سياسة

الوضع في شرق الفرات وتطوراته، سؤال النفط السوري -مقالات مختارة-

الصراع على النفط السوري… لروسيا النصيب الأكبر والولايات المتحدة تسيطر عبر وكلاء

منذ عام 1980 أحيط القطاع النفطي بالسرية ولم تسجل كميات الإنتاج في «أوبك»

في حين يجهد غالبية السوريين في البحث عن وسائل بديلة لتأمين وسائل تدفئة وإنارة بديلة للكهرباء والغاز والمحروقات، كاستثمار الطاقة الشمسية، تتنافس الأطراف المتصارعة على الأرض السورية لوضع يدها على منابع النفط والغاز والطاقة السورية، وبينها واشنطن وموسكو، وتتجدد مقولة أن «نفط سوريا ليس للسوريين» التي أطلقتها صحافة الكتلة الوطنية السورية في الثلاثينات من القرن الماضي (جريدة القبس آب 1936) حين كانت كبريات شركات النفط العالمية الأوروبية والأميركية تتسابق على استكشاف النفط في المنطقة العربية. ولعب ذلك التنافس دوراً مهماً في تأجيج النزعات الانفصالية في شمال شرقي سوريا وفق ما كانت تكتبه الصحافة الوطنية حينذاك.

خبير اقتصادي سوري تحفظ عن الكشف عن اسمه، قال لـ«الشرق الأوسط»، إنه «منذ عام 1980 ولغاية عام 2010. كان القطاع النفطي السوري في قبضة عائلة الأسد، يحاط بالتكتم والسرية التامة، ولم تكن كميات الإنتاج تسجل بمنظمة الأوبك، كما لم يكشف للسوريين عن الأعداد الحقيقية لحقول الإنتاج النفط ما عدا بضعة حقول كبرى. وجاءت الثورة عام 2011 ضد نظام الأسد وخروج المناطق التي تتركز فيها الثروة النفطية عن سيطرة النظام، لتكشف المستور حول أعداد حقول النفط المستثمرة».

مع بدء المواجهات في سوريا بين قوات النظام وفصائل المعارضة المسلحة عام 2012، بدأ النظام السوري يفقد السيطرة على معظم حقول النفط في البلاد، حيث سيطرت فصائل الجيش الحر ومن ثم تنظيم جبهة النصرة على بعض الحقول شرق البلاد بعد مغادرة معظم الشركات لسوريا، وبدأت تلك الفصائل باستخراج النفط بشكل بدائي، إلى أن جاء تنظيم «داعش» عام 2013 لينتزع السيطرة على حقول النفط وتأمين موارد مالية، وبحلول عام 2014 سيطر على معظم حقول النفط وأهمها حقل العمَر في دير الزور.

وزارة الدفاع الأميركية قدرت عائدات «داعش» من النفط السوري 40 مليون دولار شهرياً عام 2015. لكن بعد عامين تم طرد تنظيم «داعش» من معظم المناطق الشرقية واستولت «قوات سوريا الديمقراطية» المدعومة من واشنطن على حقول النفط. غير أن هذه الحقول كانت قد تعرضت لأضرار كبيرة جراء استهدافها بغارة جوية أميركية لقطع موارد الدخل الرئيسية عن تنظيم «داعش»، الذي بدوره دمّر جانباً كبيراً من البنية التحتية النفطية قبل أن يفرّ منها. الحقول التي سيطرت عليها «قوات سوريا الديمقراطية» تشكل نحو 70 في المائة من موارد النفط السوري. أهمها حقل (العمر) وكان ينتج 80 ألف برميل يومياً قبل عام 2011 وحقل (التنك) في ريف دير الزور الشرقي وينتج 40 ألف برميل يومياً، وحقلا (السويدية) و(الرميلان)، 1322 بئراً نفطياً ونحو 25 بئر غاز، الواقعة في مناطق الشدادي والجبسة والهول، بريف محافظة الحسكة الجنوبي، ويقدر إنتاج هذين الحلقين قبل عام 2011 بـنحو 200 ألف برميل يومياً. أي نحو 50 في المائة من إنتاج سوريا النفطي.

هذا بالإضافة لحقول بالقرب من منطقة مركدة وتشرين كبيبية، بريف الحسكة الغربي، إلى جانب آبار نفطية صغيرة في محافظة الرقة، وكذلك آبار حقول الورد والتيم، 50 ألف برميل يومياً. ومحطة T2 الواقعة على خط النفط العراقي السوري، والجفرة، وكونيكو، بريف دير الزور الشرقي والتي يقع بعضها بيد النظام السوري الذي أعاد سيطرته على حقل (الشاعر) بريف حمص الشرقي عام 2017، ويعتبر من أهم الحقول السورية، إذ يقدر إنتاجه من الغاز بـ3 ملايين متر مكعب يومياً. كما تسيطر قوات النظام والفيلق الخامس (تحت إشراف القوات روسية) على حقول منطقة تدمر بريف حمص وهي الهيل، وآراك، وحيان، وجحار، والمهر، وأبو رباح، إضافة إلى حقول نفطية تنتج 9 آلاف برميل يومياً.

بيع النفط السوري

الصراع على النفط السوري يمثل للسوريين قضية حياة، إذ يعتبر النفط مورداً أساسياً للدخل القومي، وتظهر بيانات موقع «بريتش بتروليوم» للنفط، أن إنتاج النفط في سوريا، بلغ 406 آلاف برميل في عام 2008. انخفض عام 2009 ليصبح 401 ألف برميل يومياً، ثم أصبح 385 ألف برميل في عام 2010، و353 ألف برميل في عام 2011. و171 ألف برميل في عام 2012. و59 ألف برميل في عام 2013. و33 ألف برميل في عام 2014. ثم 27 ألف برميل في عام 2015. و25 ألف برميل في عامي 2016 و2017، و24 ألف برميل في عام 2018.

الخبير الاقتصادي السوري، اعتبر أن احتياطي سوريا النفطي البالغ 2.5 مليار برميل «ضئيل جداً، مقارنة باحتياطي دول المنطقة الأخرى مثل المملكة العربية السعودية، الذي يبلغ احتياطيها النفطي نحو 268 مليار برميل (أكثر من 100 ضعف). كما أن النفط السوري بوضعه الحالي يعد نفطاً منخفض الجودة، قياساً إلى تكاليف استخراج البرميل من عشرين إلى خمس وعشرين دولاراً لأنه على عمق 1500: 3 آلاف متر، في حين أن تكاليف استخراجه في دول أخرى بالمنطقة تنخفض إلى وسطي 5 دولار أميركي بحسب ما قاله الخبير. وتضطر قوات سوريا الديمقراطية ومن قبلها تنظيم «داعش» إلى بيع النفط السوري للنظام السوري ليعاد تكريره في مصفاتي حمص وبانياس، لأنه الأجدى مادياً، في ظل التكاليف العالية لنقله وتكريره في دول أخرى. وتفيد معلومات أوردها موقع «أويل برايسز» (المختص في أخبار النفط والطاقة ومقره بريطانيا) أن قوات سوريا الديمقراطية» (قسد)، تبيع برميل النفط الخام بـ30 دولاراً، وتؤمن نحو 10 ملايين دولار شهرياً».

ويحصل النظام السوري على النفط من «قسد» عبر وسطاء وشركات تأسست خلال الحرب لهذا الغرض، فالوسطاء الذين كانوا يشترون النفط من تنظيم «داعش» ويقومون بتوصيله إلى مناطق النظام، رعوا الاتفاق بين النظام و«قسد» عام 2018. ومن أبرز الوسطاء رجل الأعمال حسام القاطرجي الذي ظهر اسمه خلال الحرب كمالك لمجموعة القاطرجي، وأصبح عضواً في مجلس الشعب، وتتبع له ميليشيا متخصصة بنقل النفط إلى مناطق سيطرة النظام، كما أسس شركة أرفادا النفطية برأسمال مليار ليرة عام 2018.

ويقضي الاتفاق مع قوات سوريا الديمقراطية بمقايضة 100 برميل من النفط الخام المستخرج من حقلي العمر والتنك، بـ75 برميلاً من المازوت المكرر، إضافة إلى حصول «قسد» على الكهرباء والخدمات في مناطق سيطرتها، إلى جانب تغطية حاجتها النفطية. ويتم التنقل من حقلي العمر والتنك إلى حقل التيم جنوب دير الزور الواقع تحت سيطرة النظام ومنه إلى مصفاة حمص. فيما ينقل الغاز من حقول العمر والتنك والجفرة، إلى معمل «كونيكو» في دير الزور، ومنه إلى حقل التيم وبعدها إلى محطة «جندر» الحرارية في حمص. بواقع حصول النظام على 65 في المائة من إيرادات النفط، مقابل نسبة 35 في المائة لقوات سوريا الديمقراطية.

منافسة روسية – أميركية

جاءت عملية «نبع السلام» التركية في 9 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي لتعيد خلط الأوراق في شمال شرقي سوريا. فبعد نحو أسبوعين انتهت العملية التي أدت إلى إبعاد الفصائل الكردية عن منطقة الحدود مع تركيا، وبينما كان النظام السوري مدعوماً بالحليف الروسي يتهيأ لسد الفراغ الحاصل بعد انسحاب قوات سوريا الديمقراطية، والتمهيد لعملية استعادة السيطرة على الحقول النفطية وأكد المسؤولون الروس على ضرورة استعادة النظام السوري سيطرته على كامل حقول النفط، فاجأ الرئيس الأميركي دونالد ترمب الجميع بالتصريح يوم 27 نوفمبر (تشرين الثاني) أنه يعتزم عقد صفقة مع شركة (إكسون موبيل) إحدى أكبر الشركات الأميركية للذهاب إلى سوريا والقيام بذلك «بشكل صحيح، وتوزيع الثروة النفطية». مشيراً إلى أن حماية آبار النفط «تحرم تنظيم (داعش) مِن عوائده، فيما سيستفيد منه الأكراد، ويمكن أن تستفيد الولايات المتحدة منه أيضاً»، مضيفاً أنه «يجب أن نأخذ حصتنا الآن».

وشكل تصريح ترمب صدمة، إذ جاء بعد إعلانه في السادس من نوفمبر، عزم القوات الأميركية على الانسحاب من شمال شرقي سوريا، الداعمة لـ«قسد». وعلى الضد من ذلك وصلت في نهاية نوفمبر 170 شاحنة عسكرية أميركية يرافقها 17 عربة مدرعة تحمل جنوداً أميركيين، قادمة من شمال العراق إلى القواعد الأميركية القريبة من حقول النفط والغاز في محافظتي دير الزور والحسكة شرقي البلاد. وذلك لتقوية ورقة حلفائها الأكراد، ولمنع أي سيطرة اقتصادية لروسيا وإيران على منابع النفط السورية، إمعاناً في تشديد العقوبات الاقتصادية على إيران وسوريا، وحرمانهما من استغلال مناطق شرق سوريا للتحايل على العقوبات وتأمين طرق وموارد النفط.

ومع أن إيران سارعت منذ عام 2017 إلى بسط سيطرتها على منطقة البوكمال شرق سوريا ووضعت يدها على معبر القائم، لتأمين طريق نقل بري يصل بين إيران والساحل السوري عبر العراق، وتسعى لتحصيل المزيد من العقود للاستثمار في مجال الطاقة بسوريا، إلا أنها تبدو اليوم محاصرة بالوجود الأميركي المعادي في مناطق شرق الفرات، وفي مواجهة تنافس الصديق الروسي الذي يستأثر لغاية الآن بأهم العقود النفطية في البلاد.

وروسيا التي تسيّر اليوم دوريات عسكرية في بعض مناطق النفط بالتنسيق مع تركيا، تبدو اللاعب الأقوى على الساحة السورية، في مواجهة اللاعب الأميركي، إذ بات تحديد ملامح أي حل سياسي مقبل رهناً بالعلاقات بينهما. علماً بأن روسيا منذ تدخلت عسكرياً في ساحة الصراع السوري إلى جانب النظام، عام 2015، للاستحواذ على القسم الأكبر من عقود النفط والغاز في سوريا. وبينما تفرض الولايات المتحدة الأميركية هيمنتها عبر حلفائها على أغلب حقول النفط السورية، تستحوذ روسيا على عقود استكشاف الغاز الطبيعي السوري في البحر المتوسط، حيث توجد أكبر قاعدة عسكرية لها في الشرق الأوسط في طرطوس. وقد وقعت شركة «سويوز نفتا غاز» الروسية أول عقد مع النظام السوري عام 2013، للتنقيب عن النفط والغاز في المياه الإقليمية. وشمل عمليات تنقيب في مساحة 2190 كلم مربع لمدة 25 عاماً. تبعتها شركة «ستروي ترانس غاز» عام 2017 بعقود التنقيب عن الغاز والنفط في شواطئ طرطوس وبانياس، بالإضافة إلى حقل قارة بريف حمص، فضلاً عن حق استخراج الفوسفات من مناجم الشرقية في تدمر. كما حصلت الشركات الروسية (زاروبيج نفط، زاروبيج جيولوجيا، أس تي غه إنجينيرينغ، تيخنوبروم أكسبورت وفيلادا أوليك كيريلوف، ميركوري وديمتري غرين كييف) على عقود للتنقيب وإعادة تأهيل حقول نفط وغاز وصيانة مصافي نفط متضررة في سوريا. وقدرت وزارة النفط السورية عام 2017، احتياطي سوريا البحري من الغاز بـ250 مليار متر مكعب.

وإذا صحت هذه الأرقام فإن روسيا تستحوذ على القسم الأكبر من الكعكة السورية، وهي صاحبة المصلحة الأولى في الوصول إلى حل سياسي يحسم الصراع وبما يمكنها من تفعيل استثماراتها السياسية والاقتصادية في سوريا. في المقابل ما يزال الطرف الأميركي يبدي تراخياً في إدارة الصراع، إذ لا يشكل نصيبه من الكعكة السورية إغراءً له إلا بقدر ما يتيحه من أوراق تصلح للمناورة في مواجهة إيران وروسيا. من خلال فتح ساحة جديدة للصراع شرق سوريا الذي يكتسب أهميته ليس فقط من تركز حقول النفط، وإنما كونه عقدة مواصلات تربط بين كل من تركيا والمنطقة العربية وإقليم كردستان العراق الغني بالنفط وإيران بالغرب. مؤهلة لتكون عقدة تحكم بالطريق الرئيسي لمرور النفط والغاز باتجاه أوروبا. ما يحيلنا إلى الثلث الأول من القرن العشرين ومقولة نفط سوريا ليس للسوريين، وهي مقولة مرشحة في حال استمر أمد الصراع لأن تصبح «أرض سوريا ليس للسوريين».

في قبضة البعث

تفيد المعلومات التاريخية لدى وزارة النفط السورية بأن أعمال البحث والتنقيب عن النفط بدأت في سوريا عام 1933. وذلك عندما اكتشفت شركة النفط العراقية I.B.C حقول النفط في كركوك العراق التي يتصل امتدادها إلى شرق سوريا في دير الزور. إلا أن عقود التنقيب عن النفط السوري تحكمت بها سلطة الانتداب الفرنسي، بينما كانت الحكومة الوطنية المشكلة تحت الانتداب تكافح لتوقيع معاهدة مع فرنسا تعترف بالسيادة السورية.

وكما تأخر الجلاء لغاية 1946. تأخر أول تدفق تجاري من النفط إلى عام 1956، وكان ما يزال النشاط الاستكشافي محصوراً بالشركات الغربية، إلى أن أحدثت (الهيئة العامة لشؤون البترول) 1958، لتتولى القيام بأعمال التنقيب والإنتاج، إضافة إلى مهام أخرى في مجال التكرير والنقل وشراء المشتقات النفطية.

وبعد استيلاء حزب البعث على السلطة في سوريا بانقلاب 8 مارس (آذار) 1963، صدر المرسوم التشريعي رقم 132 لعام 1964 الذي حظر منح ترخيص للتنقيب والاستثمار للشركات الأجنبية وحصرها بحق الدولة. أما الإنتاج الفعلي للنفط فقد بدأ في مايو (أيار) عام 1968 بوصول أول برميل إلى ميناء طرطوس. من محطة ضخ في تل عدس شمال شرقي سوريا عبر مصفاة حمص.

في عام 1974 أحدثت الشركة السورية للنفط، وإلى جانبها عدة شركات أخرى متخصصة في التكرير والنقل، وترتبط جميعها بوزارة النفط والثروة المعدنية. وقامت الشركة منذ تاريخ تأسيسها بالمشاركة والإشراف على وضع الخارطة الجيولوجية للبلاد بموجب عقد التعاون مع الاتحاد السوفياتي.

تولت الشركة السورية للنفط كافة الأعمال المتعلقة بصناعة استخراج النفط والغاز وشكلت أكثر من 50 في المائة من الدخل القومي. وفي عام 1980 تم تأسيس شركة الفرات للنفط، لتقوم بأعمال التنقيب واستثمار حقول النفط في سوريا، وتوزعت حصصها بواقع 65 في المائة للدولة السورية، و35 في المائة لمجموعة شركات أجنبية ترأستها شركة (شل) الهولندية، التي تولى وكالتها محمد مخلوف شقيق زوجة الرئيس الراحل حافظ الأسد وخال الرئيس بشار الأسد. كما أسس صهر مخلوف الموظف في شركة النفط السورية غسان مهنا، ورجل الأعمال نزار الأسعد شركة (ليدز) في العام ذاته، وراحت هذه الشركة تستحوذ على العقود النفطية لصالح شركة بترو كندا ووكيلها الحصري في سوريا رامي مخلوف ابن محمد مخلوف.

وشهدت تلك الفترة سحب عقد من شركة «توتال» الفرنسية التي بدأت عملها في سوريا بداية عقد التسعينيات من القرن الماضي، الأمر الذي أدى إلى تأزم العلاقات السياسية السورية – الفرنسية، لتعود وتشهد انفراجاً عام 2007. حيث بقيت «توتال» تعمل في سوريا في مجال استكشاف وإنتاج النفط لغاية عام 2011، إلى جانب عدد من الشركات الغربية منها شركة (شل) الهولندية. في حين كان وجود الشركات الأميركية قد شهد تراجعاً منذ الثمانينات لدى تراجع اهتمام شركة مارتوان بالنفط والغاز السوري والانتقال إلى للاستثمار في أفريقيا. وذلك على خلفية التعقيدات الإدارية التي كانت تضعها الحكومة السورية على طرق تسديد نفقات الاستكشاف والإنتاج وتقاسم العائدات، وذلك في الوقت الذي كان فيه إنتاج النفط في سوريا يزداد. وتظهر أرقام نشرة (إكونوميست إنتاليجانس يونت)، إلى أن إنتاج النفط في سوريا زاد بين عامي 1995 و2004 ليبلغ 600 ألف برميل يومياً. وحسب المعلومات الرائجة أن تلك الكميات كانت تصرف في السوق السوداء بأسعار مخفضة عن السعر العالمي مقابل تقاضي قيمتها «كاش» بالقطع الأجنبي، وهو ما يبرر عدم وضوح ما إذا كانت كامل عائدات النفط تدخل ميزانية الدولة، إذ كان من المحظورات تناول هذا الموضوع في سوريا.

الشرق الأوسط

———————————-

ترمب ونفط سوريا/ بسام يوسف

سأعترف لبشار الأسد بجملة مفيدة واحدة فقط، تلك التي قالها واصفاً رئيس أمريكا- ترامب- بالصراحة والوضوح؛ إذ لا أظن أن ديبلوماسياً في هذا العالم قد يعلن بكل هذه الصفاقة الباردة سيطرته على مورد اقتصادي لبلد آخر، وأنه سيتصرف به كما يشاء. لا أحد غير ترامب يمكن أن يصرح بذلك، حتى إن مارس الفعل نفسه، ترامب هذا الذي منذ أن أصبح رئيس أمريكا لم يتوان عن الذهاب إلى قول ما يريد بوضوح لم تعرفه الديبلوماسية سابقاً؛ لذلك قال قوله باختصار شديد باتر: “سنتصرف بنفط سوريا كما نشاء”.

بعيداً عن صراحة ترامب، إن الحديث عن مصادرة النفط السوري، يفتح الباب لسؤال لم يحضر بقوة في خضم الحرب الدائرة على الأرض السورية منذ سنوات، رغم أهميته البالغة: ما الذي يريده رئيس أقوى دولة من تصريحه بالسيطرة على نفط دولة ليست من الدول النفطية المهمة؟!

 لم يحظ الجانب الاقتصادي في الحدث السوري بما يستحق من الإضاءة، وقد يجوز القول: إن التعتيم عليه قد كان متعمداً، وإن المحللين قد استهانوا به كثيراً (بغض النظر عن النوايا). فما قيمة بلد مثل سوريا على صعيد الاقتصاد العالمي؟!

لقد كان معلوماً، أن العالم قد بدأ مرحلة جديدة في ترتيب أولوياته بعد انهيار الاتحاد السوفييتي؛ فالحرب الباردة التي عاش العالم على وقعها عقوداً طويلة قد انتهت، وثمة ما تقدم ليحتل مواقع جديدة بعد أن كان متراجعاً في سلم الأولويات، وثمة امبراطورية قد انهارت، وقد تصارع على تركتها الطامعون، وما أكثرهم! وقد تدافع عند جثتها الطامحون، وما أكثرهم أيضاً!

في عام 2000 وصل بوتين إلى رئاسة روسيا الاتحادية، وهي الوريث الأهم مادياً ومعنوياً للاتحاد السوفييتي السابق، كان الانهيار ماثلاً في كل التفاصيل اليومية للساسة وللاقتصاديين وللشعب الروسي، وبدت الإمبراطورية- التي كانت هيكلاً ضخماً- فارغة من الداخل وهشة، بل بدت فقيرة وتحتاج إلى المساعدة.

وكان قد أعلن بوتين حلمه مراراً: حلمه باستعادة هيبة الدولة الروسية، ومكانتها، ونديتها مع غول العالم أميركا. لكن هذا الحلم بدا حينها ضرباً من الوهم؛ فهذه القوة العسكرية المتضخمة، والدولة البيروقراطية التي شاخت مؤسساتها، وتكلست، قد كانت أضعف من أن تحمل حلماً كهذا.

لقد بدأ بوتين مشروعه في إعادة إحياء دور روسيا في العالم واستعادة مكانتها، منطلقاً من ثلاث ركائز: الركيزة الأولى، هي قناعة بوتين العميقة المنسجمة مع تربيته الشيوعية، في أن الديمقراطية وحقوق الإنسان هي أوهام لا معنى لها في استراتيجيات بناء الدول، والركيزة الثانية هي أن القوة العسكرية الروسية نقطة قوة يجب تسخيرها لاستعادة دور روسيا، والركيزة الثالثة -وهي الأهم- هي أن الطاقة أهم من العسكرة، وهي المجال الذي يمكن روسيا أن تراهن عليه في معركتها القادمة، خصوصاً إذا اقترن بالإمكانات العسكرية الضخمة.

إن خبراء الطاقة يقدرون أن حاجة العالم ستبلغ في السنة القادمة “2020” إلى 96،2 مليون برميل نفط يومياً، وأن هذا الرقم سيصل إلى 100،9 مليون برميل يومياً في 2025، وللعلم فإن ما يعرف بدول الأوبك لا تنتج سوى 33،2 مليون برميل من حاجة العالم، وبالتالي: إن النسبة الأكبر تُنتج خارج هذه المنظمة.

في عام 2011 أصبحت روسيا أكبر منتج للنفط متجاوزة المملكة العربية السعودية بذلك، وإذا أضفنا اعتماد العالم على الغاز الطبيعي كمصدر للطاقة الذي يزداد باطراد (يتوقع أن يغطي الغاز 24% من حاجة البشرية للطاقة في 2025) فإن روسيا ستصبح مصدر الطاقة الأهم عالمياً، فهي ثاني أكبر منتج للغاز الطبيعي في العالم أيضاً.

باختصار إذاً: لقد بنى بوتين استراتيجيته الاقتصادية على بيع الأسلحة، وعلى بيع الطاقة.

المشكلة التي تواجه إنتاج الغاز تكمن في عقبتين رئيستين: الأولى هي في أن إنتاجه يتطلب بنية تحتية، قد لا تتمكن من إقامتها الدول ذات الإمكانات الضعيفة، والثانية هي في عملية نقله؛ فالنفط الخام قد يُنقل بواسطة ناقلات نفط ضخمة، غير الغاز الذي يجب تسييله أولاً، قبل نقله بواسطة الناقلات، أو يجب نقله عبر أنابيب من أماكن إنتاجه إلى أماكن استهلاكه.

ولأن أوروبا من أكبر أسواق استهلاك الغاز عالمياً؛ فإن كواليس السياسة تشهد معارك ضارية بين الأطراف الدولية من أجل رسم مسارات أنابيب نقل الغاز إليها. وما دمنا لسنا هنا بوارد الحديث عن مشكلة أوكرانيا، ولا عن خط السيل الجنوبي الذي يمر في تركيا، ولا عن الصراع الخفي حول دول بحر قزوين، ولا عن بقاء الأمريكي في أفغانستان، رغم أن كل هذا ضروري لفهم الحرب المستعرة بخصوص الطاقة وإنتاجها وتسويقها، فإن ما يهمنا هنا، هو: علاقة هذا بالحدث السوري.

حتى الآن، ليس هناك معطيات دقيقة عن حجم الغاز الطبيعي في الجزيرة السورية، بل إن هناك تعتيماً متعمداً حول هذا الأمر، مع أن معظم التسريبات المتداولة تتحدث عن احتياطي كبير للغاز في الأرض السورية، أضف إلى ذلك أهمية الجغرافية السورية في خطط نقل النفط الخليجي عبر أنابيب إلى أوربا، هذا بالإضافة إلى الصراع الخفي حول مخزون الحوض الشرقي للبحر المتوسط من النفط والغاز.

وبناء على ما سبق لابد من السؤال: إذا كان من مصلحة الأطراف، التي تتقاسم الغنيمة السورية، أن تتستر على المعلومات المتعلقة بحقول الغاز والنفط في الأراضي السورية وفي مياهها الإقليمية، فما هي مصلحة الجهات السورية- المطّلعة- في أن تتواطأ، وفي أن تتستر، وفي أن تمنع المعلومات؟!

وبالتالي: ألا يحق للسوريين معرفة الوجه الاقتصادي للحرب الدائرة على أرضهم كمقدمة لفهم دور الدول المتحاربة وللإحاطة بخططها؟ وألا يحق للسوريين معرفة السبب الذي من أجله لا يهتم العالم بدمهم، الذي يسفك، وبمصيرهم وبحقوقهم وبمستقبلهم؟

لقد كان الغزو في أيام العرب القديمة أحد أوجه حياتهم الاقتصادية شديدة الأهمية، وكان العائدون من الغزو يتقاسمون الغنائم، وكانت السبايا جزءاً مهماً من تلك الغنائم، وكان ثمة عرف متفق عليه بين المتحاربين، هو أن يتجول قائد الغزو العسكري بين السبايا؛ ليختار أجملهن، فيخلع عباءته ثم يرميها على تلك السبية؛ لتصبح له وحده.

وأنا لا أدري حتى اللحظة، لماذا رمى غازي الغزاة ترامب عباءته على الجزيرة السورية؛ فحق له الحق في قوله للعالم بفمه الواسع، بحسب أعراف الجزيرة العربية: هذه السبية لي، وأنا وحدي من يحق له التصرف بها؟

تلفزيون سوريا

——————————–

تحولات الوجود العسكري الأميركي في سوريا

أعلن وزير الدفاع الأميركي مارك إسبر يوم أمس، الخميس 5 كانون الأول (ديسمبر) 2019، اكتمال سحب قوات بلاده من شمال شرقي سوريا، وقال في حديث لوكالة رويترز إن عدد القوات الأميركية في باقي مناطق سوريا سيصبح 600 جندي فقط، بعد أن وصل إلى 2000 جندي في أعلى ذروة بلغها.

وكان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قد أعلن، بعد مكالمة هاتفية مع نظيره التركي رجب طيب أردوغان في السابع من شهر تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، عن قراره سحب القوات الأميركية من شمال شرق سوريا، لإفساح المجال أمام عملية عسكرية تركية في المنطقة، بدأت فعلاً بعد يومين من ذاك القرار.

وشملت العملية العسكرية التركية المنطقة بين بلدة تل أبيض الحدودية في محافظة الرقة وبلدة رأس العين التابعة لمحافظة الحسكة، وبعمق يصل إلى أكثر من عشرين كيلو متر حتى الآن، وأدت إلى نزوح أكثر من مئتي ألف مدني من بيوتهم، كما تسبب القصف التركي بمقتل وإصابة العشرات من المدنيين في منطقة العمليات ومحيطها.

وعلى الرغم من هذا الانسحاب، إلا أن الولايات المتحدة ستحتفظ بنفوذها في المناطق الشرقية، تحديداً محافظة دير الزور وجنوب محافظة الحسكة، حيث توجد حقول النفط الرئيسية السورية الأكبر، وذلك لمنع سيطرة تنظيم داعش عليها حسب التصريحات الأميركية المعلنة، لتنتهي بذلك مرحلة من مراحل الوجود الأميركي المباشر في البلاد، وتبدأ مرحلة أخرى، بعد أربع سنوات على إرسال أول قوة عسكرية أميركية بشكل رسمي إلى سوريا.

https://www.aljumhuriya.net/sites/default/files/military_bases-3.jpg

في خريف العام 2015، وافق الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما على إرسال قوة من المارينز، لا يتجاوز عددها الخمسين جندياً، للقيام بأعمال دعم وتدريب بهدف مساعدة وحدات حماية الشعب الكردية في ذلك الوقت على محاربة تنظيم داعش. كانت تلك القوة هي القوات البرية الأولى التي ترسلها الولايات المتحدة إلى شمال شرقي سوريا، بعد أشهر من الضربات الجوية التي قام بها طيران التحالف الدولي ضد تنظيم داعش، وأدت إلى توقف تمدد التنظيم الذي كان قد استطاع نهاية عام 2014 الوصول إلى داخل أحياء مدينة كوباني/عين عرب بعد أن احتل معظم محافظتي الرقة ودير الزور.

استطاع التدخل الأميركي، عبر الجو بشكل رئيسي، دعم انتصارات سريعة لتحالف عسكري، سيحمل اسم قوات سوريا الديمقراطية وقوامه الرئيسي من وحدات حماية الشعب، على تنظيم داعش شمالي محافظة الرقة، في عين عيسى وتل أبيض. وعلى الرغم من ذلك، فإن انقلاب المواقع وبدء تراجع التنظيم بشكل واسع عسكرياً، استغرق وقتاً أطول، فقد استطاع الحفاظ على مساحات واسعة في سوريا طوال العامين 2015 و2016.

وقد استدعى هذا من واشنطن زيادة مضطردة لقواتها الموجودة على الأرض في سوريا في الشمال الشرقي للمساهمة في معركة الرقة، وفي الجنوب أيضاً، لضبط البادية التي كانت خلال تلك الفترة مساحة واسعة تسمح بحرية حركة عناصر تنظيم داعش. ولهذا الغرض، قامت واشنطن، في إطار التحالف الدولي للحرب على داعش، بإنشاء قاعدة التنف على المثلث الحدودي بين كل من سوريا والعراق والأردن في آذار 2016، كما دعمت إنشاء فصيل مغاوير الثورة، ودعمت فصائل من دير الزور كانت قد انسحبت من المحافظة بعد سيطرة تنظيم داعش عليها، مثل فصيل أسود الشرقية.

ونتيجة ذلك التوسع الأميركي، وصلت أعداد الجنود في سوريا إلى ألفي جندي في عام 2017، متوزعين على عدد من القواعد العسكرية في الجزيرة السورية بشكل رئيسي. وفي تلك الأثناء، كانت الشخصيات العسكرية المحيطة بالرئيس الأميركي الجديد حينها دونالد ترامب، مثل وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس، تدفع نحو سياسة أكثر تدخلية في المنطقة لمواجهة تحديات عدة، ترى تلك النخب العسكرية الأقرب للحزب الجمهوري أن مواجهتها ضرورة لإصلاح أخطاء أوباما، الذي يعتبرون أن سياسته الانسحابية من المنطقة أدت إلى إفساح المجال أمام ظهور تنظيم داعش.

وكان من الواضح أن ترامب قد أعطى تلك الشخصيات تفويضاً واسعاً للعمل في المنطقة، ما ادى إلى ازدياد نفوذ البنتاغون في سوريا، وتوسيع القواعد البرية للقوات الأميركية في شمال شرقي البلاد، خاصةً بعد الاتفاق الروسي الأميركي على تحديد نهر الفرات كخط لتقاسم النفوذ في سوريا، الأمر الذي أدى إلى سيطرة النظام السوري مدعوماً من موسكو على مدن محافظة دير الزور الكبرى الواقعة على الضفة الجنوبية للنهر (دير الزور والميادين والبوكمال). وبالتوازي مع توسيع قواعدها وتعزيزها، راحت الولايات المتحدة تعزز من حضورها عبر تنفيذ دوريات في مناطق عدة من بينها منبج في ريف حلب الشرقي، وعلى الحدود السورية التركية شمال الجزيرة السورية، وقرب بعض خطوط التماس مع قوات النظام على أطراف الجزيرة، وذلك بهدف تأكيد نفوذها في مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية.

https://www.aljumhuriya.net/sites/default/files/military_bases-1.jpg

مع اقتراب هزيمة تنظيم داعش، ومحاصرته في جيب صغير أقصى شرقي محافظة دير الزور، جاءت خطة الأهداف الثلاثة التي أعلن عنها جيمس جيفري المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا، والذي تم تعيينه في شهر آب (أغسطس) 2018. وتبنت تلك الخطة ثلاثة أهداف رئيسية تقف وراء بقاء القوات الأميركية في سوريا؛ القضاء نهائياً على تنظيم داعش والحرص على عدم عودته، ودعم انتقال سياسي في البلاد، ومحاربة النفوذ الإيراني في سوريا.

إلا أن هذه الاستراتيجية تعرضت لصدمات متتالية نتيجة تصريحات ترامب نهاية عام 2018، التي أعلن فيها عزمه سحب جنود بلاده من سوريا بعد أن أدوا مهمتهم في القضاء على تنظيم داعش. وعلى الرغم من تراجع ترامب عن قراره ذاك نتيجة الضغط الكبير من قبل الكونغرس وكبار موظفي إدارته، إلا أن القرار ترك أثراً عميقاً تجلّى في استقالة وزير الدفاع ماتيس من منصبه، كما أدى إلى زعزعة الثقة في استقرار الوجود الأميركي حتى تحقيق خطة الأهداف الثلاثة، وهو ما كان صحيحاً إلى حد كبير، فبعد أقل من عام، سحب ترامب جنوده من مناطق واسعة في شمال شرقي سوريا، مفسحاً المجال أمام تركيا للقيام بعملية عسكرية هناك.

أدى هذا التراجع المستمر لترامب في نهاية المطاف إلى قناعة لدى كل الأطراف المؤثرة في الملف السوري، بأن الولايات المتحدة ليست مهتمة إلى حد بعيد بمصير البلاد وتوازن القوى فيها، ما سيفسح المجال أمام تمرير ملفات سياسية كانت من غير الممكن أن تمر سابقاً، ويبدو أن مشهد اللجنة الدستورية اليوم هو أحد أوجه هذه السياسيات التي ستطبع المرحلة المقبلة، والتي تبدو انعكاساً لتراجع الولايات المتحدة عن ممارسة أي ضغوط جدية بشأن أحد بنود استراتيجية الأهداف الثلاث، أي البند المتعلق بدعم الانتقال السياسي في سوريا.

وبينما يبقى الجنود الأميركيون اليوم في سوريا، في مناطق النفط وجنوباً في قاعدة التنف، لا يبدو أن الهدف الرئيسي من بقائهم هو الحفاظ على نفوذ واشنطن في الملفّ السياسي السوري، بل مواصلة الضغط على طهران التي تتعرض منذ بداية العام لعقوبات أميركية مشددة، وهو ما يعني أن الملف السوري في واشنطن عاد إلى يد الخارجية وخرج من يد البنتاغون، الذي يبدو أن يصارع للحفاظ على الضغوط المشددة تجاه إيران، في ظلّ وجود رئيس متردد ومتناقض السياسات، بدا أنه كان على وشك القيام بتخفيف تلك العقوبات مقابل لقاء قمة مع الرئيس الإيراني خلال أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في شهر أيلول (سبتمبر) الفائت.

لم تكن استراتيجية الأهداف الثلاث متماسكة أصلاً منذ لحظة إعلانها، لكن يبدو أنها قد باتت اليوم من الماضي رغم عدم التراجع الرسمي عنها حتى الآن. وإذا كانت الشخصيات التي أحاطت بترامب طوال سنوات حكمه الماضية قد دفعت باتجاه التعويض عن انسحاب أوباما من ملفات المنطقة، فإن ترامب لم يفعل شيئاً في الواقع سوى استغلال تلك المواقف لانتقاد سلفه على سياسات يقوم هو نفسه بتكرارها.

https://www.aljumhuriya.net/sites/default/files/military_bases-4.jpg

تحتفظ الولايات المتحدة اليوم بخمس قواعد عسكرية رئيسية في سوريا، أربع منها في شرقي الجزيرة السورية، وإذا كان استمرار وجودها هذا يبعث برسائل واضحة لجميع الأطراف تقول إنها لم تنسحب من الملف السوري تماماً بعد، ولم تتراجع عن سياساتها تجاه الوجود الإيراني في سوريا، إلا مفاعيل التردد والانسحاب تبدو أقوى من مفاعيل الحفاظ على بعض الجنود والقواعد، ذلك أن جميع الأطراف باتت تتصرف على أن انتهاء النفوذ الأميركي مسألة وقت فقط، وعلى أن الولايات المتحدة ليست مستعدة لخوض أي مواجهة جدية على أي صعيد في المنطقة.

موقع الجمهورية

———————————

الحرب “التركية-السورية” الباردة.. هل نجحت عملية “نبع السلام”؟/ محمد السعيد

لا أحد يعرف ما الذي جرى تفصيلا في المكالمة الهاتفية بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والرئيس الأميركي دونالد ترامب في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، قبل يومين فقط من قرار أنقرة بالتوغّل عسكريا في شمال شرق سوريا، لكن ما يعرفه الجميع الآن أن هذه المكالمة ستكون مُؤسِّسة لجدل محتدم بين واشنطن وأنقرة على مدار الأسابيع التالية وحتى هذه اللحظة.

ففي أعقاب المكالمة الغامضة، أعلن ترامب على الفور سحب القوات الأميركية من شمال سوريا، وتحديدا من منطقة ستتوغّل فيها القوات التركية بعد ساعات من ذلك الإعلان، وهو ما أعطى انطباعا أن ترامب منح أنقرة ضوءا أخضر بشنّ عمليتها العسكرية الهادفة بالأساس لدفع وحدات حماية الشعب الكردية بعيدا عن الحدود الجنوبية للبلاد، لكن ترامب عاد وأنكر بشدة موافقته على العملية العسكرية التركية؛ مؤكدا أن قرار سحب جنود بلاده من سوريا مرتبط بتوجّه إدارته لتقليص وجودها العسكري في الخارج ولا علاقة له بالتدخّل التركي بحال.

ومن أجل تأكيد موقفه، استجاب ترامب لدعوات الكونغرس وقام بفرض عقوبات على أنقرة بسبب العملية العسكرية شملت زيادة بنسبة 50% في الرسوم المفروضة على واردات الصلب، فيما قرّرت وزارة الخزانة الأميركية فرض عقوبات على ثلاثة وزراء أتراك، وعلّقت وزارة التجارة المفاوضات حول اتفاقية التجارة الحرة بين البلدين، ولم يكتفِ ترامب بذلك فحسب؛ لكن إدارته قامت بتسريب رسالة أرسلها إلى أردوغان يوم 9 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أي في اليوم نفسه الذي بدأ فيه التدخّل العسكري التركي، حملت تهديدات صريحة منه للرئيس التركي بتدمير اقتصاد بلاده حال نفّذت تدخّلها في سوريا، فضلا عن كونها حوت في طياتها عبارات وُصفت بأنها “مُهينة” للرئيس التركي، ومتجاوزة للأعراف الدبلوماسية في التعامل بين الرؤساء.

لكن أردوغان تجاهل رسالة ترامب كما اتضح، وشرع في توغّله العسكري محتجا أن أنقرة لم تكن(1) تبحث عن ضوء أخضر أميركي للدفاع عن مصالحها في المقام الأول، وفي واقع الأمر، وفي اللحظة التي وقع فيها الاتصال الهاتفي بين ترامب وأردوغان؛ كانت تركيا قد حسمت قرارها بالفعل بالتدخّل، ولم يكن التواصل الهاتفي مع البيت الأبيض أكثر من محاولة متأخرة نسبيا لفرض الأمر الواقع واحتواء أكبر قدر ممكن من الأضرار.

فعلى عكس تدخّليها السابقين في سوريا عامي 2016 و2018، كانت تركيا تدرك هذه المرة أنها تخوض سباقا حقيقيا مع الزمن، وأن الأمر لن يستغرق بضعة أيام على الأكثر قبل أن تُجبرها الضغوط على إيقاف عمليتها، وكان التحدي الأكبر بالنسبة لأردوغان هو فرض أكبر قدر ممكن من الحقائق على الأرض عبر السيطرة على أكبر مساحة ممكنة من الأراضي ودفع خصومه من الأكراد السوريين إلى أبعد نقطة ممكنة عن الحدود التركية، قبل قدوم تلك اللحظة التي ستكون فيها أنقرة مضطرة لقبول وقف إطلاق النار والتفاوض حول حدود وشكل إدارة المنطقة الآمنة التي ترغب في ترسيخها في شمال شرقي سوريا.

ويبدو أن ما حدث لم يخرج عن التوقعات التركية تماما، فبحلول السابع من عشر من أكتوبر/تشرين الأول أعلنت أنقرة وواشنطن عن تعليق مؤقت لوقف إطلاق النار من أجل السماح للأكراد بالانسحاب خارج المنطقة الآمنة التي حدّدتها تركيا، وفي وقت لاحق من الشهر نفسه أعلنت تركيا التوصل لاتفاق جديد مع روسيا لتسيير دوريات مشتركة في المنطقة، على أن تضمن موسكو ونظام “بشار الأسد” انسحاب الأكراد خارج المنطقة التي حدّدتها أنقرة سلفا، ما يعني أن تركيا نجحت -ظاهريا على الأقل- في تحقيق الهدف الذي شنّت عمليتها من أجله في المقام الأول.

ولكن رغم هذا النجاح الظاهري، وعلى الرغم من المدى القصير نسبيا للعملية حيث لم تدم سوى ثمانية أيام تقريبا، فإن الأهمية الجيوسياسية لـ “نبع السلام” تتجاوز بكثير آثارها العسكرية المباشرة، وترتبط مباشرة بالديناميات الداخلية المتغيرة للسياسة التركية والأزمة السياسية المتفاقمة في البلاد، فضلا عن أنها ترقى لاعتبارها جزءا من عملية إعادة ترتيب شاملة لخارطة التحالفات الإقليمية في الصراع السوري، وهي تُشكِّل أيضا إحدى العلامات الفارقة في مقاربة تركيا تجاه الصراع المحتدم في سوريا منذ عام 2011، ومحطة من المحطات البارزة في علاقات تركيا طويلة الأمد مع جارتها العربية في الجنوب.

الحرب التركية – السورية الباردة

لم تكن العلاقات التركية السورية أبدا على ما يرام منذ حصول سوريا على استقلالها عام 1946 وحتى نهاية القرن العشرين تقريبا، وتعود(2) جذور الخلاف بين البلدين في العصر الحديث إلى عام 1938 حين اقتطعت تركيا لواء إسكندرون من الأراضي السورية بمساعدة الانتداب الفرنسي، أو ما يُعرف اليوم بمحافظة “هاتاي” الواقعة جنوب تركيا، وهو ما تسبّب في نشوب عداوة مبكرة بين البلدين على خلفية النزاع الحدودي الناشئ بينهما، خاصة أن سوريا ظلّت تنظر لمعظم المقاطعات الجنوبية التي سيطرت عليها الجمهورية التركية منذ عام 1923 كجزء لا يتجزأ من أراضيها التاريخية.

وسرعان ما تفاقم الخلاف بينهما بفعل التحالفات الإستراتيجية لكلٍّ منهما، ففي حين اختارت أنقرة تبنّي السياسات والتوجّهات الأطلسية الغربية، انحازت معظم الحكومات السورية إلى التوجّهات اليسارية والاشتراكية، ما وضع البلدين في مواجهة بعضهما بعضا خلال معظم الفترات، باستثناء الفترة القصيرة التي حكم خلالها الرئيس الأول للجمهورية السورية “حسني الزعيم” محاولا تبنّي سياسات مؤيدة من الغرب قبل أن يُطاح به في انقلاب عسكري بعد أربعة أشهر فقط من صعوده للسلطة عام 1949.

بالتزامن مع ذلك، كانت تركيا تخوض تحوّلا داخليا خاصا بها إثر صعود الحزب الديمقراطي للسلطة أعقاب الانتخابات البرلمانية عام 1950، ليكسر بذلك هيمنة حزب الشعب الجمهوري منذ تأسيس الجمهورية عام 1923. ومع صعود الحزب الديمقراطي اتبعت حكومة “عدنان مندريس” نهجا أكثر راديكالية في التوجه للغرب سعيا للحصول على عضوية حلف “الناتو”، وهو ما تكلّل بالنجاح مع حصول أنقرة على عضوية الحلف الأطلسي في العام التالي مباشرة.

كان انضمام تركيا للناتو يهدف بالأساس إلى أن تعمل الأولى كحجر زاوية لتحالف عسكري مؤيد للغرب يهدف لمواجهة النفوذ السوفيتي في الشرق الأوسط، تحالف تم أُعلِن عنه عام 1955 تحت اسم حلف بغداد، وضمّ في عضويته بجانب تركيا كلًّا من العراق وإيران وباكستان وبريطانيا، في حين رفضت بقية الدول العربية وفي مقدمتها سوريا الانضمام لتحالف تقوده تركيا بسبب تراث الخوف وعدم الثقة والنزعة المناهضة للأتراك التي تعود لزمان الحرب العالمية الأولى حين تدخّل العثمانيون لقمع الحركة القومية العربية، ولاحقا حين فشلت تركيا في التصويت لصالح قيام دولة فلسطين في الأمم المتحدة بسبب علاقتها المتنامية مع إسرائيل.

وردا على ذلك، انضمت سوريا إلى مصر في معاهدة عسكرية مناهضة لحلف بغداد، وبدأت في استيراد الأسلحة السوفيتية تزامنا مع زيادة نفوذ القوميين العرب في دمشق ممّن تأثروا بالنزعة القومية للرئيس المصري جمال عبد الناصر، ما دفع تركيا لشنّ غارات عسكرية على مواقع سوريا بالقرب من بحر الجليل في ديسمبر/كانون الأول عام 1955، وهي خطوة رد عليها السوريون بالدعوة إلى وحدة سياسية كاملة مع مصر.

ومع ترسيخ التحالف بين دمشق والقاهرة، أصبح الأتراك ينظرون لسوريا في ظلّ تزايد نفوذ “البعث” بوصفها مركزا مسلحا للتخريب وتغيير الأنظمة في المنطقة، نظرة تعزّزت بعد أن أطلقت أميركا مطلع عام 1957 ما صار يُعرف باسم “مبدأ أيزنهاور” لينص على تعهّدها بتقديم مساعدات اقتصادية وعسكرية وصولا لنشر القوات الأميركية لحماية أي دولة من أي عدوان مسلح من قِبل دولة أخرى تسيطر عليها الشيوعية الدولية، وهو مبدأ تم تكييفه على الفور لمواجهة صعود القومية العربية، وتمت مقابلته بترحيب واسع من قِبل تركيا وأعضاء حلف بغداد.

بحلول أغسطس/آب عام 1957، ردّت دمشق على عقيدة أيزنهاور بطرد ثلاثة مسؤولين أميركيين اتهمتهم بالتخطيط للإطاحة بالحكومة السورية بدعم تركي وعراقي، وفي الشهر التالي مباشرة قامت أنقرة بحشد 33 ألف جندي على حدودها مع سوريا، وفي المقابل قام “عبد الناصر” بإرسال ألفي جندي مصري إلى اللاذقية السورية تأكيدا لدعمه لحزب البعث، وبحلول نوفمبر/تشرين الثاني كانت القوات التركية قد ابتعدت عن الحدود السورية مفسحة المجال للإعلان عن الاتحاد السياسي الكامل بين مصر وسوريا تحت اسم الجمهورية العربية المتحدة في فبراير/شباط عام 1958.

غيَّر تشكيل الجمهورية العربية المتحدة موازين القوى في المنطقة بشكل كبير، وسرعان ما ألهم قيام انقلاب يوليو/تموز الشهير الذي أطاح بالملكية الموالية للغرب في العراق وأسّس نظاما اشتراكيا قوميا جديدا في بغداد، ومع مخاوف الولايات المتحدة من امتداد موجة التغيير العروبي المدعومة من دمشق والقاهرة إلى لبنان، فإن واشنطن قادت أول تدخّلاتها العسكرية في الشرق الأوسط بعدما قامت بإنزال قوات المارينز على شواطئ لبنان في يوليو/تموز عام 1958 دعما لنظام “كميل شمعون”، تدخّل سهّله نظام “مندريس” عبر السماح للقوات الأميركية باستخدام قاعدة إنجرليك الجوية، رغم أن تركيا لم تشارك في الجهد العسكري بشكل مباشر على ما يبدو.

لكن سياسات مندريس المغامرة ظلّت مصدرا(3) للخلاف السياسي في الداخل التركي، وفي حين أن حزب الشعب الجمهوري المعارض كان داعما للسياسات المؤيدة للغرب، فإن رئيس الحزب آنذاك “عصمت إينونو” لم يكن متوافقا مع السياسات التدخّلية لحكومة مندريس، وكان هذا الخلاف السياسي أحد الأسباب المؤدية في نهاية المطاف إلى انقلاب عام 1960 العسكري ليحمل الجنرال “جمال غورسل” إلى رأس السلطة التركية رسميا عام 1961. وفي حين جدّدت الحكومة التركية الجديدة التزام سلفها تجاه الناتو وحلف بغداد، فإنها أعلنت نيّاتها تحسين علاقاتها مع العالم العربي، حيث كانت أنقرة تأمل في تغيير صورتها كوكيل للمصالح الغربية في الشرق الأوسط، وفي الوقت نفسه كسب الأنظمة العربية لصفها في القضية القبرصية.

نتيجة لذلك، كانت تركيا هي ثاني دولة -بعد الأردن- تعترف بالنظام السوري بعد إعلان سوريا الانفصال عن مصر، ورغم أن الدولتين اتفقتا ضمنيا منذ ذلك الحين على تجاهل الخلافات المرتبطة بالحرب الباردة، ظلّت هناك الكثير من المشكلات التي عكّرت صفو العلاقات الثنائية، على رأسها الخلافات الحدودية وقضية التهريب غير القانوني الذي دفع تركيا لتلغيم مناطق كبيرة من حدودها المشتركة مع سوريا والبالغ طولها 835 ميلا، وهي مشكلات استمرت في فرض نفسها على أجندة العلاقات بين البلدين حتى مطلع الثمانينيات.

لكن القضية الأكثر إثارة(4) للخلاف بين البلدين في ذلك التوقيت كانت هي قضية المياه، حيث مكّنت الجغرافيا تركيا من معظم مياه نهر الفرات التي تصب في سوريا والعراق، وهو وضع سعت أنقرة للاستفادة منه من السبعينيات عبر بناء عدد من السدود على النهر لتوفير المياه للزراعة وتوليد الطاقة الكهرومائية، غير أن مشاريع المياه التركية كان لها آثار سياسية كبيرة، فمن ناحية تسبّبت في إثارة غضب سوريا التي حُرمت من المياه خلال أوقات الجفاف النسبي، ومن ناحية أخرى فإن السدود أثارت توترات كبيرة مع الأكراد بسبب قيام أنقرة بتهجير عشرات القرى الكردية من سكّانها بسبب هذه المشاريع.

كانت هذه القضية المشتركة هي ما دفعت سوريا لتصبح أول دولة أجنبية تُقدِّم الدعم لحزب العمال الكردستاني في تمرّده المسلح ضد الدولة التركية، حيث سمح(5) نظام الرئيس السوري “حافظ الأسد” لزعيم الحزب “عبد الله أوجلان” بالإقامة في دمشق، وفتح له ثلاثة معسكرات في ريف دمشق جرى من خلالها تدريب آلاف المقاتلين بمعرفة الاستخبارات السورية بهدف استخدام الحزب كورقة ضغط ضد أنقرة، ليبلغ النزاع بين البلدين ذروته عام 1998 حين هدّدت تركيا باجتياح الأراضي السورية لوقف هجمات حزب العمال، قبل أن تتدخّل مصر للتوسط بين الطرفين وإنهاء النزاع رسميا بتوقيع اتفاقية “أضنة” لتنص على خروج مقاتلي حزب العمال الكردستاني من سوريا، فيما تم إبعاد “أوجلان” إلى روسيا ثم إيطاليا وصولا لكينيا حيث اختطفته المخابرات التركية ونقلته للسجن عام 1999، ليُعلن في العام التالي إنهاء التمرد الكردي المسلح ضد الدولة، بشكل مؤقت كما اتضح فيما بعد.

العمق الإستراتيجي؛ تصفير المشكلات

هدأت العلاقات نسبيا بين الطرفين أعقاب اتفاقية أضنة، ما فتح المجال لقيام الرئيس التركي “أحمد نجدت سيزر” بزيارة دمشق عام 2000، لكن العلاقات التركية-السورية اتخذت منعطفا جديدا تماما مع صعود حزب العدالة والتنمية للسلطة، ليكون له الدور الأكبر في تحويل تلك العلاقات من دوامة الخلافات والصراعات لعصر من التعاون والتفاهم.

كان صعود العدالة والتنمية مصحوبا بتحوّل راديكالي في سياسة تركيا الخارجية لتنتقل من موقفها التقليدي كحارس أمين للقيم والمصالح الغربية إلى نهج “العثمانية الجديدة” أو عقيدة “العمق الإستراتيجي”، وتُعَدُّ هذه العقيدة بشكل رئيس من بنات أفكار مهندس السياسة الخارجية التركية الأول “أحمد داود أوغلو”، مَن رافق أردوغان في رحلة صعوده وعمل مستشارا له ثم وزيرا للخارجية في حكومته ثم رئيسا للوزراء بعد تولّي الأول لرئاسة الجمهورية، وتأخذ(6) عقيدة العمق الإستراتيجي بالاعتبار كون تركيا دولة متعددة الأبعاد الإقليمية، فهي بلد شرق أوسطي ذو طموحات غربية، وفي الوقت نفسه متصلة جغرافيا وثقافيا وعِرقيا بأشكال متعددة بمناطق البلقان والقوقاز وآسيا الوسطى وبحر قزوين والبحر المتوسط والخليج والبحر الأسود، بما يعني أن على تركيا أن تجد مقاربة للسياسة الخارجية تُراعي انتماءاتها المتعددة هذه، وألّا تنحاز لأحد هذه الانتماءات على حساب الأخرى.

وفي قلب سمات سياسة العمق الإستراتيجي هذه ظهرت لأول مرة مقاربة “صفر مشاكل مع الجيران”، وهي مقاربة قائمة على فكرة أن تركيا بحاجة إلى تحسين علاقاتها مع جميع جيرانها، وتصفية جميع صراعاتها التاريخية، وكان تطبيق هذه السياسة يعني أن حكومات العدالة والتنمية في طريقها لتطبيق مقاربة أقل “أمنية” وأكثر “ليبرالية” تجاه الجوار الشرقي لتركيا وفي القلب منه سوريا، ما بشّر بوضوح بظهور نسخة جديدة من العلاقات المحسّنة غير المسبوقة بين أنقرة ودمشق.

فمنذ الوهلة الأولى، رفض قادة حزب العدالة والتنمية المشاركة في سياسات العزل والحصار التي فرضها الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش على سوريا بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري عام 2005، وعلى النقيض، ساعد الساسة الأتراك الحكومة السورية على قبول هذه المرحلة الصعبة من خلال لعب دور الوساطة بين دمشق ومختلف الحكومات الأوروبية، وعلى الجانب السوري قرّرت القيادة السورية الاستثمار في علاقتها الجديدة مع تركيا، متناسية الذاكرة التاريخية للخلافات بين البلدين، وغاضّة الطرف عن عضوية أنقرة المثيرة للجدل في حلف الناتو.

على المستوى الاقتصادي، تبنّت تركيا وسوريا نهجا تجاريا مفتوحا، ووقّع البلدان اتفاقية للتجارة الحرة دخلت حيز التنفيذ عام 2007، قبل أن يتوصلا لاتفاق لإنهاء متطلبات التأشيرة بينهما عام 2009، وبفضل هذه الإجراءات تضاعفت صادرات تركيا لسوريا ثلاث مرات بين عامي 2006 و2010 وصولا إلى 1.85 مليار دولار، فيما ارتفعت قيمة الصادرات السورية إلى تركيا من 187 مليون دولار إلى 662 مليون دولار خلال الفترة نفسها، وانخرط البلدان في عدد من مشاريع البنية التحتية المشتركة، بما في ذلك “سد الصداقة” على نهر العاصي في محافظة هاتاي الهادف لتوفير المياه للأراضي السورية والتركية جنبا إلى جنب.

ووفقا لدراسة(7) الباحث “فرانسيسكو ديليما” في معهد الشؤون الدولية الإيطالي؛ فإن هذه المبادرة الإقليمية تجاه سوريا كانت هي الإنجاز الأهم للسياسة الخارجية التركية، حيث مثّلت سوريا منذ ذلك الحين بوابة لعبور تركيا للعالم العربي ومفتاحا لتكامل اقتصادي أوسع مع دول المنطقة، وقد أغرى هذا الإنجاز أنقرة لتقديم نفسها كوسيط في محادثات غير مباشرة بين سوريا وإسرائيل حول هضبة الجولان، ولكن في الوقت الذي بدأت فيه جهود تركيا تُحقّق بعض التقدّم، تسبّب العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة عام 2008 في تراجع جهود الوساطة التركية وخلق إحباطا كبيرا لدى أنقرة، ورغم ذلك فإن العلاقات المُحسّنة حافظت على مسارها الجيد بشكل كبير، مما أغرى تركيا للاندفاع لمرحلة متقدمة من العمق الإستراتيجي عبر تقديم نفسها راعيا جديدا للعالم الإسلامي.

في ذلك التوقيت، كانت الأمور قد استتبّت داخليا بالنسبة لأردوغان، وبات من الواضح أن سياسات العمق الإستراتيجي الخارجية وإستراتيجيات التحفيز الاقتصادي الداخلية قد آتت ثمارها ورسّخت حكم العدالة والتنمية، فيما كانت المعارضة العلمانية راكدة بشكل كبير، وفي ضوء ذلك شرعت تركيا في برنامج طموح لإبراز قوّتها الناعمة على المستوى الشعبي من خلال أجندة تمزج بين القومية التركية والإسلام السني المعتدل، وباعتبار تركيا هي الوريث الشرعي للإمبراطورية العثمانية، ومع تبنّيها لنسخة دينية معتدلة تمزج بين الإسلام والديمقراطية، فقد كانت مؤهّلة من وجهة نظر أردوغان والعدالة والتنمية للعب دورها كقائد طبيعي لمسيرة استعادة الحضارة الإسلامية.

تماشيا مع ذلك، قام أردوغان وحزبه بنشر القوة الناعمة(8) لتركيا في جميع أنحاء العالم الإسلامي عبر تمويل المساجد والمؤسسات الدينية والمراكز الثقافية والجمعيات الخيرية والبعثات التعليمية الدينية من أفريقيا لأوروبا، ومن أقصى شرق آسيا إلى جنوب أميركا اللاتينية، لكن الشرق الأوسط على وجه الخصوص ظلّ منطقة عصيّة على أنشطة التواصل الديني التركية بسبب نظرة العديد من الدول العربية إلى تركيا العثمانية كـ “قوة إمبريالية”، وبسبب هيمنة إصدارات أخرى من التدين السياسي وفي مقدمتها التدين السلفي السعودي الذي يميل بشكل أكبر للبحث عن الاستقرار وترسيخ الأوضاع القائمة، ولا يُبالي بالديمقراطية والتغيير السياسي ضمن مكوّناته، وقد ظلّ هذا الوضع المستعصي قائما وحاكما للعلاقات الحضارية بين تركيا ومحيطها الشرق الأوسطي حتى لحظة اندلاع ثورات الربيع العربي نهاية عام 2010، باستثناء بعض النخب الإسلامية العربية التي بدأت تنظر لتركيا قبل الربيع كنموذج محتمل للتوفيق بين الحكم الإسلامي والديمقراطية الغربية.

التبشير الديمقراطي

ألقى الربيع العربي وخروج الشعوب للمطالبة بالحرية والديمقراطية حجرا في محيط تركيا الإقليمي الراكد سياسيا إلى حدٍّ كبير، ليُقدِّم ذلك الربيع لأنقرة فرصة ذهبية للاختراق الناعم لجوارها العصيّ ثقافيا وسياسيا، لكن الاستفادة من الربيع عنت أن على تركيا إدخال تغييرات ملحوظة على نهجها الإقليمي، بما يشمل إعادة النظر في بعض سياسات عقيدة العمق الإستراتيجي وخاصة مبدأ “صفر مشاكل مع الجيران” مقابل اضطلاع تركيا بدور أكثر طموحا. وتماشيا مع طموحات الداعين للتغيير في البلاد العربية، قدّمت تركيا نفسها صراحة بوصفها راعية لعملية إرساء الديمقراطية في الشرق الأوسط، معتقدة أن نشر النموذج التركي في التحديث والديمقراطية من شأنه أن يجعلها قائدا إقليميا في منطقة أكثر ازدهارا.

تيجة لذلك، قدّمت تركيا دعما مطلقا لثورات الربيع العربي في تونس ومصر منذ اللحظة الأولى، لكن الوضع في سوريا بالأخص كان مختلفا، وكانت العلاقات مع دمشق أحد أهم نجاحات سياسة “صفر مشاكل” التي تبنّاها حزب العدالة والتنمية منذ صعوده إلى السلطة، ونتيجة لذلك فإن تركيا وجدت نفسها في موقف حرج مع قيام الثورة السورية، فمن ناحية أرادت الحفاظ على المكتسبات السياسية والاقتصادية لعلاقاتها مع دمشق خلال السنوات الأخيرة، ومن ناحية أخرى فإن دعم نظام استبدادي أو السكوت عنه كان ليضر صورة تركيا “المثالية” الجديدة في العالم العربي.

ونتيجة لهذه الموازنة أتى رد فعل تركيا المبدئي على الاحتجاجات السورية على هيئة محاولة إقناع نظام الأسد نفسه بقبول مطالب الشعب، وكان هذا النهج مستندا إلى افتراض أن العلاقات التركية السورية المُحسّنة، وفي القلب منها العلاقات الشخصية التي طوّرها أردوغان مع نظام الأسد، ستكون كافية لمنح أنقرة ما يكفي من النفوذ على دمشق، وبخلاف ذلك كان أردوغان يعتقد -مخطئا كما اتضح بعدها- أن لدى الأسد الابن نزعة ليبرالية من شأنها أن تدفعه لاختيار التوجه نحو الإصلاح بدلا من العناد واستخدام العنف، ولذا فإن أردوغان شعر بالخيانة فيما يبدو حين بدأ الأسد في فتح النيران الكثيفة على المتظاهرين السلميين، حيث تغيّرت نظرته الشخصية تجاه الأسد تزامنا مع تلك اللحظة التي تحوّلت فيها سياسة بلاده تجاه سوريا، كما قال هو بنفسه(9) في مقابلته مع “إيشان ثارور” من مجلة “تايم” أواخر عام 2011.

فمع ازدياد قمع نظام الأسد تجاه المتظاهرين السوريين واستخدامه للقوة العسكرية الباطشة لمواجهتهم، بدأت تركيا في تغيير نهجها وشرعت في استضافة وتسليح جماعات المعارضة السورية خاصة تلك المرتبطة بالإخوان المسلمين تزامنا مع قرارها بقطع العلاقات مع دمشق والمطالبة بتغيير شامل للنظام، وكان هذا التحوّل يستند إلى افتراض أن النظام البعثي سينهار قريبا أُسوة بسائر أنظمة الدول التي ضربها الربيع العربي، وأن الولايات المتحدة والدول الغربية ستتدخّل في نهاية المطاف للمساعدة في الإطاحة بالنظام الدموي أُسوة بما حدث مع نظام القذافي في ليبيا.

بالتزامن، انتهج العدالة والتنمية سياسة الحدود المفتوحة مع سوريا سامحا بعبور مئات الآلاف من اللاجئين السوريين إلى تركيا حيث حصلوا على مساعدات مالية سخية وخدمات موسعة في مخيمات اللاجئين، وخوفا من اندلاع رد فعل سلبي من الأتراك تجاه اللاجئين الذين مثّلوا عبئا اقتصاديا وديموغرافيا لا يمكن إنكاره على الدولة التركية، روّج(10) أردوغان بقوة لسردية التعاطف الإسلامي ودعا المسلمين السُّنة في البلاد للتضامن مع “إخوانهم السوريين” الفارّين من القمع “الشيعي العلوي” لنظام الأسد، مُشبِّها هؤلاء السوريين بالمهاجرين الذين فروا مع النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- هربا من البطش خلال السنوات الأولى للإسلام، فيما شبّه الأتراك بالأنصار الذين استضافوا المهاجرين وآووهم، وقد لاقى هذا السرد الوجداني فيما يبدو قبولا في الدوائر الدينية والقومية في البلاد، وساعد أردوغان على تجنّب التداعيات المبكرة للصراع السوري.

ولكن افتراضات تركيا حول نظام الأسد أثبتت أنها خاطئة، وبدلا من الإطاحة بالأسد؛ دمّرت الحرب الأهلية الدولة السورية تماما، في حين فشلت المعارضة المدعومة من أنقرة في قلب المعادلة بسبب التدخّل الروسي والإيراني الذي ساعد نظام الأسد على استعادة الكثير من الأراضي التي انتزعتها المعارضة منه، وبخلاف ذلك بدأ الصراع في سوريا يُهدّد العلاقات الخارجية لتركيا وتحديدا منذ قيام النظام السوري بإسقاط طائرة تركية في صيف عام 2012 ورفض الناتو التدخّل لمساندة أنقرة، لتبدأ موجة من التوتر في علاقات تركيا مع الغرب أضافت إلى علاقات تركيا المتوترة بالأساس مع إيران وروسيا بفعل الأزمة السورية.

بخلاف ذلك، أثبتت الحرب سريعا أن لها آثارها الجانبية الخاصة على الداخل التركي، فبخلاف الاشتباكات المتكررة على حدودها كانت هناك عدة ظواهر مرتبطة بالحرب ألقت بظلالها الكثيفة سياسيا وأمنيا على الدولة التركية، أولها هو ظهور الجماعات الجهادية وبالأخص “تنظيم الدولة الإسلامية” الذي سيطر على مساحات كبيرة من الأراضي في سوريا والعراق، ومع ظهور هذه الجماعات تحوّلت(11) تركيا إلى نقطة عبور للمقاتلين للأجانب، ونظرا لأن أنقرة اختارت غض الطرف عن أنشطة بعض هذه الجماعات على أراضيها أملا أن ذلك سوف يُضعف نظام الأسد في نهاية المطاف، فإن هذا التوجّه أثّر سلبا على السمعة التركية في دوائر السياسة والرأي العام في الغرب مع اتهامات متكررة لأنقرة بتقديم الدعم للجهاديين، وهي اتهامات نفتها تركيا رسميا مرارا وبشدة، فضلا عن أن هذه الإستراتيجية انقلبت حين قرّر “تنظيم الدولة” توجيه سلاحه ضد الدولة التركية بداية من يوليو/تموز 2015.

بخلاف ذلك، فإن تركيا سرعان ما اكتشفت أن الحرب في سوريا لم تكن مجرد قتال بين النظام ومعارضيه الإسلاميين، لكنها شملت الأكراد أيضا، وكانت تلك أنباء سيئة من الناحية الإستراتيجية للنظام التركي الناظر دوما إلى حزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماية الشعب الكردية في سوريا باعتبارها امتدادا لحزب العمال الكردستاني الذي يحمل تاريخا من التمرد الدموي ضد الدولة التركية، وما جعل الأمور أسوأ بالنسبة لأنقرة أن أكراد سوريا حصلوا على دعم كبير من واشنطن لكونهم القوة البرية الأكثر كفاءة في القتال ضد “تنظيم الدولة”.

ونتيجة لذلك، فإن تركيا سعت خلال المرحلة الأولى من الحرب في سوريا إلى تبنّي موقف معتدل(12) تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي والقبول بدور الأكراد في الحرب ضد “تنظيم الدولة”، لدرجة أن أنقرة سمحت لقيادات الحزب بالعمل على أراضيها وحافظت على قنوات الحوار مفتوحة معهم، فيما سعى أردوغان لاستخدام علاقاته الشخصية مع “مسعود بارزاني”، زعيم إقليم كردستان العراق، لمنع حزب الاتحاد الديمقراطي من السيطرة الكاملة على سوريا، وقام برعاية تأسيس المجلس الوطني الكردستاني، الشريك التابع لحزب بارزاني الديمقراطي الكردستاني، ليعمل كمنافس قوي لحزب الاتحاد الديمقراطي، قبل أن تدعم أنقرة جهود “بارزاني” نفسه للوصول إلى اتفاق لتقاسم السلطة بين المجلس الوطني الكردستاني وحزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني في يوليو/تموز عام 2012.

حتى ذلك التوقيت كانت العلاقة بين الحكومة التركية والأكراد في البلاد في أفضل حالاتها على ما يبدو بفضل مفاوضات السلام التي قادها العدالة والتنمية متبنّيا مقاربة تصالحية تجاه مطالبات الأكراد في تركيا بالمزيد من الحكم الذاتي ومنحهم حقوقا لغوية وثقافية غير مسبوقة، وسعى للتوصّل إلى اتفاق سلام دائم مع حزب العمال الكردستاني بعد وقف إطلاق النار الأخير الذي تم التوصّل إليه عام 2013، لكنّ كل شيء انهار فجأة خلال الأشهر التالية إثر قيام “تنظيم الدولة” بمحاصرة المدن الكردية في سوريا واتهام حزب الاتحاد الديمقراطي للمجلس الوطني الكردستاني وتركيا بدعم حصار التنظيم لمدينة كوباني ذات الأغلبية الكردية على الحدود السورية التركية، فيما جاء تفجير سروج في يوليو/تموز 2015 ليصبّ الزيت على عملية السلام التركية الكردية المشتعلة بالفعل، وردا على استهداف “تنظيم الدولة” لنشطاء موالين للأكراد، قام حزب العمال الكردستاني بتجديد تمرّده واستهدف عددا من ضباط الشرطة الأتراك مما أدّى إلى انهيار عملية السلام بشكل رسمي.

في الوقت نفسه، كان لنتائج الانتخابات البرلمانية في يونيو/حزيران 2015 تأثيرها الخاص(13) على موقف أردوغان من الأكراد، حيث كان الزعيم التركي يأمل بأن السلام مع حزب العمال الكردستاني سيرسّخ الموقف السياسي لحزبه من خلال ضمان تصويت الأكراد وزيادة الدعم الشعبي لخطة التحوّل للنظام الرئاسي، وبدلا من ذلك فإن الانتخابات شهدت أداء ضعيفا للعدالة والتنمية الذي خسر الأغلبية المطلقة في البرلمان للمرة الأولى منذ صعوده للسلطة، وفي الوقت نفسه كان أداء حزب الشعب الديمقراطي الموالي للأكراد أفضل من المتوقّع، حيث حصل على 13.1% من الأصوات و80 مقعدا برلمانيا، وكانت هذه المرة الأولى التي ينجح فيها حزب كردي في تجاوز العتبة الانتخابية المحددة بواقع 10% من الأصوات.

حمّل أردوغان الأكراد مسؤولية الإخفاق الانتخابي على ما يبدو، وبعد أن فشلت محاولات تشكيل حكومة ائتلافية، استخدم الرئيس سلطته للدعوة لانتخابات جديدة، فيما هيمن الخطاب المعادي للأكراد على الحملة الانتخابية الجديدة للحزب في محاولة لنزع الشرعية عن حزب الشعوب الديمقراطي واستقطاب الناخبين القوميين، خطاب ازداد شراسة مع استيلاء وحدات حماية الشعب على مساحات أوسع من الأراضي على طول الحدود السورية-التركية، ومع الإعلان عن تشكيل قوات سوريا الديمقراطية في أكتوبر/تشرين الأول 2015 لتعتبرها أنقرة على الفور فرعا لحزب العمال الكردستاني، بالنظر إلى أن مكاسب الأكراد السوريين أغرت(14) حزب العمال للتخلي بشكل كامل عن مفاوضاته مع الحكومة وشنّ حملة تمرد مسلح قبلها -في صيف العام المذكور- بهدف الاستيلاء على المدن في جنوب شرق تركيا بالأسلوب نفسه الذي اتّبعه الأكراد السوريون.

ورغم أن تركيا أخمدت حملة الاستيلاء العسكري مباشرة، فإن حزب العمال الكردستاني واصل شنّ هجمات منفصلة ضد أهداف حكومية وعسكرية تركية مختلفة، مستلهما تجربة وحدات حماية الشعب، وهو ما دفع الحكومة من جانبها لتعزيز خطابها المناهض للأكراد الذي أثبت فاعليته مع استعادة العدالة والتنمية للأغلبية البرلمانية خلال الانتخابات المبكرة التي جرت في نوفمبر/تشرين الثاني للعام نفسه، ومع اتجاه الحزب في وقت لاحق للتحالف مع حزب الحركة القومية اليميني المناهض للأكراد، فإن ذلك عنى رسميا دق آخر مسمار في نعش عملية السلام مع الأكراد في تركيا.

القومية التركية

تغيّرت خريطة أردوغان في سوريا بشكل ملحوظ تزامنا مع هذه التحوّلات، حيث أصبحت أنقرة أكثر تصميما على إحباط أي جهود للحركة الكردية لترسيخ وجودها في الشمال السوري، فيما تراجعت جهود أنقرة الهادفة للإطاحة بالأسد كأولوية خلف الهاجس الأكثر إلحاحا المتمثّل في منع إقامة حكم ذاتي للأكراد السوريين على الحدود الجنوبية لتركيا.

وللمفارقة، فإن التطورات الداخلية التي شهدتها تركيا هذه الفترة عزّزت من وتيرة هذا التحوّل بشكل ملحوظ، بداية من استقالة رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو من منصبيه الوزاري والحزبي في مايو/أيار 2016 إثر خلافات مع أردوغان كان الملف الكردي واقعا في القلب منها، ثم محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة ضد أردوغان منتصف العام نفسه، والتي دفعته لتسريع جدول أعمال التحوّل لدولة رئاسية ومنح صلاحيات موسعة للرئيس خلال الاستفتاء الذي تم إجراؤه في أبريل/نيسان 2017.

كان لهذه التطورات انعكاسات واضحة على السياسة الخارجية التركية في سوريا، خاصة أنها جاءت متزامنة مع تطورات إقليمية لا تقل أهمية. فمن ناحية، كان من الواضح أن التدخّل الروسي في سوريا عكس موازين القوى لصالح الجبهة المؤيدة للأسد، فيما بدا أن واشنطن تصالحت مع هذه الحقيقة، وفي الوقت نفسه كان من الواضح أن الشرق الأوسط بات أكثر تشكّكا في القيادة التركية بعد انقلاب ديناميات الربيع العربي أعقاب الانقلاب العسكري في مصر والحملة الإقليمية الشرسة ضد جماعة الإخوان، صديق تركيا الافتراضي، ولاحقا الحصار الذي تم فرضه ضد قطر، حليف أنقرة الرئيس الحالي في الخليج، وهي تطورات وقعت في ظلّ مناخ مغلّف بخطاب قومي مناهض لأجندة تركيا السياسية والدينية.

في هذا السياق، وجدت تركيا نفسها معزولة أكثر من أي وقت مضى، ما دفع أردوغان لمحاولة تطوير موقف أكثر براغماتية تجاه الصراع السوري. فبادئ ذي بدء، كان على أنقرة أن تعترف -ضمنيا على الأقل- أن إزاحة الأسد لم يعد هدفا واقعيا يمكن تحقيقه في ظلّ وجود “تنظيم الدولة” وتقوية حزب الاتحاد الديمقراطي لموقفه على الحدود السورية، وفي ظلّ عجز تركيا مرارا عن إقناع واشنطن بالتخلّي عن الأكراد ومراعاة المخاوف الأمنية لأنقرة؛ فإنها قرّرت التصرف بمفردها، وكانت أولى خطواتها في هذا الصدد التقرب من موسكو وتقديم اعتذار لها عن قيام قوات الدفاع الجوي التركي بإسقاط طائرة روسية اخترقت الأجواء في وقت سابق، ومع إقرار أنقرة أن الإطاحة بالأسد لم يَعُد من أولوياتها فإنها نجحت في الحصول على مباركة موسكو لخطتها الخاصة للتعامل مع التهديد الكردي الأكثر أهمية وإلحاحا.

كانت البداية في أغسطس/آب 2016 حين دشّنت تركيا عملية ضخمة تحت اسم “درع الفرات” في المنطقة بين نهر الفرات إلى الشرق والمنطقة المحيطة بأعزاز إلى الغرب، وكان الهدف العسكري الرسمي(15) لهذا التدخّل هو القضاء على وجود “تنظيم الدولة” قرب الحدود التركية، ولكن العملية هدفت في الوقت نفسه إلى منع أكراد سوريا من وصل الكانتونات الواقعة تحت سيطرتهم في كلٍّ من كوباني وعفرين، ورغم أن روسيا انتقدت العملية التركية بشكل رسمي فإن قوات النظام السوري لم تفعل شيئا لاعتراض العملية التركية، لتنتهي رسميا في مارس/آذار 2017 بسيطرة تركية على جرابلس والباب والعديد من القرى في شمال غرب سوريا ومنع الأكراد من وصل أماكن وجودهم في كوباني وعفرين، غير أن أنقرة كانت مضطرة لإنهاء العملية قبل تحقيق طموحاتها بالوصول إلى منبج بسبب الضغوط الأميركية المكثفة لإنهاء القتال.

بالتزامن مع ذلك، شاركت تركيا مع كلٍّ من روسيا وإيران في رعاية المفاوضات بين النظام السوري وممثلي المعارضة في نور سلطان “آستانا سابقا” (كازاخستان)، حيث تم التوصل لاتفاق لوقف إطلاق النار وإنشاء مناطق لخفض التصعيد، اتفاق انتهكه النظام السوري في أكثر من مناسبة بدعم روسي ونجح بفضله في تحقيق مكاسب عسكرية كبيرة من خلال اختراق الهدنة، لكن روسيا في المقابل واصلت منح الضوء الأخضر لتركيا لمواصلة عملياتها العسكرية ضد الأكراد في سوريا من خلال العملية “غصن الزيتون” التي تم إطلاقها في يناير/كانون الثاني عام 2018.

كانت “غصن الزيتون” تهدف في الحقيقة إلى إكمال ما بدأته تركيا خلال “درع الفرات” وهو إحكام السيطرة على الجزء الشمالي الغربي من سوريا المتاخم للحدود التركية، هذه المرة عبر الاستيلاء على عفرين، المدينة ذات الأغلبية الكردية، والقرى المجاورة لها، ولكن على عكس “درع الفرات” التي جرت في أراضٍ عربية، فإن “غصن الزيتون” وقعت(16) بالأساس في مناطق تقطنها أغلبية كردية، وهو ما جعل تقدّم تركيا أكثر صعوبة وقدرتها على الاحتفاظ بالأراضي وفرض السيطرة على المنطقة أكثر تكلفة.

لكن التعقيدات العسكرية والأمنية لم تكن هي التي أوقفت بالأساس التقدم التركي في سوريا، حيث كان على أنقرة أن تمنح نفسها بعض الوقت لاستكشاف سياسة الإدارة الأميركية الجديدة في سوريا، ورغم أن إدارة ترامب أعلنت في البداية أن الإطاحة بنظام الأسد لم تكن أولوية لها وأنها بصدد تقليص نشاطها في الملف السوري، فإنها سرعان ما عكست هذا الموقف في أبريل/نيسان عام 2017 حين قرّرت توجيه ضربة عسكرية خاطفة باستخدام صواريخ توماهوك كرد فعل على قيام الأسد باستخدام الأسلحة الكيميائية، ومع تطوير الإدارة الأميركية لموقف أكثر صرامة في مواجهة إيران فإنها قرّرت العودة من جديد للعبة السورية، وقامت بشحن دفعات أسلحة إلى الأكراد السوريين المشاركين في القتال ضد “تنظيم الدولة” رغم الاعتراضات التركية الكبيرة.

على مدار الأشهر التالية، انخرط(17) الأتراك في مفاوضات ماراثونية مع الإدارة الأميركية لمحاولة إقناعها بتبنّي رؤيتهم لإقامة منطقة عازلة بعرض 20 ميلا لتوطين اللاجئين على الحدود وإجبار الأكراد على الانسحاب خارج المنطقة، وهددت أنقرة في أكثر من مناسبة بتوسيع توغّلها العسكري بشكل منفرد إلى الجزء الشمالي الشرقي من سوريا حال فشلت واشنطن في الاستجابة لمطالبها، لكن الأخيرة لم تنجح على الأرجح بإقناع وحدات حماية الشعب بهذه الخطة، حيث عرض الأكراد الانسحاب من مسافة عرضها خمسة كيلومترات من المناطق غير المأهولة بالسكان على الحدود، ويبدو أن الحل الوسط الذي قدّمه الأميركيون بتقليص حجم المنطقة العازلة إلى 15 كيلومترا على طول ثلث مساحة الحدود التركية السورية شرق الفرات لم يفلح في إقناع أنقرة، ما تسبّب في فشل المفاوضات بسبب التباين الكبير في المواقف والاختلاف حول نطاق المنطقة العازلة المقترحة.

في الوقت نفسه كانت الضغوط الداخلية(18) تتكثّف بشكل غير مسبوق على تركيا منذ الانتخابات البلدية في مارس/آذار للعام الحالي 2019 والتي خسر فيها العدالة والتنمية في كل البلديات الكبرى تقريبا للمرة الأولى منذ صعوده للسلطة، ورغم أن هذه الخسارة يمكن عزوها للأزمة الاقتصادية المتفاقمة في البلاد، فإنها عكست في الوقت نفسه استياء شعبيا بين الجمهور التركي بسبب وجود أكثر من 3.5 مليون لاجئ سوري في البلاد، وهكذا فإن أزمة اللاجئين وضعت ضغوطا إضافية على سياسة أردوغان السورية وحوّلت أولويات تركيا نحو التركيز على صناعة منطقة آمنة، ليس فقط لإبعاد الأكراد عن حدود تركيا، ولكن أيضا لأجل استخدامها لإعادة توطين اللاجئين السوريين وتخفيف الضغط الاقتصادي والديموغرافي عن بلاده.

ونتيجة لهذه الضغوط، قرّر أردوغان التصرف منفردا، ونظرا لإدراكه أن “التصريح الصامت” الذي حصل عليه من ترامب للتوغّل في سوريا تحت إطار “نبع السلام” في التاسع من أكتوبر/تشرين الأول ليس حاسما أو نهائيا، كان أردوغان حريصا على التحرك بسرعة شديدة لفرض وقائع جديدة على الأرض قبل حلول اللحظة التي سيضطر فيها للقبول بوقف إطلاق النار، وبالفعل نجحت أنقرة وحلفاؤها في السيطرة على مدينتي تل أبيض ورأس العين الحيويتين، قبل أن يعلن نائب الرئيس الأميركي مايك بنس في 17 أكتوبر/تشرين الأول أن الولايات المتحدة وتركيا قد توصّلتا إلى اتفاق يقضي بوقف العملية العسكرية التركية لمدة خمسة أيام من أجل انسحاب قوات سوريا الديمقراطية من المنطقة الآمنة المقترحة جنوب الحدود التركية.

لاحقا، في 22 أكتوبر/تشرين الأول، توصّل أردوغان إلى اتفاق جديد مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لتمديد وقف إطلاق النار من أجل إكمال قوات سوريا الديمقراطية لانسحابها مسافة 30 كيلومترا بعيدا عن المنطقة الحدودية، وكذلك من مدينتي تل رفعت ومنبج، وتضمّن الاتفاق أيضا تسيير دوريات مشتركة بين روسيا والنظام السوري من جهة وتركيا من جهة أخرى، على بُعد 10 كيلومترات من الجانب السوري للحدود.

من الناحية النظرية، نجحت أنقرة في تحقيق أهدافها إذن وإجبار واشنطن وموسكو على قبول انسحاب الأكراد إلى الحدود التي طلبتها الأولى سلفا، رغم عدم وجود دليل أن الانسحاب تم بشكل كامل إلى الآن، لكن ذلك كله لم يأتِ بغير ثمن، حيث وجدت تركيا نفسها مضطرة لقبول سيطرة روسيا والنظام السوري على معظم الخط الحدودي الذي خلّفه انسحاب الأكراد والقوات الأميركية، مع ترسيخ التعاون بحكم الواقع بين أنقرة ونظام دمشق -برعاية روسية- لفرض الأمن في المناطق المحددة، وهو ما يعني أن تركيا قبلت فعليا بإعادة تفعيل اتفاقية أضنة كإطار لإعادة ترتيب الأوضاع في شرق الفرات، وهي خطوة مهمة بالنسبة لروسيا التي تنظر للاتفاق الحالي كمفتاح لإعادة العلاقات بين دمشق وأنقرة خلال وقت قريب.

بخلاف ذلك، يبدو أن تركيا خسرت(19) المعركة الإعلامية حول تدخّلها العسكري الأخير بسبب السمعة الجيدة التي اكتسبتها وحدات حماية الشعب في الغرب بفعل دورها النشط في المعارك ضد “تنظيم الدولة”، وفقدت(20) أيضا المزيد من النقاط في علاقاتها العامة مع المؤسسات السياسية في الغرب، مع شروع الكونغرس في توقيع عقوبات على أنقرة، وقيام عدد من دول الاتحاد الأوروبي بفرض حظر على توريد الأسلحة إلى تركيا، وهو ما دفع أنقرة لمهاجمة الاتحاد الأوروبي لعدم وفائه بالتزاماته تجاه اللاجئين السوريين، والتلويح بالسماح بتدفق اللاجئين مجددا إلى أوروبا.

لكن التحدي الأكبر الذي ستواجهه تركيا في المستقبل المنظور يتعلّق بكيفية تنفيذ خطتها لتوطين اللاجئين السوريين في المنطقة الآمنة المنتظرة، فمن ناحية فإن تركيا لا تتمتع اليوم بسيطرة منفردة على الشريط الحدودي، بما يعني أن أي خطة لإعادة اللاجئين لا بد أن تحظى بموافقة روسيا والنظام السوري، ومن ناحية أخرى فإن محاولة إجبار اللاجئين على مغادرة تركيا إلى المنطقة الآمنة لن يكون أمرا سهلا، فضلا عن حجم الأموال الضخمة التي يحتاج إليها تجهيز مثل هذه المنطقة والتي تفوق قدرات الاقتصاد التركي المتعثّر حاليا، وأخيرا هناك مخاوف أن سياسة توطين اللاجئين العرب يمكن أن تُغيّر في النهاية التركيبة العِرقية في المناطق ذات الأغلبية الكردية في سوريا، مما قد يزيد من فرص الصراع بالقرب من الحدود التي دفعت تركيا ثمنا باهظا، عسكريا وسياسيا واقتصاديا، من أجل تأمينها في المقام الأول.

كلمات مفتاحية: تركيا أميركا سوريا نبع السلام المنطقة الأمنة اللاجئين تأمين حدود

المصادر

    1

    Why-Turkey-Treated-Trump’s-Letter-as-Trash

    2

    The-Quiet-Crisis:-Turkish-Syrian-Relations

    3

    Turkish-Syrian-Relations:-A-Checkered-History

    4

    Dams-and-Politics-in-Turkey:-Utilizing-Water,-Developing-Conflict

    5

    حزب-العمال-الكردستاني-وتأثيره-في-العلاقات-التركية-السورية-–-دراسة-–-ليندا-شلش

    6

    A-Shift-in-Turkish-Foreign-Policy;-Turkey’s-Strategic-Depth

    7

    The-Evolution-of-Turkey’s-Syria-Policy

    8

    Turkey’s-Bid-for-Religious-Leadership

    9

    Exclusive:-TIME-Meets-Turkish-Prime-Minister-Recep-Tayyip-Erdogan

    10

    From-“compassionate-Islamism”-to-“Turkey-first”

    11

    A-Deeper-Look-at-Syria-Related-Jihadist-Activity-in-Turkey

    12

    Turkey’s-Shifting-Policy-on-Syria

    13

    From-regime-change-to-rapprochement?-Turkey’s-shifting-Syria-policy

    14

    Turkey’s-Syria-Incursion:-What-Spurred-It,-and-What’s-Next?

    15

    Turkey-May-Have-Stepped-Into-Its-Own-‘Endless-War’-in-Syria

    16

    Turkey-in-northwestern-Syria;-Rebuilding-empire-at-the-margins

    17

    An-Impatient-Turkey-Gets-Ready-to-Enter-Northeastern-Syria

    18

    Turkey’s-Endgame-in-Syria;-What-Erdogan-Wants?

    19

    Turkey-Fights-a-Losing-PR-Battle-Over-Syria

    20

    Turkey-and-the-West:-A-Gathering-Storm?

————————————

في شمال شرق سوريا، خارطة جديدة وأحلام ضائعة/ عبد الله الحسن

تتزاحم الجيوش في شمال شرق سوريا، وتمضي بمحاذاة بعضها وفق تفاهمات فيما بينها لضبط حركة المرور وتنظيم عملية السيطرة، فبين روسيا وأمريكا يوجد تفاهم (غير معلن) وبين روسيا وتركيا يوجد تفاهم ودوريات مشتركة، وبين أمريكا وتركيا هناك تفاهم ودوريات مشتركة أيضاً، ولا تسري هذه التفاهمات – طبعاً – على الميليشيات أو القوات التابعة أو المتحالفة مع تلك الجيوش، بحيث يمكن استخدامها للقتال في سبيل تحقيق نقاط قوة وارتكاز جديدة في المنطقة.

لقد تغيرت خريطة السيطرة منذ أعلن الرئيس الأمريكي انسحاب قواته من مناطق عملية ”نبع السلام“ التركية، وأصبح الجيش الأمريكي متمركزاً داخل الحدود السورية مع العراق من القامشلي حتى دير الزور والبوكمال، وأصبح للجيش الروسي قواعد موزعة ومهمة في المنطقة، وكذلك دخل الجيش التركي ومن معه من فصائل المعارضة السورية إلى مدينتي رأس العين وتل أبيض السوريتين، وأيضاً انسحبت قوات سوريا الديمقراطية إلى داخل الحدود السورية بعمق 30 كم وحل محلها قوات من حرس الحدود السورية.

لكن ما يهمنا من كل ذلك، هو تقييم الوضع الجديد، وملاحظة مصالح تلك القوى وإسقاطاتها على خارطة الحل السوري ومستقبل سوريا والسوريين.

من الملاحظ بأن هناك ازدواجية في تعامل الولايات المتحدة الأمريكية مع تركيا، فهي تتحدى أنقرة من جهة وتحارب اقتصادها وتفرض عليها العقوبات، ومن جهة أخرى تنسحب القوات الأمريكية مخلية الطريق أمام الجيش التركي والميليشيا التي تقاتل إلى جانبه، كما يصف الرئيس ترامب أردوغان بأنه ”صديق حميم“.

يمكن تفسير تلك الازدواجية من خلال وجهتي نظر، تقضي الأولى بأن هناك خلافات أمريكية – تركية، ولكن هناك علاقات ودية بين الرئيسين ترامب وأردوغان، وتقول الثانية بأنّ ما تقدمه الولايات المتحدة الأمريكية لتركيا في سوريا تحديداً، هو في الحقيقة تقدمة لروسيا وبالتنسيق معها وليس إلى تركيا، وهذا الأصح، مما يعني بأن هناك لاعبين اثنين كبيرين في الشمال السوري وليس ثلاثة هما روسيا وأمريكا.

بالنسبة إلى روسيا، فهي تعمل بجد على تهيئة ظروف تفاوض الأكراد مع دمشق، وترغب في الحل السلمي بدل العسكري في تلك المنطقة، لكن عندما يتعنّت الأكراد ويحجمون عن التفاوض وإبداء المرونة، تأذن روسيا للجيش التركي بالتقدم والسيطرة على مناطقهم، كما شاهدنا في عفرين وفي شمال شرق سوريا، بينما لم نلاحظ أي ضغوط من روسيا على دمشق لحضّها على قبول مطالب الأكراد أو إظهار بعض المرونة.

لقد فاوضت روسيا الكثير من فصائل المعارضة قبل إعادة السيطرة على مناطقهم، وأذكر تحديداً المفاوضات مع جيش الإسلام في مدينة دوما في الغوطة الشرقية، فهي تتشابه بصيغة المطالب مع ما تطالب به الإدارة الذاتية الآن، والتي يمكن تقسيمها إلى ثلاثة مواضيع بحسب ما قاله الجنرال مظلوم عبدي قائد قوات سوريا الديمقراطية في مقابلة له عبر إذاعة ARTA FM الكردية:

مواضيع إدارية: تتعلق بالحفاظ على المؤسسات وطريقة إدارتها بشكلٍ شبه مستقل في مناطق الإدارة الذاتية، مع وجود تنسيق مع الحكومة السورية في دمشق، وأن يتم الاعتراف رسمياً بمنهاج التدريس الجديد مع اللغة الكردية التي كانت ممنوعة في سوريا قبل عام 2011، مما يخوّل الطلاب الأكراد دخول الجامعات السورية وإتمام التحصيل العلمي بدون عوائق.

مواضيع أمنية: تطالب قوات سوريا الديمقراطية بأن تتحول قواتها إلى مؤسسة عسكرية رسمية تقوم بالتنسيق مع الجيش السوري وليس داخله، وكذلك الأمر بالنسبة للأمن الداخلي ”الأسايش“ مع وزارة الداخلية.

هذه المطالب، تشبه إلى حد ما مطالب جيش الإسلام التي حاول الجنرال الروسي ألكسندر زورين التفاوض معه بعد حصار مدينة دوما، وحينها أعطى قادة جيش الإسلام بعض المساحة في التفاوض، وأظهر رغبته في منحهم بعض المزايا، مثل سيطرة شرطة محلية من عناصرهم على مدينة دوما بعد تدريبهم في وزارة الداخلية وبالتنسيق معها، مع إمكانية الحفاظ على المؤسسات المحلية عندما تقوم بالتنسيق مع مؤسسات الحكومة السورية وتعمل وفق قوانينها، وكذلك الحفاظ على كتيبة جيش الإسلام لتقاتل ”جبهة النصرة“ في محافظة إدلب بتسليح ودعم روسي. وقتها رفض قادة جيش الإسلام العرض الروسي، واستبدلوه بعرض جديد يقضي بعدم تسليم السلاح الثقيل، وإبقاء قواتهم في دوما مع إدارة كاملة للمنطقة، وتشكيل حزب سياسي له حرية الحركة والسفر عبر مطار دمشق، مع وجود تنسيق بين المؤسسات الإدارية في كلا الجانبين. وقتها انتكست المفاوضات وانتهت بعد حملة شديدة على دوما، وخرج على إثرها جيش الإسلام ليصبح تحت قيادة الجيش التركي في الشمال السوري ويعمل على محاربة سوريين آخرين بعيداً عن مناطقه وعن أهدافه.

ما يهمنا هو حجم التشابه مع اختلاف الظروف بين كلا الحالتين، مع طرح الأسئلة والتساؤلات المهمة مثل: هل ستبقى القوات الأمريكية إلى جانب الأكراد؟ ألم تخذلهم في عفرين؟ وفي منبج؟ وفي شمال شرق سوريا؟

من الحماقة أن نستمر بنفس الأدوات ونفس المطالب ثم ننتظر نتائج جديدة، بعض مما تطالب به قوات سوريا الديمقراطية لن توافق عليه دمشق ولا روسيا، وحتى لو فرضنا جدلاً موافقتهم على ذلك، فإن تركيا قادرة على تخريب الأمر وخاصة بأنّ الجيش التركي وقوات المعارضة السورية المسماة “الجيش الوطني السوري” التابعة له أصبحت تحكم الطوق على معاقل تجمع الأكراد في شمال شرق سوريا.

إنّ روسيا – وكذلك دمشق – تهتم بمصالح تركيا أكثر مما تهتم بما يريده الأكراد، على الرغم من أن بعض مطالبهم مشروعة ومحقة، وخاصة فيما يتعلق بالهوية الكردية. وكذلك الحال بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، فعلاقتها مع تركيا – الشريكة في حلف الناتو – أكبر من علاقة أربع سنوات مع ”قسد“، وبالتالي من المهم أن لا يضيع الأكراد الفرصة، كما فعلت تنظيمات المعارضة السورية من قبل.

في المقابل، لم نسمع من أي معارض فاوض النظام السوري أي كلام حول تطبيق المرسوم التشريعي رقم 107 والخاص بالإدارة المحلية، والذي أنتجه النظام السوري نفسه في نهاية عام 2011 ولم يطبقه حتى في مناطقه، صحيح بأنّ قانون الإدارة المحلية ذاك يعطي بعض اللامركزية الإدارية المقيّدة، بحسب قراءات كثيرة، ولكنه على الأقل بداية لكسر المركزية المطلقة التي انتهجها النظام السوري على مر عشرات السنين، وربما – على الأقل – تكون إنجازاً في ظل الانتكاسات الكثيرة الماضية. خلال السنوات التي تلت اندلاع الانتفاضة السورية قامت العشرات من المؤسسات التنموية السورية والأجنبية بتطبيق هذا القانون في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، وكشفت نقاط قوته ونقاط ضعفه، وكذلك هناك العشرات من الدراسات حول هذا القانون، وبالتالي أليس من المفيد في هذا الوقت أن يتم التفاوض مع النظام السوري ليتم تطبيقه أو التعديل عليه بما يتناسب مع الواقع السوري الجديد؟ الثورات قد لا تعني بالضرورة التغيير المباشر، بقدر ما هي عملية هدم وبناء طويلة الأمد.

في النهاية تبقى مصالح اللاعبين فوق مصالح السوريين، وما عبارة ”السوريون وحدهم من يقررون مصيرهم“ إلا عبارة ترضية لا معنى لها في ظل هذا التدخل الكبير في الشأن السوري حتى في دستور بلادهم ومن يكتبه.

كاتب سوري

صالون سوريا

———————————

القضية الكردية السورية: تألق خاطف/ موفق نيربية

لطالما احتاجت العلاقات العربية – الكردية في سوريا إلى نوع من التعاقد يحفظ للطرفين الحدّ المشترك من حقوقهما. وكانت المعادلة دائماً تفترض قبول واعتراف العرب المبدئي بالمطالب والطموحات الكردية من جهة، واندماج الكرد في الوطنية السورية ونضال السوريين الشامل ضد الطغيان والاستبداد والتخلف، من جهة أخرى. هذه معادلة بسيطة وواضحة، اختار الطرفان إخفاء الغلوّ وراءها، أو دفعها قسراً وراء مظاهر ذلك الغلوّ والتطرف.

توصل الطرفان، من خلال طرفين اعتباريين نسبياً – يومها- هما الائتلاف الوطني والمجلس الوطني الكردي في أغسطس/آب 2013، إلى وثيقة رسمية تتضمن ما أمكن تضمينه من المعادلة المذكورة، ووافق الائتلاف بأغلبية كبيرة على الاتفاق، مع إرفاقه بقرار يتضمن ضرورة وضع هذا الاتفاق، وما ورد فيه أمام أي مجلس نيابي منتخب بشكلٍ ديمقراطي. ومع تسجيل المجلس الوطني الكردي لتحفظه أيضاً على بندٍ يتضمن اعتماد نظام اللامركزية الإدارية، ووضع رؤيته البديلة حول أن أفضل صيغة للدولة السورية هي صيغة الدولة الاتحادية.

من أجل تحقيق المعادلة المذكورة، نَصَّ البند الأول في الاتفاق على التزام الائتلاف بـ»الاعتراف الدستوري بهوية الشعب الكردي القومية، واعتبار القضية الكردية جزءا أساسيا من القضية الوطنية والديمقراطية العامة في البلاد، والاعتراف بالحقوق القومية للشعب الكردي ضمن إطار وحدة سوريا أرضا وشعبا». وورد في البند الخامس أن «سوريا دولة متعددة القوميات والثقافات والأديان، ويحترم دستورها المعاهدات والمواثيق الدولية». وفي البند الحادي عشر أنه كما تبنت الثورة السورية علمَ الاستقلال، فإننا أيضاً «نتبنى اسم الدولة في عهد الاستقلال». ومعلوم أن اسم الدولة آنذاك كان «الجمهورية السورية» من دون صفة «العربية» في الوسط. في المقابل ذلك كان الالتزام بالثورة وأهدافها وبالعمل المشترك في غمارها، ورد على أنه من حيثيات الاتفاق والعديد من تفاصيله. بقيت مضامين الاتفاق في معظمها حبراً على ورق، وحلّت محلها الخلافات الحادة أمام أي مفترق، أو حدث يُحيي جذور الاختلاف. في ما بعد، تدهورت الأوضاع الخاصة بالكيانين السياسيين المؤتلفين، بحيث لم يبق من الائتلاف إلا ظلاله وأطلاله، ولم يبق من المجلس الكردي إلا القليل، بعد تهميشه على الأرض من قبل الاتحاد الديمقراطي وعسكره، وكذلك وقوعه في إسار عنوان سكنه الجديد في اسطنبول، الذي جاءه مع انضمامه للائتلاف.

وقد سارت القضية الكردية نفسها في مسارٍ موازٍ آخر، تطورت فيه إمكانيات حزب الاتحاد الديمقراطي PYD تنظيمياً وعسكرياً، وهو الذي نشأ كتجسيدٍ سوري لأيديولوجيا حزب العمال الكردستاني التركي PKK، بفاعلية عملية واضحة لأفراد عملوا فيه وكانوا من كوادره العسكرية. اعتمد PYD على تقاطع مصالحه مع مصالح النظام في سيطرته على الأرض، خصوصاً عند اضطرار الأخير لسحب قواه الضاربة من المنطقة، وتوجيهها نحو مناطق الصدام مع الشعب والثورة السورية. كما اغتنم PYD بنجاحٍ تلك الفرصة الكبرى التي سنحت له حين بحث الأمريكان عن حليف على الأرض لم تستطع المعارضة الأخرى توفيره أو لم يُسمح لها بذلك. فكان أن تمدد وبنى دويلة، واكتسب تقدير قوى مهمة، عدوة له وصديقة، وظهر ممثلاً قوياً لكرد سوريا، فرض نفسه من دون قواهم السياسية التقليدية، ومن دون علاقة حقيقية مع المعارضة السورية عموماً، أو تقريباً.

بعد تشتت تلك الفورة الممتازة في شهور الثورة الأولى 2011، وتهافت القوى القديمة، استطاع حزب العمال الديمقراطي، بذاته، وبإدارته الذاتية وتحالفاته اللاحقة مثل مجلس سوريا الديمقراطية، وقوات سوريا الديمقراطية، أن يخلق شعوراً حقيقياً بالكرامة القومية لدى الكثيرين من الكرد، ويرتفع بهم فوق إحساسهم القديم، بأنهم يُعاملون كأقلية وغرباء على الهامش. وفي الوقت نفسه استمرت القوى التقليدية في انشغالاتها واكتفائها بالسياسات الثابتة ضعيفة المرونة أمام التطورات الطارئة، وارتاحت كوادرها إلى احتضان الدولة الجارة القوية لها، مع بعض التململ الخافت بين فترةٍ وأخرى، تحت ضغط الانعطافات الفاضحة. عموماً، لم يستطع هؤلاء التنقيب في أسباب نجاحات الآخرين وفشلهم، واكتفوا بالحلول السهلة وربما المرتهنة، لمحاولة الخروج من مأزقهم.

ماذا حدث بعد ذلك؟ طرد الأتراك قوات سوريا الديمقراطية من عفرين في عملية «غصن الزيتون»، مع قبول روسي وصمت أمريكي. ثم طردوها أيضاً من منطقة استراتيجية بين رأس العين وتل أبيض، بقبول أمريكي وصمت روسي. ومباشرة بعد ذلك طردوها بلطف من دون عنف في باقي المنطقة المعنية كلها، وفرضوا يداً عليا تراقب وتسيطر، مشتركة بينهم وبين الروس. بشكلٍ موازٍ وعميق على حدودهم مع سوريا، التي يرون فيها احتمال خرق كردي لأمنهم القومي.

فاجأت إدارة ترامب العالم بقرار الانسحاب، الذي أربك الكثيرين حتى بين الأمريكيين أنفسهم، وجاء ذلك خصوصاً استراتيجياً على حساب قوات سوريا الديمقراطية، وتهويماتها التي «شطحت» كثيراً. فأخذوا يتخبطون في ردود أفعالهم، لتدارك خساراتهم على الأرض، ولو بسلوك الطريق «الحرام» في العلاقات والاتفاقات مع النظام. كان تراجعُ ترامب هذا، وتخليه عن حلفائه الذين أثبتوا إخلاصهم وكفاءتهم، وتقدم ُالأتراك والروس وبالتنسيق معهم، صدمةً لم تحسب حسابها قيادة قوات سوريا الديمقراطية، ليبدو من ثَمّ أن معركة الباغوز والانتصار الذي حققه فيها تحالف «التحالف» مع قوات سوريا الديمقراطية ذروةٌ كبرى أخفت وراءها السفحَ المنحدر اللاحق.

لعلّ ما هو أخطر الآن سوف يكون في استمرار مسلسل العناد والإقصاء والعنجهية، وعدم استنباط الدرس الكامن، في أن القوى الدولية والإقليمية كلها غضّت الطرف عن تمثيل الكرد في اللجنة الدستورية، في «بروفة» على احتمال حدوث ذلك لاحقاً على طاولات أكثر أهمية وفاعلية في مستقبل سوريا، ليس لأن تلك القوى لا ترى جدية محتملة في أعمال تلك اللجنة الدستورية وحسب، بل لأنها لا ترحم في اعتماد موازين قوى فظة تراعي أصحاب الأسهم الخارجيين على حساب جوهر القضية، وتستخف باحتمالات توليد المزيد من الإرهاب في المستقبل.

ربما كان على العرب السوريين أن يروا في الهزيمة التي حاقت بداعش على أيدي الأمريكيين وقوات سوريا الديمقراطية، تحقيقاً لأهدافهم أيضاً أمام الخطر الوجودي الداهم ذاته، ربما كان على الترك أيضاً أن يروا مثل ذلك، وليس عكسه، فيخففوا من غلوائهم قليلاً باتجاه تقديم مبدأ الحوار والتفاهم لفتح أبوابٍ جديدة ومختلفة أمام السلم

والأمن القومي. أما ما هو أهم من ذلك وأكثر نفعاً للمستقبل ودفعاً للماضي، فهو مراجعة المعارضات السورية لأوضاعها واستراتيجياتها، ونزع العدسة المكبرة التي يرون من خلالها ما يجري في جنيف، وإدراكهم قبل الروس والأمريكان والأمم المتحدة، أن هنالك نقصاً كبيراً في تمثيل السوريين عموماً لا بدّ من تداركه، من دون غض النظر عن أن ما يظهر من ذلك النقص فاقعاً هو من جهة التمثيل والوجود الكردي. وربما أن الأهم من هذا وذاك، أن يتراجع حزب الاتحاد الديمقراطي خطوتين إلى وراء، ويستفيد من حكمة الهزيمة. وكذلك أن تتراجع القوى الكردية الأخرى عن استسهال الارتهان والتأمين على المعاش، لينكبّ الجميع على العمل المجدي على تظهير الرؤية وتجديد السياسات وأدوات تنفيذها.

و رغم أهمية أمثال تلك المراجعات، يبقى العامل الحاسم هو الإقرار السوري الشامل بفشل السياسات السابقة وآليات تنفيذها وأشكالها التنظيمية، والانطلاق من عجز البنى الحالية نحو معارضات أخرى، وثورة أخرى.

كاتب سوري

القدس العربي

——————————-

هل يمكن للسوريين والكرد أن يحوّلوا هزائمهم إلى مكتسبات؟/ بكر صدقي

لا جدال في أن قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بإخلاء الساحة أمام الغزو التركي لمنطقة «نبع السلام» قد شكل هزيمة عسكرية ـ سياسية لـ«وحدات حماية الشعب» الكردية المنضوية في إطار «قوات سوريا الديمقراطية». لكنه شكل، في الوقت نفسه خسارة صافية لكرد المنطقة، وللقضية الكردية عموماً، تضاف إلى الخسائر السابقة في استفتاء الاستقلال في إقليم كردستان (2017) والاحتلال التركي لمنطقة عفرين (2018). قد يفيد التمييز بين قوة الأمر الواقع السياسية (حزب الاتحاد الديموقراطي) والمجتمع الكردي حين يتعلق الأمر بانتهاكات هذا الحزب أو فشله السياسي أو هزيمته العسكرية، لكنه يفقد قيمته من منظور القضية الكردية التي لا يمكن فصلها عن القوى السياسية التي تنطحت لتمثيلها، فلا يمكن التصرف وكأن شيئاً لم يحدث للأولى بهزيمة الثانية. بكلمات أخرى، من شأن النجاحات المفترضة أن تسجل لمصلحة قوى الأمر الواقع، في حين تسجل الهزائم في خانة المجتمع الممثل فيها ولو عنوةً. هذا لأن السياسة القائمة على الهوية تتشكل إزاء هوية، أو هويات، مقابلة، فتكون خسارة ممثلها خسارة للهوية ككل في نظر الهويات المقابلة أو من يمثلونها.

بيد أن ثمة عزاء يقدَّم للكرد مع كل خسارة يتلقونها، أو أن هزائمهم تغلَّف بورق لامع مما يغلف الهدايا في المناسبات. فمع تبدد مشروع الإدارة الذاتية الذي فرضه الحزب الأوجالاني بحماية القوات الأمريكية في السنوات الماضية، وانسحاب قوات «قسد» من الشريط الحدودي الذي احتلته القوات التركية، ارتفع «الرصيد المعنوي» للكرد في الدوائر الغربية، الولايات المتحدة وأوروبا، في حملة تعاطف سياسية على أعلى المستويات، بصرف النظر عن كمية النفاق «الموضوعي» التي تنطوي عليها. فقد تلقى الرئيس الأمريكي هجوماً سياسياً عاصفاً في الكونغرس والإعلام بسبب «تخليه عن الكرد». كذلك فعلت الحكومات في فرنسا وألمانيا وغيرها. لكن ارتفاع أسهم «الجنرال» مظلوم عبدي ـ قائد قوات سوريا الديمقراطية ـ في هذا البازار القاتل، شكّل التجلي الأبرز لجائزة الترضية التي قدمت للكرد، وكأن الجنرال المذكور هو الكرد، والكرد هم الجنرال المذكور. فلم يكتف الرئيس الأمريكي المعرّض لإجراءات العزل بتخصيص عبدي باتصال هاتفي لا يحظى به من الساسة الأجانب، عادةً، غير رؤساء الدول، بل زاد على ذلك «التكريم» أن وصف الرجل بـ«الجنرال» في سابقة لا يستبعد أن تتحول إلى سُنّة على ألسنة الساسة الغربيين.

ثم كان أن أثمر ضغط وزارة الدفاع الأمريكية على الرئيس المضعضع، فتراجع هذا عن قرار الانسحاب الكامل لقواته من «شرقي الفرات»، للمرة الثانية خلال عام واحد، فترك نحو 500 جندي لتأمين آبار النفط ومنع التمدد الإيراني الأسدي. وبذلك قطع الطريق على انضمام قوات قسد إلى جيش الأسد كما كان الميل الغالب لدى «الجنرال» مظلوم أو من يقف خلفه في جبال قنديل، ليتنكب مهمة جديدة قوامها حماية آبار النفط بين محافظتي دير الزور والحسكة. وهكذا خفتت أصوات النقد الصاخبة لقرار ترامب الأول، بعدما أثبت أنه لم يتخلّ عن الكرد.

بموازاة المعارك العسكرية على الأرض، في إطار عملية «نبع السلام» التركية، كانت معارك طاحنة تدور في «العالم الافتراضي» بين المظلومية الكردية الكلاسيكية التي استعادت «بريقها» في هذه المناسبة الدموية، والمظلومية العربسنية المستجدة في سوريا التي تحولت إلى المعبّر الرئيسي عن النزعة القومية العربية في السنوات القليلة الماضية. وعلى رغم الصفة الافتراضية لهذه المعركة التي تخاض من خلال كيبوردات الهواتف الذكية، فإن أثرها النفسي على ضفتيها هو شديد الانفجار والقابلية للتفاقم. وإذ يسعى الكرد، في هذه المعركة، إلى التوكيد على حقوقهم، ويسعى خصومهم إلى إنكارها، فهما ينسجان معاً حائطاً فاصلاً يزداد ارتفاعاً وسماكة وصلابة باطراد، من غير أي ضمانة مستقبلية للانفصال المرغوب من طرف أو الوحدة المرغوبة من الطرف الثاني، سواء بسواء. فالطرفان معاً واهنا القوى ولا يملكان على مصيرهما أي سيطرة.

في حين أن من بيدهم تقرير مصائر الجميع يتناوشون حيناً، ويتوافقون حيناً، يتوزعون المهمات ومناطق النفوذ والمكاسب، بانتظار توافقات تتجاوز سوريا إلى الإقليم والعالم. هم غير مستعجلين، فالدم الذي يراق لا يعنيهم في شيء، والدمار هو فرصة اقتصادية للمستقبل، والنفوذ السياسي يحسب بمقاييس كونية لا سورية أو إقليمية فقط. على سبيل المثال: إذا كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قد ثبّت بوصلته على فكرة منطقة كردية (آمنة) خالية من الكرد قدر الإمكان لينقل إليها أكبر عدد ممكن من اللاجئين السوريين على الأراضي التركية، فيسكنهم في منازل تنشئها شركات تركية على أمل إعادة العافية لعجلة الاقتصاد التركي المريض، استعداداً لانتخابات قادمة تبدو قاتمة من منظور الحزب الحاكم اليوم، فالصراع الحقيقي هو حول موقع تركيا في الاستقطابات الدولية بين واشنطن وموسكو. في حين تبدو الموجة الثانية من ثورات الربيع العربي، في جناحها المشرقي في العراق ولبنان، مجرد صراع على النفوذ بين واشنطن وطهران، في نظر اللاعبين الدوليين.

القصد هو أن ما ننغمس فيه، محلياً، من صراعات ميدانية أو افتراضية هي دائماً أجزاء ميكروية من صراعات دولية كبيرة لا تعبأ بآلامنا أو أحلامنا أو حقوقنا أو قضايانا حقيقية كانت أو موهومة. ليس المقصود تبخيس قيمة المحلي لحساب الكوني أو الدولي، بل امتلاك الوعي بضآلة القوة الذاتية المحلية، لنتمكن من البناء على ذلك. قد يسر هذا الطرف لوصف مظلوم عبدي بالجنرال، أو يشمت الطرف الآخر بوضع صفة الجنرال بين مزدوجين بغرض السخرية، وقد ينظر طرف إلى الاجتياح التركي كتحرير، في حين يعتبره الطرف الآخر احتلالاً. وكان طرف يختال بتحالفه مع الأمريكيين في السنوات الماضية، فيشمت الطرف المقابل اليوم بتخليهم عن الكرد أو قسد. كل ذلك لا يبني شيئاً لأي من الطرفين. واقع الحال أن كلاً من السوريين والكرد يواجهان تحدي تحويل خسائرهم إلى مكاسب. هل هذا ممكن، وكيف؟ وهل الخسارة المحتملة لأحدهما هي مكسب للآخر، أم أنه يمكن أن يكسبا معاً؟

هذا هو التحدي.

كاتب سوري

القدس العربي،

————————————

العملية التركية في سوريا: لعبة شطرنج يصاحبها تحول في ميزان القوة/ أحمد علي أوغلو

كشفت التطورات السورية الأخيرة عن أن أكبر الخاسرين فيها هم حلفاء أميركا الإقليميون، وهم اليوم معنيون بالسؤال التالي: هل الولايات المتحدة الأميركية حليف موثوق به؟ أما تركيا، فقد أكدت دورها كلاعب مؤثِّر في منطقة الشرق الأوسط

.

بعد اندحار تنظيم الدولة الإسلامية، وسَّعت قوات سوريا الديمقراطية (SDF)، بقيادة قوات حماية الشعب (YPG)، من سيطرتها على نحو ثلث مساحة الأراضي السورية الواقعة على الحدود مع تركيا(1). من ناحيته، أكد الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، على أن بلاده لا يمكنها أن تسمح، ولن تسمح، بقيام أي كيان مستقل لتلك العناصر -قوات سوريا الديمقراطية وقوات حماية الشعب- على الحدود ينشأ بحكم الأمر الواقع.

لا شك أن ديناميات الميدان كانت معقدة إلى حد ما، لكنها ظلت تميل لصالح تركيا ومكنتها من الشروع في تنفيذ عمليتها العسكرية التي أطلقت عليها اسم “نبع السلام”.

تحاول هذه الورقة سبر أغوار الدوافع التركية خلف عملياتها العسكرية في شمال سوريا على طول الحدود المشتركة بين البلدين، كما تبحث أيضًا في الدور الأميركي، باعتبارها حليف تركيا في حلف شمال الأطلسي، وباعتبارها أيضًا وفي نفس الوقت، الداعم الأساسي لقوات حماية الشعب، عدو تركيا اللدود. وإلى جانب ما تقدم تبحث الورقة كذلك في تحول القوة ومن هي القوى التي باتت الأكثر تأثيرًا في سوريا، لتنتهي إلى تناول مختلف مواقف الدول الإقليمية، بما فيها جامعة الدول العربية وإسرائيل وإيران، وتبحث في بواعث عدم موافقة تلك القوى والدول، بل وانتقاداتها، للعملية التركية في سوريا.

امتدادات حزب العمال الكردستاني

من حيث المبدأ، فإن تركيا تعتبر قوات سوريا الديمقراطية امتدادًا لحزب العمال الكردستاني (PKK) المحظور، وكانت قوات سوريا الديمقراطية قد فشلت، مرارًا وتكرارًا، في النأي بنفسها عن الانضواء تحت مظلة حزب العمال الكردستاني-المنظمة الأم. وفي هذا السياق، أكد وزير الدفاع الأميركي الأسبق، آشتن كارتر، تلك “الارتباطات الجوهرية” بين قوات حماية الشعب وحزب العمال الكردستاني(2). وهكذا، فإن حرب تركيا تستهدف حزب العمال الكردستاني، الخارج عن القانون، والذي تأسس في العام 1978 واعتنق كلًّا من القومية الكردية والأيديولوجيا الاشتراكية بهدف إنشاء دولة كردية مستقلة، ومن ثم اختار حزب العمال الكردستاني طريق الكفاح المسلح ضد الجمهورية التركية منذ العام 1984؛ وقد أدت هجمات الحزب المسلحة إلى مقتل حوالي 40 ألف شخص. هذا التاريخ الدموي لحزب العمال الكردستاني أدى إلى تصنيفه منظمة إرهابية من قبل الولايات المتحدة و28 دولة أوروبية، بالإضافة إلى اليابان (3).

من المثير للاهتمام هنا ملاحظة أن لحكومة تركيا علاقات صداقة قوية مع حكومة إقليم كردستان العراق (KRG)، وهو إقليم كردي ذو أغلبية سكانية كردية تم إدماجه في دولة العراق وحصل على الاعتراف به في الدستور العراقي باعتباره إقليمًا يتمتع بالحكم الذاتي. وهنا يبرز السؤال التالي: إذا كانت الحرب التركية موجهة ضد الأكراد، مثلما تحاول وسائل الإعلام الدولية تصوير الأمر، فلماذا تحافظ تركيا على علاقات اقتصادية وسياسية متينة مع حكومة إقليم كردستان؟ هذا، بالإضافة إلى أنه إبَّان إجراء الاستفتاء حول استقلال منطقة كردستان العراقية في سبتمبر/أيلول 2017، حظي مسعود بارزاني، رئيس حكومة إقليم كردستان، باستقبال بروتوكولي رسمي ودي في أنقرة لا يختلف في شيء عن بروتوكول الاستقبال المخصص لرؤساء الدول(4). وهذا، ضمن مؤشرات عديدة أخرى، يؤكد أن العمليات العسكرية التركية على حدودها إنما هي موجهة بالفعل لاحتواء ومواجهة التهديدات التي تمثلها الجماعات الإرهابية، وهي ليست، بأي حال، موجهة ضد الأكراد أو أية أقلية عرقية أخرى. ومع ذلك، فقد لاقت تلك العمليات العسكرية التركية اعتراضًا واسعًا من قبل عدد كبير من الزعماء الإقليميين.

فقد طلبت مفوضة الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي، فديريكا موغيريني، من تركيا وقف عملياتها العسكرية في سوريا مشددة على أن “العملية العسكرية التركية من شأنها تقويض أمن الشركاء المحليين للتحالف وتعريض الشمال الشرقي السوري إلى مخاطر عدم الاستقرار، وبالتالي توفير أرضية خصبة لعودة بروز تنظيم الدولة الإسلامية”. أما وزير خارجية بريطانيا، دومينيك راب، فقال: إن “العملية العسكرية التركية تُهدد بمخاطر زعزعة الاستقرار في كامل المنطقة، ومن شأنها أيضًا زيادة المعاناة الإنسانية وتقويض التقدم الذي تحقق ضد تنظيم الدولة الإسلامية”.

أما رئيس الوزراء الإسرائيلي، فكان سريعًا، من ناحيته، في إدانته العملية التركية عبر تغريدة على تويتر جاء فيها: “تدين إسرائيل بشدة الغزو التركي للمناطق الكردية داخل سوريا وتحذر من تطهير عرقي للأكراد من قبل تركيا ووكلائها”. أما في القاهرة، فقد صرَّح مساعد الأمين العام لجامعة الدول العربية، حسام زكي، بأن الحملة التركية “تشكِّل هجومًا غير مقبول على سيادة دولة عربية عضو في جامعة الدول العربية”.

لكن هذه التصريحات، وغيرها، تبدو مجانبة للصواب من وجهة نظر تركيا؛ فلو كُتب لطموحات هذه الجماعات، مثل قوات سوريا الديمقراطية، أن تتحقق، فإن الخطر الأمني على تركيا سيكون أكبر بأضعاف مضاعفة؛ إذ إن ذلك الخطر يمثل، بالأحرى، تهديدًا وجوديًّا لتركيا. إن قيام مثل هذا الكيان الكردي من شأنه أن يمنح زخمًا أكبر للتمرد الذي يقوده حزب العمال الكردستاني داخل مدن وقرى تركيا المحاذية للحدود مع سوريا، وسيقوده بالتالي إلى المطالبة بتقرير مصير المناطق الكردية واستقلالها. ويجدر هنا التذكير بأن أغلب تلك المحافظات الواقعة على الحدود التركية-السورية تقطنها أقلية كردية؛ حيث تشكِّل فيها غالبية سكانية مطلقة، وقد تعرضت لإرهاب حزب العمال الكردستاني من خلال التجنيد القسري لأبنائهم. وفي هذا السياق، اتهم وزير خارجية ألمانيا الأسبق، زيغمار غابرييل، حزب العمال الكردستاني بمحاولة تمويل حرب أهلية محتملة في تركيا، وذلك عبر الأموال التي يجنيها الحزب من عمليات تهريب الأسلحة والمخدرات في ألمانيا. كما أكد الوزير غابرييل على أن الجماعة الإرهابية -حزب العمال الكردستاني- محظورة قانونًا في ألمانيا لذات الأسباب المبينة سابقًا(5).

أما بالنسبة لتركيا، فإن التضاريس الطبيعية الموجودة على حدودها مع سوريا تمثل عاملًا رئيسيًّا في حساباتها المرتبطة بتقييم التهديد الوشيك الناجم عن احتمال استقرار مثل تلك الجماعات المسلحة في المنطقة. فطبيعة الأراضي، الواقعة على طول الحدود التركية-السورية، تتشكل من سهول منبسطة شديدة الخصوبة، وقد كان الهدف التركي من عملياتها الحدودية السابقة: “درع الفرات” في العام 2016 و”غصن الزيتون” في العام 2018، يتمثل في طرد مقاتلي وحدات حماية الشعب من الحدود وإنشاء منطقة عازلة يمكن أن تستوعب اللاجئين السوريين. هذا في حين تهدف العملية الأخيرة المسماة “نبع السلام” إلى توسيع تلك المنطقة العازلة واستخدام جزء من تلك الأراضي لإعادة توطين نحو مليوني لاجئ سوري، من أصل 3.6 ملايين لاجئ، فرُّوا إلى تركيا منذ بداية الحرب السورية. وعبر قيامها بذلك، فإن تركيا تنشئ منطقة عازلة مأهولة بالسكان تمنع اندماج المدن الحدودية وتحول دون تزايد مطالب مواطنيها الأكراد في تلك المدن بالانفصال. لكن هذا القلق لا يبدو وجيهًا عندما يتعلق الأمر بحكومة إقليم كردستان العراق(KRG) لأن تضاريس المنطقة، الجبلية في معظمها، أوجدت حدودًا جغرافية طبيعية بين حدود تركيا مع المناطق الخاضعة لحكومة إقليم كردستان(6).

عقيدة ترامب القائمة على عدم التدخل

كان الرئيس التركي، قبل العام 2016، قد طلب من قواته المسلحة التدخل في سوريا لإقامة منطقة آمنة، غير أن خططه تلك لاقت معارضة من قبل حكومة الرئيس الأميركي، أوباما، ومن قبل المؤسسة العسكرية التركية على حدٍّ سواء. لم يكن الرئيس أردوغان يملك، في تلك الفترة، سيطرة كاملة على مؤسسة بلاده العسكرية التي كانت خاضعة لقيادة جنرالات أتراك موالين لحركة فتح الله غولن، وهي المنظمة التي تتهمها الحكومة التركية بتدبير محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016(7).

لقد اتسمت استراتيجية الإدارة الأميركية السابقة في سوريا بالارتباك، فالرئيس أوباما أحجم عن اعتماد استراتيجية تغيير النظام السوري، خاصة بعد الخطأ الجسيم -كما رآه عدد كبير من الساسة والمحللين- الذي ارتكبته حكومة أوباما في ليبيا بقيادتها عملية الإطاحة بمعمر القذافي. ومن هنا، أعلنت إدارة أوباما على الملأ أنها لا تسعى إلى التدخل في سوريا، كما لم تسمح لتركيا بالتعامل مع تصاعد التهديدات التي تطرحها عليها ميليشيات إرهابية مثل تنظيم الدولة الإسلامية ووقفها، بل وقد كانت إدارة الرئيس أوباما تعتبر وحدات حماية الشعب حليفها وصنفتها على أنها شريكها الأكثر فعالية في محاربة تنظيم الدولة الإسلامية داخل سوريا. لم يتوقف الأمر عند ذلك الحد وحسب، بل وعمدت إدارة أوباما، أيضًا، إلى مدِّ وحدات حماية الشعب بالأسلحة والذخائر، بالإضافة إلى الدعم اللوجستي وتقديم خدمات التدريب لعناصر التنظيم(8) .

وبمجرد أن خلف ترامب أوباما في سدة الرئاسة الأميركية، سارع إلى تبني سياسة الانسحاب من سوريا، بعد إعلانه هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية. بدأ ترامب بإصدار أوامره القاضية بانسحاب ألفي جندي من سوريا في ديسمبر/كانون الأول من العام 2018. وقد أدى إعلانه المفاجئ ذلك إلى عاصفة من الاحتجاجات داخل الكونغرس، انخرط فيها حتى أقوى حلفائه الجمهوريين مثل السيناتور، ليندسي غراهام، الذي قال إنه “صُدم” من قرار ترامب. أما الديمقراطيون، من جانبهم، فاعتبروا أن ترامب قد تصرف بدافع “أهداف شخصية أو سياسية” بدلًا من التصرف وفقًا لما تمليه عليه المصالح الأمنية الوطنية(9).

ثم بعد مرور حوالي عام عن صدور قرار ترامب بسحب قوات بلاده من سوريا، صدر بيان مفاجئ من البيت الأبيض يشير إلى أنه من المقرر أن تبدأ تركيا تنفيذ عملية عسكرية في شمال شرق سوريا، وأضاف نفس البيان أن القوات الأميركية لن تنخرط في تلك العملية. أثار قرار إدارة ترامب هذا استياءً عميقًا لدى الحزبين، الديمقراطي والجمهوري، على حدٍّ سواء، حيث اعتبر عدد كبير من ممثلي الحزبين أن سماح ترامب لتركيا بتنفيذ عملية عسكرية في شمال شرق سوريا هو خيانة لأكراد سوريا، الذين يُنظر إليهم على أنهم أفضل شريك أميركي في الحرب ضد تنظيم الدولة(10).

بالنسبة للبعض، لم يكن قرار ترامب بسحب قواته من سوريا سوى مفارقة محزنة، بما أنه قد يشكِّل انتهاكًا جوهريًّا لسياسة النظام الخارجية الداعية إلى تخفيض الوجود العسكري للقوات الأميركية خارج حدود الوطن. ومهما يكن من أمر، فإن هذه الخطوة أسست لنمط من السلوك غير مسبوق في تاريخ أميركا مفاده أن الولايات المتحدة لم تعد تمثل حليفًا يمكن الوثوق به، وأن استراتيجيتها غير المتسقة من شأنها تعريض علاقات استراتيجية أخرى مع قوى إقليمية للخطر، وخاصة في منطقة الخليج. وعليه، فإن النقد يجب ألا يوجَّه إلى سياسة عدم التدخل، بل ينبغي توجيهه إلى مستوى التماسك في صداقات الولايات المتحدة الأميركية. أما ترامب، فقد روَّج لنفسه باعتباره القائد الذي سيوفر حماية فعالة لقوات بلاده العسكرية من خلال منع تعرضها لخطر الوقوع في قلب منطقة تبادل النيران بين القوات التركية والمقاتلين الأكراد. وقضت خطة ترامب بانسحاب القوات الأميركية من ساحة حرب يتصارع فيها صديقان لبلاده خوفًا من تعرض الجنود الأميركيين إلى القتل بنيران أحد الطرفين.

ومع ذلك، فإن قرار ترامب بالانسحاب من سوريا يبقى صادمًا، لكنه مُتوقع. فعلى إثر إلحاق الهزيمة بتنظيم الدولة والسيطرة على معقله الحصين في مدينة الرقة، أخبر ترامب مستشاريه، وفقًا لبعض التقارير، برغبته في الانسحاب من سوريا. وفي هذا السياق، صرح وزير خارجية الولايات المتحدة آنذاك، ريكس تيلرسون، قائلًا: “بالنسبة لنا كتحالف، فإننا لسنا بصدد العمل على بناء الدولة أو إعادة إعمار البلاد”(11). وأكد تيلرسون على ضرورة تعبئة كل الإمكانات والقدرات لمنع ولادة جيل جديد من تنظيم الدولة، وحماية مصالح الولايات المتحدة في المنطقة. ثم ظهر أن تلك المصالح الاستراتيجية الأميركية تكمن أساسًا في بسط السيطرة على حقول النفط السورية. في المقابل، ستُبقي إدارة ترامب على عدد محدود من قواتها في سوريا لتوفير الحماية على الحدود الجنوبية مع الأردن و”لتأمين النفط” في أي مكان آخر داخل سوريا. كما أعلن ترامب أيضًا عن استمرار بقاء قوات بلاده في جنوب سوريا استجابة لطلب تقدمت به كل من إسرائيل والأردن(12).

إذن، فقرار الانسحاب لم يكن مفاجئًا غير أن الإرباك يتأتى من كون التحالف، الذي تقوده أميركا ضد تنظيم الدولة، كان قد أعلن عن عمله المشترك مع حليفه، قوات سوريا الديمقراطية، من أجل تشكيل وتدريب قوات حدودية قوامها 30 ألف عنصر في يناير/كانون الثاني 2018(13)، ثم إنه انطلاقًا من خارطة الطريق غير المتسقة هذه، نشأت خطط أخرى. فقد عبَّر زعماء قوات سوريا الديمقراطية عن شعورهم بالخيانة والتخلي عنهم من قبل الولايات المتحدة الأميركية، وهم يرون أن ترامب تجاوز كثيرًا عندما زعم في تغريدة له على تويتر أن قوات سوريا الديمقراطية سمحت بإخراج معتقلي تنظيم الدولة من السجون بهدف حمل أميركا على تمديد بقاء جنودها في سوريا وإجبارهم على الانخراط في القتال ضد تركيا. وأضاف ترامب، في تغريدته تلك، أن عناصر قوات سوريا الديمقراطية ليسوا “ملائكة” وأن بعضهم كانوا، في واقع الأمر، إرهابيين أسوأ حتى من مقاتلي تنظيم الدولة أنفسهم(14).

لكن، وبمجرد أن بدأت تركيا تنفيذ عمليتها العسكرية، هدَّد ترامب بسحق اقتصاد تركيا في حال تجاوزت عمليتها العسكرية “الحدود المسموح بها”(15). ثم كان أن دافع ترامب في سلسلة من التغريدات الغاضبة عن موقفه، وفي وقت لاحق، انتشرت رسالته المسربة إلى أردوغان على مواقع التواصل الاجتماعي كالنار في الهشيم. ففي تلك الرسالة، المؤرخة في التاسع من شهر أكتوبر/تشرين الأول، أي يومًا واحدًا قبل دخول القوات المسلحة التركية الأراضي السورية، نصح ترامب الرجل القوي في تركيا، بـ”ألَّا يكون أحمق” وذلك في إشارة تحذيرية من ترامب لم تخلُ من التعبير عن إحساسٍ بالتفوق. وبحسب ما أفادت به بعض التقارير الصحفية، فإن الرئيس التركي ألقى برسالة ترامب تلك في “سلة المهملات”، وعلَّق عليها قائلًا: إن الرسالة تفتقر إلى المجاملة المتبعة في الأعراف الدبلوماسية والسياسية. كما أكد الرئيس التركي على أنه لن ينسى لترامب عدم احترامه غير أن الوقت لم يكن مناسبًا للرد، فلتركيا أولويات أهم (16).

بعد عشرة أيام من بدء تنفيذ عملية تركيا في الداخل السوري، أرسل ترامب نائبه، مايك بنس، ووزير خارجيته، مايك بومبيو، لعقد هدنة. وبعد مفاوضات عسيرة وشاقة شهدتها أنقرة، توصل الطرفان، الأميركي والتركي، إلى صفقة، تم توسعة مداها لاحقًا عبر دخول الوساطة الروسية على الخط. وبالتزامن مع ذلك، زعم ترامب أن إدارته تمكنت من تحقيق “اختراق” فيما يتعلق بالقضية السورية، وأتبع ذلك مباشرة برفع العقوبات المفروضة على تركيا(17). ومن الجدير بالذكر هنا أن هذه التطورات حدثت عشية إعلان ترامب عن مقتل زعيم تنظيم الدولة، أبوبكر البغدادي، في غارة نفذتها قوات أميركية خاصة. وفي خطوة رمزية، وجَّه ترامب شكره الخاص إلى تركيا مثمنًا تعاونها الاستخباراتي واللوجستي المثاليين (18). ومن المؤكد، في هذا السياق، أنه بقتله زعيم أخطر تنظيم إرهابي في العالم، فإن ترامب سجل نقاطًا ثمينة لصالحه قبل الانتخابات الرئاسية المقررة في الثالث من شهر نوفمبر/تشرين الثاني عام 2020.

قرار ترامب “الاستراتيجي الرائع”: مقاربة موسكو

رأى الرئيس ترامب في انسحاب القوات الأميركية من شمال سوريا عملًا “رائعًا من الناحية الاستراتيجية”، كما رحب أيضًا بالإحلال الروسي السريع لقواتها في المواقع الأميركية التي تم إخلاؤها في المنطقة(19). من جهتها، نفذت الطائرات الروسية دوريات فوق الأجواء السورية وقام الجيش الروسي بتوسيع عملياته في القاعدة البحرية السورية في طرطوس، التي تم تأجيرها كمنشأة عسكرية للبحرية الروسية في عام 2017. وعلى الرغم من أن افتقاد قاعدة طرطوس البحرية القدرة على استيعاب السفن الحربية الرئيسية الحالية التابعة للقوات البحرية الروسية، إلا أنها تستطيع دعم عمليات تجديد سفن حربية روسية كبيرة(20). من ناحية أخرى، تمكنت روسيا من إقامة روابط أوثق مع تركيا. ومن المنتظر، بعد الانسحاب الأميركي من المنطقة، أن تتولى القوات الروسية والتركية السيطرة المشتركة على مجموعة واسعة من المناطق التي تم تطهيرها من عناصر وحدات حماية الشعب على طول الحدود السورية التركية.

يمكن للمرء هنا المجادلة بأن خطوة ترامب قد عززت النمو السريع للنفوذ الروسي في سوريا. أما تركيا فقد حصلت على معظم ما سعت إليه: وهو إقامة منطقة آمنة وإبعاد عناصر وحدات حماية الشعب عن حدودها، مع إمكانية إعادة اللاجئين السوريين طواعية إلى بلدهم. غير أن كل تلك المكاسب جاءت على حساب تقاسم السيطرة على المنطقة، ليس فقط مع روسيا ولكن أيضًا مع النظام السوري. وقد كان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أوضح، خلال اجتماعه مع أردوغان، أنه “يمكن تحقيق استقرار دائم ووطيد في سوريا فقط في حال احتُرمت سيادة سوريا وسلامة أراضيها”. كما ألمح بوتين أيضًا إلى ضرورة تفعيل اتفاق أضنة المتعلق بأمن الحدود، وأكد على أنه “يقع على الأتراك واجب الدفاع عن السلام والمحافظة على الهدوء على الحدود مع السوريين، غير أن ذلك لا يمكن تحقيقه إلا في أجواء من الاحترام المتبادل والتعاون المشترك”.(21)

من المعلوم أن اتفاق أضنة هو اتفاق أمني مشترك تم توقيعه بين سوريا وتركيا عام 1998. وكان اتفاق أضنة يهدف إلى وضع حد للتوترات الثنائية التركية-السورية بشأن دعم واستضافة سوريا قادة حزب العمال الكردستاني على أراضيها. وكانت دولتا مصر وإيران قد توسطتا في عملية التفاوض، التي تلبي المطالب التركية من خلال ضمان التزام نظام الأسد بطرد زعيم حزب العمال الكردستاني، عبد الله أوجلان. وبعد ترحيل أوجلان من سوريا اعتقلته المخابرات التركية، عام 1999، بمساعدة وكالة المخابرات المركزية الأميركية. وتضمن نص الاتفاق الثنائي بين تركيا وسوريا عدم انخراط أي منهما في أي نشاط عسكري من شأنه تهديد الأمن القومي للطرف الآخر (22). وعلى الرغم من أن الاتفاقية سليمة نظريًّا، إلا أن وزير الخارجية التركي، مولود تشاووش أوغلو، أكد على أن النظام السوري الحالي غير قادر على الوفاء بتعهداته والتزاماته الواردة في تلك الاتفاقية. هذا، وتنص بنود الاتفاقية على أن لتركيا الحق في مطاردة مقاتلي حزب العمال الكردستاني على مسافة تصل إلى عمق خمسة كيلومترات داخل الشريط الحدودي مع سوريا، لكن بنود الاتفاقية لا تُعطي القوات التركية الحق في البقاء داخل المنطقة الحدودية لفترة طويلة.

منذ اليوم الأول لبدء العملية العسكرية التركية تحركت القوات العسكرية السورية بسرعة إلى البلدات والقرى التي كان الجيش التركي يتجه نحوها، ودخلت إلى منبج بعد اتفاقها الغريب مع قيادة وحدات حماية الشعب، التي تعبِّر علنًا عن معارضتها للنظام السوري. من ناحيته، وصف أردوغان هذه الخطوة بأنها “ليست بالغة السوء” بالنسبة لتركيا طالما أنه قد تم فعلًا “تطهير” المنطقة من الإرهابيين وطردهم من الحدود التركية(23). هدفت تصريحات أردوغان تلك إلى دحض المزاعم القائلة بأن لتركيا أطماعًا في ضمِّ أراض سورية وأن هجومها العسكري الأخير لم يكن سوى عملية “غزو”. وقد صرح أردوغان في مؤتمر صحفي، قائلًا: “في نهاية المطاف، هي أرض سورية. لكن من المهم ألا تبقى المنظمات الإرهابية هناك لأن ما يقرب من 90% من مساحة منبج هي أراض تعود للعرب وليس للأكراد(24)”.

من ناحية أخرى، يبدو من الواضح أن هدف موسكو النهائي هو إخراج جميع القوى الأجنبية من سوريا. إذ بمجرد أن تغادر واشنطن سوريا، فإن موسكو ستتمكن من ممارسة أقصى قدر من التأثير على القوى الأخرى. وهنا، يبدو واضحًا أيضًا بروز دور بوتين باعتباره أكبر القوى المهيمنة تأثيرًا في سوريا. وقد سعى بوتين، خلال مؤتمره الأخير بين إفريقيا وروسيا المنعقد في سوتشي، إلى أن يقدم نفسه وسيطًا رئيسًا في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ففي سوريا، أصبحت موسكو اليوم قادرة على تقرير مصير سوريا وسيكون بإمكانها، بعد رحيل القوات الأميركية، التأثير على تصرفات جميع القوى الإقليمية الأخرى بما فيها تركيا وإيران والمملكة العربية السعودية وإسرائيل.

عبَّرت مجموعة من الدول العربية، ضمَّت كلًّا من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين والكويت ومصر، فورًا عن معارضتها لما أسمته “العدوان التركي”، واعتبرت تلك الدول العملية التركية “غزوًا لأرض دولة عربية واعتداءً على سيادتها”. ويلاحظ هنا تشابه ردود فعل جامعة الدول العربية وإسرائيل إزاء العمليات العسكرية التركية في شمال شرق سوريا؛ إذ كما ذُكر أعلاه، فإن إسرائيل شجبت منذ اليوم الأول ما أسمته “الغزو التركي” وأعلنت تعاطفها مع وحدات حماية الشعب(25). ومن المعلوم أن إسرائيل تدعم بقوة إنشاء دولة “كردستان الكبرى”، التي ترى فيها حليفًا مستقبليًّا وأحد عوامل خفض النفوذ التركي في المنطقة.

يجدر في هذا السياق التذكير بأن وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، كان قد صرَّح في العام 2016، بأن “الرياض تدعم عمليات أنقرة في شمال سوريا، وتعتقد أن أهداف كلا البلدين في المنطقة واحدة تقريبًا”(26). لكن، ورغم ذلك، فقد طرأ تحول ملحوظ على موقف الجبير عندما لم يتورع عن إدانة “التوغل التركي” ويطالب بالوقف الفوري للعمليات العسكرية، بل أكثر من ذلك، فقد أعرب أيضًا عن قلقه من أن “الهجوم التركي سيزيد من تعميق معاناة الشعب السوري”(27).

من جانبهم، أنفق الزعماء السعوديون مبالغ كبيرة من المال، منذ منتصف عام 2018، في محاولة لإقناع ترامب بإطالة أمد الوجود العسكري الأميركي في سوريا. وكانت الرياض قد خصصت أيضًا مبلغ 100 مليون دولار لهذا الغرض. كما زُعم، وفقًا لتقارير عديدة، أن المملكة العربية السعودية أنشأت مراكز لتوظيف المجندين في مدينتي الحسكة والقامشلي في الشمال. في يناير/كانون الثاني من عام 2018، أعلن التحالف ضد تنظيم الدولة الإسلامية، الذي تقوده الولايات المتحدة، أنه يتعاون مع حلفاء قوات سوريا الديمقراطية لإنشاء وتدريب قوة حدودية جديدة قوامها 30 ألف جندي(28)، وقد خصصت الرياض مبلغ 200 دولار أميركي لكل مجند جديد كحافز للانضمام إلى تلك القوات الحدودية. كما زعمت تلك التقارير أيضًا أن الرياض أرسلت، في وقت لاحق، شاحنات محملة بالمساعدات إلى وحدات حماية الشعب. وقد دأب السعوديون، على غرار الأميركيين، على الترويج لوحدات حماية الشعب باعتبارها القوة الفعالة الوحيدة التي يمكنها إلحاق الهزيمة بتنظيم الدولة الإسلامية. ولكن، وعلى الوجه الآخر من العملة، فإن كلتيهما -المملكة العربية السعودية وأميركا- مهتمَّتان بشكل أساسي بتحقيق التوازن مع كفتي كل من تركيا وإيران(29). وقد كان حليف السعودية، أحمد الجربا، الذي ترأَّس في وقت سابق الائتلاف الوطني السوري -التحالف الرئيس لجماعات المعارضة في سوريا- يقود آلاف المقاتلين الذين تم نشرهم بين دير الزور في الشرق، والرقة في الشمال، والحسكة في شمال شرقي سوريا. وبناء على توسط الجربا، عرض السعوديون إرسال قوات للقيام بدوريات في المنطقة إلى جانب القوات الأميركية وعناصر من قوات حماية الشعب للحيلولة دون عودة تنظيم الدولة الإسلامية للمنطقة(30).

انطلقت العملية التركية أيامًا قليلة بعد تسلم رسالة واضحة مفادها أن سوريا قد تستعيد عضويتها في الجامعة العربية بعد سبع سنوات من الغياب؛ حيث تم تعليق عضوية سوريا في الجامعة في العام 2011 على إثر قمع قوات النظام السوري، بلا رحمة، للمظاهرات السلمية التي خرجت في مختلف مدن البلاد. وقد أظهرت المصافحة الأخيرة الحديثة بين أحمد أبو الغيط، الأمين العام لجامعة الدول العربية، ووليد المعلم، وزير الخارجية السوري، على هامش انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة الأخيرة، وجود مؤشرات على وجود مصالحة وشيكة محتملة بين النظام في دمشق والتحالف العربي.

أما دولة الإمارات العربية المتحدة، حليف المملكة العربية السعودية، فقد أعادت، بالفعل، علاقاتها مع دمشق في ديسمبر/كانون الأول من عام 2018(31). وأما بالنسبة للجامعة العربية وإسرائيل، فإن التخلي الأميركي عن سوريا عزَّز موقف روسيا كقوة عالمية وحيدة نشطة في سوريا. كما باتت كل من تل أبيب والرياض، اليوم، تتوقعان من طهران تعزيز انخراطها في سوريا. هكذا، فإنه يمكن لهذا التحول، في نهاية المطاف، أن يُترجَم ليس فقط إلى قدرة عسكرية متصاعدة لنقل الأسلحة من إيران عبر العراق وسوريا إلى حزب الله في لبنان، بل أيضًا إلى محور تتوحد داخله الكيانات المعادية لإسرائيل والسعودية. وهذا الوضع الجديد يشكِّل، بالنسبة للإسرائيليين والسعوديين، تهديدًا أمنيًّا مباشرًا وفوريًّا.

الأهم من كل ما سبق في هذا السياق، هو أن هذه الدول شرق الأوسطية -مثلها مثل قوات حماية الشعب- حليفة للإدارة الحالية في واشنطن، غير أن إعلان ترامب الانسحاب من سوريا ترك أولئك الحلفاء جميعًا في مأزق لا يحسدون عليه، فقد أثار هذا التحول في السياسة الأميركية أسئلة جديدة حول شراكاتهم الاستراتيجية البينية مع واشنطن. وقد كان زعماء كل من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والكويت ومصر وإسرائيل يعتمدون في سياساتهم الخارجية، بشكل يكاد يكون حصريًّا، على الاعتقاد في إمكانية لجوئهم إلى واشنطن، في حال مواجهتهم أي تحديات كبيرة، لإنقاذهم وتقديم الدعم اللازم لهم. من جهتها، تعتبر المملكة العربية السعودية أميركا درعها الدفاعية الرئيسة إزاء الهيمنة الإيرانية المزعومة وسياستها التوسعية في المنطقة. وفي المقابل، فإن علاقات إسرائيل القوية مع الولايات المتحدة كانت سلاح تل أبيب الفعال وسبيل إنقاذها. هذه التطورات الأخيرة داخل سوريا جعلت هذه الدول الحليفة لأميركا تتساءل عما إذا كانت استراتيجيتها طويلة الأمد، المبنية على الثقة في الولايات المتحدة، قائمة على أسس ثابتة ومتينة.

سيكون من السطحية والتبسيط بمكان افتراض أن تضع السياسة الخارجية الأميركية وحدات حماية الشعب وإسرائيل ودول الخليج في سلة واحدة؛ إذ لطالما اعتبرت واشنطن بقاء إسرائيل وأمنها التزامًا لا حياد لها عنه وصنفته كأحد مصالحها القومية. هذا بالإضافة إلى أن اللوبي الإسرائيلي في واشنطن بات اليوم أكثر تأثيرًا وفعالية من أي وقت مضى. بالنسبة لإسرائيل، فقد أثبت ترامب أنه رئيس وهبته لها السماء، فهو يعطي بلا حدود أو شروط؛ حيث أثبت سخاء سياسته من خلال اتخاذه قرار نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، كما دعم ترامب إسرائيل في ضمها مرتفعات الجولان المحتلة (32). قد يصف بعض النقاد ترامب بأنه رئيس غريب الأطوار، وأنه يبدو كثير الاستياء من مواقف المؤسسة الرسمية الأميركية ووسائل الإعلام وغيرها من جماعات الضغط أو المؤسسات؛ لكن، ومع ذلك فإن إسرائيل تبقى خطًّا أحمر لسياسته في الشرق الأوسط.

ربما على القادة السعوديين في الرياض، قبل غيرهم من القادة في العواصم الأخرى، أن يروا في تغير خيارات ترامب مدعاة لقلق حقيقي؛ إذ كان ينبغي أن تنبههم أجراس الإنذار مبكرًا وقبل تخلي ترامب عن أي حليف آخر في المنطقة. عندما هاجم المتمردون الحوثيون اليمنيون، المدعومين من قبل إيران، المنشآت النفطية السعودية فإن إدارة ترامب وجَّهت، على وجه السرعة، أصابع الاتهام لإيران بوقوفها خلف التخطيط للهجوم. بل إن ترامب ألمح أيضًا إلى إمكانية تنفيذ عملية عسكرية واسعة وشيكة ضد ثلاثة أهداف داخل طهران، قبل أن يتراجع عن قراره، في النهاية، ويقرر إيقاف خطة التحرك العسكري من داخل البنتاغون(33).

لقد كان بوسع السعوديين التفكير معمقًا في هذه العقلية السياسية “الترامبية”؛ وذلك بقطع النظر عن ارتباطهم التجاري القوي بإدارة ترامب؛ إذ يجب أن يدرك السعوديون أنهم سيجدون أنفسهم بمفردهم في حال قررت الرياض الدخول في مواجهة عسكرية شاملة مع إيران. يجدر التذكير هنا، بأن الرياض قررت، في تلك اللحظة، تليين موقفها من طهران وتبنت مقاربة تصالحية لتخفيف حدة التوتر، وفسحت المجال أمام الوساطة والمحادثات السلمية.

بالتوازي مع ذلك، فقد تزامن قرار ترامب الأخير بسحب قواته من سوريا مع إرسال المزيد من القوات الأميركية إلى المملكة العربية السعودية ونشر المزيد من الجنود في القواعد العسكرية الأميركية في منطقة الخليج. لكن، ورغم ذلك، فإن هذا التحول اللبق لم يكف لإبعاد الشعور بالذعر في الرياض بما أن واشنطن مضت في تنفيذ قرار سحب قواتها من سوريا خلال العملية التركية ضد وحدات حماية الشعب.

إيران: منافس تركيا الإقليمي أم شريكها؟

أعربت طهران، منذ اليوم الأول لبدء تركيا عمليتها داخل سوريا، عن معارضتها لخطط أنقرة الرامية إلى إقامة “منطقة آمنة” في شمال سوريا (34). غير أن إيران، على ما يبدو، لم تكن في وضع جيد يسمح لها بالانخراط في خلاف جدي مع تركيا أو عزلها. بالنسبة لإيران، فإن تركيا تُعتبر، بلا شك، شريكًا اقتصاديًّا أساسيًّا يساعد في مواجهة العقوبات الأميركية ثقيلة الوطء على الاقتصاد الإيراني. وبالإضافة إلى ما تقدم، فإن إيران بحاجة أيضًا إلى تركيا كشريك في محادثات أستانا للسلام التي تسعى لإنهاء الصراع في سوريا وتأمين المصالحة السياسية بين فرقائها.

على الجانب الإيراني، تبقى طهران حريصة على رؤية انسحاب كامل للقوات الأميركية من سوريا، ومن ثم استعادة النظام السوري سيطرته على كامل الأراضي السورية. أما وحدات حماية الشعب، وبدافع الشعور بتخلي الأميركيين عنهم أو خيانتهم، فقد اختارت قيادتها إبرام صفقة مع النظام السوري وطالبوا بنشر القوات السورية على الحدود التركية. وتلك خطوة قد تكون رائعة، من الناحية الاستراتيجية، بالنسبة للإيرانيين؛ حيث رحبت إيران بصفقة وقف إطلاق النار التركية-الروسية، كما حافظت أيضًا على القيمة السياسية لاتفاق أضنة باعتباره يمثل أساسًا واعدًا لتعاون مستقبلي سوري-تركي بهدف تأمين الحدود المشتركة ومكافحة الإرهاب. من المنظور الإيراني إذن، فإن أي إحياء لاتفاقية أضنة سيكون بمنزلة اعتراف صريح من أنقرة بشرعية النظام السوري، هذا علاوة على أنه سيؤدي إلى وقف تقدم القوات التركية داخل عمق المحافظات السورية.

على غرار تركيا، تستضيف إيران أقلية كردية كبيرة تتبنى آمالًا في إقامة دولة كردية مستقلة، وهو أمر يمكن أن يعرِّض وحدة الأراضي الإيرانية وأمنها القومي للخطر. لذلك، فإن العمليات التركية قد قضت على إمكانية تحويل ذلك الحلم الكردي إلى حقيقة واقعة. لكن، ومع ذلك، فإن هذه التحولات لا تعني بالضرورة أن الوضع القائم حاليًّا، والناجم عن عملية تركيا العسكرية أو عن الاتفاق الروسي-التركي، قد زاد من تعزيز المصالح الإيرانية. من دون أدنى شك، فإن موسكو خرجت من كل ما جرى الرابح الأكبر، وتمكنت من تعزيز نفوذها وتوجت نفسها ملكًا يفرض رغباته في سوريا. أما إيران فقد باتت اليوم لا تمارس سوى تأثير محدود في سوريا إذا ما قورنت بتركيا وروسيا.

خاتمة

لقد كانت عملية تركيا العسكرية ضرورية لمواجهة التهديدات الأمنية المُحدقة على طول شريطها الحدودي مع سوريا وإقامة منطقة آمنة حيث يمكن استقبال اللاجئين السوريين. وهنا، يجب التذكير بأن العملية العسكرية التركية تمت بموافقة الإدارة الأميركية وروسيا؛ فترامب قد سحب قوات بلاده وقتل زعيم تنظيم الدولة. أما من جانبهم، فقد عزز الروس استراتيجيات نفوذهم القوي في سوريا من خلال توصلهم إلى إبرام اتفاق مع الحكومة التركية، يشمل وقفًا طويل الأجل لإطلاق النار، وهو ما يمكن أن يفسح الطريق أمام النظام السوري لتوسيع مجال سيطرته على الأقاليم الشمالية للبلاد.

لقد كشفت التطورات السورية الأخيرة عن أن أكبر الخاسرين فيها هم حلفاء أميركا الإقليميون، وهم اليوم معنيون بالسؤال المرعب التالي: هل الولايات المتحدة الأميركية حليف موثوق به؟ أما تركيا، فقد أكدت دورها كلاعب مؤثر في منطقة الشرق الأوسط من خلال فرض أجندتها، التي قد لا تُرضي الإدارة الأميركية أو القوى الأوروبية. ومع ذلك، فإن التحدي الأكبر أمام تركيا يبقى متمثلًا في قدرتها على الوفاء بالتزاماتها تجاه اللاجئين السوريين غير المحصنين، والذين بنوا آمالًا كبيرة على تركيا.

لكن، ومهما يكن من أمر، فإنه يتوجب على اللاجئين السوريين التحلي بدرجة أكبر من الصبر وأن ينتظروا ليروا ما إذا كانت العملية التركية ستمكنهم، في نهاية المطاف، من العودة إلى منطقة آمنة وقابلة للعيش فيها داخل بلادهم المدمرة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*أحمد علي أوغلو / البرعي: أكاديمي ومحلل فلسطيني تركي. وهو حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة اسطنبول التقنية في التسويق السياسي، وقد درس في العديد من الجامعات الفلسطينية والتركية.

ملاحظة: الورقة أُعدت لمركز الجزيرة للدراسات باللغة الإنجليزية وترجمها إلى العربية د. كريم الماجري.

مراجع

    Ulgen, S (2019) ‘The Way Forward in Syria’ The New York Times, 16 October. https://www.nytimes.com/2019/10/16/opinion/syria-turkey.html (accessed 20 October 2019)

    Gilani, I (2019) ‘YPG/PKK terrorists seek Israel’s help against Turkey’ Anadolu Agency, 23 October. https://www.aa.com.tr/en/middle-east/ypg-pkk-terrorists-seek-israel-s-help-against-turkey/1623428 (accessed 26 October 2019).

    Wikipedia (2015) ‘Kurdistan Workers’ Party’ Wikipedia 26 March. https://en.wikipedia.org/wiki/Kurdistan_Workers’_Party (accessed 15 October 2019)

    Daily News (2015) ‘Barzani gets warm welcome in Ankara amid Turkey-Iraq tensions’ Daily News, 9 December http://www.hurriyetdailynews.com/barzani-gets-warm-welcome-in-ankara-amid-turkey-iraq-tensions–92319 (accessed 17 October 2019)

    Daily Sabah (2019) ‘PKK finances crimes in Turkey with funds made from illegal activities in Europe, ex-German FM says’ 19 October. https://www.dailysabah.com/war-on-terror/2019/10/19/pkk-finances-crimes-in-turkey-with-funds-made-from-illegal-activities-in-europe-ex-german-fm-says (accessed 20 October 2019)

    Wikipedia (2019) ‘Iraqi Kurdistan’ 25 October. https://en.wikipedia.org/wiki/Iraqi_Kurdistan (accessed 27 October 2019)

    Danforth, N (2018) ‘The Only Thing Turkey and the U.S. Can Agree On’ 10 January. https://www.nytimes.com/2016/08/03/world/europe/turkey-coup-erdogan-fethullah-gulen-united-states.html (accessed 15 October 2019)

    Aljazeera (2017) ‘Trump to send arms to Kurdish YPG in Syria’ Aljazeera, 10 May. https://www.aljazeera.com/news/2017/05/trump-send-arms-kurdish-ypg-syria-170509190404689.html (accessed 15 October 2019)

    Landler M, Cooper H, and Schmitt E (2018) ‘Trump to Withdraw U.S. Forces From Syria, Declaring ‘We Have Won Against ISIS’ The New York times 19 December. https://www.nytimes.com/2018/12/19/us/politics/trump-syria-turkey-troop-withdrawal.html (accessed 16 October 2019)

    Cook, S (2019) ‘There’s Always a Next Time to Betray the Kurds’ Foreign Policy, 11 October. https://foreignpolicy.com/2019/10/11/kurds-betrayal-syria-erdogan-turkey-trump/ (accessed 15 October 2019)

    Goldenberg, I and Heras, N (2018) ‘Obama’s ISIS policy is working for Trump’ the Washington Post, 25 January. https://www.washingtonpost.com/news/posteverything/wp/2018/01/25/obamas-isis-policy-is-working-for-trump/ (accessed 15 October 2019)

    Fahim, K and others (2019) ‘Trump says a limited number of troops will remain in Syria after ordering a complete withdrawal’ the Washington Post, 21 October. https://www.washingtonpost.com/world/middle_east/us-discussing-proposal-to-leave-troops-around-syrias-oil-fields-pentagon-says/2019/10/21/0b024d4c-f401-11e9-8cf0-4cc99f74d127_story.html (accessed 25 October 2019)

    Perry, T and Coskun, O (2018) ‘U.S.-led coalition helps to build new Syrian force, angering Turkey’ Reuters, 14 January.https://uk.reuters.com/article/uk-mideast-crisis-syria-sdf/u-s-led-coalition-helps-to-build-new-syrian-force-angering-turkey-idUKKBN1F30OE (accessed 15 October 2019)

    Borger, J and Safi, M (2019) ‘Trump claims Kurds ‘no angels’ as he boasts of his own ‘brilliant’ strategy’ the Guardian. October, 16. https://www.theguardian.com/us-news/2019/oct/16/trump-claims-kurds-are-much-safer-as-us-troops-leave-syria (accessed 18 October 2019)

    Vazquez, M ‘2019) ‘Trump threatens to ‘obliterate’ Turkey’s economy if they do anything ‘off limits’ with ISIS’ CNN, 8 October. https://edition.cnn.com/2019/10/07/politics/donald-trump-syria-obliterate-turkey-isis/index.html (accessed 15 October 2019)

    Daragahi, B (2019) ‘Erdogan says Turkey will take necessary steps against Trump’s ‘disrespectful’ letter’ the Independent, 18 October. https://www.independent.co.uk/news/world/europe/erdogan-turkey-trump-letter-syria-ceasefire-latest-response-a9161626.html (accessed 19 October 2019)

    Martosko, D (2019) ‘Donald Trump lifts ALL sanctions on Turkey as he claims ceasefire is ‘beyond expectations’ and Kurds are safe – but admits it is not permanent and says U.S. troops ARE staying’ Daily Mail, 23 October. https://www.dailymail.co.uk/news/article-7605009/Donald-Trump-claims-big-success-Turkey-Syria-border-says-ceasefire-holding.html (accessed 26 October 2019)

    Relman, E (2019) ‘Trump thanks Russia and other nations for helping with the US mission to kill ISIS leader al-Baghdadi’ Business Insider, 27 October. https://www.businessinsider.com/trump-thanks-russia-help-mission-kill-abu-bakr-al-baghdadi-2019-10?r=US&IR=T (accessed 27 October 2019)

    Hennigan, W.J. (2019) ‘Litany of Defeat: Trump Defends Rising Costs of ‘Strategically Brilliant’ Mideast Retreat’ Time, 17 October. https://time.com/5702769/litany-of-defeat-trump-defends-rising-costs-of-strategically-brilliant-mideast-retreat/ (accessed 23 October 2019)

    Wikipedia (2019) ‘Russian naval facility in Tartus’ Wikipedia 28 September. https://en.wikipedia.org/wiki/Russian_naval_facility_in_Tartus (accessed 15 October 2019)

    Troianovski, A and Kingsley P (2019) ‘Putin and Erdogan Announce Plan for Northeast Syria, Bolstering Russian Influence’ the New York Times, 22 October. https://www.nytimes.com/2019/10/22/world/europe/erdogan-putin-syria-cease-fire.html (accessed 24 October 2019)

    Younis, A (2019) ‘What does the Adana deal mean for Turkey and Syria?’ Aljazeera, 23 October. https://www.aljazeera.com/news/2019/10/analysis-adana-deal-turkey-syria-191022194719603.html (accessed 28 October 2019)

    TRT World (2019) ‘’YPG/PKK’s freeing Daesh members for money suits them’ – Peace Spring’ TRT World, 28 October. https://www.trtworld.com/turkey/ypg-pkk-s-freeing-daesh-members-for-money-suits-them-peace-spring-30471 (accessed 28 October 2019)

    Daily News (2019) ‘Syrian regime entering Manbij not negative if YPG eliminated: Erdo?an’ Daily News, 16 October. http://www.hurriyetdailynews.com/erdogan-says-turkey-not-worried-over-sanctions-147544 (accessed 25 October 2019)

    Rasgon, A (2019) ‘Syrian Kurdish military official calls on Israel to take action against Turkey’ Times of Israel, 20 October. https://www.timesofisrael.com/syrian-kurdish-military-official-calls-on-israel-to-take-action-against-turkey/ (accessed 27 October 2019)

    Kabalan, M (2019) ‘How Turkey’s ‘Peace Spring’ changed the dynamics of Syria’s war’ Aljzeera, 14 October. https://www.aljazeera.com/indepth/opinion/turkey-peace-spring-changed-dynamics-syria-war-191014165613108.html (accessed 26 October 2019)

    Alarabiya English (2019) ‘Arab foreign ministers condemn Turkish offensive in Syria’ Alarabiya English, 12 October. http://english.alarabiya.net/en/News/gulf/2019/10/12/Al-Jubair-Saudi-Arabia-condemns-Turkish-offensive-in-Syria.html (accessed 20 October 2019)

    Perry, T and Coskun, O (2018) ‘U.S.-led coalition helps to build new Syrian force, angering Turkey’ Reuters, 14 January. https://www.reuters.com/article/us-mideast-crisis-syria-sdf/u-s-led-coalition-helps-to-build-new-syrian-force-angering-turkey-idUSKBN1F30OA (accessed 26 October 2019)

    Middle East Monitor (2018) ‘Saudi Arabia, UAE send troops to support Kurds in Syria’ MEMO, 22 November. https://www.middleeastmonitor.com/20181122-saudi-arabia-uae-send-troops-to-support-kurds-in-syria/ (accessed 25 October 2019)

    Mourad, M (2017) ‘Syrian opposition figure to deploy all-Arab force in Raqqa offensive’ Reuters, 1 February. https://uk.reuters.com/article/uk-mideast-crisis-syria-jarba/syrian-opposition-figure-to-deploy-all-arab-force-in-raqqa-offensive-idUKKBN15G51W (accessed 26 October 2019)

    The New Arab (2019) ‘Signs of rapprochement after Syria regime and Arab League officials seen in warm exchange’ the New Arab, 28 September. https://www.alaraby.co.uk/english/news/2019/9/27/syrian-foreign-minister-and-arab-league-head-meet (accessed 26 October 2019)

    Borger, J (2019) ‘Trump says US will recognize Israel’s sovereignty over Golan Heights’ the Guardian, 21 March. https://www.theguardian.com/us-news/2019/mar/21/trump-us-golan-heights-israel-sovereignty (accessed 27 October 2019)

    The Guardian (2019) ‘Pompeo: Iran behind attack on Saudi oil facilities that will reduce kingdom’s output’ the Guardian, 15 September. https://www.theguardian.com/world/2019/sep/14/pompeo-iran-saudi-arabia-oil-yemen-houthi (accessed 27 October 2019)

    Pleasance, C (2019) ‘Turkey fires first shots: Ankara bombs Kurdish supply route’ the Daily Mail, 8 October. https://www.dailymail.co.uk/news/article-7549407/Turkey-says-ready-create-peace-corridor-northern-Syria.html (accessed 27 October 2019)

———————————–

دولة فاشلة أم تدويل هل هي خيارات السوريين القادمة؟/ بسام يوسف

لم تمض أيام على تصريح الرئيس الأمريكي دونالد ترمب حول سيطرته على النفط السوري والتصرف به كما يشاء، حتى أعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، عن أن بلاده ستصر على استعادة السلطات السورية سيطرتها على أراضي البلاد كاملة، وبأسرع وقت ممكن، بما في ذلك مناطق حقول النفط التي استولى عليها الأمريكيون. ولم يتأخر الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، كثيراً عن أن يطلق تصريحاً آخر حول النفط السوري، اقترح فيه: أن يخصص مردود إنتاج سوريا من النفط لإعمار المناطق الحدودية وتجهيزها، حتى يمكنها أن تستقبل ما يزيد عن مليون من اللاجئين العائدين. ومرة أخرى لم تتأخر أمريكا عن إعادة تأكيد وزير دفاعها: إن النفط السوري تحت السيطرة الأمريكية، وإن هناك قوات أمريكية إضافية في طريقها لتعزيز حمايته.

إذاً: ما قصة النفط السوري؟ ولماذا بدأت الروايات والأحاديث والتحليلات تتسابق في تناوله كأنه مغارة علي بابا؟ وكيف انتقل- ومن أين- من إنتاج لا يتجاوز 300 ألف برميل يومياً- حسب دراسات ومعلومات لجهات اقتصادية متخصصة، منها ما يتبع للدولة السورية- إلى أربعة أضعاف هذا الرقم؛ أي إلى مليون ومئتي ألف برميل يومياً؟ هذا، مع أن جميع المعنيين يعلنون: أن توثيق هذا الرقم غير ممكن في ظل التعتيم المتعمد على هذا الأمر سابقاً، ولا سيما أن من يفرض هذا التعتيم، هي الجهة نفسها التي كانت تسيطر فعلاً على النفط، وهي عائلتا الأسد ومخلوف، هذه الجهة التي لم تسمح لأحد- بما في ذلك الحكومة السورية ووزارة نفطها- بمعرفة حجم الإنتاج الحقيقي. ثم- لاحقاً- توارت هويات الجهات المسيطرة عليه، واحتجبت.

تظهر أرقام نشرة Economist Intelligence Unit أن إنتاج النفط في سوريا، قد تزايد بين عامي 1995 و2004 إلى أن بلغ 600 ألف برميل يومياً. وبحسب المعلومات الرائجة، فإن تلك الكميات كانت تصرف في السوق السوداء بأسعار مخفضة عن السعر العالمي، مقابل قبض قيمتها «كاش» بالقطع الأجنبي، وهو ما يبرر عدم الوضوح فيما إذا كانت كامل عائدات النفط تدخل ميزانية الدولة أم لا، وهو- على كل حال- موضوع قد كان من المحظورات في سوريا، ولا يزال.

واللافت في تصريح غريب لمسؤول في وزارة النفط والثروة المعدنية السورية، تحدث فيه عن خطط الإنتاج المقررة لعام 2020، وقد حدد- هذا المسؤول- كمية النفط المنتجة بما يقارب 33 مليون برميل نفط خلال العام؛ أي بما يقارب إنتاج 90 ألف برميل يومياً! وعند سؤاله عن سبب هذا التفاوت في الإنتاج ما بين 24 ألف برميل، هو المنتج فعلاً من الحقول التي تسيطر عليها السلطات السورية، و90 ألف برميل، أجاب: إن السلطات السورية عازمة على تحرير حقول النفط في شمال شرق سوريا من السيطرة الأمريكية الحالية.

إن قراءة سريعة لقصة النفط السوري ما بعد انقلاب حافظ الأسد، تظهر بوضوح: إن قطاع النفط السوري قد كان في قبضة عائلة الأسد منذ عام 1980 حتى عام 2010، وهي بالذات من عهدت بإدارته إلى محمد مخلوف، شقيق أنيسة مخلوف “زوجة حافظ الأسد”، وقد كان هذا الأمر يحاط بالتكتم والسرية التامة؛ إذ حتى العقود التي كانت توقع مع شركات الإنتاج، كانت تتم عبر شركات وسيطة بين الدولة السورية وهذه الشركات، هذه الشركات الوسيطة التي وكلاؤها أو مدراؤها يكونون عادة، هم أنفسهم، أشخاصاً من عائلة مخلوف أو من الموظفين لديهم.

أما الغريب في الأمر، فهو أن كميات النفط المنتجة من حقول النفط السورية، لم تكن

تسجل بمنظمة الأوبك، كما لم يكشف للسوريين عن الأرقام الحقيقية لكمية إنتاج النفط، وهي التي كانت تباع في السوق السوداء عبر وسطاء دوليين. وأما ما هو أدهى وأمرّ من ذلك، فهو أن بعض التسريبات قد تحدثت عن أن قسماً كبيراً من هذا النفط، قد كان يباع إلى إسرائيل، وأن شحنه قد كان يتم عبر ميناء بانياس إلى “إسرائيل” مباشرة، وأن الأموال المستحقة قد كانت تحول إلى حسابات خاصة بالعائلتين.

ثم- كما هو معروف- بعد عام 2011؛ أي بعد انفجار الثورة السورية، كان قد بدأ يتتالى خروج مناطق حقول النفط عن سيطرة السلطة السورية، ثم بدأت تتكشف- شيئاً فشيئاً- المعلومات التي أخفتها عائلة الأسد عن السوريين طيلة عقود، وهي العائلة التي كانت قد راكمت خلالها عشرات أو مئات مليارات الدولارات. ومع ذلك، إن هذه المعلومات المسربة لا تزال غير كافية، ولا تزال غير قادرة على تفسير هذا الاهتمام الدولي بالنفط السوري.

والأدهى والأمرّ والمؤسف والمخجل في الوقت عينه، هو أن جهة وطنية سورية يمكنها أن توثق حقائق وأرقام هذه الثروة الوطنية التي هي ملك الشعب السوري لم توجد حتى اليوم، هذه الجهة الوطنية التي من حقها وواجبها أن تطالب المجتمع الدولي بحماية هذه الثروة وإيقاف العبث بها، إلى حين يتمكن الشعب السوري من استعادة دولته وقراره الوطني الحر المستقل.

والأدهى والأمر من كل هذا، هو في هذه الدعوات التي تطلق من هنا ومن هناك داعية إلى توزيع مصادر الثروة في سوريا، وإلى إدارتها من قبل أطراف دولية أخرى، مما يجعل من دعاتها ومروجيها خدماً وحشماً حول موائد قراصنة هذا العالم؛ أي بعبارة أخرى: من أجل إعلان سوريا دولة فاشلة كمقدمة لفرض وصاية دولية على ممكناتها وثرواتها؛ فيكونون وكلاء وعملاء وحراس الثريد.

هكذا، لم يعد للسوريين -من غير الخدم والمتواطئين- ما يمكن أن يشكل مورداً اقتصادياً هاماً في حاضرهم ومستقبلهم؛ فالمرافئ تم تأجيرها، والفوسفات قد استولى الروس على عقوده، وكذلك على حقوق التنقيب عن الغاز في الساحل السوري، وفي المياه الإقليمية السورية، وها هو النفط يخرج من السيطرة السورية، هذا عدا الأحاديث المتعلقة بشبكات الاتصال التي ستكون من حصة إيران، إضافة إلى شركات الكهرباء، ومؤسسات النقل داخل سوريا من سكك حديد وغيرها التي ستقود لابد إلى تملك كل ساكن ومتحرك.

وفي ختامها، بعد أن ينتهي كابوس هذه الحرب، وبعد كل هذا الدمار، هل سيجد السوريون أنفسهم أمام حقيقة قاتمة مكفهرة، هي: أن كل ما يملكونه قد تم بيعه، وأن بلادهم المدمرة لم تعد تملك ما يمكن أن يعينهم في العيش وفي إعادة الإعمار…؟

تلفزيون سوريا

————————————-

التوطين أشواك تركية جديدة في شمال شرق سوريا/ براء صبري

تمر هذه الأيام على سكان شمال شرق سوريا غمامة داكنة جديدة من التساؤل عن ما يحدث في الفتحة الجغرافية التي احتلتها تركيا رفقة الميليشيات السورية بين منطقة رأس العين وتل أبيض خلال الشهرين الماضيين. الغمامة تلك تسود أكثر فأكثر لدى الأهالي في شرق الفرات ككل مع ما يتم الحديث عنه من مخططات لتعبئة المنطقة بنازحين ولاجئين سوريين من مناطق بعيدة، وعن إسقاط حلم العودة لدى النازحين واللاجئين الذين يتجاوز عددهم الربع مليون، ويعيشون في مدارس ومخيمات داخل وخارج مناطق الإدارة الذاتية التي تعاني من عدم قدرتها على استيعاب الضغط الحالي. هذه المخططات التي يتم تأكيد العمل عليها من قبل رأس الحكم في تركيا في كل ظهور إعلامي له وهو يتحدث عن التطورات في سوريا، وهو ما تؤكده أيضاً المصادر المتنوعة على الأرض التي تتحدث عن تحركات مريبة في المنطقة التي تحتلها تركيا، والتي لم تتوقف المناوشات على طرفيها الجنوبي الشرقي والجنوبي الغربي مع رغبة الميليشيات المعارضة وتركيا بالسيطرة على كامل الخط الممتد على الطريق الدولي، والوصول إلى بلدتي تل تمر ذات البعد الديني المسيحي وعين عيسى ذات البعد الرمزي المعنوي لقسد والإدارة الذاتية على اعتبار أن عين عيسى هي العاصمة الإدارية المفترضة لكل الهيكليات الإدارية الحاكمة في المنطقة. هذه التطورات لموجات هادرة من اليأس والقلق على باقي الخريطة في شمال شرق سوريا، تعزز الاعتقاد القائل إن تركيا تبحث عن إنهاء أي محاولة كردية في إيجاد موطئ قدم لهم في سوريا بعد فشلها في ذلك سابقاً في العراق.

التطورات على الأرض

سيطرت تركيا على الخط الممتد بين سرى كانيه وتل أبيض وتمددت جنوباً حتى قطعت الطريق الدولي، ولكنها فيما يبدو تطمح للحصول على كامل الخط الذي يقع على طرفيه المقابلين لرأس العين وتل أبيض بلدتي تل تمر وعين عيسى. هذا الطموح التركي يقابله دفاع من قسد، وتحركات روسية بين الفينة والأخرى، وتواجد للنظام لم يكن له دور فعال في التطورات بقدر ما كان له مؤشر على إنه يبحث عن منفذ للترسخ والتسلل لعموم المنطقة التي خرجت منها واشنطن، والتي هي تحت تهديد تركيا. تركيا التي تيقنت أن الهدية الترامبية هي أكثر ما يمكنها الحصول عليه في شرق الفرات، تبحث عن أن تكون كعكة ترامب كاملة، وترفض أي منغصات تضعف قدرتها على القضم الكامل. انكماش واشنطن واضح من حيث التركيز على مناطق النفط في محافظة الحسكة وشرق محافظة دير الزور. تحشيد أمريكي راسخ هناك، وانكماش واضح عن الكثير من مساحة محافظة الرقة التي طردت قسد والتحالف الدولي “داعش” منها ذات يوم في حفل سمي حينها حفل الانتصار الكبير على “داعش”. وتسعى روسيا التي تلعب دور الوسيط في كل المنطقة التي تركتها واشنطن لضبط الإيقاع لدى الجميع. لا تغضب روسيا تركيا ولكنها لا تسمح لها بالنفوذ أكثر، ولا تقطع الروابط مع قسد ولكنها لا تضغط على دمشق للقبول بمطالب قسد حول الحل في سوريا، وتغطي على النظام ولكنها ترسخ قواعد تمركزها أكثر مما تسعى لتنفيذ رغباته.

عوامل متداخلة لمسيرة نحو تحجيم وتهميش الكل، وتصغير حصص اللاعبين الكبار تحت مسميات النصر. ويدرك الجميع أن واشنطن أهدت لتركيا ما تطلب برغبة رئاسية واضحة خارجة عن اللعبة السياسية الأمريكية التقليدية. لم تحصل تركيا حتى اللحظة على أكثر من ما جلبه اتصال اردوغان بترامب، وهذا دليل على أن الجميع كان خارج الحلقة التي تدير مصير شرق الفرات قبل غزوة تشرين الأول/أكتوبر الأخيرة. لكن، ما هو على الأرض حالياً هو عالم مختلف كثيراً عن سنين الحرب على “داعش” والتي كان لواشنطن وحلفائها الدوليين القرار النهائي لتحديد مصير المنطقة، وبتنفيذ وتحالف مع قسد على الأرض. حالياً، تستثمر تركيا في الفتحة الجغرافية التي دخلتها في شمال شرق سوريا من دون اكتراث لأحد، وتستفيد موسكو من عامل الوقت لتعزز السيطرة العسكرية والسياسية على منطقة غرب شرق الفرات، في حين يحاول قسد والنظام العمل على التخاطب حيناً والتجادل حيناً آخر بهدف إيجاد آلية واضحة للوصول إلى صيغة اتفاقية تنهي حالة التجاور غير المريح في المنطقة. وتدور تلك التخاطبات حول مبدأي الإدارة الذاتية أو الإدارة المحلية، وهو ما يزيد من قلق السكان الباحثين عن حل نهائي يؤمن بقائهم في منطقة تعج بالصراعات والتداخلات الدولية التي لا تنتهي. كل هذا التبدل ترافقه بالطبع عمليات تطور عسكري وأمني أمريكي في شرق شرق الفرات الذي لا ذكر لها في كل التفاوضات السابقة بين الأطراف التي تلعب لعبة الوقت والقضم على الأرض.

تاريخ متجدد

خلال الفترة الماضية كانت تركيا تصر على إرفاق أي حديث عن شرق الفرات بمفاهيم من نوع توطين اللاجئين السوريين فيها. ولا تقف الدول الكبرى في شرق الفرات كروسيا وأمريكا حجر عثرة في وجهها فيما يبدو. وتلتف أمريكا على هذه الخطط التركية بالحديث عن حقول النفط وعن البحث عن حلول لقضايا خلايا “داعش” وتصر روسيا على ان تقاربها مع تركيا أكبر من أن تعكره عمليات نقل بشري من منطقة إلى منطقة. أما أوروبا التي تبتزها تركيا بعناصر “داعش” من الجنسيات الأوروبية لديها وباللاجئين السورييين فتسكت عن كل شيء رغم بعض التصريحات الرسمية الصادرة عن فرنسا.

تعتمد السياسية التركية على الاستفادة من كل هذه الوقائع للبحث عن معوقات تحبط كل فرصة للجماعات البشرية في المنطقة لتحديد مسارات حياتها المُستقبلية. كل هذه المعوقات تدور في هدف تركي واحد وهو الوقوف في وجه أي نمو إداري أو سياسي كردي في عموم دول الجوار. مرت هذه الخطط بتطبيق فعلي على الأرض من الخريطة الممتدة غرب نهر الفرات إلى محافظة إدلب، وتبلورت أكثر في منطقة عفرين التي استهدفتها تركيا بقوة من خلال الميليشيات الموالية لها. انخفاض كبير في سكان المنطقة الإصليين وظهور مجموعات بشرية من مناطق سورية بعيدة كداريا وريف دمشق. وجدت عوائل عفرين الحقيقيين أنفسهم في مخيمات في منطقة الشهباء وحوالي بلدة تل رفعت وبدأ الآخرون البحث عن ملاذات آمنة لهم في شرق الفرات أو إقليم كردستان العراق. ووثق الكثيرون كيف أن الجماعات المسلحة تستولي على بيوت السكان في المنطقة تحت حجج واهية واتهامات فارغة. هذا السيناريو الذي تسعى تركيا إلى تجديده في رأس العين وتل أبيض وبغطاء مالي ودولي وقانوني بدء شبحه في الظهور من جديد.

وقود للتوطين

أن عملية التوطين التركية في سري كانيه وتل أبيض والتي يسميها المراقبون بالتغيير الديموغرافي قد بدأت رغم الوتيرة الضعيفة للأخبار عن القضية التي تحاول تركيا تحييد تفاصيلها عن الجميع. تغطي تركيا العملية بلحاف عودة اللاجئين السوريين من تلك المناطق إلى منطقتهم الأصلية. والتقارير الدولية المتوفرة تتحدث عن أن اللاجئين من شمال شرق سوريا إلى تركيا تعدادهم حوالي ربع مليون شخص، ولكن تركيا تتحدث عن توطين ما لا يقل عن مليون شخص. هذا الرقم الضخم الذي يعجز كل شرق الفرات عن تحمله سيكون عداده من النازحين السوريين من المحافظات الوسطى والجنوبية، والمتواجدين حالياً في أرياف محافظة إدلب وشمال حلب. ولا توجد أرقام رسمية عن التطورات الديموغرافية في المنطقة رغم أن التقارير الدولية تتحدث عن نزوح 300 ألف شخص من المنطقة التي غزتها تركيا، وعن عودة ثلث هذا الرقم إلى منطقتهم، وجلهم من غير الأكراد بالطبع. في حين تتحدث بعض التقارير عن وصول عوائل من ريف جرابلس وريف إدلب إلى تل أبيض ورأس العين مروراً بالأراضي التركية. هذه الأرقام والتفاصيل تبقى غير دقيقة مئة في المئة حتى بعض الوقت. لكن، الأكيد أن عملية التوطين قد بدأت في المنطقة على حساب السكان الأصليين الذين يبحثون عن مواطن جديدة للاستقرار لهم بعد تيقنهم أن الانتهاكات الفاضحة للميليشيات المعارضة التابعة لتركيا في مناطقهم مستمرة، وان أي عودة لهم سيقابله عقاب على أساس الهوية والتوجه السياسي. لذا، فإن البعض يجد أن تلك الانتهاكات تتم بطلب تركي لمنع الكثيرين من العودة، ولتهيئة المناخ المناسب لإفراغ المنطقة من سكانها، وإدخال عناصر بشرية جديدة لها. هذا التغيير يؤسس لعوالم من التصادم البعيدة الأمد بين سكان سوريا. وتحاول تركيا تصدير أزماتها للخارج من خلال معارك خارجية، ومن خلال فتح مشاريع بدعم وتمويل غربي في مناطق شمال شرق سوريا لتوطين اللاجئين. هذه المشاريع ستدعم الكتلة الاقتصادية الموالية لحزب العدالة والتنمية وتعزز موقفه الداخلي. كل هذه المخاضات الداخلية تدفع تركيا لزرع أشواك في عموم الشمال السوري بين مجتمعه المتنوع الهويات. على سبيل المثال يراقب النازحون من سري كانيه من مخيماتهم القريبة نازحين من مناطق أخرى من سوريا وهم يسكنون بيوتهم التي فروا منها خلال الغزو التركية الأخيرة.

ان عملية التوطين أو التغيير الديموغرافي هي بمثابة عملية تحصين تركي للمشاكل السورية. هي العملية التي تدفع إلى صدامات أهلية داخلية مع مرور الوقت، وتعزز فقدان الثقة بين سكان المجتمع الواحد، وتلوث الجو العام بقضايا خلافية لا يمكن القفز فوقها عند البحث عن حلول لمصير ملايين اللاجئين والنازحيين السوريين الذين بعثروا في المنطقة. لا يمكن نقل مشكلة من مكان تفيد الجهات الفاعلة الخارجية في المشهد السوري إلى منطقة أخرى بهدف إقصاء سكان تلك المنطقة تحت يافطات قانونية غير ذات مصداقية. هذه الولادات الجديدة للمشاكل، ستدفع في مقبل الأيام الجميع إلى تحصين ذاتهم أكثر ورفض تقبل الآخرين، وهو ما يجر خلفه وبصمت غربي وروسي احتمالات موجات نزوح ومعارك جديدة، وحروب أهلية صغيرة عند خطوط التماس الساخنة بالطبع.

القدس العربي

——————————

أصدقاءنا الأتراك.. ما هكذا تورد الإبل/ محمود الوهب

لا يمكن للسوريين أن ينسوا أبداً ما قدمه الشعب التركي الصديق لهم، حين أتوه هاربين من “ظلم ذوي القربى”، فمنذ الأيام الأولى للثورة السورية، ومنذ أخذ الرصاص القاتل يحصد المحتجين السلميين في الساحات العامة مع بداية العام 2011، ومن ينجو تأخذه الأجهزة الأمنية إلى المعتقلات التي هي موتٌ آخر أشدُّ مرارةً وفظاعة، أخذت الهجرات السورية باتجاه بلدان الجوار، ومنها الجار التركي، وازدادت الهجرة مع بروز ظاهرة الانشقاقات العسكرية والمدنية، ورفض الشباب الالتحاق بالجيش، كي لا يقتل السوري أخاه السوري، ولشعور هؤلاء الشباب بأن هذه المعركة ليست معركتهم الوطنية المنتظرة. وتفاقمت الهجرة، حين أخذت البراميل المتفجّرة تهدم، بالتوحش كله، البيوت فوق أجساد الأطفال والأمهات، إلى أن غصت المدن التركية بالسوريين. وربما تجاوز العدد، كما هو معلوم للجميع، أربعة ملايين نسمة.

واستُقبِل السوريون، منذ البداية، استقبالاً إنسانياً لائقاً، وخلال تلك السنوات التسع، ومن دون أية عوائق، أخذ السوريون في الاندماج شيئاً فشيئاً ضمن المجتمع التركي، فدخل أبناؤهم المدارس التركية والجامعات، وعولج مرضاهم في المشافي مجاناً، وساهم السوريون، بنشاطهم المعروف، في الفعاليات الاقتصادية، عمالاً ورجال أعمال، كما ساهموا في الفعاليات الاجتماعية والثقافية، بالتشارك مع أصدقائهم الأتراك، وتعلَّم الأطفال منهم والشباب اللغة التركية بسرعة فائقة، فثمة وشائج كثيرة بين اللغتين، واكتسب بعضهم الجنسية التركية. وصارت تركيا، على صعيدي الشعب والحكومة، مضرب المثل في حسن التعامل مع المهجَّرين السوريين، على الرغم من منغصات تفرضها الأوضاع الطارئة، كأن تلصق بعض المشكلات التركية المحضة بهجرة السوريين. ولعلَّ بعض الأحزاب المعارضة هي التي وجدتها فرصة للنّيل من خصومها السياسيين، لكن الأمر كله لم يكن ليتعدّى حوادث سرعان ما يجري التدخل لحلها.

ويلتزم السوريون، في المقابل، التقيد بالقوانين والأعراف العامة للبلد المضيف. وأمر طبيعي أن

تكون الثقافة حاضرة لدى السوريين في مغتربهم، فعمل كثيرون منهم في ميادين الإعلام وألوان الثقافة. وأقيمت معارض للفنون التشكيلية، وللأعمال اليدوية النسوية. وتكونت فرق مسرحية، وأخرى موسيقية، وكان الكتاب العربي أكثر حضوراً من بين تلك الفعاليات. وشكَّل معرض الكتاب العربي تظاهرة كبرى في إسطنبول، وحمل اسمها، حيث الحضور العربي كثيف. فإلى جانب السوريين، هناك المصريون والعراقيون والليبيون واليمنيون والسودانيون.. إلخ. وللأمانة، قُدّمت مساعدات جمة، واحتُفي بالناشرين بما يليق بهم وبمهنتهم ودورهم الثقافي.. وعلى ذلك، صار معرض إسطنبول للكتاب العربي تقليداً سنوياً، يُقام في سبتمبر/ أيلول من كل عام، بُعيد افتتاح المدارس والجامعات، وشُجِّع الطلاب على اقتناء الكتب بأشكال شتى، منها منحهم بطاقات مجانية تخوّلهم شراء كتاب أو عدة كتب، تتحمل بلدية إسطنبول والمشرفون على المعرض تكلفتها، وهذه بادرة حسنة، تدعم الكتاب والقارئ على السواء.

وعلى غرار معرض إسطنبول، وعلى هامشه، أخذت منظمة “الرواد للتعاون والتنمية” تقيم معرضاً سنوياً، حيث وجودها في مدينة غازي عينتاب، تحت اسم ملتقى الكتاب، وتعرض فيه بعض الكتب التي عرضت في اسطنبول. ومعلوم أن نحو أربعمئة ألف سوري يعيشون في غازي عينتاب القريبة من حلب، وفيها كثير من منظمات المجتمع المدني، ومن الإعلاميين والعاملين في حقول التعليم وغير ذلك. ولا يتاح لهؤلاء المتعطشين للكتاب العربي الذهاب إلى إسطنبول، سيما وأنَّ تشديداً ما مفروض على تنقل اللاجئين الموضوعين تحت الحماية المؤقتة من مدينة إلى أخرى وفق شروط محددة. وجاء الملتقى الثالث للكتاب مميزاً عن الملتقيين السابقين، في حفل افتتاحه الذي حضره مثقفون أتراك وسوريون، وبزواره المميزين، وبما رافقه من أنشطةٍ ثقافيةٍ متنوعةٍ لافتة ما أسعد المشتركين أجمعين، ولكن ما حصل في الساعات الخمس الأخيرة، أي قبيل حفل الاختتام وتوزيع دروع المنظمة المستضيفة على العارضين، فوجئ الجميع بدخول أفراد يمثلون مديرية الثقافة (أو جهة أخرى) في المدينة، لتنفيذ حكم محكمة قضى بمصادرة الكتب المعروضة، بزعم أن لا وجود لـ “البندرول” (الموافقة الرسمية على نشر الكتاب وعرضه) على أغلفتها. ولما كانت معظم الكتب العربية آتية من بلدانها الأصلية، فإنها تدخل بلد المعرض من غير تلك الموافقة. وحتى التي تطبع في تركيا لا تحصل جميعها على هذه الموافقة. ولم يطالب أحد، على الرغم من المعارض الخمسة التي أقيمت في إسطنبول، والاثنين اللذين أقيما في غازي عينتاب سابقاً، ومع ذلك، فقد صودرت الكتب. فكيف استقام أمر هذه الكتب المصادرة في معرض إسطنبول، ولِمَ لَمْ يستقم في معرض غازي عينتاب والبلَدان في دولة واحدة، وثمّة موافقة نظامية من والي غازي عينتاب.

ما حصل سيئ، وغير مقبول، وكان يمكن أن يسبقه تنبيهٌ ما، أو أن تؤخذ عينة ما من الكتب من دون المساس بالمعرض، ولا بزواره الكثيرين الذين غالباً ما يؤجلون زيارتهم لليوم الأخير.

هؤلاء الذين أكرهوا على الخروج من الأجنحة والردهات، في جوٍّ أثار أسئلة وتكهنات كثيرة، ما يولد إشاعات كثيرة.

ليس ما حصل مزعجاً فحسب، بل أيضا يدعو إلى الريبة والتساؤل، فما الذي يخفيه هذا التصرف؟ ولنفترض أنَّ ثمة مشكلة، أفلا يمكن أن تحلَّ بأسلوب آخر، سيما وأن المعرض في ساعاته الأخيرة؟ ولكن يبدو أن من يقف وراءها لا يريد “العنب” بل يبغي “قتل الناطور”، بمعنى أنه فقط يريد الإزعاج، ولا شيء غيره، وفي الحالين لم يحصل على شيء. صحيح أن العارضين أخذوا إلى جهة أمنية، وأخذت بصماتهم على أنهم من مرتكبي الأفعال الجنائية، وبعضهم كتاب وشعراء، بيد أن ذلك لم يسؤهم أبداً، بل أكثر ما يسيء إلى الجهة المختبئة خلف ذلك الفعل. وعلى ذلك، لا بد للجهات المعنية من أن تقوم بفعل ما للخلاص من هذه الفوضى التي حصلت. صحيح أن ثمة قرار محكمة، كما قيل للمشاركين، وسيُعترض عليه أصولاً، ولكن هذا شيء وما جرى شيء آخر لا يتوافق مع ما تذهب إليه تطلعات الشعبين، السوري والتركي، من إقامة علاقات صداقة راسخة، يحكمها حسن الجوار والاحترام المتبادل.

العربي الجديد

————————————–

تركيا واللعب بين بوتين وترامب أو بين روسيا والولايات المتحدة/ ميشيل كيلو

بعد إسقاط سلاح الجو التركي طائرة سوخوي ٢٤ الروسية في تشرين الثاني من عام ٢٠١٥، مرت العلاقات التركية الروسية في مراحل ثلاث.

ـ مرحلة أولى شهدت توترا أنذر بنشوب حرب بين الدولتين، دأبت خلاله الطائرات الروسية المقاتلة على الانطلاق من مطار حميميم وانتهاك المجال الجوي التركي، بالتزامن مع عقوبات اقتصادية مؤثرة فرضتها موسكو على أنقرة، خفضت بشدة حجم التجارة بين البلدين، وأمرت ملايين الروس بمغادرة تركيا ومقاطعتها سياحيا، ووصل الأمر، أخيرا، إلى قيام وحدات بحرية روسية باطلاق النار وهي تعبر مضيق البوسفور، وسط تصريحات نارية تذكر بما أطلقه الاتحاد السوفياتي من تهديدات بغزو اسطنبول في أواسط خمسينيات وتسعينيات القرن الماضي. هذه المرحلة دامت قرابة عامين، وانتهت برفع العقوبات عن انقرة عام ٢٠١٧، بعد اعتذار وتعويضات قدمهما اردوغان لذوي ضحايا الطائرة. بنهايتها، وضع حدا لحقبة تذكّر بالحرب الباردة، وسياسات حافة الهاوية.

ـ مرحلة ثانية: ناست بين قطبين، أولهما، بداية تخلي تركيا عن حلف الأطلسي، بسبب ما تركه موقفه إبان الأزمة مع روسيا من شعور بالخيبة لديها، من جهة، وثانيهما إعادة النظر في خيارات انقرة، كأنها انتبهت فجأة إلى التحول الجذري في الوضع الدولي بعد انهيار السوفيات، وإعلان واشنطن قيام نظام دولي هي قطبه الوحيد، سيخضع له الجميع، لا فرق في ذلك بين عدو وصديق. هذه المحطة شهدت صراعا محتدما بين النخبة السياسية والعسكرية حيال البدائل، انتهى بتفكيك سيطرة الجيش على مجلس الأمن القومي القومي، ثم بانقلاب فاشل قيّد دور العسكر في سياسة تركيا الداخلية. بعد هذين التطورين قرر اردوغان إحداث تحول جدي في سياساته، يبقيه أطلسيا في أدنى حدود الأطلسية من دون أن يلتحق بروسيا، ويبني، في الوقت نفسه، علاقات مع موسكو تستند إلى أعلى صور التعاون المصالح المتبادلة، من دون الوصول بها إلى مرتبة التحالف، وإن تضمنت مسائل من طبيعة استراتيجية. هذه الحقبة شهدت انفكاكا محدودا عن حليف، وبناء توافق مشروط مع عدو سابق، بدّل أسلوبه في اصطياد خصومه، من دون أن يبدل اهدافه، وممارسة سياسة العصا والجزرة حيالهم، التي فيها من الجزر أكثر من العصي وبالعكس، وتقوم على وضع الشريك في حال يلزمه بفعل ما يريد بوتين منه أن يفعل، باسم شراكة تأكل تدريجيا من رصيده، وتذهب إلى رصيد الكرملين. لصد شريكه العنيد المخيف، لم يبارح أردوغان موقعه من التحالف الغربي، وإن أعاد تعريفه كي يتسع لعلاقاته مع روسيا، التي ازدادت أهمية وحيوية باضطراد، ما أوقعه بين خطوط الدولتين العُظمتين الحمراوتين، وجعله يستقوي بهذا على ذاك اليوم، وبذاك على هذا غدا، بينما كان يتعلم القفز من خط أحمر إلى الآخر، لتحاشى ضغوط الطرفين، وتوسيع هوامش مناورته التي ما فتئت تضيق، وتضطره للاستقواء بالعسكر لموازنة مواقفه، وحفظ مصالحه في علاقاته معهما، وابتزازهما متى لزم الأمر، الذي لم يلزم إطلاقا.

في هذه المرحلة، بادر بوتين إلى تعميق انفكاك تركيا عن الجناج الجنوبي للأطلسي، بوضع مصالح تركية في سورية في دائرة التزاماته الضيقة، وبالإحجام عن “إزعاج” أردوغان، لذلك، ابتعد عن إدلب، وامتنع عن مهاجمة ” النصرة”، وقبل إبقاء الطريقين الدوليين إم ٤و إم٥ مغلقين، ولم يلح على تشكيل دوريات مشتركة مع تركيا لمراقبة المنطقة العازلة… الخ. ذلك كان نمط التفهم الروسي للسياسة التركية، الذي قام على إعطائها مهلات زمنية تحقق خلالها ما قبلته بالتوافق مع الروس من تدابير حيال المسألة السورية.

ـ المرحلة الثالثة: وفيها فكت روسيا علاقات البلدين الاستراتيجية عن خلافات مصالحهما وسياساتهما في سورية، وخاصة في إدلب، إما لأنها تأكدت أن رد فعل تركيا سيكون محدودا، وقليل التأثير على علاقات البلدين الاستراتيجية ومصالحهما، التي تخطت جميع العقبات، بل وصلت إلى المجال العسكري، عبر شراء تركيا بطاريات إس ٤٠٠ الروسية، رغم تهديدات أميركية / أطلسية بالويل والثبور وعظائم الأمور. هل تعهدت روسيا أن تعوض تركيا عما يترتب على حضورها فيإادلب من عائد سياسي بعد الحل، ولذلك أطلقت العنان لطيرانها ولقوات الأسد وإيران ومرتزقتهما، لقضم أرياف حماه وإدلب واللاذقية وحلب، واستهداف بعض قوات تركية المرابطة في اثنتي عشرة نقطة منها. هذا الفصل بين المستوى الاستراتيجي الثابت، والمستوي الإجرائي لعلاقات البلدين، أنهى تفهم روسيا لموقف تركيا من دخول الأسدية إلى مناطقإادلب، وسهّل، بالمقابل دخول أنقرة إلى شرق الفرات، في حل وسط أعطاها عشرة كيلومترات بدل السبعة التي تسمح بها اتفاقية أضنة من عام ١٩٩٨، وشاركتها موسكو بعشرين من الكيلومترات الثلاثين، التي طالبت بها ، وتعهدت بإخلائها من مقاتلي البيكاكا وأسلحتهم الثقيلة، في مقايضة محتملة تشبه ما سبقها في حلب ومناطق سورية أخرى، مكنت اسطنبول من الدخول إلى الأراضي السورية من أجل الحفاظ على أمنها القومي، كما قال الرئيس أردوغان في أكثر من مناسبة، بتفهم روسي أميركي جعل من تركيا شريكا في منطقة لن تكون هي الطرف الأقوى ، وتاليا المقرر فيها، وقد تهدد أمنها القومي أكثر مما يهددها حزب البي كاكا، كأن تفصل موسكو بين مستوى علاقات الدولتين الاستراتيجية،وسياساتهما الإجرائية شرق الفرات، حيث يعتقد اردوغان أن بوتين لن يقدم على الغدر به، لحاجته إليه ضد الأطلسي، ولأن علاقاته مع تركيا ، ووجوده العسكري في سورية هما إنجازه السياسي الوحيد خلال نيف وعشرين عاما من الحكم، وبوسع تركيا الضغط عليه فيهما كليهما.

هل هناك مرحلة رابعة في سياسات أردوغان تخرجه من الخطوط الحمر الأميركية الروسية، وتنهي حاجته إلى الجلوس بين كراسي الصديقين اللدودين؟ وهل يقرر الالتزام بخط أحمر واحد كي ينجو من آخر، فيخسر موقعه بين القوتين، الذي يرغمه على التعاون مع الروس لتحسين أوراقه في واشنطن، ومع واشنطن لإفهام الروس أن أميركا حليف وهم شريك وإيران صديق، والشريك ليس كالحليف، وإن كان الطرفان هما اللذان يقرران من يكون حليفهم وشريكهم أو لا يكون؟

—————————————

رداً على خديجة جعفر: قراءة خاطئة للتدخل التركي/ حسين عبد العزيز

تبدأ الكاتبة خديجة جعفر مقالها “هل كان التدخل التركي لصالح الثورة السورية؟” في “العربي الجديد” (20/11/2019) بإطلاق حكم تعسفي يصادر على المطلوب، حينما تكتب أن التدخل التركي في سورية لم يكن لصالح الثورة، بل كان لأجل مصالح الدولة التركية. ثم تبدأ بمقدمة نظرية مفادها أنه “يصعب التصديق ونحن نعيش في عصر الدولة القومية أن تتدخّل دولةٌ ما في أراضي دولة أخرى لدوافع وأسباب بخلاف مصالحها القومية، سواء البعيدة منها أو القريبة”. وبعد هذه المقدمة، تنتقل جعفر إلى استقراء الواقع، فتعرض مسار تطور الأحداث في الشمال السوري منذ لحظة الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية، وانتهاء بسيطرة الوحدات الكردية على مساحات كبيرة على الحدود مع تركيا. وتتابع أن هذا الواقع هو الذي دفع تركيا إلى شنّ عملياتها العسكرية في الشمال السوري (درع الفرات، غصن الزيتون، نبع السلام) لتحجيم “قوات سوريا الديمقراطية”. ثم ينتهي المقال بأنه “كان توفير منطقة آمنة للسوريين اللاجئين في تركيا أو السوريين الفارّين من القصف الروسي في إدلب مكافأة للفصائل الثورية السورية على حربها مع الأتراك، ولم يكن التدخل التركي لصالح الثورة السورية إذن، ولم يستفد السوريون سوى من شريط حدودي شمالي يقيمون فيه آمنين من القصف الروسي”.

سأعتمد النهج نفسه الذي اتبعته الكاتبة جعفر، البدء بمقدمة نظرية، ثم القيام بعملية استقراء للواقع السياسي والعسكري منذ بداية الثورة… لنتخيل أن تركيا ليست دولة مؤيدة للمعارضة السورية، بل مؤيدة للنظام، فكيف سيكون المشهد؟ لم يخطر على بال الكاتبة طرح هذا السؤال بأثر رجعي. ولو فعلت ذلك لبان لها المشهد على النحو الآتي: النظام يسيطر على كامل الجغرافيا السورية، لا وجود لأي فصيل عسكري معارض على الأرض، لا دولة حاضنة للمعارضة السياسية، لا بلد حاضن لملايين السوريين. سيكون هذا المشهد المفترض حقيقيا لو وقفت تركيا على الضفة الأخرى من الثورة السورية.

انتقالاً إلى استقراء الواقع وتطوره عبر تلخيص الدور السياسي ـ العسكري التركي، قبيل ظهور التهديد الكردي… في 16 إبريل/ نيسان 2011 شهدت إسطنبول أول اجتماع لشخصيات معارضة. ثم تبعه في 1 يونيو/ حزيران مؤتمر أنطاليا تحت شعار “المؤتمر السوري للتغيير”. وفي 16 يوليو/ تموز شهدت إسطنبول مجدّداً اجتماعاً لنحو مائتي شخصية سورية معارضة. وفي نهاية أغسطس/ آب، أعلن سوريون من العاصمة أنقرة تأسيس المجلس الوطني الانتقالي، لكن المجلس لم يرَ النور إلا في إسطنبول بداية أكتوبر/ تشرين الأول. هل كان يمكن أن تحصل هذه الاجتماعات، لولا وجود مناخ سياسي داعم للثورة السورية ومطالبها؟ صحيح أن تركيا فرضت على المعارضة السياسية القبول بمسار أستانا واجتماع سوتشي، لكن القبول التركي هذا كان اضطرارياً، لأنها لم تحصل على أي شيء من الولايات المتحدة التي بدأت تتنازل شيئاً فشيئاً عن ملفاتٍ كثيرة لصالح روسيا، غير أن الدور التركي هو الذي حال دون سطوة روسيا على العملية السياسية، أو على جزء من هذه العملية كما جرى في اللجنة الدستورية.

على الصعيد العسكري، ماذا يمكن القول عن وضع محافظة إدلب التي انتزع السيطرة عليها جيش الفتح (جبهة النصرة، هيئة أحرار الشام) عام 2015 بعد معارك عنيفة مع النظام؟ هل كان الدعم التركي لفصائل المعارضة مرتبطاً بتهديد الوحدات الكردية؟ ولماذا تدافع تركيا إلى اليوم عن “هيئة تحرير الشام”، وتجابه الموقف الروسي في المحافظة؟

لا يمكن اختزال الموقف التركي من الثورة السورية بمجرد أنه يعبّر عن المصلحة القومية العليا لتركيا، ولو كان الأمر كذلك فقط، لما وقفت أنقرة منذ 2011 مع الثورة ضد النظام. ومع ذلك، لا يمكن إنكار وجاهة ما تراه جعفر، لكن خطأها في أنها رأت جزءاً من اللوحة، فالمصالح السياسية أعقد من أن نفسّرها بطريقة أحادية، فضلاً عن أن في طريقة عرضها مقالها ما فيها لتوجيه الانتباه إلى أن تركيا قد تفعل بالمعارضة السورية كما فعلت الولايات المتحدة بـ “قوات سوريا الديمقراطية”، وهذا غير صحيح، ويدل على المقاربة الخاطئة للكاتبة.

الفرق بين الحالتين كبير: المصالح الأميركية في سورية عابرة، وتتطلب تحالفات عابرة، في حين أن المصالح التركية في سورية مستدامة، وتتطلب تحالفاتٍ مستدامة. وفي هذه الحالة، يصعب القول إن التدخل التركي كان من أجل مصالحها فقط، إنها شراكة لما يرغب الطرفان في أن تكون عليه سورية مستقبلاً. لا يمكن نكران المصلحة التركية، وهذا طبيعي في السياسة، حيث تتقاطع المصالح، فلا يوجد تحالفات وخلافات وتحزبات في ذاتها ولأجل ذاتها، إنما هي تقاطع المصالح وتضاربها. وتشكل العمليات العسكرية لتركيا في سورية (درع الفرات، غصن الزيتون، نبع السلام) مثالاً على ذلك، فالمصلحة التركية تقاطعت مع مصلحة المعارضة، وبسبب هذا التقاطع حصلت المعارضة على منطقة جغرافية لم تكن واقعاً لولا تركيا.

العمق الاستراتيجي الذي تشكله تركيا لفصائل المعارضة العسكرية هو الذي جعل الشمال الغربي من سورية مختلفاً عن باقي المناطق التي انسحبت منها المعارضة رغماً عنها.

العربي الجديد

——————————

هل كان التدخل التركي لصالح الثورة السورية؟/ خديجة جعفر

لم يكن التدخل التركي في الحرب المشتعلة في سورية لصالح الثورة. هذه هي الإجابة المباشرة لهذا السؤال. بل كان التدخّل لأجل مصالح الدولة التركية. بدايةً، يصعب التصديق ونحن نعيش في عصر “الدولة القومية” أن تتدخّل دولةٌ ما في أراضي دولةٍ أخرى لدوافع وأسباب بخلاف مصالحها القومية، سواء البعيدة منها أو القريبة. وحتّى وإن كان هذا التدخّل يتحقّق منه مناصرة شعب يُقتّل في إبادة جماعية لم توقفها أي قوة كبرى على مرأى العالم. حدث هذا في الحالة التركية بلا شك.

بدأ التدخل التركي العسكري في المناطق السورية عقب التمدد الكردي في منطقة غرب الفرات، بعد أن شكّلت الولايات المتحدة بالتعاون مع الأكراد تنظيم قوات سوريا الديمقراطية (قسد) المنبثق عن “قوات حماية الشعب الكردية” في أكتوبر/ تشرين الأول عام 2015، وذلك لأجل محاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في المناطق التي سيطر عليها بعد إعلان دولته المزعومة عام 2014.

كانت معادلة الحرب المشتركة مفيدة للطرفين، الأميركي والكردي، على السواء؛ إذ هدفت الولايات المتحدة إلى القضاء على “الدولة” التي شكلها تنظيم الدولة الإسلامية، وهَدَفت القوى الكردية إلى الاستيلاء على أراضي شرق الفرات الكاسحة لوصلها بكردستان العراق، تمهيدًا لإنشاء دولتهم القومية التي يطمحون للإعلان عنها. كانت هذه هي الفرصة التاريخية الذهبية التي جاءت للأكراد على طبقٍ من ذهب. ففي واقع الأمر، كان الوجود الكردي قبل الحرب السورية متركزًا في أربعة جيوب شمالية على الحدود التركية السورية، ولم يكن لهم وجود متركز في منطقة شرق الفرات سوى بنسبة 10% – 20 % حسب بعض التقديرات، في حين كان العرب المكون الأعم الذي يصل إلى 75%. أمّا غير العرب وغير الأكراد من القوميات الأخرى، فكانت نسبتهم أقلّ من 10%. إذن، النتيجة المباشرة لحرب التحالف الدولي على تنظيم الدولة الإسلامية كانت ترك الأكراد يستولون على أراضي شرق الفرات الشاسعة، التي كان أوّل من أخرجها من سيطرة الأسد هم الفصائل السورية الثورية عام 2012. فاستولى الأكراد إذن على الجيوب الكردية الشمالية، ثم على المناطق التي فيها وجود كردي ضعيف، ثمّ استولوا على مناطق ليس فيها أكراد مطلقًا.

التمدد الكردي بتسهيل أميركي لم يكن يتوافق مع مصالح تركيا مطلقًا. إذ تخشى تركيا من تعاون حزب العمال التركي الكردي مع حزبه المنبثق عنه: الاتحاد الديقراطي في سورية الذي انبثقت عنه قوات حماية الشعب، والذي انبثق عنه “قسد”. وتخشى تركيا أيضاً من النزعات الانفصالية لحزب العمال الكردستاني. ولذا، ما إن استولت “قسد” على مناطق شمال وشرق سورية مكافأة لها على حربه البرية ضد “داعش” حتّى قرّرت تركيا تحجيم وجود “قسد” في الشمال السوري على حدودها الجنوبية، تجنبًا لالتحام كردي بين أكراد جنوب تركيا وأكراد شمال سورية. لهذا، شنّ الجيش التركي حربًا برية بالتعاون مع فصائل ثورية سورية في عملية درع الفرات التي بدأت في أغسطس/ آب 2016 وانتهت في مارس/آذار 2017 ورأت تركيا أنّها أولى بقتال تنظيم الدولة الإسلامية، ما دام قتاله والانتصار عليه سيؤدي إلى استحقاق المناطق التي كان يسيطر عليها. انتهت عملية “درع الفرات” بالقضاء على تنظيم داعش في ريف حلب، وزعزعة حلم “روجافا”، أي الدولة الكردية السورية بوصل عين العرب بعفرين. ونتيجة ذلك، أضحى الشريط الحدودي ملاذًا آمنًا لآلاف المدنيين السوريين النّازحين.

انتهت عملية “درع الفرات” بتحقيق هذه الأهداف الثلاثة، وظلّت نقاط الحماية التركية في المناطق التي تهمّها لتمنع استيلاء الأكراد مجدّدًا على الشمال السوري غرب الفرات. ولكن في الحقيقة لم

يتحقق هدف إنهاء “روجافا” تمامًا وظلّت تركيا تمارس عملها التفاوضي والدبلوماسي مع روسيا وإيران والولايات المتحدة بشأن مصالحها وأمنها المهدّدين بسبب أكراد سورية، حتّى حانت ساعة الحسم التي ارتأتها لبدء عملية جديدة تنهي حلم “روجافا” تمامًا، وهي عملية “نبع السلام” التي بدأت في التاسع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، ثمّ عُلّقت في الثاني والعشرين من نفس الشهر بعد التوصل لاتفاق مع روسيا والولايات المتحدة.

استطاعت تركيا تطويع فصائل ثورية سوريّة للحرب معها في “درع الفرات” في عامي 2016 – 2017 ثمّ الحرب معها ثانية هذا العام في عملية “نبع السلام”. تمامًا كما فعلت الولايات المتحدة، حين أنشأت تنظيم “قسد” خصيصًا لخوض الحرب البرية ضد تنظيم الدولة الإسلامية. وفي حين كان الاستيلاء على “الأرض” مكافأة الأكراد، كان توفير منطقة آمنة للسوريين اللاجئين في تركيا أو السوريين الفارّين من القصف الروسي في إدلب مكافأة الفصائل الثورية السورية على حربها مع الأتراك. لم يكن التدخل التركي لصالح الثورة السورية إذن، ولم يستفد السوريون سوى من شريط حدودي شمالي يقيمون فيه آمنين من القصف الروسي. وهذا ليس مفاجأة، فالتدخل التركي كان فصلاً من فصول الصراع الكردي ــ التركي طويل الأمد، وهو التدخل الذي تمليه ضرورات مصالح “الدولة القومية” التي تدافع عن مصالحها وفقط.

العربي الجديد

————————-

تفاقم معاناة النازحين في الجزيرة السورية/ كدر أحمد

تتفاقم الأزمة الإنسانية في مناطق شمال وشرق سوريا بعد نحو شهر ونصف من العملية العسكرية التركية في شمال الجزيرة السورية، التي بدأت في التاسع من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، وأدت إلى سيطرة القوات التركية وفصائل سورية موالية لها على مدينتيّ رأس العين وتل أبيض وقرى وبلدات في محيطهما، وإلى نزوح مئات الآلاف من السكان إلى مناطق أخرى في محافظتيّ الحسكة والرقة.

ومع الحديث عن عودة جزء من الأهالي إلى مناطقهم، فإن أعداداً كبيرة ما تزال في المخيمات ومراكز الإيواء المؤقت، في ظل غياب واضح للمنظمات الإنسانية، ودعم محدود من قبل الإدارة الذاتية لنحو ثلاثمائة ألف نازح بحسب تقديرات المرصد السوري لحقوق الإنسان، عاد منهم 37258 شخصاً إلى مدينة رأس العين، هم 16128 رجلاً و11784 امرأة و9346 طفلاً، وذلك بحسب تغريدة لرئيس الحكومة السورية المؤقتة، عبد الرحمن مصطفى، على حسابه في تويتر قبل أيام، قال فيها إن الفضل في ذلك يرجع إلى «الخدمات التي يقدمها الجيش الوطني، والأمن الذي أرساه مدعوماً من حلفائنا الأتراك» بحسب تعبيره.

لكن بالمقابل، ينفي مكتب الشؤون الإنسانية في الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا عودة أي شخص من المسجلين لديه إلى مناطق سيطرة القوات التركية وحلفائها السوريين، واصفاً تلك العودة بالمستبعدة بسبب «الانتهاكات الجسيمة التي يتعرض لها أبناء تلك المناطق من قبل الفصائل المسلحة». وأضاف المكتب في تقريره الصادر في الحادي والعشرين من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري أن عدد النازحين وصل إلى نحو ثلاثمائة ألف، أكثر من نصفهم في محافظة الحسكة، كما وصل عدد الضحايا إلى 478 والجرحى إلى 1070، وتعطلت العملية التعليمية في 810 مدارس ما أدى لحرمان 86 ألف تلميذ من الالتحاق بمدارسهم. كذلك تضررت الخدمات الصحية بسبب استهداف المشافي والطواقم الطبية ونقص وصول الإمدادات الطبية والغذاء والماء بعد قطع طريق m4 من قبل القوات التركية، ما يعرض 500 ألف شخص لخطر الجوع والعطش، وذلك بحسب التقرير نفسه.

الخوف من الاعتقال والقتل يمنع الأهالي من العودة

يقول يوسف برو، وهو مصور صحفي من مدينة رأس العين يعيش مع عائلته في مدينة الحسكة، إن أسباباً عديدة تمنع النازحين من العودة، منها احتمال تعرضهم للقتل، ويروي هنا حادثة كل من مصطفى أحمد سينو وشيار محمود عثمان وريزان خليل سيدو، الشبان الثلاثة الذين ظهرت صور جثامينهم على وسائل التواصل الاجتماعي.

يقول يوسف إنه وبتاريخ السادس عشر من تشرين الأول الماضي قرّرَ الشبان الثلاثة العودة إلى رأس العين بعد نزوحهم عنها بسبب المعارك الدائرة، وذلك بهدف جلب أثاث منازلهم، لتنقطع أخبارهم لأيام، ثم تظهر صور جثامينهم على مواقع تتبع لفصائل المعارضة السورية.

ويرى برو في الاعتقال سبباً آخر يحول دون عودة الأهالي، فالفصائل السورية المدعومة من أنقرة تقوم بالاعتقال اعتماداً على «هوية الشخص وقوميته» على حد قوله، إذ يكفي للشخص أن يكون كردياً لتلصق به تهمة «التعاون مع الحزب» ومن ثم الاعتداء عليه واعتقاله، مستدّلاً على ذلك باعتقال أحد أقاربه من الذين عادوا إلى رأس العين، وكذلك اعتقال الجبهة الشامية لـ «إسماعيل البدراني» وهو خطيب جمعة في قرية عين العروس بريف رأس العين، وأيضاً اعتقال أحمد الجميلي، وهو شاب من مدينة تل أبيض كان يعمل في إحدى مؤسسات المجتمع المدني؛ دون إعلان أسباب اعتقالهم في كل هذه الحالات.

ويرى برو أن كل الذين عملوا في الإدارة الذاتية سيواجهون المصير نفسه في حال عودتهم، سواء كانوا مدنيين أم عسكريين، مضيفاً أسباباً أخرى تحول دون عودة النازحين، منها عدم الاستقرار إذ يسيطر على المنطقة أكثر من فصيل، وتعرّض بعض البيوت والمحلات للسرقة ووضع اليد من قبل هذه الفصائل.

الألغام والغلاء تؤرق العائدين

يقول أحمد علي، العائد إلى مدينة رأس العين، للجمهورية إن الأهالي ما يزالون خائفين من الألغام والمفخخات التي تضرب المناطق التي سيطرت عليها القوات التركية والفصائل السورية المرافقة لها، وعلى الرغم مشاهدته لفرق مختصة بإزالة الألغام، إلَا أن المنطقة تشهد أسبوعياً تفجيرات بسيارات مفخخة وألغام، نتج عنها فقدان مدنيين لأرواحهم وجرحى بالعشرات. كذلك تشهد هذه المناطق ضعفاً في الخدمات وغلاءً في الأسعار، فبالرغم من عودة أربعة أفران خبز للعمل، الفرن الآلي وأفران عبو والنخبة وفتحي سعود، إلا أن سعر ربطة الخبز حالياً خمسمائة ليرة. ويعتمد الأهالي على شراء مياه الصهاريج، بعد تضرر شبكات المياه بفعل المعارك دون إصلاحها حتى اللحظة، يضاف إلى ذلك انعدام الأمان وخشية الأهالي من السرقات.

لكن المجلس المحلي في مدينة رأس العين يعد بتغيير هذه الأوضاع؛ وقد تحدّثنا إلى مرعي اليوسف، رئيس المجلس المحلي الجديد الذي تم تعيينه بعد سيطرة القوات التركية والفصائل السورية المدعومة منها، الذي يقول إن المجلس يعمل على فتح الطرقات وترحيل الأتربة والتراكمات، كما أنه أصلح الفرن الآلي وبالتالي توفرت مادة الخبز الأساسية، ويعمل على إصلاح مولدات المياه ومحطة الكهرباء وشبكات الكهرباء العالية والمتوسطة، واعداً بعودة الكهرباء خلال فترة قريبة.

كذلك تحّدث اليوسف عن فتح المجلس المحلي باب الانتساب إلى الشرطة المدنية لتحقيق الأمن، وعن البدء بصيانة المدارس وتأهيلها من أجل افتتاحها من جديد، وتجهيز عيادات للمعاينة في المشفى الوطني. وهو يرى أن «كثرة الألغام ووجود الأنفاق والأضرار التي ألحقتها قوات سوريا الديمقراطية بالبنى التحتية ودوائر الدولة والمدارس، هي ما يحول دون عودة الأهالي، فضلاً عن تهديد الأهالي بالسيارات المفخخة، وكذلك خوف كثيرين ممن تعاملوا مع قسد والإدارة الذاتية من العودة إلى المدينة».

وقد برَّرَ اليوسف اعتقال الجبهة الشامية لبعض العاملين في منظمات المجتمع المدني، على الرغم من أن هذه الاعتقالات لم تحدث في رأس العين، قائلاً إنه «لم يسمع يوماً بوجود منظمات للمجتمع المدني طيلة عمره الذي بلغ 56 عاماً»!!

النازحون يعيشون ظروفاً مأساوية

توقفت معظم المنظمات الدولية العاملة في شؤون الإغاثة عن دعم مناطق الإدارة الذاتية، وبشكل خاص عقب دخول قوات النظام السوري إلى مناطق في شرق الفرات، وذلك بسبب عدم امتلاكها لتراخيص عمل وضبابية ملامح المرحلة القادمة، وذلك بحسب ما نقله ناشطون عن مسؤولين في تلك المنظمات، الذين أخبروهم أنه ومع نهاية العام الحالي سيتم إبلاغهم بقرار العودة للعمل واستمرار الدعم أو توقفه بشكل نهائي. وهو ما أكده مكتب الشؤون الإنسانية في الإدارة الذاتية، الذي قال إن المنظمات الإنسانية سحبت موظفيها وعلقت معظم أنشطتها مع بدء العملية التركية، بسبب مخاوفها الأمنية، إضافة إلى تعرّضها لضغوط من قبل الحكومة التركية بهدف تحديد مدى ونوعية استجابتها.

كذلك هو حال وكالات الأمم المتحدة، التي تربط استجابتها بالإصرار على التنسيق الكامل مع الحكومات، وتتأثر مواقفها وتقاريرها بطبيعة علاقة موظفيها مع حكومات الدول التي تعمل على أراضيها أو عبر أراضيها، وفي حالة الجزيرة السورية، يكون للتأثير التركي والسوري دور كبير عبر مكاتب دمشق وغازي عينتاب.

وتتحمل الإدارة الذاتية عبر المنظمات المحلية ومؤسسات المجتمع المدني، التي تعاني من نقص الإمكانيات وشح الموارد، مسؤولية الاستجابة الطارئة في مناطق عملها، وهي قامت ببناء مخيم «واشو كاني» في قرية التوينة على طريق تل تمر، الذي يضم حالياً نحو ألفي شخص (140 عائلة)، كما يتم حالياً بناء مخيم آخر بالقرب من عين عيسى.

توفر المنظمات المحلية بعض المساعدات للنازحين في مخيم واشو كاني، وكذلك للمدارس التي تحولت إلى مراكز إيواء، والتي يفوق عددها 100 مدرسة. ويلعب الهلال الأحمر الكردي دوراً كبيراً في مساعدة النازحين سواء من الناحية الطبية أو الإغاثية، إذ قام بإدخال 140 شاحنة على دفعات منذ بدء المعارك، قادمة من إقليم كردستان العراق، كان آخرها 22 شاحنة محملة بحليب الأطفال والحفاضات والمواد الغذائية والأدوية والأغطية، بحسب تصريح لـ كمال درباسي، الإداري في الهلال الأحمر الكردي لموقع نورث بريس.

ويتمحور دور الإدارة الذاتية في إعداد المخيمات وإيواء النازحين في المدارس والتنسيق مع المنظمات المحلية والهلال الأحمر الكردي لتوزيع المساعدات، دون أن يكون لها دور فعال في تلبية الاحتياجات للنازحين، الذين يعيشون في ظروف مأساوية في ظل فقدان المياه والمواد الأساسية من غذاء وصحة.

لا يبدو أن المناطق التي سيطرت عليها القوات التركية وفصائل المعارضة السورية المرافقة لها ستشهد عودة كبيرة للأهالي الذين نزحوا منها في وقت قريب، إذ تزايدت أعداد النازحين من هذه المناطق خلال الأسبوعين الأخيرين، بمعدل 1300 عائلة في محافظة الرقة و1060 عائلة في الحسكة، وهو ما يفرض استجابة طارئة من قبل المنظمات الإنسانية، كما يفرض على الجهات المسيطرة تقديم تطمينات فعلية على الأرض للأهالي، تمهيداً لعودتهم تجنباً لتفاقم الكارثة الإنسانية المستمرة.

موقع الجنهورية

————————————

التايمز: “أم فور”.. طريق التماس بين الأعداء والحلفاء في سوريا/ إبراهيم درويش

أشار مراسل صحيفة “التايمز” البريطانية ريتشارد سبنسر في تقرير له إلى منطقة شمال- شرق سوريا التي تحولت إلى بوتقة لكل القوى المتنافسة في سوريا حيث يحاول الأعداء والأصدقاء عدم الإحتكاك ببعضهم البعض تجنبا للصدام. وقال إن تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تثير جاذبية كل الأطراف في النزاع السوري، خاصة حديثه عن إنهاء الحروب اللانهائية التي تخوضها أمريكا في المنطقة. وكان يقترب من تحقيق طموحه في السادس من تشرين الأول (أكتوبر) عندما أمر بسحب القوات الأمريكية من شرق سوريا، إلا أن الأحداث على الحدود السورية- العراقية أثبتت أنه من السهل الكلام لا الفعل. فعلى الطريق السريع أم فور توجهت العربات الامريكية المصفحة نحو القامشلي وبعد أيام عادت مروحيات وأفرغت حمولتها من الجنود وعربات برادلي المصفحة جنوبا منها والسبب هذه المرة هو تنظيم الدولة. وعلى ما يبدو لم تنته الحرب بل وبدأت من جديد. وأدت عودة القوات الأمريكية إلى تحويل هذه المنطقة المغبرة من البلدات والقرى إلى بوتقة معقدة تتنافس فيها الجيوش الدولية والمحلية بدون أن يكون هناك حل سياسي للأزمة السورية. ففيها المقاتلون الأكراد وقوات النظام والقوات التركية والمقاتلون العرب الموالون لتركيا والمسيحيون الآشوريون والبريطانيون والفرنسيون وقوات أخرى صغيرة تقوم بدوريات وتحاول تجنب الإقتراب من الطرف الأخر على مساحة صغيرة من الأرض.

وعندما أعلن ترامب سحب القوات الأمريكية قال إن تنظيم الدولة سحق وعلى القوات المحلية أن تتحمل المسؤولية وتسيطر على ما تبقى من ناشطين جهاديين. وقالت البنتاغون إن هؤلاء الناشطين لا يزالون يمثلون تهديدا على المصالح الأمريكية، كما أن القوات المحلية ليس لديها ذلك السجل المشرف قبل تدخل الولايات المتحدة. وكلام البنتاغون صحيح ولكن هناك سبب يمنع من تحقيق وعد ترامب، فلو خرجت أمريكا فستخسر التأثير العسكري في أكثر المناطق كثافة وأهمية في التاريخ الحديث.

ويمتد أم فور من الحدود العراقية غربا على تخوم المناطق الكردية إلى السهول السورية في الشمال ثم غربا إلى إدلب التي يسيطر عليها الجهاديون ثم إلى الحدود التركية. وبعد تراجع ترامب عن أمره عادت القوات الأمريكية والبريطانية والفرنسية والقوات الخاصة إلى تنظيم دوريات ضد تنظيم الدولة مع قوات سوريا الديمقراطية. وقبل 6 تشرين الاول (أكتوبر) كانت القوات الامريكية تسير دوريات مشتركة مع القوات التركية في المناطق التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية غرب وشرق مدينة القامشلي، لمنح تركيا الثقة من أن هذه الجيوب لن تستخدم كنقطة إنطلاق لتنفيذ هجمات ضد الأراضي التركية. وتوقفت الدوريات مع الخروج الأولي للقوات الأمريكية والذي قاد إلى التوغل التركي في مناطق شمال سوريا. ورد الأكراد بالبحث عن مساعدة من “أصدقائهم الأعداء” أي النظام السوري. ويقوم جنود النظام ومقاتلي حماية الشعب الكردية بتسيير دوريات مشتركة لوقف تقدم القوات التركية. وبحسب اتفاق سوتشي بين الرئيس فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان تمت إضافة تشكيل جديد وهو قيام الشرطة العسكرية الروسية مع قوات النظام بتسيير دوريات قرب الحدود التركية لمنع تقدم جديد للقوات التركية وسيطرت على نقاط المراقبة الحدودية.

وأرسل بشار الأسد 1.300 من جنوده إلى الشرق والغرب. وأظهر فيديو كيف مرت قوافلهم إلى جانب القوات الأمريكية التي كانت تسير في الإتجاه المعاكس. وأصبح ممر ام فور أكثر ازدحاما فإلى جانب دوريات القوات الأمريكية- قوات سوريا الديمقراطية هناك دوريا الشرطة العسكرية الروسية- النظام السوري والقوات الروسية- التركية ودوريات النظام السوري مع المقاتبين الأكراد في منطقة لا يتجاوز عمقها عن 20 ميلا. وهي محاصرة بشكل كامل من القوات التركية والجماعات الموالية لها. ولا تتعامل التحالفات في المنطقة مع امتداد أم فور في الغرب حيث تسيطر جماعات جهادية تقودها هيئة تحرير الشام الموالية لتنظيم القاعدة. ولا امتداده في جنوب- شرق حيث الميليشيات الإيرانية تقوم ببناء قواعد عسكرية على طرف المناطق التي تتحكم بها أمريكا حول مدينة البوكمال. ويقول ترامب إن قراره لإعادة التفكير في سحب القوات من سوريا جاء من أجل النفط، لكن سبب البنتاغون مختلف: فمع تنافس الروس ونظام الأسد وتركيا وإيران على مناطق شرق سوريا العربية والكردية فهل تستطيع أمريكا ترك الميدان؟ وعندما سئل الجنرال كينث ماكينزي قائد القيادة الوسطى في الشرق الأوسط عن مدة بقاء 500 جندي أمريكي في سوريا أجاب “ليس لدينا موعد نهائي” وربما ظلت الحروب اللانهائية حروبا لانهائية.

———————

شرق سورية مقطَّع الأوصال: تدمير الجسور جريمة مشتركة/ عدنان أحمد

تناوب كلّ من النظام السوري و”التحالف الدولي” بقيادة الولايات المتحدة وروسيا وتنظيم “داعش” على تدمير معظم الجسور التي كانت قائمة على نهر الفرات داخل الأراضي السورية، خصوصاً في محافظتي دير الزور والرقة، اللتين يعاني سكانهما اليوم بسبب تقطّع شرايين الحياة بين ضفتي النهر، وهو ما يعطّل تنقلهم، ويؤدي إلى شلل في الحياة الاقتصادية. وفيما لا تشكل البدائل التي يعتمدها الأهالي اليوم، مثل استخدام العبّارات وإنشاء “جسور” مؤقتة، حلاً جذرياً للأزمة، لا يزال هؤلاء، بالإضافة إلى همهم اليومي الناجم عن هذا التدمير، يشعرون بالإحباط كلما تذكروا كيف سارعت القوى المتحاربة في بلدهم إلى تدمير الجسور من دون أي ضرورات أو مبررات عسكرية في أغلب الأحيان، ومن دون التفات إلى مصلحة المدنيين. هذه القوى التي تلاقت على تدمير الجسور، تتباطأ اليوم في إعادة اعمار خرابها، وخصوصاً القوات الأميركية، التي دمرت العديد من الجسور الرئيسية شرق سورية.

وقبل عام 2011، كان هناك 26 جسراً رئيسياً على نهر الفرات داخل الأراضي السورية، بدءاً من دخول النهر هذه الأراضي في بلدة جرابلس شمالاً، وحتى خروجه منها إلى العراق جنوباً عند مدينة البوكمال، إضافة إلى عشرات العبّارات والجسور الصغيرة التي أقيمت فوق فروع النهر.

ومن أصل هذه الجسور، دُمِّر 21 جسراً خلال سنوات الحرب، لتبقى خمسة جسور صالحةً فقط، وهي تلك المقامة على السدود المائية الكبيرة (الفرات – تشرين – البعث)، أو تلك التي كانت واقعة تحت سيطرة قوات النظام، وهي جسرا المشفى والجورة في دير الزور. أما الجسور التي وقعت مناطقها، في أوقات معينة خلال الحرب، تحت سيطرة فصائل المعارضة، أو تنظيم “داعش”، فقد دُمِّرَت جميعاً تقريباً. واليوم، يعكس هذا التدمير والواقع الناجم عنه أسباب محدودية قدرة قوات النظام على التحرك وإعادة الانتشار باتجاه مناطق شرق الفرات بعد تفاهماتها الأخيرة مع “قوات سورية الديمقراطية” (قسد)، إذ استخدمت فقط الجسور المقامة على السدود الثلاثة. كذلك، تعاني القوات الروسية والأميركية من محدودية تحركها، ما يجعل مجمل هذه القوات تتلاقى خلال تنقلاتها بين مناطق شرق الفرات وغربه.

دير الزور: الدمار الأكبر

ولعل جسور محافظة دير الزور كانت الأكثر تعرضاً للتدمير خلال السنوات الماضية، إذ يمكن القول إن جميع تلك التي خرجت عن سيطرة النظام دُمِّرَت.

ولطالما تميزت محافظة دير الزور بكثرة الجسور فيها، لكون نهر الفرات يقطع مسافة 135 كيلومتراً داخل أراضيها، بفرعيه، الكبير الذي يمرّ من طرفها الشمالي ويفصلها عن محافظة الحسكة، والصغير الذي يخرقها من وسطها. وكان في المدينة قبل الحرب أكثر من 20 جسراً، 14 منها على نهر الفرات، والبقية على الوديان السيلية.

ويوجد داخل مدينة دير الزور 10 جسور مقامة على الفرات وفروعه، منها جسران للمشاة وثمانية أخرى لحركة المرور والسيارات. ومعظم جسور المدينة هدمت أو أصبحت غير قابلة للاستخدام، إذ دمر النظام السوري ثمانية منها تدميراً شبه كامل.

ويعد الجسر المعلق، الأبرز والأشهر في المحافظة، وهو معلمٌ أثري وسياحي شيّده الفرنسيون في العشرينيات من القرن الماضي، وافتتح عام 1932، وكان مخصصاً للمشاة فقط. دمره النظام عام 2013، بعد سيطرة فصائل المعارضة على المحافظة.

من الجسور الهامة في دير الزور أيضاً جسر “السياسية”، الذي يقع على الفرع الكبير لنهر الفرات. وسُمّي الجسر بهذا الاسم لكون فرع الأمن السياسي في دير الزور كان مطلاً عليه، وهو يربط مدينة دير الزور بريفها الشمالي الذي يصلها مع محافظة الحسكة. وتعرض “جسر السياسية” لقصفٍ مدفعي وجوي متكرر حتى انهار القسم الأكبر منه، لتقوم مجموعة تابعة للنظام بتدميره نهائياً عام 2014.

وهناك أيضاً جسر “كنامات” الذي يعد ثالث أكبر الجسور في المحافظة، وتعرض للقصف والتدمير من قبل قوات النظام لتعطيل مرور مقاتلي المعارضة بين شطري المدينة، بينما لحقت بجسر “البعث” أضرار كبيرة. أما جسر “العنفات”، الذي يقع في مدخل مدينة دير الزور من اتجاه حويجة صكر، وبسبب أهميته الاستراتيجية، فتعرض للقصف بأنواع مختلفة من الأسلحة، حتى دمرته طائرات النظام أواخر عام 2015. وهدمت قوات النظام عام 2012 جسر “الحرية” الذي يصل الأحياء القديمة في الدير بمنطقة الفيلات في منطقة الحويقة، وكذلك جسر “العيور”، الذي يطلق عليه الأهالي اسم “الجسر العتيق”، وهو الطريق الرئيسية الواصلة بين مركز محافظة دير الزور و”الجسر المعلق” من طريق الحويقة، وقد تعرض للقصف المتكرر من قبل قوات النظام ودُمر تدميراً كاملاً في أكتوبر/ تشرين الأول 2016.

وهناك أيضاً جسر متوسط الحجم اسمه جسر “الجورة”، يقع في القسم الذي ظل تحت سيطرة قوات النظام في مدينة دير الزور، وجسر “المشفى” الذي يصل بين مشفى القلب ومدينة دير الزور عبر فرع نهر الفرات، وقد بقي هذان الجسران سالمين لوقوعهما تحت سيطرة قوات النظام.

إلى ذلك، كان يوجد جسران معدنيان صغيران مخصصان للمشاة، الأول يحمل اسم الطفل الفلسطيني الشهيد محمد الدرة، وهو واقع في حيّ الحويقة، ودُمِّر تدميراً شبه كامل بقصف قوات النظام له، وكذلك جسر الطفلة الفلسطينية الشهيدة إيمان حجو، القريب منه، الذي دمره قصف النظام قبل نحو عامين.

وفي ريف دير الزور الشرقي باتجاه الحدود العراقية، دمرت غارات “التحالف الدولي” في سبتمبر/ أيلول 2016، جسر “الميادين” الذي كان يربط مدينة الميادين غرب الفرات وبلدة ذيبان شرقه، والذي كان يُعَدّ من أكبر الجسور في محافظة دير الزور بعد جسر “السياسية”.  ودمر قصف “التحالف” أيضاً جسر “العشارة” الذي بُني في سبعينيات القرن الماضي على شكل جسرٍ حربي، ويصل مدينة العشارة في منطقة “الشامية” ببلدة “درنج” في منطقة الجزيرة على الضفة الأخرى شرقي الفرات. بدوره، لم يسلم جسر “البقعان”، الذي يأتي بعد جسر البوكمال من حيث أهميته، ويربط الجزيرة بالشامية، من بطش طائرات التحالف التي دمرته عام 2017. أما جسر “الصالحية” أو جسر البوكمال، فهو آخر الجسور في الريف الشرقي لدير الزور الذي يربط الجزيرة بالشامية، ويسمى أيضاً جسر “الباغوز”، ودمرته قوات “التحالف” في العام ذاته.

وتضم المحافظة جسوراً أخرى أقل أهمية، مثل جسري “السويعية” و”السوسة” في مدينة البوكمال والرمادي في ريفها، وقد دمرها التحالف.

وعلى الرغم من مرور فترة طويلة على طرد “داعش” من معظم أجزائها، إلا أن محافظة دير الزور لا تزال بلا أي جسور صالحة، حيث يعتمد المدنيون على المعابر النهرية التي تغلق أحياناً عندما تتوتر العلاقات بين القوتين اللتين تسيطران على المحافظة، أي النظام السوري في الجهة الغربية، و”قسد” شرقي الفرات. وساهم ازدواج السيطرة هذا في عدم ترميم جسور دير الزور، في ظل عدم الاتفاق أو التنسيق بين الجانبين، على الرغم من أنهما يتبادلان بعض المواد مثل النفط والسلع الغذائية والبضائع.

عبّارات الرقة

دمّرت غارات “التحالف” كل الجسور المؤدية إلى مدينة الرقة، وكان الهدف من ذلك تقطيع أوصال المدينة لمحاصرة عناصر “داعش” في داخلها. وقال عضو مجلس الإدارة المحلية والبلديات في مجلس الرقة المدني أحمد الخضر، لوكالة “فرانس برس”، إن هناك 60 جسراً بحاجة للإصلاح في محافظة الرقة، مشيراً إلى أن “التحالف الدولي قدّم ثمانية جسور معدنية وُضعت على الطرق الرئيسية” في ريف الرقة لوصل المناطق بعضها ببعض.

وقدرت منظمة العفو الدولية حجم الدمار في الرقة بـ80 في المائة، ويشمل المدارس والمستشفيات والمنازل.

وعلى مدار الساعة، تُقلّ عبّارات تقطع نهر الفرات ركاباً وافدين إلى الرقة عبر بوابتها الجنوبية. فالجسر الرئيسي الذي يربط الأطراف الجنوبية للمدينة بما بقي من أحيائها، لا يزال مدمراً منذ الحرب مع “داعش” الذي طرد منها قبل عامين. ومن أجل دخول المدينة، يستقل المدنيون عبّارة بدائية لقطع نهر الفرات الذي يفصل بين المدينة وأطرافها الجنوبية، ثم يكملون طريقهم إلى داخل الرقة.

وكان مجلس الرقة المدني التابع لـ”قسد” قد أعلن بدء العمل في إعادة ترميم الجسور المدمرة وتأهيلها بفعل العمليات العسكرية على المدينة، ومنها الجسران: الجديد والقديم، إضافة إلى الجسور الفرعية، مثل جسر المغلة غرب قرية معدان، وبعض الجسور على نهر البليخ وعلى قناة الري.

وبحسب المركز الإعلامي لـ”قسد”، قدمت لجنة إعادة الإعمار دراسة عن الجسور المهمة المدمرة لإعادة تأهيلها، وتمكنت من إعادة تأهيل ثلاثة جسور، آخرها جسر في منطقة السلحبية غربي مدينة الرقة، إضافةً إلى جسر على قناة البليخ، وآخر على مجرى وادي الفيض.

كذلك أعلن المجلس في إبريل/ نيسان الماضي افتتاح جسر الرقة القديم (المنصور) أمام السيارات، بعد انتهاء أعمال الترميم، إضافةً إلى صيانة بعض الجسور الصغيرة في ريف الرقة.

غير أن الأهالي في مدينة الرقة، يشككون في إعلانات “قسد”، مشيرين إلى أنها تعمد إلى تأهيل الجسور الفرعية فقط والتحكم بها، بحيث تستطيع قطعها متى تشاء بهدف السيطرة على الحركة داخل المدينة.

ومن أبرز الجسور المدمرة في المدينة جسر الرشيد (الرقة الجديد)، وهو أحد الجسرين الرئيسيين في الرقة، ويربطان المدينة ببقية المحافظات، وقد قصفه النظام عام 2014، ودمره جزئياً، ثم دمرته طائرات “التحالف” عام 2017 كلياً. أما جسر المنصور أو الجسر العتيق، وهو ثاني أهم الجسور في محافظة الرقة، فقد استهدفته قوات النظام عام 2015، ثم أكمل “التحالف” تدميره كلياً في 2017. وأعادت “قسد”، بمساعدة من القوات الأميركية، ترميمه بنحو بدائي في مارس/ آذار الماضي، كي تتمكن من الوصول إلى الضفة الأخرى، حيث توجد قواتها أيضاً، وعبر عليه قسم من قوات النظام أخيراً خلال دخولها إلى الضفة المقابلة. وهناك جسر مغلة شرقي، ويسميه البعض جسر “معدان”، كان قد تعرض للعديد من قذائف المدفعية والطيران من قبل قوات النظام، قبل أن تدمره طائرات التحالف كلياً في فبراير/ شباط 2017.

حلب… تناوب على التدمير

وعلى غرار دير الزور والرقة، تعرضت الكثير من الجسور في ريف محافظة حلب للتدمير، ومنها جسر جرابلس الخشبي، وهو الجسر الأول على نهر الفرات من جهة الشمال، ويربط بين جرابلس وزور مغار، وقصفته طائرات النظام في سبتمبر/ أيلول 2012. وكذلك جسر الشيوخ الواقع جنوب جرابلس، ويربط مدينتي جرابلس وعين العرب، وقصفه النظام مرات عدة، محدثاً فيه أضراراً كبيرة، قبل أن يفجره “داعش” عام 2015 قبل انسحابه من المنطقة. كذلك قصفت قوات النظام بالمدفعية مرات عدة جسر قرة قوزاق الذي يربط بين بلدة منبج ومنطقة شرق الفرات، قبل أن يدمّر طيران “التحالف” جزءاً كبيراً منه عام 2016. وبعد استيلاء الوحدات الكردية على مدينة منبج، ردمت ورمّمت الجزء المدمَّر من الجسر، وأصبحت تستخدمه للتنقل بين ضفتي النهر. وكذلك الحال بالنسبة إلى جسر “ماهر” أو جسر “السكة الحديدية”، بين بلدتي هنيدي جنوب النهر وكديران في شماله، الذي قصفه النظام عام 2017، ودُمِّر جزء كبير منه ليصبح خارج الخدمة.

أما جسر “سد تشرين”، فلا يزال صالحاً للاستخدام، وتسيطر عليه الوحدات الكردية، وقام النظام بالعبور عليه خلال دخوله أخيراً لمؤازرة مليشيات “قسد” لمواجهة العملية العسكرية التركية. وكذلك جسر سد الفرات الذي تسيطر عليه الوحدات الكردية، وقد عبرت عليه قوات النظام إلى بلدة عين عيسى أخيراً، ومثله جسر سد البعث.

وبالنسبة إلى مناطق شمال غرب سورية، فقد دمرت قوات النظام في إبريل/ نيسان الماضي جسر قرية الحويز، الذي يصل بين قرى موالية وأخرى معارضة في منطقة سهل الغاب بريف حماة الغربي، ما منع المزارعين، ممن يملكون أراضي زراعية غربي الجسر، من الوصول إلى أراضيهم واستثمارها بعدما كانوا قد زرعوها مع بداية الموسم الحالي.

واستخدمت قوات النظام على مدار الأعوام الماضية استراتيجية تدمير الجسور في منطقة سهل الغاب، حيث استهدفت عدداً منها بالقصف المدفعي والصاروخي، مثل جسر قرية التوينة وجسر قرية بيت الراس، وذلك خوفاً من استخدام الفصائل المقاتلة لها.

ولجأت الفصائل المقاتلة إلى الأسلوب ذاته، فدمرت بدورها جسر قرية الشريعة في المنطقة، تحسباً لأي عملية مفاجئة من قبل قوات النظام في سبتمبر/ أيلول الماضي. كذلك فجرت “هيئة تحرير الشام” العام الماضي جسوراً بين بلدة العيس وبلدة الحاضر الخاضعة لسيطرة قوات النظام في ريف حلب الجنوبي.

إعادة التأهيل: وعود “دعائية”

على الرغم من الإعلانات التي تُذيعها بين الفينة والأخرى مليشيات “قسد” والنظام السوري عن إعادة تأهيل بعض الجسور، إلا أن معظمها دعائي، ويُعلَن على عجل لخدمة أهدافهما العسكرية أو التجارية، حيث تحتاج الجسور المهدمة إما إلى هدم كلي وإعادة بناء، أو ترميم حقيقي يعيدها إلى سابق عهدها، وما يحصل حتى الآن لا يتعدى في أغلب الأحيان عمليات ترقيع مؤقتة.

ويلفت ناشطون الى أنه بسبب تدفق مياه النهر، لا يمكن إصلاح جسور الفرات على طريقة جسور قنوات الري والأودية في الأرياف، سواء عبر استخدام أنقاض المنازل لردم الهوة الناتجة من القصف بين طرفي الجسور المدمرة، أو عبر تركيب جسور جاهزة من الحديد.

وتنتظر “قسد” والمجالس واللجان المرتبطة بها، جمعيات محلية ومنظمات أجنبية ودولية لتبنّي أو تمويل مشاريع إعادة إعمار البنى التحتية المدمرة، على الرغم من أنها تفرض مع البلديات التابعة لإدارة الذاتية الكردية الضرائب والرسوم على السكان من عمال وتجار وفلاحين، كذلك فإنها استولت على الأملاك العامة كافة.

وفي إطار هذه الإعلانات عن ترميم الجسور، قالت القوات الروسية في شهر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي إنها أقامت بالتعاون مع شركة خاصة جسراً على نهر الفرات بين بلدتي المريعية ومراط الخاضعتين لسيطرة النظام شرق دير الزور. وفي الشتاء الماضي، انهار جسر حربي أنشأته القوات الروسية نتيجة لسوء التنفيذ وعيوب هندسية في التصميم، ولم تبدأ أي مشاريع لإعادة بناء الجسور المدمرة في مدينة دير الزور.

وأفادت شبكة “دير الزور 24” بأن قوات النظام وإيران تعتزم إنشاء جسر حربي مسبق الصنع على نهر الفرات في ريف مدينة البوكمال، حيث تولي المليشيات الإيرانية اهتماماً كبيراً بهذه المدينة.

——————

نازحو شرق الفرات: تشتت عائلي واكتظاظ وحرمان من التعليم/ عبد الله البشير

تتواصل محنة النازحين جراء العمليات العسكرية شرق الفرات، الذين تتفاوت أعدادهم بين تقارير الأمم المتحدة والإدارة الذاتية، إذ تؤكد الأخيرة في إحصائيات صادرة عنها أن أعداد النازحين وصلت إلى نحو 300 ألف، بينما تشير تقارير أممية إلى أن العدد وصل إلى نحو 180 ألفا.

وحسب مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين، فإن 11.640 لاجئاً سورياً وصلوا إلى إقليم كردستان العراق، وفقاً لإحصائية 26 أكتوبر/تشرين الأول الماضي وحدها.

من جهتها، أكدت الإدارة الذاتية أن نحو 810 مؤسسات تعليمية حاليا متوقفة عن العمل، الأمر الذي حرم 86 ألف طالب من تعليمهم، إضافة إلى أن نسبة الاستجابة من قبل المنظمات المحلية والدولية للنازحين لا تتجاوز 40 في المائة، مع سقوط أكثر من 478 قتيلا في صفوف المدنيين وجرح نحو 1000 آخرين.

وحول الظروف التي يعيش فيها هؤلاء اللاجئون، قال مسؤول التسجيل في منظمة “دان” للإغاثة والتنمية محمد موسى لـ”العربي الجديد”، إنّ من بين الجهات المسؤولة عن تقديم الخدمات الصحية للنازحين شرق الفرات في مناطق الإدارة الذاتية، الهلال الأحمر الكردي كما تم تسجيل تدخل للهلال الأحمر السوري، إضافة إلى منظمة أطباء بلا حدود، فضلا عن منظمات مثل أحرار بورما، ومنظمة مار يعقوب.

وتعد مفوضية الأمم المتحدة للاجئين المسؤولة عن إنشاء المخيمات بالدرجة الأولى. ومن المشاكل التي تواجه النازحين قضية تشتت العائلات؛ فالأب لا يعلم أين نزح ابنه والزوجة لا تعرف أين زوجها، بسبب انقطاع التواصل، وهناك أهالٍ خرجوا من منازلهم من دون أوراق ثبوتية أو حتى من دون هواتفهم المحمولة.

وتابع موسى: “هناك مناشدات ونداءات للأمم المتحدة والمنظمات الدولية بضرورة التدخل لمساعدة النازحين، الذين دفع سوء الوضع بعضهم للعيش في الخيام، بينما لجأ آخرون لأقارب لهم في مناطق سيطرة الإدارة الذاتية. ومن المتوقع في الفترة المقبلة إخلاء نحو ثمانين مدرسة من العوائل النازحة في الحسكة، ليتوجهوا للمخيمات التي تعمل الإدارة الذاتية على إنشائها في الحسكة.

وقالت أمينة أم محمود لـ”العربي الجديد”: “نزحنا من مدينة رأس العين من منطقة المحطة، بعد أن استهدفت الطائرات الحربية المدينة، فلم يعد أمامنا متسع للبقاء، ولم نحمل معنا سوى القليل من الأغراض، أنا وابنتاي وطفلي، جرينا في شارع الكنائس في المدينة وبعدها توجهنا إلى تل تمر، حيث وجدنا سيارة في الشارع متوجهة للمنطقة أقلتنا إليها، قالوا لنا إننا سنقيم في المدارس، لكن لم يكن هناك متسع فنقلونا لمخيم التوينة، وأولادي كلهم مرضى في الوقت الحالي، ونحن نريد العودة لبيوتنا عندما تهدأ الأحوال”.

من جهته، أوضح النازح يونس حمود أنه حتى الآن ينتظر أن ينتقل مع عائلته لمخيم أو ربما لمكان أفضل، فالمدرسة التي يقيم فيها بمدينة الحسكة مكتظة بالأهالي، مضيفا لـ”العربي الجديد” أن الخوف الذي يعيشه أطفاله أجبره على مغادرة مدينة رأس العين والتوجه للحسكة.

وتقول تركيا إن الكثير من النازحين عادوا إليها بالفعل بعد استقرار الأوضاع في مدنهم وبلداتهم، الأمر الذي تنفيه الإدارة الذاتية الكردية. بينما يرى مراقبون أنّ تصاعد عمليات التفجير والاستهدافات للمناطق التي سيطرت عليها أخيرا القوات التركية والفصائل الموالية لها، قد يؤخر مثل هذه العودة.

———————–

تايمز: تحالفات متغيرة تغذي حرب سوريا

يقول تحليل كتبه ريتشارد سبنر مراسل صحيفة ذي تايمز البريطانية في الشرق الأوسط إن التحالفات المتغيرة التي تغذي الحرب التي تعصف بسوريا منذ سنوات لا تنتهي.

ويضيف الكاتب أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب يعرف أن بلاده يمكنها أن تنسحب في أي وقت تشاء، لكنها لا تستطيع المغادرة بالكامل.

ويقول أيضا إن ترامب وعد بانتزاع بلاده من حروب لا نهاية لها بالشرق الأوسط، وإنه بدا مهتما بتحقيق هذا الطموح في 6 أكتوبر/تشرين الأول الماضي عندما أعلن أنه سيسحب أخيرا جميع القوات من شرق سوريا، لكن الأحداث التي وقعت على الحدود العراقية السورية بعد ثلاثة أسابيع أثبتت أن الأقوال أسهل من الأفعال.

ويضيف أن قافلة عسكرية أميركية تحركت على الطريق السريع “أم4” متجهة إلى مدينة قامشلي معقل الأكراد شمال شرقي سوريا، وأن عددا من المروحيات اتجهت جنوبا لنقل المزيد من القوات الأميركية والمركبات المدرعة من طراز برادلي.

 حرب وتبرير

وبحسب الكاتب فإنه الحرب على ما يبدو قد عادت من جديد، وإن التبرير الفوري لإعادة انتشار القوات الأميركية بالمنطقة كان أن تنظيم الدولة الإسلامية لا يزال يشكل تهديدا في شرق سوريا.

ويضيف أن النتيجة كانت تحويل هذه المنطقة الصغيرة من البلدات الصحراوية إلى أكثر بوتقة تنصهر فيها الجيوش الدولية والمحلية المتنافسة في العالم اليوم، مع عدم وجود حل سياسي للحرب السورية في الأفق.

ووفق كاتب المقال فإن الأميركيين والأكراد وفصائل وصفها بالعربية والنظام السوري والروسي والتركي -إلى جانب قوات أصغر حجما من بريطانيا وفرنسا- كلها تقوم بدوريات الآن في هذه المساحة الصغيرة من الأرض، ويحاولون عدم الاحتكاك فيما بينهم.

ويشير إلى أنه سبق لترامب أن صرح بأن الهزيمة لحقت بتنظيم الدولة وأنه يمكن للقوات المحلية أن تتحمل مسؤولية السيطرة على الأنشطة “الجهادية” المتبقية، غير أن وزارة الدفاع الأميركية (بنتاغون) ترى غير ذلك.

ويختم المقال بأن القوات التركية والروسية تعمل الآن جنبا إلى جنب في أعقاب اتفاق سوتشي، كما استأنفت القوات الأميركية وحلفاؤها من البريطانيين والفرنسيين دوريات مع “قوات سوريا الديمقراطية” التي يهيمن عليها الأكراد.

————————–

قاعدة روسية بالقامشلي:لماذا؟/ عائشة كربات

بعد عملية “نبع السلام” التركية في تشرين الأول/أكتوبر وبعد الاتفاقات مع الولايات المتحدة وروسيا، بدأت الصورة في سوريا تتضح. ظهرت مناطق التأثير على الخريطة مع بعض الرسومات الجريئة إلا في بضعة أماكن وتفاصيل. ومع ذلك، ليس هناك شك في أن الشيطان يكمن في التفاصيل.

بشكل عام، من الممكن القول أنه من الآن فصاعداً ستكون اللعبة بين أنقرة وموسكو ودمشق. لن يكون الأميركيون في الجانب الغربي من الفرات وسيسمحون للآخرين بالقيام بما يشاؤون في الشرق، باستثناء موضوع حقول النفط، وهي خطوة وصفتها روسيا بأنها “قطع طرق”. ومن الممكن أيضاً أن نفترض أنه في الوقت الحالي لن تكون هناك تحركات عسكرية كبيرة على الرغم من الإشارات المضادة الواردة من تركيا.

ومع ذلك، في هذه الصورة، هناك بعض التفاصيل مثل قاعدة جوية روسية جديدة في القامشلي، بالقرب من حقول النفط والغاز وطريق العبور الرئيسي بين العراق وسوريا.

تم استبعاد القامشلي من مناطق الدوريات البرية التركية الروسية المشتركة على طول الحدود السورية التركية في صفقة سوتشي بين الرئيسين أردوغان وبوتين، على الرغم من وجود وحدات حماية الشعب الكردية، وهي السبب الرسمي للتوغلات العسكرية التركية في سوريا.

مع ذلك، ستستخدم روسيا القاعدة الجديدة، الموجودة داخل مطار مدني، لاستضافة طائرات الهليكوبتر العسكرية من أجل حماية أفرادها الذين يقومون بدوريات مشتركة مع الجنود الأتراك. بالنسبة للروس، فإن المعنى الأول لهذه القاعدة الجوية هو إظهار العضلات عندما يتعلق الأمر بمسألة من يتحكم في المجال الجوي في المنطقة. لكن قد يكون له معنى إضافيا بالنسبة لتركيا ومستقبل سوريا.

أنقرة كانت تسعى للحفاظ على التوازن بين روسيا والولايات المتحدة، وبقيامها بذلك، كانت تحاول فتح مساحة للمناورة لنفسها، لكن يوماً بعد يوم تشعر أنها تُترك بمفردها مع موسكو وغير قادرة على معرفة إلى أي حد سيتصرف الروس وفقاً لرغبات أنقرة عندما يتعلق الأمر بوحدات الحماية الكردية. في الماضي عندما كانت الولايات المتحدة تتناقض مع رغبات أنقرة في هذا الموضوع، كانت تركيا قادرة على الحصول على دعم موسكو لكنها الآن لا تملك أي شيء آخر غير قوتها ضد روسيا.

لذا، إذا استخدم الروس هذه القاعدة الجوية لحماية وحدات الحماية من أي حركة مستقبلية لتركيا، فعندئذ نتأكد من أنها ستُعتبر مشكلة، لكن القاعدة الجوية يمكن أن تستخدم أيضاً لإضعاف وحدات حماية الشعب. هناك احتمال أن الروس، اعتماداً على التطورات في هذا المجال، يمكنهم استخدام القاعدة الجوية لكلا الهدفين؛ إذا كانت وحدات حماية الشعب لا تستمع إلى موسكو، خاصة عندما يتعلق الأمر بالمفاوضات من أجل مستقبل سوريا، فإن هذه القاعدة الجوية سيكون لها معنىً آخر للجميع.

لكن أنقرة لديها أسبابها للتوجس. القامشلي ليست مجرد قاعدة سيطر عليها الروس. عندما غادر الأميركيون، استولى الروس على قاعدة أخرى بالقرب من سد تشرين في حفل تبادل فيه القائد الروسي وقائد وحدات حماية الشعب الأعلام وألقوا خطابات ودية وفقًا لوكالة “الأناضول” التركية.

تحليل آخر في وكالة الأنباء نفسها تحت عنوان: “هل من الممكن القيام بعملية عسكرية جديدة في شرق سوريا” يوحي بأن اتفاق سوتشي يعطي مسؤولية تنظيف جميع المناطق من وحدات حماية الشعب إلى روسيا، وإذا كان الروس لن يفعلوا ذلك، فإنه يعطي الحق لأنقرة للعمل.

يبدو أن رسالة أنقرة في هذا الصدد قد وصلت إلى موسكو بل وأجاب عليها الوزير لافروف في 20 تشرين الثاني/نوفمبر، عندما قال إن أنقرة طمأنتهم بعدم شن عملية عسكرية جديدة. ومع ذلك، فإن التقدمات الأخيرة لجيش المعارضة السورية في عين عيسى، بالقرب من كوباني، تخبرنا بأن أنقرة ليست مستعدة للجلوس وإعطاء الوقت لمحاولة فهم روسيا لكنها تفضل اختبار المياه.

لكن مع التركيز على الجبهة السورية وإعطاء الأولوية لوجود وحدات حماية الشعب على حدودها، يبدو أن أنقرة تنسى حقيقة ما؛ روسيا لديها بالفعل قواعد في شبه جزيرة القرم وأرمينيا وطرطوس وحميميم قبل القامشلي. كل هذه القواعد العسكرية تعني في الواقع أن روسيا لديها الآن حلقة عسكرية حول تركيا وبالطبع “الناتو”، وهو واقع قد يكون له تأثير هائل ليس على مستقبل سوريا فقط بل العالم كله

المدن

————————————

تخوف روسي-تركي من انهيار الاتفاق… وتقارير سورية: إيران تستكمل قاعدتها في البوكمال

“لا يوجد أي موعد محدد لخروج القوات الأمريكية من سوريا”، هكذا أوضح الجنرال كينغ ماكنزي، قائد المنطقة الوسطى للجيش الأمريكي، في مؤتمر صحافي، السبت الماضي. وبهذا يتم التراجع عن قرار الرئيس الأمريكي ترامب، المثير للخلاف، القاضي بسحب جميع القوات من مناطق المعارك في شمال سوريا. أمس، تم تعزيز القوات الأمريكية في سوريا بقوات مدرعة، منها ثلاث دبابات وثلاث آليات أخرى. ووحدة لوجستية انتقلت إلى سوريا من المنطقة الكردية في العراق. هذا التعزيز استهدف حسب أقوال ماكنزي، توسيع النشاط ضد داعش في دير الزور، بالتعاون مع قوات المليشيات الكردية.

إن مبرر الولايات المتحدة لاستمرار مشاركة نحو ألف جندي، وسينضم إليهم المزيد من القوات، يكمن في تقارير المخابرات الأمريكية بأن قوات داعش بدأت إعادة تنظيم نفسها بهدف تنفيذ عمليات، وخوفاً من عدم نية القوات التركية والروسية التي في شرق نهر الفرات العمل ضد “داعش”. هذا التفسير يتناقض وتصريح ترامب الذي جاء فيه أن “داعش” هزم. لذا، فإن القوات الأمريكية أنهت مهمتها في سوريا. ولكن رغم التخوف الحقيقي من عمليات “داعش”، فإن الرئيس الأمريكي يتذرع به من أجل التراجع عن قرار الانسحاب من سوريا، خاصة بعد الانتقاد الشديد الذي وجهه إليه الكونغرس وأصدقاؤه الجمهوريون الغاضبون من التخلي عن الحلفاء الأكراد.

قرار إبقاء القوات الأمريكية في سوريا يؤثر أيضاً على استعداد المليشيات الكردية للالتزام بالاتفاق الذي وقعوه مع روسيا والولايات المتحدة في 22 تشرين الأول والذي يقضي بالانسحاب إلى مسافة نحو 32 كم عن الحدود مع تركيا. صحيح أن جزءاً من القوات الكردية انسحبت من منطقة الحدود، وسارعت روسيا إلى الإعلان باستكمال الانسحاب في نهاية تشرين الأول، ولكن يبدو أن وقف الانسحاب تم مؤخراً. وزير الخارجية الروسي، سرجيه لافروف، حذر الأكراد هذا الأسبوع بأن عليهم التمسك بالتزامهم وعدم الاعتماد على المساعدة الأمريكية.

روسيا وتركيا تخافان من أن التحول في السياسة الأمريكية وإعادة تجنيد الأكراد للحرب ضد داعش، سيؤدي إلى انهيار اتفاق الانسحاب. إذا تحقق هذا يمكن لتركيا حينئذ أن تقرر تجديد نشاطاتها العسكرية كجزء من عملية “نبع السلام” التي استهدفت طرد الأكراد من المنطقة الحدودية بالقوة.

الاتفاق مع الأكراد الذي جاء قريباً من موعد غزو تركيا للمنطقة التي تقع شرق الفرات في أراضي سوريا، أدخل القوات الروسية إلى جزء من المناطق التي عمل فيها الأمريكيون، وبدأوا بدوريات مشتركة مع القوات التركية لتأمين المنطقة المخصصة لاستخدامها كمنطقة آمنة، وتطمح تركيا من أجل نقل 2 مليون لاجئ سوري من 4 ملايين على أرضيها.

من غير الواضح الآن ما مصير المنطقة الآمنة المخططة، وهل ستخلق الظروف التي تسمح بنقل اللاجئين. ولكن مصير اللاجئين أمر هامشي يدعو إلى القلق من مواجهة يمكن أن تحدث بين القوات التركية والقوات الأمريكية إذا قررت أنقرة تجديد الهجوم في سوريا. روسيا من ناحيتها قلقة من السيناريو الذي تتهمها فيه تركيا بأنها لا تطبق الاتفاق بينهما، ولا تعمل على إخلاء الأكراد. موسكو تخاف من أن تستغل أنقرة ترددها من أجل الدفع قدماً بتمركز عميق للقوات التركية في الأراضي السورية، الخطوة التي ستفشل الخطة الروسية لنقل المنطقة إلى سيطرة بشار الأسد.

طريق سياسي مسدود

يبدو أن روسيا لا تنجح في تطبيق الخطة السياسية لإنهاء الحرب في سوريا، بعد أن فشل اللقاء الثاني للجنة صياغة الدستور. في اللقاء الذي جرى هذا الأسبوع في جنيف بمشاركة ممثلين عن النظام والمعارضة، لم ينجح الطرفان في التوصل إلى اتفاق حتى حول مسألة جدول أعمال اللقاء. يبدو أن الترحيب الذي استقبل به الاتفاق بتشكيل لجنة دستور تضم 150 ممثلاً، باختيار لجنة تتكون من 45 عضواً يعملون فعليا على صياغة مسودة الدستور، كان سابقاً لأوانه.

الأسد يسمي ممثلي النظام في المحادثات “ممثلون يؤيدون مواقف الحكومة” أي غير رسميين لنظامه؛ كي لا يتهم مباشرة بإفشال المحادثات، إذا فشلت بالفعل. ظهرت في المحادثات اختلافات في الرأي ليس فقط بينهم وبين المعارضة، بل أيضاً بين ممثلي المعارضة أنفسهم، بالأساس حول دور ومكانة الأسد في الحكومة الجديدة التي سيتم تشكيلها. في لجنة الدستور لا يوجد تمثيل لأكراد سوريا، رغم أن نسبتهم من إجمالي سكان الدولة 20 في المئة. الأكراد لم يشاركوا أيضاً في اللقاءات السياسية التي جرت في الأستانة عاصمة كازخستان والتي سبقت تشكيل لجنة الدستور.

من كان عليه أن يمثل الأكراد هم ممثلو المجلس الوطني الكردي، المشمول في الائتلاف الذي يشكل حركة المعارضة في سوريا. ولكن من يسيطر على المجلس هو الإدارة الكردية في العراق، التي هي تحت رعاية تركيا المعارضة بشدة لأي مشاركة للأكراد السوريين في العملية السياسية. هنا تكمن أهمية التواجد الأمريكي في سوريا واستئناف التعاون العسكري مع المليشيات الكردية. إن مكانة الأكراد في القوة المقاتلة المشاركة في الحرب ضد داعش بدعم أمريكا، قد تتعزز أيضاً على الصعيد السياسي بصورة ستوضح لتركيا وروسيا بأن أي عملية سياسية بدونهم قد تفشل.

الأمر المهم هو أن إيران ليست شريكة في كل الخطوات العسكرية بشمال سوريا والسياسية بجنيف، رغم أنها كانت جزءاً لا يتجزأ من العملية التي سبقت تشكيل لجنة صياغة الدستور. وحسب تقارير سورية، تسعى إيران إلى التمركز في منطقة الحدود بين العراق وسوريا واستكمال إقامة القاعدة العسكرية الكبيرة في منطقة بوكمال لضمان معبر بري مفتوح بين طهران ودمشق.

وتسعى إيران أيضاً إلى تعزيز نفسها اقتصادياً في سوريا، بعد إقصائها عن فرع الاتصالات الخلوية الذي وعدها به الأسد، فهي تحاول الفوز بعطاء تطوير وإعادة تأهيل شبكة الكهرباء في سوريا. فبعد توقيعها على اتفاق لإقامة محطة كهرباء في اللاذقية بمبلغ 400 مليون يورو، حصلت على عقد لإقامة محطة كهرباء في حمص ومدن أخرى. ورغم هذه الإنجازات المحلية فإن إيران تظل بعيداً خلف روسيا، التي تسيطر على ملف الاستثمارات المستقبلية، وبالأساس امتيازات مستقبلية لتطوير آبار النفط في سوريا التي يسيطر عليها الآن الأكراد والأمريكيون.

بقلم: تسفي برئيل

هآرتس 28/11/2019

—————————-

في راهن العلاقات التركية الأميركية/ إسلام أوزكان

لم تشهد العلاقات التركية الأميركية مثل المسار الذي تعرفه أنقرة وواشنطن الآن من مد وجزر، منذ الأزمة الكبرى بينهما بعد إغلاق جميع القواعد العسكرية الأميركية التي افتتحت هناك بين عامي 1975 و1978. كانت كل من الولايات المتحدة وتركيا قد شهدتا أجمل أيامهما بين 2003 و2013، على الرغم من أن حزب العدالة والتنمية نفسه كان في الحكم.

ومؤكّد أنه لا يمكن اختزال التأزم بشخصية الرئيس الأميركي، ترامب أو شخصية الرئيس التركي أردوغان، حتى لو كان لكل منهما أثرٌ معينٌ في تموّج العلاقات. يعرف الجميع أن العلاقات بين الطرفين تفاقمت تدريجيا، خصوصا بعد محاولة انقلاب عسكري عام 2016، وبتأثير عوامل اخرى. لا يمكن تنظيف (أو تصفير) الذاكرة التي تراكمت منذ تلك الفترة، في ما يتعلق بما يجري بين الطرفين: ملف استعادة فتح الله غولن الذي يعتقد الحكام في تركيا أنه يقف وراء الانقلاب العسكري الفاشل، وجود وحدات حماية الشعب الكردية في الشمال السوري، العقوبات الأميركية المفروضة على تركيا وتحقيق الكونغرس في الثروة الشخصية لأردوغان، واتهامات ضد تركيا بشأن خرق العقوبات ضد إيران، والدعوات بحق مدراء أحد البنوك التركية في محاكم أميركية، منظومة صواريخ إس – 400، بيع مقاتلات إف – 35، الانتهاكات في منطقة دخل فيها الجيش الوطني السوري، والرسالة المسيئة إلى أردوغان التي بعثها ترامب… ولكن يمكن القول إن كل هذا المسائل ليست غير قابلة للحل.

يبدو أن المشكلة الأساسية تكمن في شراء تركيا منظومة صواريخ إس – 400، وإصرارها

“ترى واشنطن أن العلاقات التركية الروسية تناقض عضوية تركيا في حلف (الناتو) والصداقة التركية الأميركية”

 على تطوير علاقاتها الروسية وتعزيزها. ويرى المسؤولون الأميركيون أن المشكلات الأخرى يمكن حلها بشكل أو بآخر، ولا يعتبرون أن غير هذه المشكلات تضر بجوهر العلاقات بين الطرفين. ولكن مشكلة هذه الصواريخ والتحالف التركي الروسي الذي تخشى الولايات المتحدة أن تتطرق إليه صراحة، لا يمكن تبنّيها أو قبولها بهذه السهولة. وترى الولايات المتحدة أن العلاقات التركية الروسية تناقض عضوية تركيا في حلف شمال الاطلسي (الناتو) والصداقة التركية الأميركية، بينما يرى المسؤولون في الولايات المتحدة أنه يستحيل استخدام منظومة أس – 400 مع مقاتلات إف – 35 بشكل متزامن تقنيا.

وقد تسرب إلى الصحافة أن ترامب قدم لتركيا مقترحا لحل المسألة، أن تشتري تركيا مقاتلات إف – 35 التي دفعت تركيا مليار دولار سلفا من ثمنها، بشرط ألا تشتري صواريخ اس-400 إضافية، مع قبول تركيا مراقبة متخصصين وتقنيين أميركيين هذه الصواريخ وتفتيشها. وعلاوة على ذلك، سيتم ضم تركيا لمشروع إنتاج هذه المقاتلات المتطورة التي تحتاجها تركيا بشدة. وسوف يلعب القرار الذي سوف يتخذه أردوغان في هذا الشأن دورا كبيرا في مستقبل العلاقات التركية الأميركية.

على الرغم من كل ما يجري من توترات بين الطرفين، لا تركيا ولا الولايات المتحدة تريد قطيعة في العلاقات، فالواقع يجبرهما على مواصلتها. وجاء اجتماع ترامب وأردوغان، في البيت الأبيض في 13 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، إشارة إلى أن هناك أملا في تعويض ما جرى بين الطرفين، على الرغم من توجيه الاتهامات المتبادلة. وينبغي القول إن هناك مشكلة كبيرة في العلاقات، بسبب تحولها من علاقة بين الدولتين إلى علاقة بين الشخصين. ويدفع هذا الوضع البلدين الى الضبابية في مستقبل العلاقات. كما ينبغي التسليم بأن الرئيس ترامب بذل جهدا كبيرا من أجل تحسين صورة تركيا في الولايات المتحدة، وترقية مستوى العلاقات إلى منزلةٍ أفضل. وقد دل اللقاء في البيت الأبيض على اهتمام ترامب بتركيا وأردوغان، لا سيما وأنه تمكن من الحيلولة دون العقوبات على تركيا، ولو مؤقتا، وتمت عرقلة مذكرة إدانة بشأن “الإبادة الجماعية” للأرمن. وهذه من إنجازات أردوغان في لقائه مع ترامب. ومع ذلك، تم إبلاغ الرئيس التركي بأن المسألة، عندما تتعلق مباشرة بالأمن القومي للولايات المتحدة، مثل مسألة صواريخ إس 400 الروسية، لا يستطيع ترامب، ولا أي أميركي آخر، التسامح مع أنقرة. وقد تمت إحالة هذا الملف إلى لجنة، مثل ملف سورية وفتح الله غولن، وهذا يعني أن تركيا ترى المسألة قابلة للتفاوض. وبالتالي، ما زال ملف “إس 400” قابلا للمفاوضات، وإن دفعت تركيا ثمن هذه الصواريخ التي تم تركيبها في منطقة ما في تركيا. ولسوء الحظ، لا يبدو ممكنا بالنسبة لتركيا الحصول على نتائج ملموسة في هذا الشأن في مفاوضاتها مع الولايات المتحدة من دون مفاوضات أشد مع موسكو.

أعطت زيارة أردوغان البيت الأبيض نفسا لأنقرة، ولو كان مؤقتا. وقد لا يتمكن ترامب الذي يتعرّض لعملية مساءلة في الكونغرس من النواب الذين ينتظرون بشوق ضغط الزر لإطلاق العقوبات على تركيا، قد لا يتمكّن من الفرملة في المرة المقبلة.

العربي الجديد

————————-

حل الموضوع الكردي يعزّز دور تركيا الإقليمي/ عبد الباسط سيدا

تعد القضية الكردية في تركيا من أهم القضايا الداخلية التي ما زالت تنتظر الحل، إن لم نقل إنها أهمها، فهي تمسّ ما بين 20مليونا إلى 25 مليون مواطن وفق معظم التقديرات، يشكلون الأغلبية السكانية في نحو 21 ولاية من أصل 81 ولاية تتشكل منها الدولة التركية. وهي قضية لها تاريخ طويل من الصراعات والنزاعات والمجازر والحروب التي تسببت في كثير من القتل والتهجير والتشريد والدمار. ولم تكن جميع هذه الصراعات في عهد الجمهورية التركية الحديثة نسبياً، بل شهدت مختلف مراحل العهد العثماني مصادمات ومواجهات عسكرية مع الإمارات الكردية التي كانت تتمتع بالحكم الذاتي في مقابل التزامها إعلان الولاء التام للسلطة العثمانية في المركز، وتقديم الرجال للجيش، ودفع الضرائب لخزينة الدولة.

ومع انتهاء الحرب العالمية الأولى، وتوافق الحلفاء على اقتطاع مساحاتٍ واسعةٍ من المناطق التي كانت خاضعةً لسلطة الدولة العثمانية، وتقاسمها فيما بينهم، ظل الجسم الكردي الأكبر على صعيد الحجم السكاني والمساحة الجغرافية داخل الدولة التركية الحديثة. وكانت هناك، في بداية الأمر، وعود كثيرة من مصطفى كمال وعصمت إينونو وغيرهما من مؤسسي الدولة الحديثة، بأن الكرد سيكونون شركاء في الدولة التركية، شأن الأتراك وبقية المجموعات الإثنية التي ضمّتها الدولة الحديثة. ولكن مع استقرار الأوضاع نسبياً في مرحلة ما بعد الحرب، وانشغال الدول بما حصلت عليه، كانت هناك حملات عنيفة من الحكومة التركية استهدفت الكرد الذين طالبوا بحقوقهم، وكانت الحصيلة مجازر عديدة، وسياسات تتريك صارمة تناغمت مع التوجهات العلماينة القاسية التي اتّبعها مصطفى كمال، بهدف جعل تركيا دولة أوروبية غربية الهوى والتوجهات، من خلال تحطيم هويتها الشرقية.

واستمرّت الصراعات، على الرغم من ركود وخمود من حين إلى آخر، وكان الحل الأمني القمعي هو المعتمد بصورة خاصة من مختلف الحكومات التركية التي كانت تطلق يد الجيش في الملف، ليعلن أحكام الطوارئ في المناطق الكردية، ويقيم الإدارات العسكرية والمحاكم العرفية فيها. واستمرت الأمور هكذا إلى حين مجيء تورغوت أوزال (1983-1993) رئيسا. تعامل مع الموضوع بعقلية جديدة مستعدّة للتفاهم والحوار، ومناقشة الموضوع من الداخل، ومحاولة فهم الأسباب، والعمل من أجل الوصول إلى حلول واقعية ممكنة، وذلك كله بعيدا عن الأحكام المسبقة، وتجاوزاً للمحظورات التي كانت السياسات الرسمية قد فرضتها على هذا الموضوع. ولكن الرحيل المفاجئ لأوزال أوقف المشروع الواعد بعض الوقت. واستمرت الأمور بين شدّ وجذب إلى حين تسلًم حزب العدالة والتنمية مقاليد السلطة في تركيا بعد فوزه في الانتخابات العام 2002؛ وكان واضحا أنه يمتلك توجهاً يتكامل، إلى حد بعيد، مع الذي كان أوزال قد بدأ به.

وتم تخفيف الضغط عن المناطق الكردية، وأبدت الحكومة التركية استعدادها لمناقشة الملف الكردي بعقلية جديدة، ما أثار أملا كثيرا لدى الكرد والأتراك في الوقت ذاته. وعلى الرغم من انتكاسات كانت تحصل من حين إلى آخر، كان التوجه السلمي هو المهيمن، وكانت للسياسة الانفتاحية التي اعتمدها حزب العدالة والتنمية في تعامله مع الموضوع الكردي آثارها الإيجابية، سواء على صعيد رفع المستوى المعيشي للناس في المناطق الكردية، أم على مستوى رفع

القيود على حركة الطبع والنشر باللغة الكردية، وفتح الأقسام الكردية في جامعات عديدة، بل وفتح الجامعات في ولايات كردية عديدة، وتأسيس قناة كردية في التفزيون الرسمي.

وترافق ذلك كله مع دخول الحكومة التركية في مباحاثات مع حزب العمال الكردستاني، بهدف إيجاد حل سلمي للقضية الكردية، يكون مقبولاً من الجانبين. وتم تحقيق خطوات ملموسة في هذا الاتجاه. ولكن يبدو أن عوامل خارجية أثرت في موقف الحزب المعني، خصوصا من جانب النظام الإيراني الذي كان يرى في العملية السلمية خطراً على خططه في ميدان استخدام حزب العمال الكردستاني، عبر قيادة قنديل في كل من سورية وإقليم كردستان العراق، لذلك كان التصعيد الميداني، وافتعال الحوادث، بما في ذلك حفر الخنادق في المدن التي كانت أصلاً ضمن دائرة نفوذ حزب الشعوب الديمقراطية، وهو الواجهة السياسية لحزب العمال الكردستاني. وفي الجانب الآخر، يبدو أن أوساطاً معينة داخل الدولة التركية لم تكن مقتنعة أصلاً بالعملية السلمية، ومستعدّة لاستغلال الموقف، بغية تفجير الأوضاع، والعودة إلى المربع الأول.

وعلى الرغم من حالة التصعيد التي تبرز ملامحها هنا وهناك، سواء من الحكومة التركية، خصوصا بعد الدخول العسكري أخيرا إلى الشمال السوري تحت اسم عملية نبع السلام، وقبل ذلك دخول الجيش التركي إلى عفرين، أم من حزب العمال الكردستاني، وواجهته السورية؛ فإن الحل السلمي يبقى أفضل الحلول بالنسبة إلى تركيا وإلى الكرد في تركيا، وذلك عبر حوار وطني معمّق بين الدولة التركية، الحكومة والمعارضة، وبين الجانب الكردي ممثلاً بكل الأحزاب والمنظمات والفعاليات المجتعمية والأكاديمية والاقتصادية الكردية؛ فالقضية الكردية في تركيا وطنية مهمة وحيوية على مستوى تركيا بأسرها، وهي قضية كبيرة لا يمكن حلها وفق الحسابات الآنية المرحلية بين حزبي العدالة والتنمية والعمال الكردستاني وحدهما.

وسيكون حل هذه القضية في صالح تركيا وكردها عامة أولاً، وفي صالح الكرد السوريين وسورية عامة، وفي صالح كرد العراق والعراق عامة؛ لأن اضطراب العلاقة بين الدولة التركية وكردها يؤثر سلباً بصورة مباشرة وغير مباشرة على طبيعة العلاقة بين تركيا ومحيطها الكردي في العراق وسورية، الأمر الذي يفسح المجال أمام استغلال الأوضاع من القوى الإقليمية والدولية، لتوظيف هذا الموضوع في خدمة حساباتها ومصالحها. هذا في حين أن العلاقة الإيجابية بين تركيا والكرد عامة سينعكس إيجاباً على الوضع الداخلي ضمن حزب العدالة والتنمية نفسه، وعلى الوضع الداخلي لتركيا، وسيعزّز دورها الإقليمي والدولي.

لقد دفع الكرد السوريون ضريبةً باهظةً نتيجة استغلال حزب العمال الكردستاني عدالة قضيتهم، ودخوله إلى الساحة الكردية بناء على توافقاتٍ أمنية مع النظام، وبالتنسيق مع النظام الإيراني تحديدا. وفي مرحلة لاحقة، اتخذ الحزب المعني الشباب الكرد السوريين وقوداً في معاركه ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، بناء على تفاهماتٍ أمنيةٍ عسكريةٍ مع الجانب الأميركي الذي استغل الحزب المعني في تنفيذ أهدافه من دون أن يضحّي بأيٍّ من جنوده، وذلك حفاظاً على حساسيات الرأي العام الأميركي، ومراعاةً لحسابات انتخابية داخلية. هذا في حين أن حزب العمال كان يريد، عبر واجهته السورية، تحقيق أجنداتٍ تخصّه، لا تتقاطع، من قريب أو من بعيد، مع مصلحة الكرد السوريين، والسوريين عموماً.

وقد حمّل ذلك كله الكرد السوريين أثقالاً تفوق طاقتهم بكثير، ودفّعتهم ضريبة باهظة، لا قدرة لهم على تحمل تبعاتها المستقبلية. وبناء على ذلك، تبقى العودة إلى العملية السياسية، في جميع الأحوال، الخيار الأفضل والأمثل للتعامل مع الموضوع الكردي في تركيا. وستساعد مثل هذه العودة حزب العدالة والتنمية على تجاوز أزمته الداخلية، وتجاوز أزمته مع الأحزاب الأخرى. كما أن خطوةً كهذه ستريح الكتلة الكردية الكبيرة ضمن الحزب، وستمكّنها من التواصل مع القوى الكردية الأخرى، من أجل التباحث والتوافق على طرح مشروع حلٍّ مقبول معقول. بل إن حلاً من هذا القبيل سيساعد حزب الشعوب الديمقراطي على اكتساب بعض الاستقلالية تجاه قيادة قنديل، وسيمكّنه من الضغط على حزب العمال الكردستاني نفسه، من أجل إجراء مراجعاتٍ جادة، بهدف حصر ساحة الحزب المذكور بتركيا، والتخلص من قيود الالتزامات الإقليمية، خصوصا مع النظام الإيراني الذي تبين ثورات الشعوب في لبنان والعراق، وإيران نفسها، بأن مشاريعه التوسعية قد سُدّت الآفاق أمامها، ولم تعد لعبة المزج بين المظلومية المذهبية والأهداف السياسية قادرةً على تعبئة الناس وتجييشهم لصالح جهودٍ عبثيةٍ لم ولن تجلب للمنطقة سوى الخراب والسراب في ظل أنظمةٍ فاسدةٍ مفسدة، لا تتورّع عن ارتكاب أي موبقات من أجل البقاء.

العربي الجديد

——————————————-

داود أوغلو.. أردوغان مع أربكان/ خورشيد دلي

قبل تأسيسه حزب العدالة والتنمية عام 2001، كان رجب طيب أردوغان قريبا جدا من الراحل نجم الدين أربكان، إذ اختاره الأخير لخوض معركة رئيس بلدية إسطنبول في منتصف تسعينيات القرن الماضي، والتي انطلق منها نجمه. علاقة أردوغان بأربكان تشبه إلى حد كبير علاقة أحمد داود أوغلو بأردوغان، عندما عين الأخير داود أوغلو مستشارا له عقب تسلمه منصب رئيس الوزراء عام 2003، قبل أن يصبح وزيرا للخارجية، ومن ثم رئيسا للوزاء ورئيسا لحزب العدالة والتنمية. يكرّر اليوم أوغلو السيناريو نفسه تقريبا مع أردوغان، عندما انشقّ عنه قبل شهور، وأعلن عن تشكيل حزب جديد من رحم “العدالة والتنمية” الذي كان أوغلو منظّره الايديولوجي الأكبر. ولعل تجربة أوغلو تكرّرت سابقا مع أحزاب اليمين الوسط في تركيا، منذ عهد الحزب الديمقراطي في منتصف أربعينيات القرن الماضي، مرروا بتجربة حزب الوطن الأم في عام 1983، وصولا إلى تجربة “العدالة والتنمية”.

ما الذي دفع أوغلو إلى الخروج من عباءة أردوغان، والاستقالة من حزب العدالة والتنمية، وتأسيس حزب سياسي جديد، سمّاه المستقبل؟ يقول لسان أوغلو إن أردوغان حرف الحزب عن مساره الديمقراطي والسياسي، وحوّله إلى حزبٍ يقوده منفردا، وفي ظل غياب أي أفق للتغيير من داخل الحزب، فإن مهمته تكمن في تأسيس حركة سياسية جديدة، وانتهاج مسار جديد لمقاربة

السياسة والسلطة في تركيا. ولكن ثمّة عوامل وأسباب ومعطيات كثيرة وراء قرار الرجل الذي كان بمثابة صندوق أفكار أردوغان. هو يعتقد أن نظرياته الفكرية والسياسية ما زالت تصلح لأن تكون برنامجا سياسيا لحزبٍ يقوده هو بنفسه. ولعل ما شجعته على ذلك الخسارة الكبيرة التي مني بها حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البلدية، سيما في إسطنبول، والتعثر الاقتصادي على وقع تراجع سعر العملة التركية أمام الدولار، وانعكاس ذلك كله على حياة المواطنين الأتراك، وتحديدا الحاضنة الشعبية لحزب العدالة والتنمية، حيث تقول التقارير إن قرابة مليون عضو من أصل أكثر من عشرة ملايين عضو استقالوا من الحزب خلال عام 2019 الجاري. وقد جاء إقصاء أردوغان أوغلو من المشهد السياسي وتهميشه ليكون بمثابة النهاية السياسية للعلاقة الوثيقة التي ربطت بينهما طوال السنوات الماضية.

كل هذه الأسباب والعوامل دفعت أوغلو إلى التفكير بتأسيس حزب جديد، والعودة إلى المشهد السياسي، بعد صمت دام سنوات. والسؤال الأساسي هنا، كيف سيؤثر ذلك على حزب العدالة والتنمية وزعيمه أردوغان؟ لعل الخطر الأساسي الذي يهدّد الحزب أن الجمهور الأساسي الذي سيذهب مع حزب أوغلو الجديد، هو جمهور حزب العدالة والتنمية نفسه، سواء من الأعضاء المباشرين في الحزب، أو من القاعدة الشعبية المحافظة التي تشكل خزانا شعبيا له في الانتخابات. وتؤكد التجربة السياسية في تركيا أن الأحزاب الجديدة التي تتشكل تستطيع عادة الحصول على دعم فئات مؤثرة، كما حصل مع الحزب الجيد، بزعامة ميرال إكشينار، عندما انشقت عن حزب الحركة القومية، المتطرّف، حيث نجح الحزب في تخطّي العتبة الانتخابية المحددة (10% من عموم الأصوات) ودخول البرلمان. وهنا حتى لو لم يحصل حزب أوغلو على هذه النسبة، وحصل على نسبة 5% فقط في الانتخابات، فذلك سيؤثر كثيرا على حزب العدالة والتنمية وموازين القوى الحزبية. والخطورة هنا ستكون مضاعفة، نظرا لأن القيادي السابق في “العدالة والتنمية”، علي باباجان، يجري استعداداتٍ لتشكيل حزب جديد، ومن شأن ذلك جعل خسارة “العدالة والتنمية” مضاعفة في حاضنته الحزبية والشعبية.

أمام هذا الواقع الصعب، قد لا يجد أردوغان أمامه سوى الهجوم على داود أوغلو وفتح دفاتره القديمة، خصوصا وأنه اتهمه، قبل أيام، بالتورّط في قضايا فساد تتعلق بجامعة إسطنبول شهير، والاحتيال على بنك خلق. ولكن هذه لعبة خطرة على أردوغان نفسه، فأوغلو يمتلك كثيرا من أسرار أردوغان، بحكم المناصب المهمة التي شغلها، والعلاقة الوثيقة التي كانت بينهما، إذ سبق وأن هّدد أوغلو بكشف مثل هذه الأسرار، عندما قال إن وجوها كثيرة ستسود أمام الناس، إذا ما فتحنا دفاتر مكافحة الإرهاب. يعرف الرجلان عن بعضهما الكثير الكثير، وفتح الدفاتر القديمة سيحرقهما معا لصالح الخصوم السياسيين. والثابت أن الخواجة داود أوغلو والسلطان أردوغان باتا خصمين متنافسين على المشهد والمستقبل، كما أصبح الحال بين أردوغان وأربكان، مع فرق أن أوغلو قد لا ينتصر سياسيا على معلمه السابق أردوغان، فالظروف مختلفة، وشعبية أردوغان في حاضنته الشعبية ما زالت قوية، فضلا عن أنه يجيد صنع حواضن جديدة، في ظل قدرته على صنع التحالفات والانقلابات معا.

العربي الجديد

——————————————-

الأسد وقسد التعاون على الضحية/ حسن النيفي

في الزيارة التي قام بها علي مملوك، الرئيس السابق لمكتب الأمن القومي، بتاريخ (5 – 12 – 2019)، إلى مطار القامشلي، حيث التقى بمبنى النادي الزراعي المحاذي للمطار، بعدد من وجهاء العشائر العربية، طلب منهم بوضوح وجدّية، عزْل أبنائهم ممّن يعملون في صفوف قوات قسد، وضمّهم إلى قوات النظام، وذلك في مسعى واضح الدلالات والأهداف، يتمثل بإضعاف قوات الحماية الكردية، وتجريدها من شرعيتها بتمثيل أبناء المنطقة الشرقية، وبالتالي عزلها أو حصارها، لتسهيل عملية الانقضاض عليها حين تتيح الظروف ذلك.

تجدر الإشارة إلى أنه في شهر كانون الثاني من العام الجاري، قامت سلطات الأسد بعقد لقاء لما سمّي بوجهاء العشائر والرموز الاجتماعية، فجمعت ما يقارب خمسة آلاف شخص، بحسب رواية إعلام النظام، في بلدة أثريا التابعة لمنطقة السلمية، على بعد 100 كم من مدينة حماة. علماً أن الذي قام بالتواصل والتنسيق مع الأشخاص الذين حضروا الاجتماع هو المدعو (حسام حمشو) رجل الأعمال المشمول بالعقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية على عدد من الشخصيات الاقتصادية في سوريا. وكالعادة، انتهى اللقاء بتلاوة البيان النهائي المُعد قبل الاجتماع، والذي يؤكد ولاء المجتمعين وعشائرهم لنظام الأسد، وإصرارهم على المضي خلف سياساته الحكيمة وفقاً لبيان النظام، وقد كافأ النظام المجتمعين – آنذاك – بإطلاق ستة وثمانين معتقلاً من سجونه، أما في لقاء علي مملوك المشار إليه فقد عرض على من التقى بهم من وجهاء العشائر (قيل إن عددهم عشرون) مشروع إقامة إدارات محلية بزعامات عشائرية، وستقوم حكومة النظام بتقديم الدعم اللازم لهم.

وفي خطوة مماثلة، بتاريخ 3 – 5 – 2019، قام المجلس السياسي لقوات سوريا الديمقراطية (مسد) بدعوة ما يقارب ثمانية آلاف شخص – وفقاً لإعلام قسد – للاجتماع في بلدة (عين عيسى) التابعة لمحافظة الرقة، وانتهى اللقاء

بطريقة مماثلة لنظيره السابق، بتلاوة بيان يؤكد فيه المجتمعون على تأييدهم المطلق لقسد، وشكرها العظيم على طردها لتنظيم داعش.

لعلّ السمة المشتركة لدى الطرفين – نظام الأسد وقسد – هي أنهما يدركان جيداً أن ورقة العشائر هي من أضعف الأوراق في إدارة السيطرة وبسْط النفوذ، ولهذا فهما لا يستخدمانها إلّا حين الشعور بالإفلاس، وافتقاد أوراق القوة الأخرى، كما يدركان أيضاً أنهما – أعني النظام وقسد – معاً ، أسهما أيّما إسهام ، ليس باضطهاد عشائر شرق الفرات وإضعافها وتجريدها من أي دور فاعل فحسب، بل بجميع مكونات المحافظات الشرقية، إذ لم يكن خافياً على أحد أن ما تحظى به محافظات (دير الزور والرقة والحسكة) من ميزانية الدولة في مجال الخدمات والحاجات السكانية، لا يوازي ما تحظى به مثيلاتها من المحافظات والمدن السورية، علماً أن الغلّة الاقتصادية التي يجنيها النظام من المنطقة الشرقية – النفط – الغاز – الحبوب – القطن – تشكّل عصب الاقتصاد السوري، أضف إلى ذلك السخطَ السياسي والأمني الذي يسلّطه النظام منذ عهد (الأسد الأب) على سكان تلك المناطق، متّهماً إياهم بالولاء للنظام العراقي السابق، فهم جميعاً – وفقاً للنظام – حاضنة شعبية (لليمين المشبوه) بحسب التعبير الأمني لآل الأسد. ولم يكن الأسد (الابن) ليخالف نهج أبيه حيال تعامله مع سكان تلك المناطق، إذ لم تستثن براميله الحاملة للموت والدمار ودباباته وراجماته مناطق شرق سوريا، بل لم تستثن مجازره – كما معظم المحافظات السورية – أرواح السكان المدنيين وبيوتهم وممتلكاتهم.

أمّا سلوك سلطات مشروع الإدارة الذاتية، فربّما بدا أكثر مفارقةً، ذلك أن حزب الاتحاد الديمقراطي (pyd)، الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني(pkk) وهو صاحب الحمولة السياسية لمشروع الإدارة الذاتية، فقد أخفق في إقناع القوى والأحزاب الكردية السورية بجدوى ومشروعية أهدافه، وأعلن العداء لكل من لا يدخل تحت عباءته من الكرد، وقد كانت شعاراته الديمقراطية خاذلة للكثير من الكورد حين اعتقل العديد من الشخصيات الوطنية الكردية، وكان سبباً في هجرة الكثيرين من أبناء الجزيرة الكورد، بسبب نزعته نحو الهيمنة والإقصاء، ولم يجد سوى أن يفرض إراداته على مكوّنات تلك المنطقة، مُستمدّاً مشروعية سلطته من القوّة التي بحوزته أولاً، ومن الدعم الذي حازه من التحالف الدولي، لقاء محاربته لتنظيم داعش، وكان الغطاء المناسب لتلك الممارسات، هو الشعارات الأوجلانية ذات النزوع الأممي، في محاولةٍ لاستبعاد النزعة القومية، بينما واقع الحال يؤكد مدى تماهي ممارسات قسد مع سلطات الأمر الواقع السابقة (النظام – داعش) من حيث الاعتماد على القبضة الأمنية وفرض الإتاوات، وحملات التجنيد القسري لأبناء المنطقة، وتهجير السكان من قراهم وبلداتهم، بل ومحْو وإزالة العديد من القرى نهائياً، فضلاً عن حالات الاعتقال والتغييب لخصومهم السياسيين.

لقد أدّى استمرار صراع المصالح الإقليمية والدولية على الأرض السورية، إلى ظهور معطيات جديدة، لعلّ أبرزها التخلّي الأمريكي التدريجي عن الحليف القسدي بعد الانتهاء من حرب داعش، والاتفاق الأمريكي التركي الذي أتاح لأنقرة مهاجمة قوات الحماية والإطاحة بمشروعها، ما دفع قسد للعودة إلى الحليف القديم – الجديد، نظام الأسد، عبر الوسيط الروسي الذي نجح في تحقيق بعض التفاهمات بين الطرفين، أفضت إلى دخول النظام والشرطة العسكرية الروسية إلى ثلاثة مواقع في شمال شرق سوريا (عين عيسى – صوامع عاليه على الطريق الدولي m4 غربي تل تمر – عامودا)، إلّا أن الأمر الذي ترفض قسد الإقرار به، وهو الأمر الذي يجسّد مقتلها في الآن نفسه، هو أن الحليف الأسدي لا يقبل أن يرى سواه في الغابة، ولا يخفي سعيه المحموم لالتهام الجميع، بما فيهم الحلفاء المرحليون.

وهكذا يعود الطرفان، ليبحث كل منهما عن أوراق تسعفه في المنافسة على حيازة النفوذ، فنظام الأسد يريد من ضحاياه الانفكاك عن قسد والعودة إلى صفوفه لاستنزاف ما تبقى لديهم من حياة، وكذلك تريد قسد من الضحية ذاتها المشاركة في مواجهة القوات التركية دفاعاً عن حزب الاتحاد الديمقراطي pyd من جهة، كما تريد منها البقاء في صفوفها وعدم الانصياع لدعوات النظام من جهة أخرى، إلّا أن ما يتجاهله الطرفان المتنازعان على السيطرة وحيازة النفوذ هو الآتي:

أولاً – إن تعاقب سلطات الأمر الواقع على منطقة شرق الفرات (نظام الأسد – داعش – قسد) إنما كان قائماً على الإكراه، ومُستمّدّا من مشروعية حيازة القوّة، وليس نابعاً من خيار شعبي للسكان، وبالتالي فإن أيّ ولاء شعبي

لأيٍّ من السلطات المتعاقبة، إنما هو في الأصل حالة قهرية مفروضة على أصحاب الأرض.

ثانياً – الرهان على موقف عشائري موحّد يبدو شديد الاستحالة، بسبب تعدد مناطق النفوذ، وتوزّع أبناء العشيرة الواحدة على أكثر من منطقة، ولعلّه من الطبيعي في هذه الحالة، أن تشهد العشيرة الواحدة ولاءات متناقضة.

ثالثاً – ولعلّه الأهمّ، وهو أن الخيار الأمثل لسكان المحافظات الشرقية، وهو الخيار الوحيد الذي عبروا عنه بكامل حريتهم وإرادتهم هو خيار الثورة، المتماهي مع انتفاضة معظم المحافظات السورية في آذار 2011، والمتمثّل بإدراكهم أن جوهر القضية السورية برمتها يكمن بالتحرر من نظام الاستبداد والتوحّش، والانتقال إلى دولة القانون والعدل والديمقراطية، ولعلّ الحراك المدني الذي جسّدته مظاهرات أبناء دير الزور في شهر أكتوبر – تشرين الأول الماضي، كان ساطع الدلالات، حين عبّر المتظاهرون عن رفضهم لممارسات قسد، موازاةً مع رفضهم المطلق بدخول قوات النظام والميليشيات الإيرانية.

ربما كانت أصوات المتظاهرين الذين يحملون شعارات الثورة، في شرق الفرات وسواها من المدن السورية، تبدو ضعيفةً إلى جانب ترسانات السلاح التي يمتلكها أصحاب الأجندات العابرة للحدود، ولعلّه من الصحيح أيضاً، أن تلك الأصوات باتت أكثر انزياحاً نحو الحيّز الأخلاقي للثورة، قياساً إلى الواقع الذي تصوغه وترسمه أدوات ووسائل القوّة المتوحشة، ولكن مما لا شكّ فيه أيضاً، هو أنها الأكثر رسوخاً وصدقاً وإنسانية.

تلفزيون سوريا

———————————-

تبرير ترامب الفظّ/ كرم شعار

في 6 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن قراره سحب القوات الأميركية من سورية، معلناً الانتصار على الدولة الإسلامية. مهّد الإعلان المثير للجدل الطريق أمام التوغّل العسكري التركي في شمال سورية الذي أفضى إلى طرد القوات الكردية التي تعتبرها الحكومة التركية إرهابية، من المنطقة الحدودية التركية-السورية.

لكن، تحت تأثير الضغوط من الحزبَين في الولايات المتحدة، سرعان ماتراجع ترامب عن قرار الانسحاب من سورية. وهذه كانت المرة الثانية التي يُقدم فيها على مثل هذه الخطوة في أقل من عامٍ واحد. والتبرير الذي ساقه ترامب هذه المرة هو أن القوات الأميركية سوف تسعى إلى السيطرة على النفط السوري الذي يتركّز الجزء الأكبر منه شمال شرق البلاد.

قال الرئيس في تصريح له في البيت الأبيض في منتصف تشرين الثاني/نوفمبر: “نحتفظ بالنفط… تركنا قوات هناك من أجل النفط فقط”. عند الإعلان عن الانسحاب، كان عديد القوات الأميركية في سورية يبلغ نحو ألف جندي. وقد كشف البنتاغون لاحقاً عن خطط للاحتفاظ بحوالي 600 جندي في سورية.

ركّزت معظم التعليقات، حتى تاريخه، على الجوانب القانونية والأخلاقية المرتبطة بنهب الموارد العائدة لبلدٍ آخر. لكن هل السيطرة على النفط السوري مُجدية اقتصادياً للولايات المتحدة؟ قبل الحرب، كانت سورية تنتج القسم الأكبر من المشتقات النفطية التي تحتاج إليها. وفي التسعينيات، بلغ الإنتاج الذروة مع 600000 برميل في اليوم. ثم سجّل الإنتاج النفطي تراجعاً مطّرداً مع تقلّص القدرة الإنتاجية. وقبل اندلاع الانتفاضة في العام 2011، كانت سورية تنتج فقط 375000 برميل في اليوم.

مع عسكرة النزاع السوري، أصبح النفط مورداً مربحاً لتمويل اقتصاد الحرب. كانت الدولة الإسلامية تسيطر، قبل هزيمتها في الميدان في 2017-2019، على معظم الحقول النفطية في سورية. وكانت المشتقات النفطية العائدة للدولة الإسلامية تقطع مسافات طويلة وتجتاز عدداً كبيراً من الخطوط المناوئة. كانت هذه الإيرادات ضرورية لتأمين استمرارية التنظيم.

في أواخر العام 2017، سيطرت قوات سورية الديمقراطية الخاضعة للأكراد علىمعظم الحقول النفطية بمساعدة التحالف الدولي ضد الدولة الإسلامية. ومنذ ذلك الوقت، يُستهلَك الجزء الأكبر من النفط في المناطق الخاضعة لسيطرة قوات سورية الديمقراطية، وتُشكّل العائدات مصدراً أساسياً لتمويل الميليشيات التابعة للأكراد.

لكن السيطرة على النفط السوري، بحسب ماتعهّد به ترامب، ليست مجدية اقتصادياً. فلنفترض أن شركة نفطية أميركية قررت الاستثمار في ترميم البنى التحتية للقطاع النفطي السوري، فهذا يتطلب مالاً ووقتاً. ولنفترض أيضاً أنها أعادت مستوى الإنتاج إلى ماكان عليه قبل الحرب، أي 375000 برميل في اليوم، فهي لن تُعوِّض عن كلفة التدخل الأميركي التي بلغت 13 مليار دولار في العام 2018 ووصلت إلى 15.3 مليار دولار في العام 2019. وبما أن سعر البرميل هو 60 دولاراً، على الشركة أن تزيد الإنتاج من المستوى الحالي، أي 30000 برميل في اليوم، إلى 593000 برميل في اليوم كي تتساوى الإيرادات مع تكاليف التدخل الأميركي. وهذا من دون احتساب تكاليف استخراج النفط، والجعالات التي يجب تسديدها للهيئة السورية المعنية، والعلاوات التي ينبغي دفعها للموظفين تعويضاً لهم عن العمل في بيئة محفوفة بالمخاطر، فضلاً عن تكاليف أخرى.

لايرى كبار المسؤولين الأميركيين، إنما أيضاً عمالقة النفط، أسباباً كافية تبرّر مخططات ترامب لوضع اليد على النفط السوري. فالبنتاغون مثلاً لم يُعبّر عن تطلّع من هذا القبيل. وفي هذا السياق، قال وزير الدفاع مارك إسبر رداً على سؤال عن الترجمة العملية لمسألة “احتفاظ” الولايات المتحدة بالنفط أو “سيطرتها عليه”: “أفسّر ذلك بأنه يهدف إلى منع [الدولة الإسلامية] من الوصول إلى حقول النفط، وإلى ضمان أمن الحقول…”.

أما في مايتعلق بشركات النفط، فليس مستغرباً أنه لم تُبدِ أي شركة بينها اهتماماً بالفكرة التي طرحها الرئيس. فقد صرّح ترامب في هذا الإطار: “ماأنوي فعله، على الأرجح، هو عقد صفقة مع إكسون موبيل أو إحدى شركاتنا الكبرى للذهاب إلى هناك [سورية] والقيام بالأمور كما يجب”.

لكن ما لم يقله ترامب هو أن الأهداف الأميركية في سورية تذهب أبعد من الذريعة الرسمية التي يسوقها من خلال حديثه عن رغبة بلاده في السيطرة على النفط السوري. فوجود الولايات المتحدة هناك يمنحها نفوذاً في مقابل إيران والنظام السوري وروسيا، وهذا هو أحد الأسباب وراء المعارضة الشديدة التي يُبديها الحزبان الجمهوري والديمقراطي للانسحاب الأميركي الكامل من سورية. فالإبقاء على هذا الوجود يُعتبَر أمراً حيوياً بالنسبة إلى واشنطن، على ضوء التعاون الوطيد والمتزايد بين روسيا وتركيا في شمال شرق سورية. وفي سياق الجهود الأميركية لمكافحة الإرهاب، يُشكّل الدور الكردي في الحؤول دون صعود الدولة الإسلامية من جديد، سبباً إضافياً في هذا الإطار. ويُعتبَر الانتشار الأميركي، ولاسيما حول حقول النفط، محورياً من أجل إفساح المجال أمام الحليف الكردي ليستمر في الإفادة من العائدات النفطية.

واقع الحال هو أن كلفة الإبقاء على هذه الأهداف المتوخاة على صعيد السياسات في المنطقة، متدنّية نسبياً. ويُعتبَر التدخل الأميركي في سورية فاعلاً لناحية التكاليف والمنافع. فحجم البعثة صغير جداً، ويُشار في هذا الصدد إلى أنه عند الإعلان عن سحب القوات الأميركية من سورية، كان عديد الجنود الأميركيين في البلاد والذي يبلغ زهاء ألف جندي، يُشكّل مانسبته 0.5 في المئة فقط من مجموع عديد القوات الأميركية المتمركزة في الخارج. وقد لقي ثمانية جنود أميركيين فقط مصرعهم منذ الانتشار في العام 2014، فالوطأة الأكبر في القتال ضد الدولة الإسلامية تَحمّلها الأكراد، حلفاء الولايات المتحدة، الذين خسروا 1100 مقاتل في المعارك.

القرار الذي اتخذه ترامب بسحب القوات الأميركية هو واحدٌ من قرارات كثيرة في الشأن السوري دفعت بالحلفاء والخصوم على السواء إلى إعادة النظر في مستقبل الدور الأميركي في البلاد. أما في مايتعلق بالاستثمار في النفط السوري، فقد كانت مجرد ذريعة لتبرير قرار الرئيس الأميركي بالعدول عن الانسحاب، علماً بأن هذا الاستثمار هو في الواقع غير مجدٍ من الناحية الاقتصادية.

* كرم شعار هو محلل بارز سوري الأصل في وزارة الخزانة النيوزيلندية. الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر عن وجهة نظره الشخصية.

مركز كارنيغي للشرق الأوسط

——————————-

أستانة 14: شرق الفرات.. إدلب واللجنة الدستورية

انطلقت الجولة الـ14 لمباحثات أستانة، حول التسوية السورية في العاصمة الكازاخية نور سلطان، الثلاثاء، بسلسلة مشاورات ثنائية وثلاثية بين الوفود المشاركة.

وبحسب ما أفادت قناة “روسيا اليوم”، بدأت المشاورات باجتماع مغلق بين الوفدين الروسي برئاسة مبعوث الرئيس الخاص لسوريا ألكسندر لافرينتيف، ونائب وزير الخارجية سيرغي فيرشينين، والإيراني برئاسة كبير مساعدي وزير الخارجية للشؤون السياسية على أصغر حاجي.

وفي وقت لاحق اجتمع الوفد الروسي مع وفد الحكومة السورية الذي يرأسه سفير دمشق لدى الأمم المتحدة بشار الجعفري.

وأكدت الخارجية الكازاخية وصول كافة الوفود المعنية إلى نور سلطان، وبينها وفد المعارضة السورية المؤلف من 12 شخصا بقيادة أحمد طعمة رئيس الحكومة السورية المؤقتة التي تتخذ من غازي عنتاب التركية مقرا لها.

ويشارك في الجولة الحالية من المباحثات الدول الضامنة لعملية أستانة وهي روسيا وتركيا وإيران، ووفدا الحكومة والمعارضة السوريتين، وممثلون عن الأردن والعراق ولبنان بصفة مراقبين، إضافة إلى البعوث الأممي الخاص إلى سوريا غير بيدرسن.

ويتضمن جدول أعمال الجولة مسائل دعم العملية السياسية في سوريا، على ضوء إطلاق اللجنة الدستورية السورية في جنيف، وكذلك الوضع “على الأرض” مع التركيز على مناطق شرق الفرات وإدلب.

كما يتوقع أن تشمل المناقشات الوضع على الحدود السورية التركية بعد إبرام المذكرة الروسية التركية لوقف إطلاق النار هناك.

وحسبما ذكرت الخارجية الكازاخية في وقت سابق، يعتزم المشاركون في الجولة بحث إجراءات بناء الثقة مثل الإفراج عن المعتقلين والبحث عن المفقودين، إضافة إلى زيادة المساعدة الإنسانية الشاملة لسوريا في سياق عملية عودة اللاجئين والنازحين.

المدن

—————————————-

استراتيجية تركيا لمواجهة الأكراد من خلال ورقة اللاجئين/ عبد الله الحسن

كلما ازداد الضغط الروسي على تركيا في محافظة إدلب السورية سارع الرئيس التركي إلى استدعاء فرنسا وألمانيا وتخويفهم من موجة هجرة جديدة إلى أوروبا.

وما فحوى خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في ٢٤ سبتمبر/أيلول ٢٠١٩ إلا تذكيراً بذلك حين دعا العالم برمته إلى المبادرة من أجل وقف الأزمة الإنسانية في سوريا ودعم جهود تركيا لتحقيق ذلك.

وبصورة مبطنة ذكّر أوروبا والعالم بأزمة الهجرة في ٢٠١٦ عندما رفع صورة الطفل “آيلان كردي” (الذي غرق قبالة السواحل التركية) في نهاية ٢٠١٥ وتلك الصورة اشتهرت وارتبطت بواقع هجرة كثيف وغير مسبوق تجاه أوروبا سهلت له السلطات التركية وشجّعت عليه.

فهل يفعل الرئيس التركي ذلك بغاية ابتزاز الغرب مالياً للمساعدة في كلفة تحمل اللاجئين السوريين في تركيا للمرة الثانية، أم ابتزاز سياسي للدفع نحو عمل المنطقة العازلة في شمال شرق سوريا لتفريق الأكراد في الشمال السوري، أم هو يطلب الدعم من الأوروبيين لوقف الحرب على محافظة إدلب؟

استراتيجية تركيا لحماية أمنها القومي من أي تهديد كردي يأتي من الأراضي السورية

تعمل تركيا بجد لأجل ضمان أمنها القومي (بشكل دائم) من أي تهديد كردي محتمل من داخل الأراضي السورية وذلك من خلال النقاط التالية:

١- بناء سور يمتد على طول الحدود السورية التركية:

في عام ٢٠١٨ انتهت السلطات التركية من بناء ثالث أطول سور في العالم (بعد سور الصين العظيم والجدار الأمريكي على حدود المكسيك) على طول الحدود السورية – التركية، والذي يبلغ طوله ٦٨٨ كم، وذلك ضمن مساعيها لوقف عمليات التهريب وتسلل العناصر الإرهابية إلى تركيا، ويتضمن السور أبراجاً محصنة وأبواباً أمنية محصنة، وقد ساعد السور فعلاً على تقليص عمليات تدفق اللاجئين إلى تركيا بصورة كبيرة جداً جداً مقارنة مع الأعوام السابقة التي سبقت بناء السور.

٢- إعادة تفعيل اتفاقية أضنة وإعادة العمل بها بضمانة روسية:

وهذا تم بالفعل بحضور الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس التركي رجب طيب أردوغان في شهر يناير/كانون الثاني ٢٠١٩، حيث تم تفعيل اتفاقية أضنة بين الحكومة السورية والجانب التركي بضمانة روسية.

٣- إنشاء قواعد عسكرية للجيش التركي شمال سوريا:

بعد حدوث التقارب التركي – الروسي إبان محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا لاحظنا دخول الجيش التركي إلى داخل الحدود السورية في عمليتين عسكريتين (درع الفرات – غصن الزيتون) وذلك لأول مرة منذ بداية الأزمة في سوريا وفي تاريخها قاطبة، و بالتالي يقدر البعض وجود أربع قواعد تركية في مناطق درع الفرات وغصن الزيتون إضافة إلى أتباع من المعارضة السورية مدربين ومجهزين بسلاح ثقيل ويعملون تحت قيادتها، وكذلك تعمل تركيا على زيادة عدد قواعدها العسكرية في شمال سوريا خاصة شرق نهر الفرات حيث التواجد الأكبر لحزب الاتحاد الديمقراطي وأتباعه.

٤- إحداث تغيير ديموغرافي لتركيبة السكان في المناطق ذات الأغلبية الكردية، وذلك عبر الأساليب التالية:

أولاً: استقبال النازحين وتسهيل إقامتهم:

يحدث ذلك الآن وبقوة في مناطق السيطرة التركية في مدن جرابلس والباب وعزاز وضواحيها (مناطق عملية درع الفرات) وفي مدينة عفرين وضواحيها (منطقة عملية غصن الزيتون) حيث استقبلت تركيا آلاف من النازحين السوريين (مقاتلين وناشطين وهاربين من الموت والتجنيد الإجباري مع عائلاتهم) من مناطق مختلفة في سوريا، من شمال مدينة حمص ومن مدينة القصير ومن الغوطة الشرقية ومن جنوب دمشق ودرعا، لقد ساعدت السلطات التركية عبر مندوبيها المحليين في المجالس المحلية والمديريات التابعة لها إلى تسهيل إقامة النازحين (هناك عملية استيلاء على منازل أكراد ومزارعهم بحجة تعاونهم مع حزب الاتحاد الديمقراطي PYD ناهيك عن منازل ومزارع الفارين من الحرب) وتقديم الخدمات الكاملة لهم، حيث تدعم وزارة الصحة التركية وتشرف على إدارة القطاع الصحي في تلك المناطق وكذلك قطاع التعليم والقطاع الديني والخدمي وقطاع الشرطة والأمن، بالإضافة إلى تشييد أبراج تغطية إضافية لتقوية شبكة الاتّصالات الخليوية التركية والانترنت في تلك المناطق، وكذلك تم ربط التجارة بعد فتح معابر خاصة لكل مدينة من تلك المدن الأربع مع الجانب التركي، وتم افتتاح مراكز خاصة لشركة البريد والبرق PTT في كل من تلك المدن وأصبح التداول بالعملة التركية متاحاً إلى جانب الليرة السورية والدولار واليورو وذلك بعد أن عمدت الحكومة التركية إلى دفع رواتب المتعاقدين معها بالليرة التركية عبر مراكز الصرافة في الـ PTT، وأيضاً تم تعيين والي تركي لإدارة تلك المناطق بشكل كامل.

ثانياً: توطين النازحين:

وتلك خطوة بدأت فعلاً في تلك المناطق، فلقد عملت مديريات السجل المدني في تلك المناطق على إصدار بطاقات تعريفية (هويات) و إخراجات قيد للنازحين غير صحيحة، حيث تم إلغاء خانة مكان الولادة (أمانة السجل المدني/ القيد) على الهوية للنازحين من مناطقهم الأصلية في سوريا بينما تم تزويرها على الملف الورقي الموجود لدى السلطات المحلية إلى خانة مكان الإقامة الحالي.

وهناك الكثير من المقاتلين وعائلاتهم التابعين للجيش التركي حصلوا على الجنسية التركية في تلك المناطق دون أن يقيموا في تركيا حتى، وكلنا يعلم حجة تركيا للتدخل في أي منطقة في العالم بحجة حماية الأقليات التركمانية فيها.

ثالثاً: الدفع باللاجئين السوريين في تركيا نحو (مناطق آمنة) على طول الشريط الحدودي

تعلم تركيا بأن اللاجئ السوري في تركيا لن يترك تركيا ويعود إلى منطقة الشريط الحدودي داخل الأراضي السورية مهما كانت آمنة، لذلك عمدت إلى تجربة حالة معينة في مدينة استنبول خلال الأشهر الماضية وضربت بها ”عصفورين بحجر واحد“ كما يقال:

    أقامت حواجز داخل مدينة استنبول والتقطت السوريين المقيمين فيها ممن لا يحملون ورقة إقامة في استنبول أو ممن يحملون ورقة إقامة من مدن أخرى ونقلتهم رغماً عنهم إلى داخل الحدود السورية، وكانت بذلك تقوم بتجربة ردة المجتمع الدولي إزاء تلك الحركة التي تنوي عملها في المنطقة الآمنة التي تدعو لها علي الشريط الحدودي السوري شرق الفرات، علماً بأن تركيا تحتضن ما يقارب ٢.٥ – ٣ ملايين لاجئ سوري داخل أراضيها.

    عمد حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا على تشويه صورة رئيس بلدية استنبول أكرم إمام أوغلو الذي ينتمي إلى ”حزب الشعب الجمهوري“ المعارض، وذلك عبر التسويق الإعلامي بأن رئيس البلدية الجديد هو الذي أقدم على تلك الخطوة، على الرغم بأن تلك الخطوة منوطة بوزارة الداخلية ولا سلطة لرئيس البلدية علي ذلك.

إن عملية التغيير الديموغرافي التي تعمل عليها تركيا في سوريا هي عملية تستهدف الوجود الكردي الكثيف في الشمال السوري وخاصة على الشريط الحدودي وخاصة في جهة شرق نهر الفرات، لقد نجحت في عمل ذلك غرب نهر الفرات شمال مدينة حلب في مناطق سيطرتها في عمليتي درع الفرات – غصن الزيتون، ولقد نجحت بشكل كبير في ذلك وربما أكثر نحو ضم تلك المناطق إلى الأراضي التركية إذا حصل نوع من الاستفتاء كما حصل لمنطقة لواء اسكندرون السورية سنة ١٩٣٩ إبان فترة الانتداب الفرنسي في سوريا.

ولقد تم تجريب ذلك في الكثير من مناطق العالم وفي سوريا سابقاً وتجاه الأكراد أيضاً، وذلك من خلال مشروع ”الحزام العربي“ الذي بدأت فكرته في منتصف الستينات بعد استيلاء حزب البعث على السلطة في سوريا واعتمد على دراسة أعدها محمد طلب هلال الذي أصبح محافظاً لمدينة الحسكة عام ١٩٦٥، وتمت الموافقة على تطبيق المشروع بعد ذلك بسنوات من قبل الرئيس السوري حافظ الأسد عام ١٩٧٣ إبان فترة بناء سد الفرات آنذاك. وفي آذار من عام ١٩٧٤ بدأت عمليات نقل “المغمورين”  من السكان العرب ممن غمرت مياه السد قراهم فعرفوا بعرب ”الغمر“ وتم توطينهم على طول الحزام العربي الممتد بطول ٣٠٠ كم وعرض ١٠ – ١٥ كم من الحدود العراقية شرقاً إلى رأس العين غرباً.

وعلى نحوٍ مماثل نلاحظ دعوات الرئيس التركي المتكررة لعمل منطقة آمنة شمال سوريا بما يشبه مشروع ”الحزام العربي“ سيء السمعة، وغالباً سوف يستطيع تحقيق ذلك سواء من خلال تعاون الأمريكان والأوروبيين معه أو بالعمل منفرداً، وما دخول قواته في دوريات مشتركة مع القوات الأمريكية إلا بداية حقيقية لهذا المشروع كما أوضحنا سابقاً.

وكان كلام الرئيس أردوغان خلال خطابه في الجمعية العامة للأمم المتحدة في ٢٤ سبتمبر ٢٠١٩ واضح المعالم تجاه ذلك بقوله مذكراً بأزمة اللاجئين ”بعض اللاجئين – للأسف الشديد – يفقدون أرواحهم في محاولتهم لاجتياز البحر الأبيض المتوسط أو أمام الأسلاك الشائكة على الحدود، إن العالم قد نسي بشكل سريع هذا الطفل ايلان السوري“ رافعاً صورة الطفل إيلان، وأضاف مخوفاً الأوروبيين من موجة هجرة جديدة ” ولا تنسوا أن الأمر قد يصيبكم أيضاً لأن الأطفال هؤلاء لا يمثلون حالة واحدة بل عشرات ومئات وآلاف، لذلك يجب أن نتخذ التدابير اللازمة حيال ذلك“  مخوفاً إياهم من زيادة الهجرة إلى بلادهم في حال عدم تبني خطته ” لا بد من التصدي لاحتمال حدوث هجرة كبيرة بسبب ما يحدث في إدلب من مجازر محتملة من تدفق حوالي أربعة ملايين لاجئ، كما إن تركيا ليست قادرة على  استضافة لاجئين جدد.“

ثم طرح مقدمة حول خطة العمل التي تعمل تركيا على تحقيقها ”هناك ٣٦٥ ألف لاجئ سوري نستضيفهم نحن في تركيا، ومن خلال التدابير التي اتخذناها عاد حوالي ٣٦٥ ألف إلى جرابلس في سوريا“ وأضاف ”لم يتم عودة اللاجئين إلى أية مناطق يسيطر عليها PKK أو PYD الإرهابيين أو تنظيم داعش الإرهابي، بل يعود السوريون إلى المناطق التي توفر تركيا لها الأمن والأمان“

ثم عرض صورة توضح خريطة المنطقة الآمنة التي تنوي السلطات التركية عملها ويدعو كلاً من أمريكا وأوروبا للمساعدة على تحقيقها كحل دائم لمشكلة اللاجئين السوريين قائلاً ”نحن نبحث مع الولايات  المتحدة الأمريكية موضوع إقامة منطقة آمنة هناك وإن نيّتنا الأولى أن نقوم بتأسيس ممر السلام /حزام السلام في عمق ٣٠ كم وعلى طول ٤٨٠ كم، وإننا إذا ما استطعنا أن نفعل ذلك نستطيع ان نقوم بتحقيق إقامة ٢ مليون سوري في تلك المنطقة“ وأشار بيده نحو الشريط الحدودي الذي يوضح المنطقة الآمنة وقال ”هذا الجزء إذا تم الإعلان عنه منطقة آمنة نحن نستطيع ان نمكّن ما بين ١- ٢ مليون لاجئ من العودة الى هذه المناطق، وإننا مع الولايات المتحدة الأمريكية وقوى التحالف وإيران وروسيا وعبر التضامن والتعاون معاً بإمكاننا ان نستضيف اللاجئين بشكل دائم ونحررهم من الخيام والبيوت الجاهزة أيضاً، وعلينا ان نتخذ هذه الخطوة مع بعضنا البعض لأن تركيا لا تستطيع أن تفعل ذلك وحدها“

وأكثر من ذلك طرح عليهم حلاً لمشكلة تواجد اللاجئين السوريين في أراضيهم هم بقوله ”إذا استطعنا أن نجعل عمق ذلك إلى دير الزور والرقة فإن عدد السوريين الذين سوف يعودون من أوروبا الى أراضيهم يمكن ان يصل الى ثلاثة ملايين سوري.“

عبد الله الحسن كاتب سوري

صالون سوريا

——————-

هل من قضية كردية في سوريا؟/ حسام ميرو

ما هو المعطى، أو المعطيات، التي يجب الاستناد إليها للإجابة عن سؤال شائك، وأيضاً حَرج سياسياً، مثل: هل هناك قضية كردية في سوريا؟

عادة ما يكون التاريخ ملجأ للكثيرين للإجابة عن الأسئلة المتعلّقة بالأقليات القومية، خصوصاً أنه يصبح قابلاً للتأويل وفق مرجعيات فكرية وسياسية مختلفة وعديدة، ما يسمح فعلياً بتبني وجهة نظر وظيفتها -بقدر كبير- الاستثمار السياسي، في لحظات شديدة التعقيد وطنياً، كما هو الحال في الوضع السوري، والذي يشهد مستويات من التداخل غير مسبوقة في تاريخ البلاد.

يتوزّع الأكراد في أربع دول في المنطقة (تركيا، إيران، سوريا، العراق)، وعلى الرغم من النضالات التاريخية لهم، إلا أنها اتّخذت بالمجمل صيغاً ترتبط أشدّ الارتباط بطبيعة الأنظمة السياسية الحاكمة، وبالأوضاع التاريخية القائمة، وليست حالة الأكراد في سوريا باستثناء، فقد حاولت النخب الكردية أن تتكيّف وتكيّف نضالها ومطالبها مع الأوضاع الموجودة في سوريا، ابتداءً من الصيغ المجتمعية، مثل الأندية والجمعيات، وأشهرها “جمعية خويبون” (1927-1946)، والتي تصدّت لإدارتها النخبة البورجوازية الكردية، وصولاً إلى الصيغة السياسية الواضحة، والتي تجلّت مع الإعلان عن تأسيس أول حزب كردي في سوريا عام 1957، وهو حزب “الحزب الديمقراطي الكردي في سوريا”.

لم يتجه معظم الناشطين الكرد إلى الأحزاب ذات التوجه القومي الخالص، فقد ناضل الكثيرون في صفوف اليسار السوري، خصوصاً في “الحزب الشيوعي”، وتأثروا بما عاناه هذا الحزب التاريخي من انشقاقات، فاتخذوا مواقف متباينة منها، فقد كان الخلاف والاختلاف يقوم على أسس لها علاقة بالممارسات السياسية داخل الحزب، أو بالعلاقة مع الاتحاد السوفيتي وتأثيره في مجمل قوى اليسار في العالم.

في المقابل، رفض العروبيون، ورأس حربتهم “حزب البعث العربي الاشتراكي” الاعتراف بأي مطالب خاصّة للأكراد في سوريا، وأصبح معروفاً الدور الذي لعبه “البعث” في حرمان الأكراد من حقوق كثيرة، لكن ما يهمّنا هنا هو النظرة التي تأسّس عليها موقف العروبيين من الأقليات القومية، حيث إن مفهوم الأمة في الأدبيات التقليدية للقوميين كان مفهوماً عامّاً وفضفاضاً، يتعامل مع التاريخ بطريقة انتقائية، تدعم توجهاته وأهدافه، ما جعله يرى في مطالب الأقليات القومية حالة من الشعوبية/ الانفصالية التي يجب محاربتها، لأنها تضعف “مشروع الأمة”، ولم يختلف هذا السياق في تناول مفهوم الأمة كثيراً عن أدبيات الإسلاميين، خصوصاً “الإخوان المسلمين”، حيث تتأسس فكرة الأمة/ الخلافة على طغيان الانتقائية، وتغييب التمايزات، لمصلحة الهوية الدينية.

اتسّمت مرحلة ما يعد الاستقلال في سوريا بصراع أساسي بين ثلاث قوى رئيسية، وهي القوميين، والشيوعيين، والإسلاميين، وقامت مشاريع تلك القوى على أسس ما فوق وطنية، فقد نادى القوميون بالدولة/ الأمة العربية، بينما تبنى الإسلاميون الخلافة/ الأمة، وغرّد الشيوعيون في الفضاء الأممي، ولم تكن سوريا إلا عنواناً فرعياً في العناوين الكبرى، تتحالف أحزابها مع أقرانها في الخارج، بينما تتصارع في ما بينها في الداخل.

بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، بدا جلياً أن إقليم كردستان العراق يتبلور كحالة خاصّة ضمن عموم الحالة الكردية في المنطقة، وهو ما أعاد من جديد إلى الواجهة، وبقوّة، المسألة الكردية، وقد أوضحت أحداث 2004 في الجزيرة مدى حساسية النظام السوري لما يجري في العراق، حيث تحوّلت لعبة كرة قدم بين فريقي “الفتوة” من دير الزور، و”الجهاد” من القامشلي، إلى اشتباكات، تدخّلت فيها قوى الأمن وأطلقت الرصاص على مشجعين أكراد، خرجت احتجاجات كردية في إثرها، جوبهت بقوة شديدة، وذهب ضحيتها عشرون كردياً، وجرح عشرات، واعتقل مئات.

بعد 2011، شهدت ساحة المعارضة السورية سجالات واسعة، فقد وضعت الأحزاب الكردية مطالب كثيرة على الطاولة، وربما كان مؤتمر توحيد المعارضة السورية في 2و3 يوليو/ تموز 2012 هو اللحظة الأكثر تعبيراً عن رفع سقف المطالب، وقد استجاب لها المؤتمر، بالاعتراف بأن الأكراد في سوريا مكون قومي “تقرّ الدولة السوريّة بوجود قومية كرديّة ضمن أبنائها، وبهويّتها وبحقوقها القوميّة المشروعة وفق العهود والمواثيق الدوليّة ضمن إطار وحدة الوطن السوري. وتعتبر القومية الكردية في سورية جزءاً أصيلاً من الشعب السوري”.

وعلى غرار “مؤتمر توحيد المعارضة” في القاهرة، واجهت الكثير من المؤتمرات معضلة توصيف الأكراد، وحاولت التمييز بين القومية والشعب، فاعترفت بهم كقومية، على أن يكونوا جزءاً لا يتجزأ من الشعب السوري، وهو تمييز تلفيقي، غير معرفي، وينطلق من نظرة أكثروية، بتعبير المفكر الراحل ياسين الحافظ.

وفي واقع الصراع على النفوذ، تمكن “حزب الاتحاد الديمقراطي” من بناء تكتيكات عديدة منذ 2011، وقد كان لتنميته ذراعاً عسكرياً، تمثّل ب”وحدات حماية الشعب الكردية”، من حيازة ثقل نوعي في منطقة الجزيرة السورية، ونتيجة لمكانته الجديدة، وتعقيدات الصراع السوري، أعلن تأسيس “الإدارة الذاتية” في 23 نوفمبر/ 2013، وبعد إنشاء “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)  في 11 أكتوبر/ تشرين الأول 2015،ي وحصوله على الدعم الأمريكي، وخوضه معارك عسكرية ضد تنظيم “داعش” الإرهابي، أصبحت “قسد” طرفاً رئيساً في المعادلة السياسية السورية، لكن هذه المكانة تدهورت مؤخراً، بعد إعلان الرئيس الأمريكي انسحاب قواته، ومن ثم شن تركيا عملية عسكرية “نبع السلام”، اجتاحت فيها مدينتي تل أبيض ورأس العين.

خلال السنوات الماضية، برز أمر أساسي في الصراع السوري، وهو أن مختلف الأطراف لا تفكّر سورياً، فالنظام لا يفكر بسوريا بقدر ما يفكر ببقائه في السلطة، وكذلك عملت القوى الإسلامية العسكرية على إعلان إماراتها الإسلامية، وكذلك سعى “الاتحاد الديمقراطي” إلى تعزيز سلطنه، وإعطاء منطقة نفوذه مسميات خاصة، مثل “روج آفا” وشرق الفرات، ولئن تمسّكت معظم قوى الأمر الواقع لفظياً بسوريا، ووحدة أراضيها، إلا أن ذلك لم يعدو كونه إنشاءً فارغاً من المضمون العملي.

إن إعادة التأسيس لمفهوم الأمة بدلالته الوطنية هو أمر أساسي لإعادة تعريف كل القضايا، بما فيها قضايا الأقليات الإثنية، فالأمة/ الدولة يمكن أن تحتوي في نسيجها عدداً من الشعوب، وأن تعترف بوجودهم دستورياً، في ظل دولة ديمقراطية، ترتكز إلى حقوق المواطنة المتساوية، لكن هذا السياق يحتاج فعلياً إلى الاعتراف بعدم جدوى كل الأوهام ما دون الوطنية أو ما فوقها.

خلاصة القول إن وجود قضية كردية مرهون، في إطار الظرف السوري، المعقد تاريخياً، والمتشظي راهناً، بماهية القضية الأم، أي القضية الوطنية السورية، وهو ما يؤكده الواقع، وليس الجدل المؤسس على تأويل التاريخ، على أهمية التاريخ وتأويلاته.

بروكار برس

—————————

لماذا لا تخشى تركيا الإقرار بالتغيير الديموغرافي شمال سوريا؟/ متابعة وإعداد: أحمد قطمة

في توجه واضح لتطبيقٍ عملية التغيير الديمغرافي التي تعمل لأجلها تركيا في شمال سوريا، أعلنَ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أمس الاثنين، أن أنقرة بدأت العمل على توطين مليون شخص في مدينتي تل أبيض و “رأس العين/سري كانيه”، حيث قالَ أردوغان في كلمة له أمام وزراء الشؤون الاجتماعية بمنظمة التعاون الإسلامي، أنه سيتم تقديم الدعم لإنشاء مناطق سكنية جديدة في الشمال السوري.

ويبدو أن تركيا لا تخشى من الإفصاح عن نواياها بتوطين اللاجئين السوريين في مناطق هجرت سكانها منها بفعل العمليات العسكرية التركية، مما يشير إلى حصول أنقرة على ضوء أخضر يسمح لها بذلك، دون خشية من حساب، على الأقل في الوقت الراهن وضمن الظروف الحالية.

نقل عائلات..

منذ سيطرتها على مدن رأس العين وتل أبيض في شرق الفرات نهاية أكتوبر، تلقى مسلحو المليشيات السورية التابعة لأنقرة، اتهامات واسعة بإرتكاب عمليات تخريب وسرقة ونهب وسلب واستيلاء على المنازل والممتلكات العامة والخاصة، على غرار ما حدث ولا يزال يحدث في منطقة عفرين شمال غرب سوريا، دون خشية من عواقب ذلك مستقبلاً.

وفي بداية نوفمبر، كشفت مواقع سورية معارضة طلب قادة مليشيات “الجيش الوطني السوري”، من مسلحيها، بيانات عوائلهم الراغبين بالانتقال من مناطق شمال غرب سوريا المعروفة بـ“درع الفرات وغصن الزيتون”، إلى مناطق شمال شرق سوريا المسماة بـ “نبع السلام”، في الوقت الذي كانت لا تزال فيه المعركة محتدمة، عقب شهر من انطلاقها.

الأمم المتحدة..

ومما يشير إلى أمتلاك تركيا ذلك الضوء الأخضر لإجراء التغيير الديموغرافي المنشود من قبلها، إبلاغ الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في الأول من نوفمبر، بأن المنظمة الدولية ستنظر في خطة تركية تهدف إلى نقل قسم من اللاجئين السوريين الموجودين في البلاد إلى “منطقة آمنة” في سوريا، عقب أن عرض أردوغان تلك الخطة على غوتيريس، خلال اجتماع جرى عقده في اسطنبول، وفق ما أفادت الأمم المتحدة، في بيان، وأكد غوتيريس ضرورة احترام “المبادىء الأساسية المرتبطة بالعودة الطوعية والآمنة واللائقة للاجئين” إلى بلدانهم الأم”.

وقال البيان إن غوتيريش “أبلغ الرئيس (أردوغان) بأن المفوضية العليا للاجئين في الأمم المتحدة ستعمد فوراً الى تشكيل فريق للنظر في هذا الاقتراح وإجراء مباحثات مع السلطات التركية في إطار التفويض الممنوح لها”، في أعقاب تطمين أردوغان مراراً بأن عودة اللاجئين السوريين ستكون “طوعية”، وهو ما لا يبدو حقيقياً أذ أشارت منظمتا العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش في أكتوبر، بأن أنقرة رحلت بالقوة سوريين إلى بلادهم، خلال الأشهر التي سبقت الهجوم التركي في شمال شرقي سوريا.

إدان واستنكار..

موقفٌ مفاجئ فيما يبدو من الأمم المتحدة التي ربما كان ينتظر منها السوريون في شمال سوريا موقفاً مغايراً، يستنصر لهم، عقب هجوم يؤمنون بأنه ظالم وباطل بحقهم، ويهدف إلى إخراجهم من أرضهم وتوطين آخرين بدلاً عنهم بحجة أنهم سوريون، وكان الذين يتم تهجيرهم من تلك المناطق ليسوا بسوريين، أو كأن جميع اللاجئين من شرق الفرات، وليس جلهم من دمشق وحلب وحمص وغيرها، وفي هذا السياق، قالت “الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا” في الثاني من نوفمبر، إن “الاحتلال التركي يحاول بعد احتلاله لمناطق سري كانييه/رأس العين وكري سبي/تل أبيض تغيير هوية هذه المناطق بشتى الوسائل والعمل على توطين لاجئين وذلك بالتنسيق مع الأمم المتحدة”.

ورفضت الإدارة الذاتية بالمطلق تلك السياسات وهذه التوجهات التركية، مناشدة الرأي العالم العالمي التحرك لمنع كارثة بحق أهالي وسكان مناطق شمال سوريا، مطالبة الأمم المتحدة بالعمل على منع ذاك المشروع التركي الذي سوف يلحق الضرر بالمنطقة وسيسبب المزيد من اللااستقرار وسيطور صراعاتٍ مذهبية، عرقية ومجتمعية، كما سيشوه الحقائق التاريخية والمجتمعية، وأكدت الإدارة الذاتية إن صمت الأمم المتحدة حيال الممارسات التركية يعني تأييد حقيقي لها، وتعاونً على تهجير شعب شمال سوريا من مناطقه.

رفض مجتمعي..

ودفع موقف الأمم المتحدة 32 من الأحزاب والقوى السياسية العربية والكردية والسريانية في شمال وشرق سوريا، لتوجيه رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرس، في الثالث من نوفمبر، حول مساعي تركيا لإضفاء الشرعية لاحتلالها للأراضي السورية عبر جر الأمم المتحدة لتبني “خطواتها الأحادية في سوريا والرامية لإعادة إنتاج الإرهابيين”.

وقالت تلك الأطراف إن “الهدف التركي المباشر لهذا الغزو والاحتلال هو تهجير السكان الأصليين (تجاوز عددهم 300 ألف شخص) وإحداث التغيير الديمغرافي في المنطقة، وخلق “منطقة آمنة للإرهابيين” من خلال إسكان الفصائل السورية المرتزقة والإرهابيين المرافقين لهم في مدن وبلدات المنطقة وتحويل المنطقة إلى بؤرة تعيد فيها إنتاج حالة راديكالية متطرفة وتنطلق منها لتهديد الأمن الوطني والإقليمي والدولي”.

مطالبة بالتجاهل..

فيما اتهمت دائرة العلاقات الخارجية في الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا في ذات التاريخ، تركيا ومسلحيها بتطبيق التهجير القسري لأهالي المناطق التي سيطرت عليها تركيا، وقالت أنه يندرج ضمن جرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية، مؤكدةً إن إبعاد السكان أو النقل القسري للسكان، متى ارتكب في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد أية مجموعة من السكان المدنيين يشكل جريمة ضد الإنسانية.

وطالبت الإدارة الذاتية، الأمم المتحدة بتجاهل دراسة المقترح التركي الساعي لتوطين عوائل المسلحين “في مناطقنا والعمل على تشكيل لجنة تقصي الحقائق والإطلاع على ممارسات تركيا ومرتزقتها وأوضاع المهجرين قسرياً نتيجة للعدوان التركي”، مشيرةً كذلك بأنه يمكن للأمم المتحدة والقوى الفاعلة في سوريا إعادة اللاجئين السوريين إلى مناطقهم في كافة أرجاء سوريا بعد تهيئة الأجواء وتأمين الاستقرار فيها.

قطر تموّل..

ويبدو أن للدور القطر المُريب مكان هنا أيضاً، إذ نشر موقع أحوال تركية المعارض في السابع من نوفمبر، تقريراً عن الدور القطري المتنامي في دعم الاحتلال العسكري التركي لأجزاء من الأراضي السورية، وجاء تقرير بعنوان (هل تقوم قطر بتمويل مدن أردوغان الموعودة شمال سوريا؟)، ونوّه التقرير إلى أن قطر دأبت على توظيف أموالها في سبيل دعم أنشطة الجماعات المتشددة، وتحرص على نشر فكر تنظيم الإخوان المسلمين في المنطقة والعالم، بحسب ما يلفت مراقبون، وأصبحت تتباهى بانسياقها وراء المشروع التركي المعادي لسوريا، والمتجسد بالغزو والاحتلال لمناطق في سوريا.

ونوّهت الصحيفة التركية إلى عدم استبعاد أن تقوم الدوحة بتمويل مشاريع أردوغان ومغامراته في سوريا، وذلك لإظهاره بصورة الزعيم الذي يفي بكلمته ووعده أمام الرأي العام المحلي والدولي، وأنّه تمكن من تخفيف معاناة اللاجئين السوريين، وقام بتوطينهم في أرضهم، وتأمين الحماية والأمان لهم.. وذلك بالتزامن مع تجاهل مخططات أردوغان الرامية لتنفيذ تطهير عرقيّ وتغيير ديمغرافي في المنطقة، وطرد السكّان الأكراد منها وإحلال العرب السنة فيها، ولاسيما من عناصر الميليشيات الإسلامية المحسوبة على المعارضة السورية وعائلاتهم المستقدمة من مناطق سورية أخرى، ومن بعض مَن يقيمون داخل تركيا، (والذين يتبعون بالمجمل لتنظيم الإخوان المسلمين).

أنقرة تشكر الدوحة..

وفي اللقاء الذي عقده وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو مع أمير قطر تميم بن حمد آل ثاني، في العاصمة الدوحة، أبلغ أوغلو شكر أردوغان لتميم لدعمه العملية العسكرية التركية على سوريا. وكتب الوزير التركي في تغريدة له عبر حسابه على “تويتر”: “خلال لقائنا مع أمير قطر الشقيقة، سمو الشيخ تميم بن حمد بن خليفة آل ثاني، في الدوحة، بلغنا لسموه تحيات رئيس الجمهورية التركية السيد رجب طيب أردوغان. نشكر قطر على دعمها لعملية نبع السلام.”

ونوّهت الصحيفة أنّ المنافع المتبادلة بين قطر تركيا اللتين يربطهما الفكر الإخواني تتطور لتصبح صيغة من صيغ الشراكة الاستراتيجة بحسب البلدين، وبحسب المحللة سينثيا فرحات الباحثة في منتدى الشرق الأوسط، يمكن للإخوان استخدام تنظيم “القاعدة” كقوة للتفاوض مع الأنظمة العربية، لترهيب معارضيهم ولإحياء المشاعر الجهادية التي ستساعد جهود التجنيد في الإخوان. وذلك ما من شأنه أن يفيد قطر وتركيا في زعمهما محاربة المتشددين من جهة، في حين أنهما تقدمان الدعم والتمويل لهم من جهة ثانية.

ترحيل آلاف اللاجئين..

وفي تأكيد على تقارير عن ترحيل اللاجئين السوريين من تركيا، قال أردوغان في العاشر من نوفمبر، أن 365 ألف سوريٍ قد عادوا إلى سوريا، واصفاً ذلك بأنه عودة منهم إلى ديارهم ومنازلهم في المناطق التي وفرت القوات التركية فيها الأمن على حد زعمه، وقال أن العمليات العسكرية التي قامت بها تركيا في سوريا، تكللت بالنجاح، مشيراً إلى أنّ ”العمليات أدت إلى استتباب الأمن في مساحة تزيد عن 8 آلاف و100 كيلو متر مربع“.

ضوء أخضر أمريكي..

وخلال مؤتمر صحفي عقده أردوغان مع نظيره الأميركي دونالد ترامب في واشنطن في الرابع عشر من نوفمبر، صرّح الرئيس التركي بإنه يرغب بإعادة توطين مليوني سوري في المنطقة الآمنة التي يتم إنشاؤها شمال سوريا، وأشار إلى أن هدف أنقرة هو إقامة “منطقة آمنة” تمتد من الحدود العراقية السورية إلى مدينة جرابلس، فيما ادعى الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن الاتفاق في شمال سوريا متماسك، وهو ما أمكن أعتباره ضوءاً أخضراً من أمريكا بتوطين اللاجئين السوريين في شمال سوريا، على الرغم مما يعنيه ذلك من ضرب للعهود والمواثيق الدولية التي تنظم إعادة اللاجئين إلى مواطنهم الأصلية، وليس توطينهم محل آخرين جرى تهجيرهم لأسباب عرقية أو طائفية.

تطهير عرقي..

وهو ما دفع مدير المركز الإعلامي لقوات سوريا الديمقراطية، مصطفى بالي، في السادس عشر من نوفمبر، للتأكيد على أن تركيا تحمل مشروعاً للتغيير الديمغرافي في شمال سوريا لصالح التركمان، وقالَ بالي في تغريدةٍ له على تويتر: «يخطئ من يعتقد أن الأتراك سيهجرون الكرد لإسكان العرب محلهم لتعريب الشمال السوري، فهذا الأمر كان من اختصاص البعث فقط»، وأضاف: «الأتراك سيهجرون الكرد والعرب والسريان لإسكان التركمان الإيغور الصينيين كجزء من ميثاقهم المللي».

البحث عن مانحين..

وفي إطار مساعيها لتحويل مخططاتها إلى واقع، قال أردوغان في السادس والعشرين من نوفمبر، إن قطر يمكن أن تدعم خطط تركيا لتوطين ما يربو على مليون لاجئ في شمال شرق سوريا بعد هجومها على قوات سوريا الديمقراطية في المنطقة، وهو حديث تزامن مع مقترحات تركية لعقد قمة دولية للمانحين لدعم خطتها، فيما يقول مسؤولون غربيون إنهم سيعزفون عن تمويل أي مشروع ينطوي على عودة غير طوعية للاجئين أو إدخال تغييرات على التركيبة السكانية في سوريا، وهو ما لا يبدو أن لأنقرة مقدرة عليه، كونه يمثل جوهر المسعى التركي.

وقال أردوغان للصحفيين أثناء رحلة العودة من زيارة إلى الدوحة إنه عرض خططه على أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني وإنه ”أعجبته مشاريعنا“، ورداً على سؤال عما إذا كانت قطر ستسهم في تمويل الخطط قال ”إنهم في مرحلة: ’يمكننا أن ننفذ هذه الجهود معاً، ما من سبيل آخر في الواقع“.

المنطقة غير الآمنة..

بدورها تطرقت جريدة «ذي إندبندنت» البريطانية، في الثاني من ديسمر إلى عمليات «تطهير عِرقي» موسعة تُجرى داخل المنطقة الآمنة، التي تزعم أنقرة إقامتها في شمال سوريا، وقالت إن «العدوان التركي في شمال سوريا، تسبب في نقلة ديموغرافية في المنطقة يخشى كثيرون أنها ستكون دائمة».

وقالت الجريدة، في تقرير نشرته، إن «عمليات القتل الوحشية ليست خافية على أحد. فمنذ اللحظات الأولى لبداية الغزو التركي في شمال سوريا، سجَّل المقاتلون الذين أرسلتهم أنقرة عبر الحدود للقيام بالمهمة، جرائمهم بفخر»، في إشارة إلى مقاطع مصوَّرة انتشرت على مواقع الإنترنت تُظهر ارتكاب مسلحي ما يُعرف بـ “الجيش الوطني السوري”، التابع لـ أنقرة، انتهاكات عدة، بينها إعدامات خارج نطاق القانون، والتمثيل بالجثث، وتهديد الأكراد، والنهب على نطاق واسع؛ ما ترك آثارًا مهولة من الرعب في نفوس عشرات الآلاف من المدنيين.

وأضافت، أن «البعد الإثني لعديد من الجرائم، تسبب في عمليات نزوح موسعة للأكراد والأقليات الدينية» من المنطقة المعروفة تاريخيًا بتنوعها الإثني، فيما يخشى النازحون من المنطقة، المتكدسين في معسكرات للنازحين بشمال شرق سوريا والعراق، عدم تمكنهم من العودة إلى مناطقهم أبدًا، فيما يبدو أن هذا هو الهدف الرئيسي من الغزو التركي في المقام الأول، حسب الجريدة.

صمت وابتزاز..

والاستنتاج نفسه وصلت إليه البعثة الدبلوماسية الأمريكية في سوريا؛ حيث انتقد الدبلوماسي وليام روبوك، في مذكرة داخلية، صمت الإدارة الأمريكية؛ إزاء ما يحدث في شمال سوريا، وقال: «تهدف العملية العسكرية التركية في شمال سوريا، التي تقودها جماعات مسلحة موالية لها، عمدًا إلى التطهير العِرقي والاعتماد على صراع عسكري واسع النطاق، يستهدف جزءًا من قلب الأكراد، مستفيدًا من الدعاية التي تثير الخوف على نطاق واسع».

ويمكن أخيراً الإشارة إلى أن توطين اللاجئين السوريين محل السكان الأصليين من مختلف مكونات شرق الفرات وخاصة الكُرد منهم، سيتحول رويداً رويداً إلى واقع، بالنظر إلى التراخي الدولي مع الجانب التركي، الذي يبدو وكأنه يستخدم لغة العصا والجزرة مع واشنطن وموسكو، وليس كما كان يعتقده كثيرون عن رؤية معكوسة لتلك، فتركيا التي تمسك بالصواريخ الروسية للضغط على واشنطن، يبدو أنها تمسك بملفات أخرى على موسكو، وأيضاً أوروبا، وهو ما يجعلها حالياً في موضع قوة وتحكم، إلا إن قرار أحد اللاعبين الدوليين وضع حد لأبتزازها.

ليفانت-خاص

—————–

مملوك في القامشلي: إعادة الأكراد إلى كرديتهم/ عبدالناصر العايد

منذ أيامها الأولى، انصبت مقاومة النظام للثورة السورية، على تصويرها كتمرد مسلح للعرب السُنّة، وحصرها بهذا النطاق الاثني والمذهبي، لتنفير بقية المكونات السورية منها، وتخويف العالم من تحولها إلى محطة جهادية جديدة.

ونجح النظام بابعاد مختلف الأطياف السورية عن “الثورة”، وترك العرب السنّة في الميدان وحدهم، متبعاً شتى الوسائل. وخدم أطياف من المعارضة السورية دعاية النظام تلك، خاصة الإسلامية منها، بل ودعمتها بأمثلة لا يمكن دحضها سياسياً.

في المقلب الآخر، التقط الطرف الكردي ممثلاً بحزب “الاتحاد الديموقراطي”، إشارات النظام مبكراً، واختط لنفسه طريقاً مضاداً للثورة السورية، وغير متطابق مع خط النظام ظاهرياً، لكنه يقع في صلبه وظيفياً. حزب “الاتحاد” بوصفه كردياً يسارياً، لم يقبل الانخراط في ثورة “العرب السنة”، وبالتالي اسباغ صفة وطنية تعددية وديموقراطية على الجانب الثوري، لا بل ساهم في تصويرها ودفعها لأن تكون ثورة العرب السنة، حين انفض الجميع عنها. الحزب الكردي أعلن بعد التبرؤ من الثورة السورية، ثورته الخاصة “ثورة روج آفا” المقلقة لتركيا، حليفة المعارضة المتحمسة.

لم تسمح الأوهام لا للعرب السنة، ولا لقادة “العمال الكردستاني” من الأكراد “القنديليين”، بفهم سياسة نظام الأسد البرغماتية، التي اثبتت تفوقها عندما يتعلق الأمر بالمؤامرات والدسائس والخداع. العرب ظنوا أنهم بكثرتهم ودعم دول في الاقليم لهم قاب قوسين أو ادنى من القفز إلى السلطة، وعندها لن يسمحوا لبقية المكونات بالاعتراض. ثمة فئة في المعارضة تستمد قوتها من تركيا، اعتقدت أن طريقها إلى السلطة، يمر على جثة طموحات الأكراد السوريين، فأمعنت بالضغط على هذه النقطة. فيما وجد أكراد قنديل أنهم وعلى غير توقع، يستطيعون انشاء وطنهم “الحلم” في الجزء السوري من كردستان، أضعف الأجزاء، ومنها القفز إلى هضبة الأناضول الدسمة.

لكن الحضور الاميركي المفاجئ أيضاً، والتحالف مع “وحدات حماية الشعب” الكردية، وتحويلها إلى “قوات سوريا الديموقراطية”، حرف مسار ومصير حزب “الاتحاد الديموقراطي”، وحوّل وجهة أحلامهم بعيداً عن الاستئثار بالقامشلي وبعض البلدات الحدودية من المالكية إلى عفرين. فوسّع قادة قنديل اهتمامهم إلى مناطق وثروات في العمق العربي، ليس بمستطاعهم حكمها والسيطرة عليها، من دون غطاء “وطني” ورضى تركي.

وهكذا بدأت دعاية كوادر قنديل المسيطرة في شمال شرق سوريا تتغنى “بوحدة الشعوب”، وبالأمم الديموقراطية المتعايشة في كنفها، وأعلن قادة الحزب و”قسد” ألا نوايا انفصالية لديهم، بل ووافقوا على الانسحاب من المنطقة الحدودية، والسماح لدوريات تركية وأميركية بمراقبة خط الحدود.

أبعد من ذلك، أرسل قائد “قسد” مظلوم عبدي، عبر الأميركيين وبتوجيه منهم، رسالة سرية إلى الائتلاف السوري المعارض الذي يتخذ من اسطنبول مقراً له، يعرض عليهم التحالف معهم، وإتاحة المنطقة التي تسيطر عليها قواته كمرتكز ومقر للمعارضة السورية، وكان الرد على تلك الرسالة ببساطة شديدة: إعلان الرئيس التركي رجب طيب اردغان، بدء معركة “نبع السلام”، ساحباً خلفه المعارضة المتحالفة معه، لقطع الطريق على أي طرح من هذا النوع، الآن، وفي المستقبل.

التدخل التركي، معطوفاً على الانسحاب الأميركي من المنطقة الحدودية حيث الكثافة السكانية الكردية، سمح لنظام الأسد بالبدء بالمرحلة التالية من مخططه طويل الأمد.

بعدما تمكن الأكراد من تجريد الثورة السورية من سلاح “الوطنية”، بالتعاون مع فئات أخرى، على رأسها المعارضة السياسية والعسكرية السورية، حان دورهم ليتهموا باللاوطنية، ويتم تمييزهم كانفصاليين، وعزلهم كمكون مضاد لبقية المكونات السورية الأخرى، وصولاً إلى اخضاعهم مجدداً، وإعادة الامور إلى ما قبل 2011، على النحو الذي يتخوف منه قادتهم.

ويخدع قادة حزب “الاتحاد الديموقراطي” أنفسهم، قبل أن يخدعوا جمهورهم، بالقول إنهم يستندون في المرحلة الحالية على “الضامن” الروسي، وإنهم يضعون أيديهم بيد قوة عظمى “أخرى”، لكنهم يتناسون أن هذه القوة هي اليوم أقرب حلفاء خصمهم التركي، ألد أعدائهم، وأن موسكو حضرت من مكانها القصي لتنقذ نظام الأسد، لا لتحقيق حلم الأكراد القومي. وفوق ذلك يخفون عن جمهورهم ما طرحه الروس على عبدي ورفاقه، وهو “نسخة” من الدستور الروسي المقترح، الذي سبق وأن تسلمته المعارضة السورية في أستانة، والذي لا يقدم للأكراد، شيئاً أبعد من بعض الحقوق الثقافية، وإدارة محلية لمناطقهم، تحت سلطة وهيمنة المركز سيادياً، أي تقديم شيء للأكراد بما هم أكراد، كأقلية بين الأقليات الأخرى المنضوية تحت حماية النظام لا أكثر ولا أقل. وما رفضوه مبدئياً، أي الدستور الروسي، سيوافقون عليه في نهاية المطاف، كخيار وحيد متاح.

في هذا السياق، جاءت زيارة ما يوصف بالرجل الأول في جهاز بشار الأسد الأمني، اللواء علي مملوك، الذي اجتمع بعدد كبير من شيوخ القبائل الكبيرة والصغيرة، التي تحاصر التجمعات الكردية في الشمال وتتغلغل بينها. وطلب مملوك إليهم، لا سحب أبنائهم فقط من “قسد”، لاظهار تلك القوات  بمظهر “كردي” قح وتمييزها وعزلها، بل وايضاً دعاهم لممارسة سلطتهم في المنطقة، والتمتع بكونها “منطقتهم” وأنهم كـ”عرب” أسيادها، كما كانوا قبل العام 2011. وهو طرح لا يتضمن على الإطلاق محو الهوية الكردية أو إلغاء الوجود الكردي، فهو حاجة مُلحّة للنظام، ما دام الخلاف مع تركيا قائماً، بل ومطلوب أكثر لجعل العرب أكثر التصاقاً بالنظام، بعدما تبين لأبناء العشائر العربية، إن لا كيان سوى “البعث” يستطيع حمايتهم من أطماع “الكردستاني” ومخططاته الانفصالية.

المدهش، إن القيادات والنخب الكردية الفاعلة، لم تخالف توقعات النظام أيضاً، وهي بدأت تعلي رويداً رويداً من نغمة كفاح “الكرد” و”كردستان الغربية”، وبدأ صعود القادة الأكثر التصاقاً بايديولوجيا قنديل، مثل ألدار خليل وعصبته من كوادر قنديل المتشددين، فيما يخبو نجم كل من مظلوم عبدي والهام أحمد، اللذين يقودان تياراً “أقرب” إلى الوطنية السورية من التيار الأول.

خسرت المعارضة السورية بسبب ضيق افق القائمين عليها، الأرض والجمهور، وتتعلق اليوم بأنقرة وعدائها للأكراد كخشبة نجاة وحيدة. فيما خسرت الحركة الكردية مناطق مهمة، وتسير على طريق خسارة الجمهور الذي بدأت نخبه ونشطاؤه بالقفز من السفينة الآيلة إلى الغرق. ويتخذ “الاتحاد الديموقراطي” بدوره من العداء للمعارضة السورية الرسمية، خشبة نجاة وحيدة له. وكلاهما سيخسر في النهاية، فيما سيكسب نظام الأسد، وقد يستمر انتصاره إلى حين ظهور طبقة سياسية سورية جديدة، بريئة من الأوهام، ومتمسكة بكل قواها، بخشبة الخلاص الوحيدة؛ الوطنية الديموقراطية السورية.

المدن

—————————————-

تركيا أمام تحديات جديدة/ بكر صدقي

أثارت تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بشأن إمكانية إرسال جنود أتراك إلى ليبيا، وبشأن احتمال الرد على العقوبات الأمريكية، في حال دخولها مرحلة التطبيق، بإغلاق قاعدتي إنجرلك وكورجك العسكريتين، مخاوف كبيرة في الرأي العام التركي. فالتصريحان ينذران بدخول تركيا في صراعات خارجية جديدة تضاف إلى تلك الموجودة مسبقاً، وإلى المشكلات والتحديات الداخلية التي تعني حياة كل مواطن، كالأزمة الاقتصادية والانشقاقات السياسية عن الحزب الحاكم وغيرها الكثير من المشكلات التي تحتاج إلى معالجات سريعة.

فبالنسبة لليبيا التي تعيش صراعاً داخلياً بين حكومتي السراج وحفتر، وصراعات دموية بين فصائل إسلامية متناحرة، والصراع الإقليمي الذي يخاض فيها بواسطة حروب الوكالة، من شأن التدخل العسكري التركي ـ إذا حدث ـ أن يزيد الأمور تعقيداً في ليبيا ويزيد تورط تركيا في صراعات المحاور الإقليمية وانعكاساتها المحتملة على الداخل التركي. صحيح أن الموقف التركي يستند إلى شرعية أممية من خلال اتفاق التعاون الموقع بين أنقرة وحكومة طرابلس الشرعية، لكن الحكومة المذكورة هي الطرف الأضعف في الصراع الداخلي من حيث توازن القوى بينها وبين قوات حفتر المدعومة من المحور السعودي ـ المصري ـ الإماراتي من جهة، ومن موسكو من جهة ثانية، من غير أن تكون واشنطن ضدها. كأننا، هنا أيضاً، أمام حالة تشبه حالة نظام بشار الكيماوي في دمشق الذي يتمتع بدعم ثابت من روسيا وإيران، من غير أن يعني ذلك عداء القوى الدولية والإقليمية الأخرى له. يتمتع حفتر إذن بموقع سياسي راجح من حيث الدعم الخارجي على رغم افتقاده إلى الشرعية الأممية، وذلك من خلال انخراطه في محاربة المجموعات الإسلامية المسلحة، بما يلبي أجندات دولية وإقليمية وازنة.

كان الدعم التركي لحكومة السراج، إلى الآن، في مستوى لا يلفت الأنظار ولا يستثير ردود فعل سياسية من الدول المنخرطة، بشكل أو آخر، في الصراع الليبي. أما الآن فقد بات التدخل العسكري مطروحاً على الطاولة، ولو على مستوى التصريحات التي يمكن أن تكون وظيفتها مقتصرة على إعلان القدرة على التدخل وشرعيته، وما ينتج عن ذلك من حسبان الحساب للدور التركي في أي ترتيبات سياسية. قد يمنح هذا الوضع الجديد أنقرة ورقة ضغط على المحور الذي تقوده السعودية، ليس في ليبيا فقط، بل في مجمل الصراعات الإقليمية، لكنه ينطوي على المخاطر أيضاً مثله مثل أي ورقة ضغط قد تكون سبباً للربح أو للخسارة وفقاً لظروف تكون خارج إرادة صاحبها.

أما إذا اندفعت القيادة التركية إلى تحويل التصريحات إلى واقع على الأرض، من خلال إرسال قوات عسكرية، مهما كان حجمها محدوداً، بناء على طلب حكومة السراج، فسوف تكون تركيا أثبتت أنها لاعب إقليمي لا يمكن تجاهله، مثلها مثل إيران. لكن وجود تلك القوات في ليبيا سيعرضها إلى مخاطر أمنية مباشرة لا يمكن التنبؤ بعواقبها. من هنا منشأ المخاوف من مغامرة مماثلة لا يمكن ضمان الفوز فيها. أما بشأن تهديدات الرئيس التركي بإغلاق القاعدتين العسكريتين رداً على العقوبات الأمريكية القادمة، فهي مقامرة شديدة الخطورة من شأنها وضع موقع تركيا الاستراتيجي كعضو في حلف شمال الأطلسي موضع تساؤل جدي. ويختلف الأمر بين حالتي القاعدتين من حيث وظيفتيهما العسكريتين. ففي حين أمكن للحلف الاستغناء عن قاعدة إنجرلك الجوية في حالات توتر سابقة أغلقتها فيها تركيا بصورة مؤقتة، يبدو الأمر مختلفاً تماماً بالنسبة لقاعدة كورجك التي هي جزء من شبكة الدرع الصاروخية الأطلسية في مواجهة أي تهديدات محتملة ضد الدول الأعضاء بواسطة الصواريخ البالستية. ولا يمكن لحلف الأطلسي أن يستغني عن خدمات هذه القاعدة التي تؤمن شبكة وقاية ضد أي هجمات صاروخية مفاجئة. من هنا يمكن قراءة تهديدات أردوغان باعتبارها نوعاً من الضغط على أمل أن يؤدي إلى تعليق العقوبات الأمريكية المتوقع تنفيذها بسبب إصرار أنقرة على إتمام صفقة شراء صواريخ إس 400 الروسية. وتراهن أنقرة على استخدام الرئيس الأمريكي حق الفيتو بشأن العقوبات على تركيا، بناء على العلاقة الخاصة بين الرئيسين. غير أن إجراءات العزل ضد ترامب في الكونغرس الأمريكي تضعف قدرته على مقاومة ضغط الكونغرس. لذلك يبدو أمل أنقرة في إنقاذ ترامب للوضع في اللحظة الأخيرة أقرب إلى السراب.

كتب المحلل السياسي مراد يتكين في مدونته على شبكة الانترنت يقول إن اجتماعات كثيرة تعقد، هذه الأيام، في أنقرة وإسطنبول، وراء أبواب مغلقة، في مراكز أبحاث مقربة من الحكومة التركية، بحثاً عن وسائل مواجهة العقوبات الأمريكية التي باتت قدراً لا مفر منه. وأضاف مشبهاً الوضع بقطارين يتجهان، بأقصى سرعتيهما، إلى لحظة التصادم، مع العلم أن «القطارين ليسا من الوزن نفسه».

كاتب سوري

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى