مراجعات كتب

«ممالك النار»: مماليك طيبون وعثمانيون أشرار وعِبر ضائعة/ محمد تركي الربيعو

كما كان متوقعاً، أثار عرض مسلسل «ممالك النار» على شبكة قناة «أم بي سي» خلافاً ونقاشاً واسعاً بين المثقفين العرب. فالمسلسل الذي يتطرّق لقصة قدوم العثمانيين للمنطقة، وهزيمتهم للمماليك في مرج دابق قرب حلب عام 1516، بدا ومنذ لحظات الإعلان عنه وكأنه يروم إرسال رسائل سياسية أو فنية مضادة لرسائل موازية، وبالأحرى لبعض الأعمال الدرامية التركية، التي نجحت في سرد حكاية نشأة الدولة العثمانية وبداياتها، بأسلوب ملحمي وبطولي، وفق تعبير المؤرخ الفرنسي فرانسوا هارتوغ؛ كما تميّزت بأداء درامي عال، وبإنتاج ضخم.

ولعل هذا الأسلوب البطولي في الدراما، هو الذي حكم مسلسل «ممالك النار» منذ الحلقات الأولى، فالغازي سليم الأول (أو يوزز سليم/ الذي يعني صاحب المزاج الصعب)، يظهر ومنذ اللحظات الأولى طفلاً مولعاً بالسلطة والعنف، أهوج، يُدار من قبل حريم السلطان (والدته عائشة)، بينما يظهر الطفل توما (طومان باي لاحقاً/آخر سلاطين المماليك) بوصفه طفلاً وديعاً، تجبره الظروف على الالتحاق بتدريبات المماليك الصغار، الذين كانوا يُجلبون من بلدان مسيحية، ليصبحوا جنوداً أشداءَ.

ولم تقتصر هذه المقارنة، التي تبدو أنها تسعى لإجراء مقارنة تاريخية بين عثمانيين «أشرار» ومماليك «طيبين»، على هذا التصور الدرامي، وإنما ما لفت الانتباه أيضاً، الانتقاءُ المقصود في توزيع الأدوار، فالممثل السوري عبد المنعم عمايري، الذي لطالما عُرِف بأدائه لأدوار فكاهية في مسلسل «بقعة ضوء» بالأخص (وفي الغالب بدور بدوي يزور المدينة لأول مرة، ويتعرض هناك لعدد من المواقف وعمليات الاحتيال) يظهر في هذا المسلسل بدور سلطان عثماني، وربما بدا هذا مقصوداً من قبل المخرج وإدارة الإنتاج، كمحاولة لتقزيم هذه الشخصية، التي تبدو مع شخصية عمايري (النحيلة مع سحنة شديدة السمرة) شخصية مهزوزة، لا تحظى بثقة وجديّة لدى المشاهد.

قد يعيدنا هذا الأسلوب في الإخراج لأسلوب مخرج فيلم «مملكة السماء»، عندما اختار الممثل السوري غسان مسعود لأداء دور صلاح الدين الأيوبي، فيظهر القائد الأسطوري، الذي نُسِجت حوله القصص والحكايا، للمشاهد الغربي والعربي بصورة رجل كبير، نحيل، وكأنه مصاب بسوء تغذية، ولكن في حال تجاوزنا عالم الألاعيب الدرامية، فالمُلاحظ أن المسلسل ساهم وحفّز البعض على فتح النقاش حول صورة المماليك في بلاد الشام ومصر، وكيف حكموا في السنوات الأخيرة قبل قدوم العثمانيين للمنطقة، وما هي أسباب سقوطهم في الأساس؟ وكيف كانت عليه الأوضاع وأحوال العامة في الفترة الأخيرة لحكمهم؟ في هذا السياق، يمكننا العثور على ثلاث قراءات جديدة، عنيت بدراسة التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي عرفتها الفترة الأخيرة من حياة سلطانهم.

الأولى نجدها في كتاب «عصر سلاطين المماليك» للمؤرخ المصري عبده قاسم، الذي يُعدُّ من أهم مؤسسي مدرسة الدراسات المملوكية في مصر خلال العقود الماضية، إذ يرى المؤلف أن فترة القرن الخامس عشر من العصر المملوكي، شهدت تحولات اقتصادية وديموغرافية ضخمة تمثّلت في موجات الأوبئة المتكررة، التي أحدثت نقصاً في العمالة الحضرية، ونقصاً في عدد السكان، ما أدّى إلى صعود دور البدو، وانهيار نظام الري جراء غاراتهم المتكررة على الفلاحين، وعلى قوافل التجارة والحج، كما أن الخوف من الوباء، أثار الرعب في حياة الناس خلال تلك الفترة، ما أثر على حياة الناس ورغبتهم بتطوير واقعهم الاجتماعي والحضري، إذ يروي لنا المقريزي رواية عن شائعة سرت في أحد أيام الجمعة عام 1438 تقول بقيام الساعة في هذا اليوم، ما دفع الناس للهرولة إلى الحمامات العامة ليغتسلوا قبل أن يقضوا نحبهم، ثم لما أُغشِي على خطيب الجمعة في الجامع الأزهر أثناء إلقاء الخطبة، أصاب الناس الهلع إذ ظنوا أنه مات وأن القيامة ستقوم بالفعل.

في مقابل هذه الصورة المتشائمة، التي يراها البعضُ سبباً في زوال المماليك، هناك من قدّم صورة أكثر إيجابية، وأُشير بالأخص إلى دراسة المؤرخة المصرية أمينة البنداري «عوام وسلاطين»، إذ رأت أن هذا القرن لم يكن قرناً سلبياً بالمجمل، وإنما شهد دوراً أوسعَ للعامة، فقد بدأت تظهر في السرديات التاريخية أسماء رجال من الطبقات المجتمعية الدنيا. وعادة ما كان هذا الصعود يُقابَل بازدراء من العلماء المعاصرين، ما يوحي بأن هذا الحراك لم يكن باليسير أو السلس.

وفي دراسة أخرى تبين ايرميلي بيرهو من خلال دراستها لنحو تسعين من العوام، الذين وردت تراجمهم في كتاب «الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة» لابن حجر العسقلاني، أن صلة النسب وعلاقات الأسرة والشبكات الاجتماعية، كانت على أهمية بالغة في الارتقاء الاجتماعي، فعلى الرغم من أن المؤسسة الدينية كانت مفتوحة، ظاهرياً، للجميع، فقد كان هناك حدود للمدى الذي يستطيع بلوغه أي فرد من العامة. مع ذلك تُبيّن بيرهو أن العديد من أبناء العوام استطاعوا أن يرتقوا مراتب السلم الاجتماعي، ويصلوا إلى مراتب إدارية عالية، كما أن بعضهم انتقل إلى ميادين عمل أخرى غير تلك التي ورثوها عن أهلهم، إذ نعثر على سيرة جزار، قادته الأيام ليصبح فقيهاً ثم نائب قاض؛ كما تميزت هذه الفترة باندماج وانخراط أعداد أكبر من الطبقة العسكرية المملوكية في المجتمع، بعد أن كانوا منعــزلين في ثكناتهم في الروضة أو القلعة.

وبالتالي نعثر هنا على رؤية مختلفة للقرن الخامس عشر، بوصفه قرن التغيرات الأوسع في العصر المملوكي، خلافاً لمن وجده قرن الهزيمة وبداية انحطاط سلطانهم. في موازاة هاتين القراءتين، هناك بعض الباحثين، وبالأخص الغربيين، ممن انشغل بدراسة الأيام الأخيرة من فترة العثمانيين والمماليك، وقراءة مشهد ما قبل دابق، الذي يحاول مسلسل «ممالك النار» عرض صورة معيّنة عنه، وقد نشير هنا بالأخص لدراسة المؤرخ روبرت إروين أستاذ تاريخ القرون الوسطى في معهد الدراسات الشرقية في جامعة لندن، فقد حاول إعادة تجميع وتقميش صورة الأيام الأخيرة لما قبل هزيمة المماليك، من خلال عمل مؤرخ شعبي مملوكي (ابن زنبل الرمال) الذي كان شاهد عيان على هزيمة المماليك أمام العثمانيين، ليدوّنها في عمل تاريخي شعبي باسم «كتاب انفصال دولة الأوان واتصال دولة بني عثمان». يبدأ ابن زنبل عمله الشعبي بحوار بين السلطان ما قبل الأخير قانصوه الغوري، ورجل مغربي وصل حاملاً بندقيته إلى القصر. وأثناء الحديث سيطلب هذا الرجل من السلطان قانصوه الغوري بضرورة حمل السلاح والبنادق، وإلا سوف يهلكون.

بيد أن السلطان رفض ذلك، انطلاقاً من أنها أدوات مسيحية، وأنه سيواصل اتّباع سُنّة النبي، ورغم أن ابن زنبل، كما لاحظ إروين، أبدى تعاطفاً واضحاً مع فروسية المماليك المنكوبة، لكنه يؤكد أيضاً على عدالة قضية العثمانيين وتقوى سليم (خلافاً للصورة الوحشية الدرامية في المسلسل)، فهو يرى أن الأنذال الحقيقيين ليسوا العثمانيين، بل المماليك من أمثال خير بك وجان بردى الغزالي، الذين تعاونوا معهم. كما أن ابن زنبل كثيراً ما لجأ إلى اعتماد الأسلوب الشعبي المليء بالأساطير وقصص الخيال عن الأبطال، لا لكونه كان متأثراً بأسلوب السرد البطولي، بل لأن أدب القرون الوسطى المملوكية كان يعتمد أسلوب «تأدب التاريخ» ليتاح للجمهور وللساسة أخذ العبرة، بأسلوب أقرب ما يكون اليوم لأسلوب المسلسلات والدراما. فمثلاً، يروي ابن زنبل أن طومان باي، وقبل ملاقاته العثمانيين، عرف بأنه سيُهزَم، وأن من أخبره بذلك أحلامه، فبينما كان يتحضّر لملاقاة العثمانيين غفا، فحلم أنه يدخل في «وادي مشؤوم»، ثم بخمسة كلاب تهاجمه، وبعد قليل ظهر النبي ليخبره بأن قضيته خاسرة وسلالته هالكة. ما يلاحظه أروين أن هذا الأسلوب السردي في تفسير نهاية المماليك، خلافاً للصورة التي تُفسّر هزيمتهم باستخدام العثمانيين للبنادق، هو أن ابن زنبل ورغم أنه بقي وفياً للمماليك، فطومان ليس مجرد محارب، ولكنه أيضاً شاعر وصوفي ويذكّرنا مشهد إعدامه بحكايا شنق الحلاج الصوفي في القرن الرابع الهجري، لكنه من خلال حكايا الأحلام التي دفعت بطومان باي إلى إلقاء سلاحه في المنام، إنما كان يرسل أو يقصد بعث رسالة إلى العثمانيين، وكان على العثمانيين أن يتلقوها؛ فالأيام دول، وللتاريخ عبر، ولكل دولة وسلطـــان بداية ونهاية، ومما يبدو فإن العثمانيين قد تلـــقـــوها بجديّة، ولعل ما يؤكد ذلك هــــو ترجمتهم لكتاب ابن زنبل في وقت مبكر يعود لمنتصف القرن السادس عشر، قبل أن يعكف المفكرون الأتراك على دراسة نظريات ابن خلدون عن الظهور الدوري للأسر الحاكمة وانهيارها الحتمي.

وبالتالي تغدو رواية ابن زنبل، قصةً لا ترتبط فقط بسقوط المماليك، وإنما تُمثِّل عبرة للمثقفين والسياسة لتتنبأ بأعمار الدول وأحوالها في ذلك الوقت، بينما وجدها البعض اليوم فرصة للتعبير عن انحيازه الأيديولوجي والسياسي، ليس إلا، وليتهم يأخذون بالعبرة من هذه الحكايا في وقت تعيش فيه بلداننا تغيرات عميقة بدل التمترس هنا وهناك.

٭ كاتب من سوريا

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى