أبحاث

في مسألة انعدام البديل سورياً ودولياً/ ماهر مسعود

عند انطلاق الثورة السورية، كانت حجة العديد من الأفراد والأحزاب والمنظمات والدول في عدم دعم الثورة أو التشكك بها أو حتى في الوقوف ضدها، هي انعدام وجود البديل الواضح لرئيس الدولة ونظامه، وعلى الرغم من الصحّة الشكلية لذلك الادعاء، إلا أن المطالبة ببديل سياسي مؤسساتي في ظل انعدام الحياة السياسية والعمل السياسي في سوريا، كانت مطالبة حرفية بالمستحيل، فكيف لبلد لا يوجد فيها منافسة ديمقراطية على السلطة ولا أحزاب معارضة علنية ولا برلمان فاعل ولا قضاء مستقل ولا انتخابات نزيهة أن يتشكل فيها بديل سياسي! وكيف لأي بديل سياسي أن يتشكل في ظل حكم أعلن دائماً وبشكل صريح “أنا أو الفوضى” ثم أعلن ونفّذ على نحو أكثر صراحة برنامج “الأسد أو نحرق البلد”.

لكن مشكلة البديل لم تنته هناك، بل تصاعدت وتعقدت مع تصاعد العنف والقتل، ثم الحرب والتشريد، ثم التهجير والإبادة، ثم الاحتلال. هذا من جهة النظام، أما من جهة الثورة، فإن إمكانية البديل السياسي التي وعدت بها، وحملتها في أحشائها الثورة السلميّة، بدأت بالتلاشي مع التسلح المنقوص بالفيتو الأمريكي ضد تسليح المعارضة بمضاد الطيران، ثم باتت مستحيلة القبول محلياً ودولياً بعد الأسلمة ثم التطرف وظهور الخلفاء وأمراء الحرب المؤمنين. فمع كل يوم كان يمضي كانت الثورة تفقد نخبها قتلاً أو سجناً أو تشريداً، تفقد تماسكها وتتحول إلى فوضى بلا أفق، ومع كل سنة كانت تمضي كانت سوريا تتحول إلى بلد من حطام وخراب ودماء، وصولاً إلى المجزرة المعلنة في إدلب اليوم.

مشكلة البديل، لم تعد اليوم مشكلة سوريّة فحسب، بل أصبحت مشكلة عالمية، يقود إليها ويعبّر عنها صعود الشعبوية الذي نراه يتمدد من مشارق الأرض إلى مغاربها، فصعود الشعبوية يعني ببساطة صعود الـ”authoritarianism” أو التسلّطية في كل مكان، ويعني أيضاً صعود الرعاع إلى الحكم في الدول الديمقراطية وغير الديمقراطية، وفي هذا السياق لابد أن نتذكر المثال التاريخي الأبرز حول صعود الرعاع إلى السلطة، فالنازيين في ألمانيا لم يستولوا على الحكم بالقوة، بل تم انتخابهم ديمقراطياً، من جهة أخرى كانت التسلّطية الهتلرية في بداياتها حلاً فاعلا للأزمة الهائلة التي تعرضت لها ألمانيا والشعب الألماني منذ خسارة الحرب العالمية الأولى وصولاً للأزمة الاقتصادية العالمية عام 1929، وما صنعه هتلر؛ عبر التسلّط، كان دولة بمنتهى القوة الاقتصادية والعسكرية والاستقرار السياسي، بعد أن كان الفقر والضعف والتضخّم والديون يضرب ألمانيا من الداخل والخارج طوال الفترة التي مضت تحت حكومة فايمار.

ما نريد قوله عبر المثال الألماني، هو أن الأزمة كانت رافعة لصوت الشعبويين الرعاع، والرعاع انتخبوا من يمثلّهم، ومن يمثلهم؛ الحزب النازي، أنهى فعلاً أزمتهم، قبل أن يأخذهم بعدها إلى الحرب والدمار والمحرقة التي بقيت وصمة عار في تاريخهم، يتوارثها أجيالهم إلى يومنا هذا.

العملية ذاتها تتكرر اليوم كمهزلة تحمل المأساة تحت جناحيها، فبعد أن بدأت في روسيا التي حملت بوتين إلى السلطة بوصفه حلاً لأزماتها ليصبح اليوم أكبر كوارثها، نراها تتكرر في أعرق ديمقراطيات العالم، مثل أمريكا وبريطانيا، وفي الدول الديمقراطية حديثاً مثل الهند والبرازيل، مثلما نراها ضاربة في عمق الدول الاستبدادية وغير الديمقراطية وعلى رأسها الصين؛ البلد المؤهل لقيادة العالم في العقود القادمة.

إن اضطراب النظام الدولي الحالي المترافق مع أزمات الهوية والسيادة الوطنية والمهاجرين والإرهاب، والمتداخل مع الحروب التجارية والأزمات الاقتصادية والثورات السياسية وانعدام الاستقرار والأمان.. كل ذلك يمثل الشروط المثالية لصعود الشعبوية، وبالتالي صعود التسلّطيّة المصاحبة لها، لكن الجانب المظلم في الشعبوية هو أنها تقود السياسة نحو انعدام البديل، تحرم البدائل العقلانية من أدواتها ومن قوتها، ويصبح الخطاب السياسي العقلاني نوع من الضعف بل حتى السخافة، فما تحاكيه الشعبوية لدى الناس هو الغرائز والمخاوف والرغبات، تلك التي تزدهر في الأزمات والمراحل الانتقالية كالتي يعيشها العالم اليوم، وما تعد به الشعبوية لا علاقة له بالبرامج العقلانية بل بوهم القوة والسيطرة والمجد التي يحتاج الناس لسماعها “لنجعل من أمريكا عظيمة مرة أخرى” هذا ما قاله ترامب الذي يبدو أنه سيفوز في ولاية ثانية، وأما ما قدمه بوريس جونسون فيما يخص البريكسيت ليحرز انتصاره العظيم ضد العمال البريطاني وجيرمي كوربن، ليس سوى الشعار الفارغ “سننجز المهمة”، لكن الشعار الفارغ ذاته وما يعد به من حزم وقوة مبهمة، هو سر انتصاره في زمن الشعبوية.

لقد كان الطريق الطبيعي الناتج عن إعدام البدائل في سوريا، هو أن تصبح سوريا ولاّدة للحروب، فالحرب السورية؛ التي ستصبح خلال سنة من الآن بطول الحربين العالميتين الأولى والثانية معاً، لن تنتهي قبل خلق البديل، لكن البديل ذاته لا يبدو ممكناً دون حرب، وتلك الدائرة المغلقة التي تعيشها سوريا، ويدفع أثمانها غالياً جداً الشعب السوري، ليست بعيدة ولا منقطعة عما يحدث في العالم، فالطريق الذي تخطه الشعبوية في عالم اليوم، لا تبدو نهايته سوى سوريّة.

بروكار برس

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى