أفلام

«جوكر» للأمريكي تود فيلبس… الجماهيرية التي شوشت على الفنية/ سليم البيك

نقطة القوة في هذا الفيلم، وهي ما قد يعتبره البعض نقطة ضعف، هو جمعه بين الجماهيرية والنخبوية، فلا الأولى تدين الأخيرة ولا الأخيرة تحيّد الأولى، هنا. ولهذا السبب، غالباً، استطاع الفيلم أن يجمع بين أقصى التناقضات في الرأي حوله، وإن كنتُ بعد، لا أفهم جيداً الآراء الحادة في سلبيتها تجاهه، فهو وإن احتوى عنصراً أساسياً كان محبِطاً نوعاً ما، ومع ذلك فهو من تلك الأفلام المهمة التي يختلف الناس في الرأي حولها، فتنال تقييمات متطرفة في سلبيتها تجاهه، ليصير، بعد أعوام، فيلماً مرجعياً فنياً، كحال أفلامٍ، سأشيرُ إليها في نهاية المقالة.

رأيي، إذن، في الفيلم واضح، هو أنه أحد الأفلام الكبرى التي خرجت هذا العام، والضجة التي أثيرت حوله أساءت لقيمته الفنية، فدخول الفيلم «المعترَك» الجماهيري لا بد أن يشوش على فنيته. أقول ذلك للسيناريو القوي فيه، للإخراج (تود فيلبس، وهو صاحب أفلام تافهة) والسينماتوغرافيا الممتعين، للأداء الرائع لخواكيم فينيكس، للموسيقى المكملة لكل ذلك. الصورة والصوت في الفيلم، الحكاية والشخصيات، كانت كلها بالمستوى الذي يسمح لهذا الفيلم بأن يستحق الجانب الإيجابي من التقييمات حوله، وأن يستحق كذلك جائزة «الأسد الذهبي» في مهرجان «فينيسيا» السينمائي في دورته الأخيرة.

كي لا أُبقي كلمة «محبِط» أعلاه معلقة في الأذهان، سأشير إلى المقصود سريعاً كي أتوسع في الكتابة عما أحببت في الفيلم، العنصر هو، باختصار، البعد السياسي الاجتماعي في الفيلم، تلك المظاهرات التي لا مبرر لها. فإخراج الحالة النفسية لجوكر (آرثر) وعرضها على المجتمع، كسرَ الكثافة السيكولوجية في ما نشاهده، عومها ومددها ليَخرج الفيلمُ من دواخل جوكر إلى المجتمع، ولم يكن الفيلم، لثقله نفسياً، أن يحتمل ذلك. قد يكون ذلك البعد، كغيره العديد من مَشاهد الفيلم، جارياً في ذهن جوكر، لكننا كمشاهدين تعرضنا له كجزء من الفيلم، كانت حاصلة في ذهنية جوكر أم واقعه، لا يهم. أتت المَشاهد وحرفت الفيلم عن الحالة السيكولوجية العميقة والقاسية والمكثفة، التي نقلها الفيلم على طوله، فأحبطت الحالة ولم تثورها (بخلاف ما نراه سطحياً).

في النهاية، قام جوكر بخلاص فردي همه كان نفسه، مأساته الشخصية، وتصرفَ على هذا الأساس. هنا نعود إلى المؤثر الأول في هذا الفيلم وهو مارتن سكورسيزي، وتحديداً فيلمه «سائق التاكسي» (1976) الذي أدى البطولة فيه روبرت دي نيرو (الحاضر في «جوكر» كذلك)، فالحالة هي ذاتها لدى ترافيس في «سائق التاكسي» وآرثر في «جوكر»، السيكولوجيا لديهما هي ذاتها، العزلة والوحدة الداخلية، الحالة الاجتماعية البائسة وكذلك العاطفية، محاولة الخلاص الفردي بالعنف، بمسدس للقتل بدون مبرر للقاتل سوى ما يخص كينونته كإنسان مهمش في هذا المجتمع، وإن ذهب آرثر أبعدَ في كل ذلك، مقارنة بترافيس. وهذا يعيدنا كذلك إلى الوجودية في الأدب إذ كانت رواية «الغريب» أحد المراجع الأساسية لبول شرايدر كاتب سيناريو «سائق التاكسي» هنالك كذلك حيث القتل غير المبرر سوى لرغبة جوانية لدى مرتكبه.

إضافة إلى فيلم سكورسيزي هذا، هنالك آخر له كان كذلك مؤثراً على «جوكر» هو «ملك الكوميديا» (1982) وهو كذلك من بطولة روبرت دي نيرو. في «جوكر» يعمل آرثر مهرجا، طامحاً لأن يكون كوميدياً، يؤدي عروض «ستاند آب»، يُضحك الناس بنكاته. كذلك ربرت في الفيلم الآخر، فهو كوميدي طامح لأن يلقى اعترافاً ما، يصير مع الوقت مهووساً، بشكل بائس وسوداوي، ببرنامج مسائي ترفيهي تلفزيوني، وهو كذلك حال آرثر في «جوكر» الذي يعيش أحلام يقظة حول برنامج مسائي، يتخيل نفسه أحد ضيوفه، قبل أن يسخر منه مقدم البرنامج على التلفزيون، فيقرر آرثر الانتقام لكينونته، لوجوده ككوميدي ولإدراكه لنفسه ككوميدي.

للفيلم علاقة قوية، تبعية، بالفيلمين المذكورين أعلاه، بخلاف سلسلة أفلام «باتمان» والجوكر فيها، فلا علاقة لتلك السلسلة بـ«جوكرنا» هنا، بالمرة. نحن هنا أمام فيلم سيكولوجي تماماً، بل وبدرجة ممتاز، ولسنا أمام حلقة من أفلام الأبطال الخارقين التافهة. وآرثر ليس شريراً هنا، هو بطل تراجيدي قِيدَ إلى حتفه، بالمعنى الإغريقي للكلمة. هو ليس «الشرير» مقابل «الخير». ليس في آرثر حتى بوادر الشر. هو مدرك أنه في حالة نفسية غير عادية، يُصاب بنوبات ضحك هستيرية، يعتذر من الآخرين إن أتته النوبات في الأمكنة العامة فيُخرج لهم بطاقة تشرح حالته المرَضية. أما القتل الذي ارتكبه جوكر في الفيلم، والعنف الذي رافق ذلك، فمن يظن أنه لشر فيه، كونه «الجوكر» فقد فاته أساسُ الفيلم، أي الجانب السيكولوجي فيه، المفسر لسلوك آرثر المغبون والمظلوم بشكل متطرف. هل مورسو في رواية ألبير كامو شرير؟ لا.. هل ترافيس في فيلم مارتن سكورسيزي شرير؟ لا.. هل شخصية الجوكر في أفلام وكتب كوميكس «باتمان» شريرة؟ نعم.

لذلك أردتُ أن يُبقي الفيلم على البعد السيكولوجي فيه، على المصير الدرامي لشخصيته الرئيسية التي تعمل مهرجا وتطمح لأن تكون كوميدية (ستاند أب كوميديا) تؤدي عروضاً على المسرح، شخصية مسالمة ساذجة طموحها أن تضحك الناس، فيها كل المآسي التي يصعب أن نجدها كلها في شخصية سينمائية واحدة: يُسرق ويُضرب من أطفال، يُطرد من عمله ظلماً، يعيش فقيراً وحيداً مع أمه التي يعتني بها، يعيش فانتازمات مع جارته، يكتشف أن أمه قد تبنته، وأنه قد تعرض لسوء معاملة وتعذيب كطفل، يُهان على التلفزيون، يتجاهله الجميع، وإن تكلم معه أحدهم فإما للسخرية أو لنوايا سيئة، وغير ذلك من الضربات النفسية التي يتعرض لها قبل أن يضع حداً حاسماً.

هذه كلها مادة كثيفة (جداً) لفيلم يجب أن لا يخرج من الحالة الجوانية للشخصية، تحديداً أننا هنا أمام أداء عظيم لفينيكس. هذه أسبابٌ تكفي كي يكون الفيلم دراسةً نفسية للشخصية، للبعد الوجودي في سلوكها، للمسار التراجيدي الذي يعيدنا إلى «أوديب» سوفوكليس، العاشق المفترَض لأمه وقاتل أبيه، ومن قتله جوكرُ في الفيلم هو ما يمكن أن يمثل أباه، المقدم التلفزيوني الذي أهانه على الهواء وقال له في فانتازمات آرث: «لو كان لدي ابن لوددت أن يكون مثلك»، قتله جوكر لعجزه عن قتل أبيه المجهول، وحتى عن قتل من ظنه أنه أبوه الذي هجر من ظن أنها أمه (سيقتله أخيراً أحدهم بقناع المهرج الذي تعمم تأييداً لجوكر، أي أحد الاستنساخات عن جوكر).

مع كل ذلك الثقل في فيلم ممتاز وأمكن أن يكون أفضل بكثير، أتى البعد الخارجي (الاجتماعي والسياسي) مُسطحا للبعد السيكولوجي فيه. لكنه يبقى، رغم ذلك، فيلماً رائعاً يحتاج بعض الوقت ليدرك، أناس أكثر، روعته.

لا ينتهي الحديث عن الفيلم هنا، والإحالات إلى أفلام عظيمة أخرى تتكاثر متى امتد الحديث عن «جوكر»، وأنا هنا أمام النوع المفضل (في حالات كثيرة) من الأفلام لديّ، يشبهها «جوكر»: «واحد طار فوق عش الوقواق» (1975) لميلوش فورمان، من حيث تطور الشخصية نفسياً ورفضها للسلطات. «الماستر» (2012) لبول توماس أندرسون، من حيث الاضطراب النفسي الذي تفاقمه الظروف. «البرتقال الآلي» (1971) لستانلي كوبريك من حيث الربط بين الضحك والعنف الفوضوي. «الإشعاع» (1980) لكوبريك كذلك، من حيث الخلط بين الواقع والخيالات، «سايكو» (1960) لألفرد هيتشكوك من حيث العلاقة مع الأم.

فهمٌ أكبر لـ«جوكر»، وتقييم أفضل له يمكن أن يكون بمشاهدة هذه الأفلام الرائعة، وغيرها.

٭ كاتب فلسطيني ـ سوريا

القدس العربي

لمشاهدة الفيلم اتبع احد الرابطين التاليين

الرابط الاول

فيلم جوكر للأمريكي تود فيلبس

الرابط الثاني

فيلم جوكر للأمريكي تود فيلبس

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى