ثقافة وفكر

«الاشتراكية في شخص واحد»: في حدود الانتفاضات الراقصة/ محمد سامي الكيال

«خرج اليسار الجديد من خصر إلفيس (بريسلي) المتراقص»، إنها عبارة لجيري روبن، الناشط الأمريكي المعروف في الحركة المعادية للحرب في الستينيات والسبعينيات، بالنسبة لروبن فإن مواجهة النزعة الانضباطية للرأسمالية، المولّدة للحرب والاستغلال، لا يكون إلا بتجاوز منطقها ذاته، فيجب على الثائر أن يكون مرحاً، منطلقاً وشديد الاهتمام بخصوصيته وفرادته. إنها «الاشتراكية في شخص واحد». بمثل هذا المنطق اقتحم روبن ورفاقه مؤتمر الحزب الديمقراطي الأمريكي عام 1968، ليعلنوا احتجاجهم على المجتمع البورجوازي بأكمله، إلا أن روبن لم يقض بقية حياته في الرقص، فقد أصبح مليونيراً ذا نزعة يمينية في أواخر السبعينيات.

كان لهذا الخطاب خلفية اجتماعية وفكرية متينة آنذاك، حين نشأت، بفضل التصنيع والتحديث، وما رافقهما من سياسات اجتماعية، طبقة وسطى واسعة، تمرّد شبابها على المؤسسات الانضباطية للمجتمع الصناعي، وما يلازمها من تعبيرات سياسية، مثل الأحزاب والنقابات. الرغبة بالتفرّد ترافقت بنزعة استهلاكية قوية، فأسلوب المرء في استهلاك السلع المادية والثقافية، أصبح أساس تميّزه عن الآخرين، في حين تزامنت كل هذه التغييرات مع مرحلة جمود وفساد هيكلي في المنظومات القائمة، ليس فقط في العالم الحر، بل أيضاً وراء «الستار الحديدي» في الدول الاشتراكية، فكان الانتقال إلى زمن الانفتاح حول العالم. هذه التحولات ساهمت، حسب الناقد الثقافي الأمريكي فريدرك جيمسون، بانهيار المنظومة الاشتراكية، في حين تزامنت مع عمليات نزع التصنيع وتحطيم نفوذ النقابات العمالية في الغرب.

يمكن القول إن ثقافتنا المعاصرة مازالت لحد كبير تمدّ جذورها في تلك الحقبة، خصوصاً أن العالم شهد توسعاً هائلاً للطبقة الوسطى في الدول النامية الأكثر نجاحاً، مثل الهند والبرازيل وتركيا. ومع تقدم العولمة نشأت طبقة وسطى عالمية تملك كثيراً من المشتركات الثقافية والأيديولوجية، تخلّت عن تمرد السبعينيات لمصلحة التفاؤلية الليبرالية لعقدي الثمانينيات والتسعينيات، ومن ثم الصوابية السياسية في قرننا الحالي.

العالم السياسي والثقافي لهذه الطبقة بات مهدداً بشدة منذ الأزمة المالية العالمية عام 2008، فيجد الكثير من شبابها أنفسهم معرضين لخطر الانحدار في السلم الطبقي. ما يجعلهم مشاركين فعالين في معظم الاحتجاجات الاجتماعية التي نشهدها حالياً، والأقدر نظرياً على صياغة خطابها السياسي، باعتبارهم أبناء الطبقة المنتجة تقليدياً للنخب.

فما هي آفاق تحرك هذه الطبقة على الصعيد السياسي والاجتماعي؟ وهل بالإمكان إنجاز تغيير حقيقي من داخل عالمها الأيديولوجي والرمزي؟

عكس الثاتشرية

يبدو أن مصطلح «الاشتراكية» استعاد كثيراً من ألقه بين الأجيال الشابة المنتمية للطبقة الوسطى، يظهر هذا واضحاً في الدعم الشبابي الكبير ليسار الحزب الديمقراطي الأمريكي، ولحزب العمال البريطاني تحت قيادة جيرمي كوربين. البرنامج الانتخابي الذي طرحه الأخير أثار مؤخراً كثيراً من الجدل، فهو يقترح إجراءات تعتبر جريئة في السياق الأنكلوساكسوني، مثل إعادة تأميم السكك الحديدية، رفع الحد الأدنى للأجور، فرض ضرائب عالية على الأرباح، وتوفير الإنترنت المجاني لكل المواطنين. وعلى الرغم من أن هذا البرنامج، حتى لو تم تنفيذه، لن يجعل بريطانيا أكثر اجتماعية من دول الشمال الأوروبي أو فرنسا مثلاً، إلا أنه يعتبر محاولة جريئة لعكس الإجراءات التي نفذتها مارغريت ثاتشر في ثمانينيات القرن الماضي.

ارتبط توسع الطبقة الوسطى الجديدة في السياسات النيوليبرالية الجذرية، التي نُفذت في عهد ثاتشر وريغان، حين اعتُبرت الدولة «هي المشكلة وليست الحل» حسب ريغان، و«لا يوجد مجتمع، يوجد فقط رجال ونساء وعائلاتهم»، حسب ثاتشر. في الوقت نفسه ثار «اليسار الجديد» ضد أبوية دولة الرفاه والمجتمع الصناعي، وقدّم مفكرون كبار، مثل ميشيل فوكو، تحليلات عميقة في آليات إنتاج الدولة الاجتماعية للحقيقة والذات الفردية، وفي الفرص التي تقدمها النيوليبرالية لنشوء نمط من الحاكمية أقل معيارية وتسلطاً، يعطي مساحة للأسئلة الأخلاقية و«الانهمام بالذات». في أيامنا يبدو أن الدولة تعود من جديد لتصبح أمل الطبقة الوسطى، بعد طول تمرد، فهي الجهة القادرة على ضبط مجريات الأمور لتحقيق طموحاتها على الصعد السياسية والاقتصادية والأخلاقية، على عاتق الدولة يجب أن يقع عبء دعم المشاريع المتوسطة والصغيرة، توفير الخدمات الأساسية أو التحكّم بأسعارها، مواجهة العنصرية، ضبط الخطاب الثقافي على أسس صوابية، تأمين الأسس الصحيحة للتعددية الثقافية، واتخاذ الإجراءات البيئية السليمة. أما الميل السابق للتحرر الفردي فقد انقلب إلى أنماط قاسية من الالتزام والرقابة الذاتية على كل المستويات.

لا يزال «اليسار الجديد» يحتفي بالرقص ويحاول أن يبدو متمرداً، إلا أن «خصر ألفيس»، الذي خرج منه، أصبحت حركاته شديدة الانضباط. نرى هذا بوضوح في بعض الفعاليات الاحتجاجية المرافقة للتظاهرات المعاصرة، مثل المسيرات النسائية الراقصة، ذات الحركات المنظمة، التي تعطي انطباعاً طقوسياً قوياً. إذا قارنا هذا بـ«صيف الحب» وعصر تمرد الهيبي واليبي في الستينيات والسبعينيات، فسنجد أن كثيراً من عفوية دعوات التحرر الفردي والجماعي قد تراجعت. رفض انضباطية النقابات والأحزاب الثورية لم يؤد إلى أكثر من الخضوع لتحكم المنظمات غير الحكومية، الممولة حكومياً في كثير من الأحيان. يبدو أن الطبقة الوسطى عادت بوضوح إلى موقعها التقليدي: فئة محافظة اجتماعياً وسياسياً، مرتبطة عضوياً بجهاز الدولة.

التغيير عبر الدولة

برنامج جيرمي كوربين له، للمفارقة، داعمون كثر من رجال الأعمال والمضاربين الماليين والطبقات العليا في المجتمع، لوضوحه في رفض «بريكست» وميوله الأوروبية القوية. «اشتراكية القرن الحادي والعشرين» لا تشكّل، على ما يبدو، تهديداً فعلياً لرأس المال الكبير، بل ربما تكون صيغة مقبولة من جانبه، تؤمن استمرار التدفق الحر لرؤوس الأمول والسلع المادية والثقافية، مقابل منح المزيد من «الاستيعاب» للفئات التي ترى نفسها مقصية أو مهمشة، يمكننا هنا أن نتذكّر ملاحظة سلافوي جيجيك الساخرة عن بيل غيتس ومارك زوكربيرغ، اللذين أصبحا من كبار مناصري «الاشتراكية».

يفتقد عكس الثاتشرية الذي يسعى إليه كوربين ومحازبوه إلى عنصر أساسي في دولة الرفاه القديمة، وهو قوة العمل في مواجهة رأس المال، الذي تجسد سابقاً في مبدأ التفاوض الجماعي بين أرباب العمل والنقابات والحكومة. ما زال لحزب العمل قواعد مؤثرة في النقابات، إلا أن الحركة النقابية ذاتها فقدت كثيراً من قوتها، ويبدو مشروع كوربين محمولاً على أكتاف الطبقة الوسطى «المرنة» والمنظمات غير الحكومية. فلا يمكن اعتباره تمتيناً لقوة العمل على الصعيد السياسي، بقدر ما هو محاولة لتنفيذ بعض الإجراءات المحدودة من داخل بنية الدولة القائمة نفسها.

أظهرت كل محاولات التغيير عبر جهاز الدولة، بدون السعي لتحويله بشكل جذري، فشلاً ذريعاً، فلم تستطع حركة سيريزا اليونانية على سبيل المثال، رغم وصولها للحكم، تحقيق أيّ من وعودها، لأنها التزمت بالأطر الوطنية والأوروبية القائمة في الإدارة المالية والسياسية، ولم تمتلك أفقاً واضحاً لتجاوزها. يُظهر هذا عجز العالم البورجوازي المعاصر، بمنظوراته السياسية والفكرية، عن تقديم حلول للأزمات الحالية، بما فيها الأزمات التي تؤثر جدّياً على مستوى حياة ومكاسب الطبقة الوسطى.

نهاية عالم

يمكن اعتبار تظاهرات السترات الصفراء في فرنسا أول حراك اجتماعي كبير يأتي من خارج الإطار البورجوازي المعاصر، لا يعني هذا بالضرورة أن المتظاهرين كلهم كانوا من الفقراء أو الطبقة العاملة، ولكن التظاهرات أبدت اختلافاً واضحاً عن الخطاب الثقافي السائد. تتزايد اليوم الحركات الاحتجاجية ضد تدهور الظروف الاجتماعية والاقتصادية، ويبدو أن العالم الرمزي للطبقة الوسطى، بما راكمه من خطابات وأساليب تفكير، لم يعد قادراً على استيعاب الجديد الذي تحمله هذه الاحتجاجات، دعك من تقديم برامج سياسية مناسبة لها. وبما أنه لا توجد «طبقات لذاتها» خارج هذا العالم، قادرة على إنتاج لغتها ومشاريعها، تعاني الانتفاضات المعاصرة من غياب المنظور وانسداد الأفق. كل المحاولات لإعطاء التظاهرات الشكل «الحضاري» الاحتفالي والراقص، الأنسب لمزاج الطبقة الوسطى، لا تحقق نجاحاً كبيراً، وتضيع وسط وقائع العنف والقمع والانقسام الاجتماعي العميق.

يبدو أن المغامرة التي بدأها جيري روبن قد شارفت على نهايتها، فلم يعد من السهل الحفاظ على استقرار الظروف الاجتماعية التي أعطت لشباب الطبقة الوسطى رفاهية «الاشتراكية في شخص واحد»، وبالتأكيد لن ينال الجميع الثروة التي حققها روبن في آواخر حياته، وسينحدر كثيرون، من كل الهويات الجنسية والعرقية، إلى الوضع الاجتماعي ذاته لـ«الذكور الغاضبين»، حسب التصنيف الهوياتي السائد حالياً، أي أنهم سيعانون البطالة أو العمل غير المستقر منعدم الحقوق، وتآكلاً شاملاً لكل المكتسبات الاجتماعية، وعلى رأسها القدرة على تأمين السكن والتقاعد اللائق. يبقى التغيير الفعلي مرهوناً بتبلور طبقات جديدة، قادرة على تأكيد مفهوم الحقوق الاجتماعية، بدلاً من الاعتراف الهوياتي، والعمل على تأسيس بنى سياسية بديلة.

٭ كاتب من سوريا

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى