ثقافة وفكر

"عزاءات الفلسفة".. وهم جديد بقالب التنمية البشريّة/ غيداء أبو خيران

يسخر الفيلسوف السلوفينيّ سلافوي جيجك Slavoj Žižek في إحدى مقابلاته من طلّابه الذين يقصدونه طالبين نصيحتَه في مشاكلهم الشخصيّة على اعتباره فيلسوفاً. “لا أدري. ما شأني؟ اذهب واقتل نفسك”، يجيب جيجك بأسلوبه التهكّمي. يعتبر جيجك أنّ الحكمةَ أقرفُ شيءٍ يمكن تخيّله؛ فهناك دائماً من سيأتي لتبرير الأشياء باسم “الحكمة”. أفكّر بذلك كلّما قرأتُ مقالاً أو شاهدتُ مقطعاً مصوّراً أو تعثّرتُ بكتابٍ يقدّم لنا الفلسفةَ على شكلِ شذراتٍ وحكمٍ ونصائحَ عمليّةٍ يمكن اتّباعها كطريقةٍ للحياة، وكأسلوبٍ ناجعٍ لحلّ المشكلات والتعامل مع الصّعوبات وتبرير القرارات والمواقف. أو الأسوأ، أن تُحوّل الفلسفة إلى “علاجٍ نفسيّ” لينضمّ إلى قائمة العلاجات الطويلة التي تزخر بها الحياة الحديثة.

أصبحت الفلسفةُ اليوم أداةً يتعامل معها العقلُ من منظور الحساب والفائدة، ويكتفي بتطبيق المعلومات والمعطيات بشكلٍ آليّ وميكانيكيّ دون أنْ يفتح أبواباً أخرى للسؤال والشكّ والنقد والمراجعة. “عزاءات الفلسفة”، و”الفلسفة للجميع” و”ماذا كان أرسطو سيفعل؟” و”تعلّم كيف تكون رواقياً في أسبوع”، وغيرها من العناوين التي تجعل الواحد منّا يفكر: متى بدأ الناس يقرأون الكثير من الفلسفة ويبحثون عن العزاء والعلاج فيها؟ أستعير هنا تساؤل نيتشه عن مثالٍ لشعبٍ استطاعت الفلسفةُ أن تردَّ له عافيتَه وصحتَه المفقودة، ثمّ إجابته بأنّها حين كانت -أي الفلسفة- تؤدّي دورَها بالخلاص والشفاء، فذلك أنّها كانت وسط شعوبٍ متعافيةٍ، “لقد ضاعفت الفلسفةُ دوماً من حالة الشعوب المريضة … وكلّما سعى فردٌ ما إلى الاكتفاء الذاتيّ، كانت الفلسفة جاهزة دائماً لمضاعفة عزلته وتحطيمه داخل هذه العزلة”.

التنمية البشريّة تغيّر اسمها

قبل عدّة أعوامٍ فقط كانت كتبُ التنمية البشريّة وعلم النفس الشعبيّ تنتشر كالهشيم، وعلى ما يبدو فقد سئمها الناس وما عادوا يؤمنون بجدواها. أو ربّما كلّ ما في الأمر أنّ موضتها انتهت، فباتوا يبحثون عن مصادر وتبريرات “فلسفيّة” أخرى يحقّقون من خلالها ذواتِهم، ويجدون فيها حلولاً عمليّةً لحياتهم. ولو بحثتَ في تلك الكتب وما يشابهها، ستجد أنّ الكثير منها ما هو إلا إعادة صياغة لتلك الأعمال. لكن كيف ستمشي عجلة الاستهلاك إنْ لم نُعِد تدويرَ وإنتاج كلّ تلك الأفكار القديمة بقوالب جديدة وخادعة؟ وكيف سيتعامل العالم مع فراغه إن لم نستمر في اختراع أنواعٍ من العلاجات؛ ليصبح لدينا العلاج النفسيّ، والعلاج بالموسيقى، والعلاج بالحيوانات، والعلاج بالفن، وأخيراً العلاج بالفلسفة. ولا ندري على أيٍّ نوعٍ من العلاجات سنحصل بعد عدة سنوات.

في كتابه “12 قاعدة للحياة: ترياق للفوضى”، يستعرض الطبيب النفسيّ وأستاذ علم النفس جوردان بيترسون Jordan B. Peterson  قواعده للحياة كما يشي العنوان. يسرد بعضاً من التقاليد القديمة والتعاليم المقدّسة والأساطير الدينيّة والفلسفة المتوارثة؛ خليطٌ يلمّ أطرافاً من هنا وهناك يعرضه على صورة نصائح محدّدة للعيش ومواجهة قسوة الواقع والحياة الليبراليّة. القاعدة رقم 3، على سبيل المثال، تقدّم النصحَ بتكوين صداقاتٍ وعلاقاتٍ اجتماعيّةٍ صحيّة. قاعدة واضحة تماماً ومُصَاغة بلغةٍ مبسّطةٍ، ولكنها أيضاً قولٌ مأثورٌ شائعٌ يمكننا العثور عليه في كتابات أرسطو وكونفوشيوس على سبيل المثال. هنا نجد إعادة تدوير للفلسفة وتسويقها في وعاء كتب المساعدة الذاتيّة.

تختزل هذه الكتب الفلسفةَ بتركيزها على التغيير الفرديّ دون تواصلها مع الأوضاع السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة الراهنة. “لا تلمْ الرأسمالية أو اليسار المتطرّف أو أعداءك.. إذا كنت لا تستطيع العثور على السّلام في منزلك فكيف تتجرأ بمحاولة السّيطرة على المدينة؟ … نظّم منزلك قبل انتقادك للعالم”. هنا يسرد بيترسون فلسفته في الحياة تحت قاعدة “رتّب غرفتك قبل أنْ تغيّر العالم”، مستعيراً من الفلسفة الرواقيّة1 ما يدعو للعمل والنجاح ضمن حدود “كفاءتنا الفرديّة”.

تمارس هذه الأصوات نوعاً من التخدير بالدعوة إلى حياةٍ هادئةٍ يستطيع فيها الفردُ التحكّمَ بذاته وعواطفه ويركّز على اللحظة الراهنة فقط. يؤمن بيترسون بعبثية الاحتجاجات مثلاً، ويرى في القراءة والمعرفة الذاتيّة أهميةً أكبر من “أيّ عملٍ سياسيّ”. فبعد كلّ شيء، “معنى الحياة موجودٌ في المسؤولية الفرديّة”، و”عندما تكسب نفسك، يفوز الجميع من حولك أيضاً”، وما حاجتنا لانتقاد السّياسة والرأسماليّة والأنظمة الاجتماعيّة إنْ كانت غرفنا ومنازلنا مرتّبة، وإن كان في تلك المنازل من الكتب الفلسفيّة ما يُعيننا على التحكّم بذواتنا والسيطرة على أهوائنا ورغباتنا؟

فلسفة تُلقّن الأجوبة

أمّا “عزاءات الفلسفة” The Consolations of Philosophy وما انبثق بعده من إنتاجاتٍ لألان دو بوتون  Alain De Botton ضمن مشروع “مدرسة الحياة”2، فهو أيضاً إعادة لطرح الحكم القديمة ومحاولة لربط الفلسفة بالحياة والآداب والفنون والمجتمع. العنوان هو نفسه الذي حملته أفكار الفيلسوف الرومانيّ بوثيوس Boethius، والتي كتبها أثناء انتظاره تنفيذ حكم الإعدام في زنزانته، وأصبح واحداً من أكثر الأعمال الفلسفيّة شعبيةً وتأثيراً في العصور الوسطى وحتى بداية عصر النهضة. أطروحة دو بوتون تتشابه بشكلٍ كبيرٍ معها لكن بأسلوبٍ مخفّف ومعاصر.

تُرشدك المدرسةُ -“مدرسة الحياة”- كيف تتغلّب على ضغوط العمل أو كيف تتحدث في موعدك الغراميّ، وكيف لا تكون مملاً، وكيف تحبّ وتتحكم في عواطفك وتتقبل نفسك وتبقى متماسكاً وهادئاً، وكيف تكون زعيماً جيّداً، وكيف تكون مبدعاً، وكيف تجد عزاءك في الفن والعمارة والموسيقى والسينما، وغيرها من عشرات المواضيع المطروحة على شكل سؤالٍ يبدأ بـ”كيف” فيما يكون جوابه مرفقاً باسم فيلسوفٍ ما.

تؤمن “مدرسة الحياة” بضرورة جعل الفلسفة متاحة للجميع وتتواصل معهم بطريقة مبسّطة وواضحة. تحاصرك بالكثير من التفسيرات المختصرة وسهلة الهضم والتقبّل، غالباً ما تكون معزولةً عن سياقها الكامل الذي أُنتجت فيه، ويتمّ اعتبارها على أنها ممثلّة لأفكار الفيلسوف كاملةً. هكذا يُذكر أبيقور للسعادة، وأفلاطون للحب، ونيتشه للصعوبات، وكيركغارد للوحدة، وكامو للانتحار، وفرويد للطفولة، وفوكو للجنس، وفيتجنشتاين للعمارة، وكانط للإلحاد، وهكذا دواليك. كلّ شيءٍ يدور حول الذات ويتمحور حولها، وكأنّ تلك الأسماء لم تفكّر أبداً بغير ذلك.

ينتقص هذا الطرح من الفلسفة الكاملة ومن سياقها التاريخيّ، ويوّجهها نحو الذات فقط. يخلق من الفلسفة وهماً بالمعرفة، ويروّج لتفسيراتٍ متحيّزة ويجعل منها مجرّد نقاشٍ ورأيٍ وموضوعٍ يصلح للثرثرة لا للبحث والشكّ والجدال والتفكير. وأسوأ من ذلك، يجعل هذا التساهل في الطرح من الفلسفة أداةً نستخدِمُها لنبرّرَ تصرفاتِنا ورغباتِنا من خلالها، في حين من المفترض أنْ تكون نشاطاً فكريّاً خلّاقاً وبحثاً مستمرّاً ومضطرباً عن الحقيقة. وقبل كلّ شيء، تواضعاً بأنّنا لا نعرف شيئاً. في المقابل، نجد دو بوتون يتحدّث في فيديوهاته وندواته بثقةٍ مفرطةٍ ونبرةٍ مطمئنةٍ ونغمةٍ هادئةٍ توحي لك بألّا تقلق؛ كلّ شيء سيكون على ما يرام.

 العزاء السهل

تُخبركَ المدرسة بأنّنا جميعاً نواجه نفس المشكلات ونشعر بالفراغ والقلق وعدم الراحة في وظائفنا وعلاقاتنا وخياراتنا الشخصيّة. لكن لا بأس من ذلك كلّه. قد تكون وحيداً وحزيناً وقلقاً، لكن هناك شيءٌ ما في هذه اللوحة الفنيّة يمكن أن يساعدك، وآخر في تلك القطعة الموسيقيّة يمكن أنْ يخفّف وحدتك، وثالثٌ في السفر يمكن أنْ يقودك إلى ذاتك، ورابعٌ في الأدب يصالحك مع حقيقة وجودك المأساويّة. كلّ ما عليك هو أنْ تتبع الحكمة القديمة، أو ألان دو بوتون، لتصل للسلام الداخليّ والذكاء العاطفيّ.

وإنْ كنتَ ترغب بأكثر من ذلك، تقدّم لك المدرسة ملاذاً كاملاً يوفّر لك السلوان والطمأنينة مقابل 4000 دولارٍ فقط، حيث يمكنك قضاء سبعة أيامٍ وسط الطبيعة، في مقصورةٍ بسيطة، لا إلكترونيات فيها، وإنما مجموعة من الكتب المختارة بعناية في الفلسفة القديمة لتعود لاحقاً وتعملَ بكفاءةٍ أكبر وتحقّق ذاتك في العالم الرأسماليّ الحديث. أو يمكنك، بميزانية أقلّ، أنْ تشتري من متجر المدرسة “أصيص النقص” – The Imperfection Pot، وهو أصيص بالمعنى الحرفيّ، صُمِّمَ لتتأمله بين الحين والآخر وتتذكر أن الحياة غير كاملة، ولتتذكر عيوبك التي لا مفرّ منها في الحياة. “لونه أخضر رماديّ.. يرتبط بالهدوء في البوذيّة .. هادئ ومتواضع كما لو كان غير مقيد بطموحٍ أو مضمونٍ ما، ليكون فقط ما هو عليه”.

يُذكّر هذا الأصيص بالنشاط الرواقيّ الذي يعكف عليه أثرياء وادي السيلكون في أميركا منذ أعوام؛ يمارسون فيه فنون الرواقيّة و”التأمل الذاتيّ” لأيام واستنشاق هواء الهدوء والسلوان، يصومون لبضعة أيام ويستحمّون بمياهٍ باردة ويمشون تحت المطر دون سترةٍ، أو يخرجون حفاةً في ثلوج ديسمبر، ثمّ يكتبون عن تجاربهم الفلسفيّة على تويتر قبل أنْ يعودوا للعمل ويُكملوا مهمّتهم في تغيير العالم، أو سحقه، من خلال علاماتهم التجاريّة ووسائل الإعلام الاجتماعيّ. هكذا إذن، تصبح الحكمة “مقرفة” كما قال جيجك، وتصبح الفلسفةُ وصفةً مضمونةً للحياة ومرجعاً تجد فيه العزاءَ السّهل والمريح.

متراس

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى