ جديدٌ على المنهجية الفيلولوجية التي تحولت عن تاريخها التقليدي الطويل في الدراسات اللاهوتية، لتهتم أكثر باجتراح منهجيات أدت إلى تطوير حقل النقد الغربي فيما بعد.

ولو مواربة، اضطر الكتّاب المسيحيون الطامحون بأن يصبحوا الفقهاء الجدد للّغة العربية، وأن يعبروا عن موقفهم في جدال لغوي كان قد بدأ مع الأشعريين والمعتزلة منذ ألف سنة تقريباً، في القرن التاسع؛ والذي كان يسأل إذا ما كانت اللغة مقدّسة كونها لغة القرآن. في أعمال الشدياق والبستاني واليازجي في فقه اللغة والمعجمية والقواعد والأدب، نجد طرقاً مختلفة لمحاولة الإجابة عن هذا السؤال في طروحات عن ماهية الحداثة وكيف نكتب عنها نحن الذين نشأنا في كنف الإسلام وهيمنته اللغوية؟ على السطح تبدو جدالاتهم اللغوية -كتلك التي دارت حول من هو الركيك بينهم في سنة 1871- خالية من أي فروقات جوهرية تُذكر. ولكن على المحك، كانت علاقة اللغة بالدين وبلورة مفهوم حديث للغة قد تزامنت مع النزاع الطائفي الذي أدى إلى المجازر المرتكبة ضد المسيحيين في حلب وجبل لبنان ودمشق سنة 1860.

الركاكة والنهضويون المسيحيون

لم ينشغل المسيحيون بالركاكة في الحداثة الأولى  التي تلت عصر الإصلاح الكنسي والفتح العثماني للمشرق. في تلك الحقبة، جاورت الأسلوبَ الكتابيَ الفصيحَ مستوياتٌ أخرى من اللغة كان يجوز استعمالها كتابياً. يعرف اللغويون هذه الأساليب بـ «اللغة الوسطى» كونها ليست تماماً عاميّة، كما أنها ليست فصحى. كانت اللغة الوسطى عبارة عن لغة كتابية تختلف عن الفصحى في كونها لا تتبع قواعداً مفروضة ومُجمعاً عليها مسبقاً، وإنما تقوم على التغاير والفرق. كما يُبيّنُ الباحثون والمؤرخون كمديحة دوس وهامفري دايفيس وجيروم لانتان وغيرهم، كانت هذه اللغة متداولة بين جميع أطياف المتكلمين بالعربية وبين جميع الطوائف في بلاد الشام ومصر. مع ذلك، يصر بعض الباحثين مثل جوشوا بلاو وجاك غراند هنري على أن هذا التغاير اللغوي كان أكثر انتشاراً عند فئات تنتمي إلى الأقليات منها إلى المسلمين، فكتبَ بلاو عن وجود لغة عربية مسيحية ويهودية خاصة تميزت أدبياتها بعدم اهتمامها بالقواعد التقليدية للغة المكتوبة.

إن أحد أسباب هذا الفرق بين الأقليات والمسلمين من العرب هو اعتماد الأقليات على الترجمة في إنتاج حقلهم الأدبي. ويعتمد توظيفهم للعربية على الدور التاريخي الذي تقوم به الترجمة في مرحلة معينة. فنجد في العصر العباسي أن المسيحيين قد نشروا نصوصاً تتّبعُ بدرجة عالية الأسلوب الكتابي الفصيح في نصوص علمانية لا تتكلم عن الدين. كما أننا نجد في ذلك العصر مترجمين لم يهتموا بتدجين نصوصهم في عربية فصيحة. وفي بداية العصر الحديث أيضاً كانت النصوص المسيحية، أي تلك النصوص التي لها قيمة دينية عند المسيحيين، تستعمل الأسلوبين. هكذا كان الحال في الأسلوب الانتقائي الذي استعمل في ترجمة الكتاب المقدس إلى العربية في روما سنة 1671، والذي يعرف بـ «البيبليا ساكرا أرابيكا». كتب مترجمو هذا الإنجيل في المقدمة: «في هذا النقل العربي تجد شيئاً من الكلام غير موافق قوانين اللغة بل مضاداً لها كالجنس المذكر بدل المؤنث والعدد المفرد بدل الجمع والجمع بدل المثنّى والرفع مكان الجر والنصب في النصب والجزم في الفعل…. فكان سبباً لكل هذا سذاجة كلام المسيحيين فصار لهم نوع ذلك اللغة مخصوصاً. ولكن ليس في اللسان العربي فقط بل وفي اللاتيني واليوناني والعبراني.»2.

كان هذا إشهاراً باستعمال لغة ساذجة دالة على هوية مسيحية، تكوَّنت في سياق تاريخي قائم على نظام الملل الذي وضعه العثمانيون بعد احتلالهم للمشرق سنة 1516. كان هذا النظام يسمح للأقليات أن تدار من خلال كنائسها وشيوخ دينها، شرط أن يدفع هؤلاء الضرائب للعثمانيين، بعلاقة مالية تسمى الحصاد الضريبي (ولا تختلف كثيراً عن العلاقة المالية التي تفرضها الحكومات العربية اليوم على شعوبها) حيث يعمل الشعب، وتحصد الحكومات الربح دون منفعة للعامل. في نظام الملل، كانت المؤسسات الدينية تعمل كوسيط بين الدولة العثمانية والعامل. بالمقابل، سمحت إستانبول لتلك الملل أن تعيش باستقلالية وأن تسيّر أمورها حسب قوانينها الداخلية. ينعكس هذا الوضع العثماني في سياسة لغوية انعزالية عند المسيحيين في كتابتهم للعربية، ليس فقط بالخروج عن القواعد، ولكن في حالات خاصة استعمال الخط الكرشوني لكتابة العربية. فأضحت طرقهم الكتابية تفصلهم عن السائد، في مجاراة لسياسات العزل الاقتصادية والسياسية التي شكلت علاقة الأقليات بالمجتمع العربي ككل.

مع تغيّر أحوال المسيحيين في عصر النهضة، تخلى كتّابٌ ترعرعوا في ظل الزمن القديم عن عزلتهم اللغوية وغامروا ليصبحوا من أهم اللغويين العرب في العصر الحديث. ويمكن رصد هذا التحول عند جميع أبناء الجيل الأول من كتاب النهضة، بعدما تعرفوا على المبشرين الأجانب وعملوا معهم وترجموا أناجيلهم. تشكلت في هذا الجيل مثالية لغوية تقدّس الفصيح، فتجذرت في الوعي المعاصر ومحت أي ذاكرة لغوية تخالف هذا التوجه الصارم في التعامل مع الكلام المقبول كتابياً. كلغة مقدسة، أصبح الاهتمام بالفصحى ينصبُّ على قواعدها واصطلاحاتها المعجمية، وليس على ما يُتناقل بها من أفكار. هكذا ابتدأ النقد الأدبي حياته المهنية: ملاحقة وتوبيخ الكتاب الشاذّين في الإعراب والقواعد، والذين سوّلت لهم أنفسهم استعمال كلام عاميّ.

راجت هذه الفصحى الصارمة بين أواسط الكتّاب المسيحيين، الذين صبّوا اهتمامهم في إعادة تشكيل هوية جمعية قادرة على تخطي الترميز الطائفي. هذا لا يعني حتماً أنهم علمانيون كما الاعتقاد السائد، وإنما لأن نجاحهم في الفصيح سمح لهم بأن يصبحوا المشرعين الأدبيين الأساسيين في كلام العرب. تبلور هذا الاهتمام بالفصيح في نصوص جارت الذائقة المسلمة المسيطرة على المُكرَّس اللغوي، فاختار الكتاب المسيحيون أشكالاً أدبية تخصَّصَ بها المسلمون دون غيرهم كالمعجمية والمقامة3. ومن خلال الطباعة الحديثة، انتشرت تلك النصوص بسرعة بين القراء بأعداد كبيرة. اقترنت هذه القدرة التكنولوجية القائمة على عملية صف ميكانيكي للكتاب بنظرة ميكانيكية، مهمتها إنتاج لغة عابرة للّهجات وفعّالة اقتصادياً. إن أول من انتبه لتلك الفعالية كان المُبشّر عالي سميث، الذي أشرف على مشروع ترجمة الإنجيل المنشور سنة 1865.

في طرحه لمشروع الترجمة عند رؤسائه في بوسطن، تكلّمَ سميث عن الإمكانية الاقتصادية الكامنة في العربية الفصحى، فكتب: «هذا المشروع هو من أجل جنسٍ جزءٌ قليل منه فقط هم مسيحيون: ولذلك كنّا على حذر من أن نسجل مفردات كثيرة حاضرة عند المسيحيين بمعنى لا يشرعه المحمديون في استعمالهم للّغة كيلا تعطي استعمالاتنا فكرة خاطئة للعقل المحمدي»4. إن رغبة سميث بأن يكون المسلمون من قرّاء كتابه المقدس غيّرت وجهة الكلام المسيحي عن سمة السذاجة المعتمدة في نصوصهم، وراهنت على أعداد المسلمين في اجتراح سوق مشترك لما تنتجه المطبعة السورية التي كان يرأسها.

بطرس البستاني، الذي عمل مع سميث على الترجمة، كان أيضاً يفضّلُ الأسلوب الفصيح. المحفز عنده لم يكن فقط الفعالية الاقتصادية في نشر الترجمة، فاهتمامه الأساسي كان نابعاً من التوظيف السياسي الذي تسمح به الفصحى. في دفاعه عن الفصحى، حدّدَ البستاني الأطر التي يجب للكتاب العرب اتباعها في تفعيلهم للّغة الكلاسيكية، فكتب في خطبته الشهيرة في آداب العرب أن المعجم العربي يجب أن يُشذَّب للتخلص من الكلمات العتيقة، ولكن القواعد يجب أن تبقى على حالها للبقاء على التواصل اللغوي والأدبي عبر التاريخ. فالعربية، كما جادل، يجب أن لا تصبح كاللاتينية: «لغة العلماء وأصحاب التفتيش»5. فالحل عند البستاني يتطلب عزل اللغة الدارجة عن الكتابة، ولكن بعد الاستجابة لنزوع الناس إلى البسيط في الكلام والأسلوب. لذلك، كما جادل، يفترض على لغوييّ عصره بأن يعملوا على تبسيط اللغة من خلال تشذيب المعجم، مع المحافظة على القواعد لأن القواعد تضمن التواصل اللغوي بين قرّاء اليوم والنصوص المكرسة في التراث، خصوصاً الكتب الدينية المهيمنة على اللغة. راهنَ البستاني على قدرة القواعد على مد جسور تسمح بالتعرف على المخزون الثقافي العربي، وخاصة الديني منه، كما تدل استعارته المواربة لتاريخ محاكم التفتيش الأوروبية في القول. بغض النظر عن فشل هذا الرهان كما قُدِّرَ لنا أن نختبر – فالقواعد اليوم لا تساهم البتة في إنارة العقول وتعريف البشر بمخزونهم الديني والثقافي- تبقى أهمية البستاني في نجاحه في فتح فضاء لغوي يضم الصوت المسيحي إلى الجدالات على اللغة وسياساتها.

كان البستاني ينظر إلى دوره كوسيط ثقافي يترجم الثقافة الغربية والمسيحية لمجتمع عربي ذي أكثرية مسلمة، وكمصحح لغوي وأدبي تنبري مسؤوليته على مجابهة وباء الركاكة الذي وجده منتشراً في الكتابات الأدبية، والذي كان بالنسبة له مؤشراً على الانحطاط الاجتماعي الذي سيؤدي إلى محاكم تفتيش إسلامية. البستاني كان يرى أن الشعب أميّ: أغلبهم لم يقرأ إلا الزبور أو القرآن، وهو، بأحسن الأحوال، مطّلع على بعض القصص الشعبية. الخواص يتحملون المسؤولية الأكبر لهذه الأميّة، حتى بينهم يصعب «أن نجد أحداً من أبناء العرب يمكن أن يشار إليه بالبنان بأنه يعرف لغته وقواعدها حق المعرفة»6. جسَّ البستاني النبض اللغوي في قلب القواعد، وصمَّمَ الإطار الذي دخلت فيه النقاشات على العربية عند الأجيال المقبلة من كتاب النهضة، وأسَّسَ لما يعرف بالفصحى الحديثة.

كان البستاني خائفاً على مصير العربية، يسكنه القلق الذي رافق وصفه للمجتمع بالانحطاط وإشارته لدور المُرسَلين في المثابرة على دراسة العربية. العربية كانت في خطر النسيان، ولكنها كانت أيضاً تواجه خطر دخول المفاهيم الغربية عليها. في خطبة آداب العرب، التي ألقاها البستاني قبيل سنة المجازر في جبل لبنان ودمشق وحلب عام 1860، حذَّرَ من أن استعارة مفردات غربية «سيقتل لغة الأم». بعد اندلاع الحرب، وفي سلسلة منشورات معروفة بـ «نفير سورية» وُزِّعَت مجاناً، شدَّدَ البستاني على أهمية تدريس اللغة للقيام بالوطن من البربرية، فطالب أبناء وطنه أن يتعلموا من المُرسَلين ويبذلوا المجهود في تعلم اللغة؛ «وأن نرى الأجانب الذين يرغبون خير البلاد لا صوالحهم الذاتية يتفقون على تعليم ما يعلمونه لأبناء الوطن بلغة البلاد أي العربية»7.

يتذكر الباحثون البستاني اليوم لمثابرته على حثّ الناس على العلمانية في وطنه في منشورات نفير سورية، ولكن اهتماماته اللغوية تكشف عن مفهوم شديد التعقيد للعلمانية. في نتاجه الموسوعي في اللغة العربية، خاصة في معجمه محيط المحيط تنكشف إشكالية الدين وعلاقته بالهوية السياسية من خلال بلورة تعريفات جديدة للمفردات التي سيضمها القاموس الحديث. من خلال عمله، أوجد البستاني مساحة لغوية تستوعب التعابير والثقافة المسيحية. والقاموس المنجز قدَّمَ نفسه كمعجم عام للغة العربية يقوم على تدخل ممنهج في تغيير مسار تاريخ العربية اللغوي. يهمشُ التاريخُ الجديد الذي يقترحه البستاني الأسطورة اللغوية التي وَضعت مُجملَ أصل الكلام العربي ونشأته في الجزيرة العربية. إذا قرأنا معجمه نجد أصولاً مغايرة تفتح العربية على اللغات المشرقية الإنجيلية، من السريانية والعبرانية إلى الإغريقية والرومانية. حاججَ البستاني بأن هذه اللغات تسهب في أصول تاريخية أدق للعربية. تتلخص من هذا التاريخ نقطتان: الأولى تعرقل حتمية الرجوع إلى القرآن لإيجاد حلول لمعضلات لغوية، كما كان سائداً من قبل عند المعجميين العرب الذين توارثوا الأساطير الأولى عن نشأة اللغة العربية في الحجاز8؛ والنقطة الثانية تفترض أن العرب تعلّموا الحضارة والمدنية على يد المسيحيين المشرقيين، بعد أن فتحوا بلادهم في القرن السابع. في محيط المحيط لم تنفصل اللغة عن الدين، بل توسعت لتستقبل الفكر الأقلوي الذي يفهم العلمانية بكونها صراعاً طائفياً ومنافسة على تاريخ العربية اللغوي بين أسطورتين، مسيحية ومسلمة.

في ذلك الوقت، قدَّمَ الشدياق نقداً قاسياً لعمل البستاني اللغوي، لعدم قدرته على تخطي السطوة الدينية على اللغة. في 1871، قلَّلَ الشدياق من قيمة أفكار منافسيه بنعتهم بمجرد مترجمين لأفكار غربية يغطون على قصورهم الإبداعي من خلال تفريغ الكلام المستعمل من المعاني؛ «فإني أرى أكثر الذين تعلموا اللغات الإفرنجية من أبناء العرب المسيحيين صاروا يخالون أن يجعلوا العربية تابعة لتلك اللغات»، فهُم ينسخون التعبيرات الغربية ويكتبون بصيغ معقدة لا يمكن أن يطلق عليها اسم الكلام، وإنما هي اصطفاف لمفردات. شهَّرَ الشدياق بالهوية المسيحية لمنافسيه، وردَّدَ ما كان قد أصبح رأياً نمطياً بأن المسيحيين العرب لا يعرفون القواعد اللغوية السائدة. في جلافة اتهامه بأن الهوية الطائفية هي المحفز المضمر للكتاب البيارتة، وضع الشدياق مشاجرة 1871 في إطار الشحن الطائفي الذي كان باقياً بعد عشر سنين من اندلاع الحرب الأهلية، واتهمهم بالخروج عن الطاعة العثمانية. كان الشدياق يحاول كسب المعركة اللغوية بفتح عين الرقابة المنشأة حديثاً على جرائد منافسيه وكتاباتهم9.

كان الشدياق قد أخذ الإسلام له ديناً في تونس سنة 1860 بُعيد انتقاله لإسطنبول في خريف العمر، وفي خضمّ حرب الجبل. هذا لا يعني أنه كان قد أصبح مسلماً ملتزماً، وكما ناقشت في مكان آخر أن نقده لكتاب مكرسين وفقهاء من التراث الإسلامي  يُظهر أنه لم يعتنق الإسلام كإيمان. ولكن إسلامه كان تأكيداً على التزامه العميق بالتبحّر في التراث الإسلامي الأدبي في اللغة وعلم الكلام. في أعماله اللغوية، ثابر الشدياق على فصل دراسة اللغة عن العلوم الدينية، وأكَّدَ مراراً على الأصول الإنسانية للغة وعلى الديناميكية التاريخية التي تجعل الصيرورة اللغوية في تحول دائم10.

ولكن إسلامه لم يكن  منفصلاً عن مآلات الأمور في الجبل، إذ نراه يعمل أيضاً بالاتجاه المعاكس، فهو، كما باقي الكتاب في تلك الحقبة، نظر إلى الحقول اللغوية والأدبية من موقع سياسي يربط الأسلوب الكتابي بالرِهان السياسي. حدَّدَ الشدياق تاريخ مفهوم الركاكة في مقالة نشرها في الجوائب على أنها تأتي من صوت المطر الشحيح الذي بالكاد يغذّي الأرض، فالركاكة هي الكلام غير المغذي معنوياً. ولكنه عندما استعمل المفهوم ضد البستاني واليازجي بقي هو أيضاً في إطار الأسلوب الكتابي الذي يشرّع لمستويات كتابية دون غيرها. لم يناقش أفكاراً. اتهم الشدياق مسيحيي بيروت بأنهم يفضلون اللغو على الكلام البسيط المفهوم. في إبرازه الموقع الطائفي لمنافسيه وربطه بالمستوى اللغوي المستعمل، لم يتطرق الشدياق لأفكار ركيكة، وإنما لعدم قدرة الكتاب البيروتيين على كتابة صحيحة فصيحة، وكأن معيار الالتزام المسيحي بالخط العثماني يُقاس بمدى خروجهم إلى الفصحى، وليس بأفكارهم ومفهومهم للوطن.

المشاجرة الصغيرة في سنة 1871

بدأ اليازجي شجاره مع الشدياق للدفاع عن شرف أبيه اللغوي. كان الشدياق قد رثى  الأب في جريدته الجوائب. وفي سياق المقالة، يلوم الشدياقُ الأبَ على وقوعه في خطأين لغويين في مرادفتين وردتا في مقامات ناصيف المجموعة في مجمع البحرين. يقول لنا اليازجي إنه كان قد بعث برسالة للشدياق يلتمس الصداقة قبل بضعة أيام من موت أبيه، فأتى الرثاء كأنه قطيعة مع الوالد و ابنه الوارث له. لغوياً، كان الشدياق يمثل التغاير في النظر إلى اللغة عن غريميه. كانت نظرته أقل تلقيناً وأكثر انتباهاً للتغيرات اللغوية عبر التاريخ. اهتمَّ الشدياق بالعاميّة، وكان يعتبرها مادة لغوية ذات أبعاد تاريخية تساعد على النظر في الصيرورة التاريخية للكلمات والمعاني. في هذا السياق، كان الشدياق يستشهد بعلماء اللغة الأقدمين ليبرهن عن تراث متفرع وطويل في دراسة العاميّة. الركاكة كما رآها ليست متعلقة بالمستوى اللغوي، بل بانتقاء الكلام الصحيح للتعبير. فمشكلته مع ناصيف لم تكن أن المتوفى استعملَ العامية، بل أنه استعملَ الكلمة الخطأ للقول المرتجى. ففي القصيدة التي مدحه فيها ناصيف، استعمل المتوفى كلمة الفحطل بدل أن يكتب ما كان يبتغيه، وهو استعمال كلمة من العامية البيروتية، الفطحل، بمعنى الرجل القوي، «بينما الفحطل معناها الزمن الكائن قبل الطوفان». تلك الركاكة وجدها الشدياق أيضاً عند البستاني في جريدة الجنان. الجريدة كما كتب، كانت تصدر عنها سياسة جملة وتفصيلاً؛ «جنانه مشحونة بالقدح الخفي في الدولة العلية»، واتّهمَ الشدياقُ صاحبَ الجنان بأنه كان يغطي على معاداته للعثمانيين بجعله مبهماً؛ «إن العلماء وأصحاب الرئاسة والسيادة لا يقرأون كلامه لسخافته وركاكته، جعل دأبه الطعن في الدولة بنوع من الألغاز والرموز تفشياً لما في خاطره منها. فإن أنكر أخرجنا له من تلك الجمل ألف شاهد عليه»11. في هذا الاتهام، الذي يجعل من الركاكة خطراً سياسياً يساهم في نقل رسائل مبطنة ضد الدولة، جعل الشدياق من اللغة والأسلوب اللغوي موضوعاً في صلب المعادلات السياسية الحديثة. ومن أجل مناقشة لغوية، استعمل الشدياق قربه من العثمانيين ليهدد البستاني بالرقابة على مطبوعاته. البستاني هو البادي «والمعتدي والمتهافت على الشر، لأنه هو الذي فتح باب الخصام والنزاع وأغرى بي ابن اليازجي وأعانه على السفاهة والتنديد، ولو كان ذا رشد لما جعل الجنان آلة لسفاهته»12.

نشر إبراهيم اليازجي في جريدة الجنان نقده للشدياق بهدف المدافعة عن أبيه وسمعته اللغوية. لم يعجبه أن الشدياق قد كتب في رثائه لناصيف يخطئه على استعمال كلمتين. فتهجم بدوره على الشدياق واتهمه بأن استعمالاته اللغوية لا تخلو من الركاكة. جادل اليازجي بأن الكاتب العجوز استخفَّ بمسؤولياته الوطنية في أعماله اللغوية. أفرد اليازجي ما اعتبره أخطاء في الإعراب، وفي السجع وفي النزعة لاستعمال العامية، كما باستشهاده من كلام الإفرنج، خصوصاً في كتابه سرّ الليال في القلب والابدال ولكن أيضاً في الساق على الساق. كما قال إن استعمال الشدياق للّغة لا يليق بكاتب مهمّ مثله: «فإني رأيت له في سرّ الليال من كلام العامة في مقام الاستشهاد شيئاً كثيراً حتى أنه قلّما تخلو منه مادة. ويجري هذا المجرى استشهاده بكلام الأعاجم فقد رأيت ألفاظاً كثيرة من اللغة الفرنسية والإنكليزية وغيرهما حتى صار يسوغ أن يقال إن جانباً كبيراً من الكتاب أعجمي. وناهيك ما هناك من الفائدة للعرب!! أثابه الله. ولولا خوفي أن يسقط شأن هذا المؤلف ويضيع افتخار صاحبه، زاده الله فخراً، لصرحت لك بأنه أحياناً يورد ألفاظاً من لغة أهل مالطة. فهل كل ذلك إلا دليل فضل واسع وعلم باهر»13.

بدلاً من الولوج في نقاش عن أفكار الشدياق في تاريخية اللغة وأصلها البشري وتغيراتها الطبيعية، اكتفى اليازجي بتصحيح اللغة على قواعد قديمة لا تنظر في التغيير اللغوي أصلاً ولا تراه. اليازجي رافضٌ لأفكار الشدياق اللغوية، وجلُّ ما يطلعنا عليه هو أن نظرية الشدياق اللغوية التي تقول بأن الأشياء الظاهرة تكون أصلاً للأشياء الباطنة، في علم المعاني، هو «يشبه البله» فهكذا، من خلال الركاكة، قوَّضَ اليازجي مفاعيل نظرية الشدياق التي تجعل من الإنسان الخالقَ الوحيد للغة14. أما الشدياق فلم يذكِّر خصمه بتلك الأفكار، واكتفى هو أيضاً بالمقارعة على أخطاء لغوية ضنينة لا علاقة بها وبمشروعه اللغوي الأساس. فاندفع الشدياق في المقالات الأخيرة إلى المقارعة على القواعد اللغوية، وخسرَ فرصة جذب المجادلة عن الركاكة إلى مشروعه النظري في سرّ الليال، فلم يلخص أفكاره ولم يستعمل الفرصة لإيصالها لقرّاء الجرائد. ورغم أن الشدياق أول من كتب في عصر النهضة عن التحول اللغوي وتاريخيته؛ وأول نهضوي استعمل مستويات مغايرة في اللغة للبرهان تحولات تاريخية؛ وأول من قارن البناء اللغوي بين العربية واللغات أوروبية، بقيت جوائبه خالية من تلك الأفكار في مقارعته لليازجي. حتى عندما دافع عن خياره في استعمال اللغة العامية في التفكير بالعربية، اكتفى بأن ينبه إلى أن قول العامة لا يعد خطأ إنما «هو لغة قليلة»، وهي على عكس «لغة معروفة صحيحة» ولكنه لا يستفيض ولا يشرح قصده من تلك المفاهيم15.

نجح اليازجي في جرّ الشدياق إلى الانصياع للركاكة كحكم يأتي من القواعد، وقادر على أن يكتم الكتابة المختلفة والأفكار المغايرة. وفي تركيزها على القواعد، حملت تلك المشاجرة بوادر مشروع لغوي متكامل يقوم على إصلاح الخطأ عند الآخرين. والخطأ، كما فهمه اليازجي، يكمن في فساد لغة العامة. لذلك وجب تصحيح كلام العامة من أجل الحفاظ على المصلحة السياسية والتمدنية للوطن. بقي العذر الوطني عذراً، ولم يتبلور في أفكار تنظر إلى العامة من خارج الإطار اللغوي لتحاكي مسائل ومسارات اجتماعية وسياسية. فبينما تَماحَكَ الشدياق واليازجي على إذا ما كان كلام العامة مشروعاً في التفكير باللغة، كانت العامة تتعافى من حرب 1860 الأهلية. يومها، كتب البستاني يستهجن الحرب والخسائر المترتبة عنها. الحرب كبّدت خسائر فظيعة مادية، بشرية و«أدبية»، لن يتجاوزها الوطن ويفتتح «عصراً جديداً لسورية» إلا من خلال الاهتمام والاتفاق «على تعليم ما يعلمونه -المبشرون- لأبناء الوطن بلغة البلاد أي العربية»16، فالقيام بالمجتمع هو القيام بلغته، ولغته هذه لن تكون لغة العامة، إنما فصحى تحترم التقاليد اللغوية والتراث البلاغي العربي.

وعلى نسق البستاني، قرَّرَ اليازجي أن يختزل العمل اللغوي بالقلم الأحمر وتسطير كتابات معاصريه تفتيشاً عن الخطأ اللغوي عند العامة. نشرت مجلة الضياء، التي كان هو مؤسسها، الكثير من تلك المقالات التصحيحية، أهمها جُمع في كتابين، كتاب عن لغة الجرائد وكتاب في القواعد. في أول مقال من سلسلة مقالات نشرتها الضياء سنة 1898، لامَ اليازجي الجرائد لإذاعتها الخطأ بين العوام. بدلاً من أن تسخّر الجرائد نفسها لنشر الآداب الحسنة والمستحبة لدى العامة، تجد «كل ما هناك خلل في أحوال الأمة والفساد في أخلاقها وآدابها مسكوتاً عنه، تكاد لا تذكره الجرائد». الجرائد بالنسبة لليازجي هي «المرآة التي تتجلى فيها صور» الأمة/ ولهذا كان مهماً له تنظيفها من «الخلط والهذيان والتكلم بألفاظ السكارى والحشاشين». في نقده للجرائد، وجد في قانون الرقابة الموضوع حديثاً شريكاً له، وكما كان الشدياق قد هدَّدَ به البستاني قبل عشرين سنة. فهذا القانون، كما رآه اليازجي، يقيد الصحافة لذلك هو «خير من الحرية فعسى أن تتمحض بعد ذلك للخير»17. إن الهوس بالركاكة كان قد أصبح مكرسآً عند كتاب عصر النهضة بعد ذلك، لدى اليازجي وغيره من كتاب سوريا ومصر وغيرهم. وفي السنين التي لحقت جدال 1871، أعيد إنتاج مفهوم الركاكة و لوحق الكُتّاب عبر أخطائهم اللغوية. فنجد مثلا كتاباً قد نشره سليم شمعون حفيد اليازجي وابن وردة، عن تصحيحات اليازجي على معجم البستاني محيط المحيط. شمعون يشرح أنه وجد الكثير من الإشارات على حواشي المعجم الذي كان بحوزة جده. ألهمت تلك الطلاسم الحفيد بجمعها في كتاب واحد و جعل من فكّها وفهمها مجهوده. إن ترويج شمعون لحواشي جده على معجم مهم، على أنها «تنبيهات» أو نقد جدي، يكشف السلطة التي تأطّرت في إصلاح الخطأ والهوس اللغوي الناتج عنه.

هكذا، أصبح العمل اللغوي والأدبي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في بيروت وسوريا موازٍ للشرطة الرقابية، وأصبح الشغل الشاغل للكتاب النهضويين أن يجهدوا في كبت كلام العامة وإخراجه من الحيّز العام على أساس أنه ركاكة. وأصبحت تهمة الركاكة فعّالة حتى في الحقل السياسي. تحوي مكتبة الجامعة الأميركية في بيروت عشرات من تلك الكتب والعناوين التي لاحقت الخطأ في كتابات الآخرين. يمكن أن نسمي هذا النوع الأدبي حركة النهضة التصحيحية. كانت هذه الحركة مغمورة بعلاقات القوة والطموح بمشيخة العربية. انتصرت الحركة التصحيحية وسياستها اللغوية التي تفهم الفصاحة من خلال الإعراب، وبنَت مكانتها الأدبية على نسيان الأساليب الكتابية المغايرة التي تواجدت في العربية منذ القرآن. في زمن الحروب الأهلية في جبل لبنان وسوريا، نَسِيت الحركة التصحيحية تاريخ اللغة الوسطى وربطت الركاكة بلغة العوام. كان لهذا الربط أبعادٌ ثقافية تجعل من حراس البوابة اللغوية رقباء على الكلام، يقبلون فقط بمن تغيّرَ عن العامة ولم يتكلم بصوتهم. وهكذا خسرت النهضة قدرتها على التفكير المجدي في اللغة، فالقلق على مصير العربية كان يغطي على الخوف من الخطأ، خصوصاً عند كتاب مسيحيين أتيحت لهم فرصة تاريخية بأن يتبوأوا مراتب لغوية مهمة في العربية، وأن يشكلوا حداثة العربية على ذائقتهم الأدبية. في تلك الأثناء، لم يتجذر قبول الشدياق بالخطأ: فلا هو دافَع عن نظريته، ولا جاء بعده من يرث فكره النظري، فأصبح لعبه اللغوي الفصيح وحيداً، وخسر بعض تفاصيله.

*****

رنا عيسى: أستاذة مساعدة في الترجمة في الجامعة الأميركية في بيروت. تهتم بعصر النهضة و تعمل على كتاب عن ترجمات الإنجيل إلى العربية في القرن التاسع عشر. نشرت عدة مقالات في تاريخ اللغة وكتاب من عصر النهضة كأحمد فارس الشدياق وبطرس البستاني، وكتبت أيضاً في الصحف العربية والنروجية عن الثقافة المشرقية المعاصرة.

1. S. Sheehi, Towards a Critical Theory of Al-Nahḍah: Epistemology, Ideology and Capital, Journal of Arabic Literature 43, no. 2–3 (2012): 269–98.

2. Biblia Sacra Arabica, 1671

3. حتى عندما كتب مسيحيون في هذه الأشكال، كان قرّاؤهم فقط من المسيحيين فلم يكتبوا لقراء مسلمين.

4. Cornelius Van Dyck Eli Smith, Brief Documentary History of the Translations of the Scriptures into the Arabic Language, 1900.

5. بطرس البستاني، خطبة في آداب العرب، بيروت 1859، ص 25.

6. بطرس البستاني، خطبة في آداب العرب، بيروت 1859، ص33.

7. بطرس البستاني، نفير سوريا، تحرير يوسف قزما الخوري، بيروت: دار فكر للأبحاث والنشر، 1990. (1860).

8. Rana Issa, The Arabic Language and Syro-Lebanese National Identity: Searching in Buṭrus al-Bustānī’s Muḥīṭ al-Muḥīṭ, Journal of Semitic Studies, Forthcoming 2016.

9. Donald J. Cioeta, Ottoman Censorship in Lebanon and Syria, 1876-1908, International Journal of Middle East Studies 10, no. 2 (1979): 167–86.

10. سرّ الليال في القلب والبدال، أحمد فارس الشدياق، 1860.

11. ed, 145.

12. ed, 143.

13. ed, 98.

14. ed, 111.

15. ed, 202.

16. بطرس البستاني، نفير سوريا، تحرير يوسف قزما الخوري، بيروت: دار فكر للأبحاث والنشر، 1990. (1860).

17. إبراهيم اليازجي، الجرائد في القطر المصري، جريدة الضياء، 1898.

موقع الجمهورية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى