مقالات

أليس ووكر في قفص معاداة السامية/ صبحي حديدي


أليس ووكر قامة عالية في مشهد الأدب الأمريكي المعاصر، ليس بسبب روايتها «اللون الأرجوان»، التي صدرت سنة 1982 وصارت النظير الأفرو ــ أمريكي الأبرع لرواية هارييت سنو «كوخ العمّ توم»، 1852، فحسب؛ بل كذلك اتكاءً على منجز زاخر تجاوز الـ35 إصداراً، بين رواية وقصة قصيرة وشعر ومقالات.الجانب الوضاء الآخر في شخص ووكر، ولكنه مشكلتها الدائمة بالطبع، هو أنها تسبح عكس التيار المكرّس والسائد في بلاد العمّ سام؛ خاصة لجهة التعاطف مع الفلسطينيين، واعتبار دولة الاحتلال الإسرائيلي كياناً عنصرياً استيطانياً، والسفر إلى قطاع غزّة للتضامن ضدّ الحصار…

وهكذا حدث ويحدث مراراً أنّ المشكلة لا تطغى على القامة العالية في أوساط مجموعات الضغط الصهيونية أو اليهودية أو الأمريكية ــ الإسرائيلية، فتُنتهج وسائل عدّة لحجب ووكر أو تشويهها أو حتى تقزيمها، فقط؛ وإنما تتجسد، أيضاً، في مساعٍ منهجية إلى مصادرة حقوقها الأبسط. وقد تبدأ سيرورة التأثيم في نطاق التعبير عن الرأي والتنقيب في الضمير أوّلاً، ثمّ الانتقال بعدئذ إلى ميدان عجيب هو… مراقبة القراءة، ومحاكمة الذائقة، والسَوْق استطراداً إلى قفص الاتهام العتيق المقيم: العداء للسامية!

أحدث الوقائع شهدتها صفحات ملحق الكتب في صحيفة «نيويورك تايمز»، التي تخصص زاوية تستفتي شخصية عامة، ثقافية أو سياسية أو اجتماعية أو علمية، حول المؤلفات التي يضعها قرب سريره للقراءة. وعند سؤالها ضمن هذا الباب، ذكرت ووكر مذكرات الكمبودية سومالي ماي «درب البراءة الضائعة»، ورواية دانييل بلاك «السلام الأمثل»، ومجموعة مايا أنجيلو «ماما وأنا وماما»، ودراسة دافيد آيك «وتعرفون الحقّ والحقّ يحرّركم». وكانت الخيارات ستمرّ دون ضجيج خاصّ، فلا غرابة في لائحة كهذه من شخصية مثل ووكر؛ لولا أنّ الصحافي الأمريكي اليهودي يائيل روزنبرغ دبّج مقالة في موقع «تابليت» تتهم الصحيفة بأنها «نشرت توصية صريحة بقراءة كتاب معاد للسامية».

الكتاب المتهم هو «وتعرفون الحقّ والحقّ يحرّركم»، والعنوان اقتباس من إنجيل يوحنا، 8:32، وتهمته أنه يعتمد نظرية المؤامرة في تفسير الظواهر، وهو بالتالي يتهم اليهود بقيادة سلسلة من المؤامرات الكونية. «مفردة اليهودي ترد في الكتاب 241 مرّة، واسم روتشيلد يتكرر 374 مرّة. ليس على سبيل الاحتفاء، لأنّ الكتاب معادٍ للسامية بوضوح»، تشكى روزنبرغ في مقالته. كذلك سرد لائحة من سبع نقاط تدين آيك، بينها زعمه أنّ التلمود «في عداد أشدّ الوثائق عنصرية على وجه الأرض»، وأنّ المنظمات اليهودية كانت وراء تجارة الرقيق، وتقف خلف منظمات يمينية وعنصرية متطرفة مثل «كوك لوكس كلان»، وأنّ اليهود أنفسهم هم الذين يفتعلون أعمال العداء للسامية للاحتفاظ بموقع الضحية الدائمة…

وبصرف النظر عن صحة أو بطلان هذه القراءات لكتاب حافل، فعلاً، بكثير من العجائب والاستيهامات والفرضيات المنبثقة دائماً من وقوع مؤامرة ما، تديرها جهة ما، ليست دائماً يهودية كما يزعم روزنبرغ؛ فهل هذا يبرر مصادرة حقّ ووكر، أو آيّ آدمي، في قراءة الكتاب؟ المتهمة الأولى، محررة ملحق الكتب في «نيويورك تايمز» باميلا بول، نشرت تنويهاً دافعت فيه عن قرار الملحق بنشر خيارات ووكر؛ إذْ أنّ غاية الزاوية هي «أن تكون صورة قلمية عبر عالم قراءة هذا الضيف أو ذاك. ذلك لأنّ ما يختاره الناس للقراءة أو عدم القراءة، وأيّ الكتب يرونها ذات تأثير أو معنى، أمر يقول الكثير عن طبائعهم». كذلك نفت بول أن تكون قد ساءلت ووكر عن خيارها هذا تحديداً، كتاب آيك: «حين نحاور شخصاً ما، شخصية عامة أو زعيماً أجنبياً أو فناناً، فإننا لا نقول إننا نقرّ آراءه أو أفعاله. نحن نقول إنّ الشخص المعنيّ جدير بالمحاورة».

المتهمة الثانية، ووكر نفسها، ردّت بأنها لا تعتبر آيك معادياً للسامية أو لليهود، بل هو «شجاع بما يكفي لطرح الأسئلة التي يخشى الآخرون طرحها، ولإعلان فهمه الشخصي للحقيقة أياً كان الدرب الذي سوف تفضي إليه. ولهذا جرت محاولات كثيرة لفرض الرقابة عليه وإخراسه». وكان من غير المنتظَر أن تغفل ووكر نقطة جوهرية أخرى خلف العاصفة التي أُثيرت ضدها: «أعتقد أنّ محاولة تشويه سمعة آيك، وسمعتي شخصياً بالترابط معه، هي في الواقع جهد يستهدف التقليل من تأثير تضامننا مع شعب فلسطين»، وخاصة لجهة تأييد حملة مقاطعة دولة الاحتلال. هذا، تابعت ووكر، إلى جانب حقيقة ولعها بقراءة الأعمال الإشكالية، حتى أنها حاولت ذات يوم تصفّح كتاب هتلر «كفاحي»، فوجدته مملاً وطافحاً بتفاصيل مستفيضة من تاريخ ألمانيا.

تبقى مفارقة أنّ آيك، في مسألة السامية تحديداً، يتبنى وجهة نظر المؤرخ اليهودي ألفرد ليلينثال؛ الذي يساجل بأنه لا يوجد شيء اسمه «عرق» يهودي: أن تكون يهودياً، يعني أن تعتنق الديانة اليهودية، وهذه لا صلة تجمعها بالعرق، لأنّ شعوباً من أعراق لا حصر لها اهتدت إلى الديانة اليهودية على امتداد آلاف السنين، فخلقت بذلك «كوكتيلاً» من ينابيع مختلفة تسمّت باسم اليهود.

هيهات، بالطبع، أن يقتنع روزنبرغ بشهادة شاهد من أهلها؛ وإلا فكيف يبقى قفص معاداة السامية مفتوحاً، فاغراً شدقه، مسبق الاتهام والإدانة!

القدس العربي

لتحميل رواية «اللون الأرجوان» من الرابط التالي

اللون الأرجوان/ أليس ووكر

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى