مقالات

التشذيب وإعادة الكتابة.. تجارب وشهادات

 (3)

صدام الزيدي

لماذا يُعيد الأدباء والكتّاب النظر في أعمال ونصوص منجزة لتصدر ثانيةً إما في “طبعاتٍ منقّحة” أو في مجلات وصحف ومواقع للنشر الإلكتروني، تحت استدراك/تنويه: “كتابة ثانية”؟!. عربياً وعالمياً هناك أسماء وتجارب لافتة، اتسمت مسيراتها بالعودة إلى تشطيب شبه جذري لكتب وأعمال منجزة، كما أن البعض منهم (في غير مناسبة) تمنّى لو أنه عاد لتنقيح وغربلة كتاب ما.

عندما تُنجز دراسات وبحوث حول تجارب وإصدارات، ثم بعد حين يتغير شكل ومضمون تلك الإصدارات والنصوص بسبب أنها خضعت لكتابة ثانية، هل يفضي هذا بالضرورة إلى متغيرات جديدة في سياق القراءة والتحليل والدراسة والتقييم؟ هل البدايات هي من يفرض الأمر (بدايات تجربة ابداعية ما ليست بالطبع كمراحل لاحقة تصل فيها التجربة إلى النضج)؟ كيف أن أمر إعادة النظر في نتاج إبداعيّ مرّت عليه فترة من الزمن يكون وارداً لدى البعض وغير وارد لدى آخرين؟ كيف ينظر الأدباء والكتّاب إلى ظاهرة التشطيب وغربلة النصوص والمؤلفات من جديد أو ما عرف قديما بـ”التحكيك”؟ وما هي شهاداتهم من زاوية التجربة الشخصية حول “إعادة الكتابة”؟ 

هذه الأسئلة نطرحها في هذا الملف على أدباء وكتّاب وباحثين أكاديميين. هنا الجزء الثالث منه:

وجدي الأهدل (روائي/اليمن): شعور المؤلف بعدم الرضى عن كتبه السابقة إيجابي

شعور المؤلف بعدم الرضى عن كتبه السابقة هو شعور إيجابي. وقلقه حول حاجة أعماله الأولى لإعادة النظر فيها وتجويدها مسألة توحي بأن خلفها ضمير يقظ.. بمعنى أن الوقت الذي ينفقه القارئ في قراءة أعمالنا وإجهاده عينيه من أجلنا يستحقان منا بذل العناء وغاية الجهد في التحسين والتجويد والحذف والإضافة.

والقول إن النص الذي صدر في كتاب لم يعد يحق لمؤلفه مراجعته فيه قدر من التجني. ومثال من ملايين الأمثلة يمكننا أن نبدأ من القرآن الكريم الذي نُسختْ منه آيات، مثل آية الرجم وغيرها.

المسألة ليست مباراة في كرة القدم، فيأتي واحد ويزجر المؤلف قائلاً لقد انتهى وقت المباراة! لأن الغرض من تأليف الكتب هو المنفعة العامة للبشرية، فإذا أراد مؤلف ما السهر على تجويد كتبه فخيراً يفعل، لأن هذا يصب في مصلحة القارئ أولاً وأخيراً.

بالنسبة إلى كتبي، فمتى توفرت طبعة جديدة فإني أُلقي نظرة فاحصة على الطبعة السابقة، وأحذف وأضيف مراعياً في كل ذلك الارتقاء بذائقة القارئ ونيل رضاه.

بالطبع الكاتب يتطور من كتاب إلى آخر، وكلما تراكمت سنوات الخبرة الكتابية أصبح أكثر حذقاً في مهنة الكتابة، ومن حقه أن يوظف هذا الارتقاء الفني الذي وصل إليه بعد مشقة وكدح في صقل أعماله التي أصدرها في البدايات، وهو بهذه الطريقة لا يغش القارئ – كما يزعم البعض- ولكنه التزاماً بالأمانة الأدبية يحاول أن يُقدم للقارئ أفضل ما يقدر عليه، وألا يستسلم أبداً حتى يدركه الموت.

الكاتب وهو يكتب يكتشف يوماً بعد يوم أشياء جديدة لم يكن يعرفها، وهذه المعرفة لا يمكن تحصليها مسبقاً، ولكنها تأتي أثناء رحلة الكتابة.. وهذه الاكتشافات لا يمكن تعليمها، ولا يولد الإنسان مزوداً بها، ولكنه يحتاج إلى تدريب شاق حتى ينالها بالتدريج.

وحول مشكلة الدراسات النقدية التي تتناول أعمالاً إبداعية تتعرض فيما بعد للتغيير، فإن الحل يسير، وهو أن يشير الدارس أو الناقد إلى رقم الطبعة التي اعتمد عليها، وهذا هو المعمول به.

وفي كل الحالات تظل الأولوية للقارئ ولإثراء الحضارة الإنسانية بأعمال إبداعية قيّمة.

عبد الرزاق الربيعي (شاعر عراقي/عُمان): لا يوجد نصّ غير قابل للتّعديل والاشتغال

بدءاً لا يوجد نصّ غير قابل للتّعديل والاشتغال، فالذائقة في حالة نموّ، وليس هناك حد يقف عنده النصّ، إلا إذا كان نصّا مقدسا! فالحياة في حالة صيرورة مستمرة، وكما قال هيراقليطس: “إنك لا تنزل في النهر الواحد الجاري مرتين، فهناك مياه تسير فيه باستمرار”، فبعد أن ننتهي من كتابة نص علينا أن نقرّ أن هذا النص لم يأخذ شكله النهائي، ولا ينبغي له ذلك، فهو قابل للتعديل والمراجعة، فهو ليس نصّا مقدسا حيث “لا مساس” إنما هو مقترح جمالي قابل للتعديل والحذف والتشطيب، وقد أدركت هذا في مقتبل حياتي الأدبية، وكان أستاذنا الشاعر الكبير الراحل عبد الرزاق عبد الواحد يردّد عبارة نقلا عن السياب أن “وظيفة الشاعر ليست في كتابة القصيدة، بل بعد الانتهاء منها أي في القص والتشذيب والتعديل”، وهنا يدخل جانب الصنعة والخبرة فيتمّ الاحتكام إليهما إضافة إلى الذائقة التي لا تتوقف عن النموّ لدى الشاعر الذي يسعى دائما إلى تطوير أدواته، لذا فعندما نويت طباعة أعمالي الشعرية التي صدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت، لم أتردد في إعادة النظر بالكثير من المفردات والجمل الشعرية، التي كتبتها في مقتبل حياتي الشعرية، مع الحفاظ على جموح البدايات، وعفوية التجربة، فلم أسرف في ذلك، مثلما لم أنشر دواويني الأولى كما نشرتها قبل أكثر من ثلاثين سنة، فبين ذلك سنوات طويلة شهدت تحولات كبيرة على مستوى الوعي بالكتابة الشعرية.

صالح لبريني (شاعر وباحث/المغرب): القارئ هو الذي يمتلك ناصية الحق في النص

كل كتابة هي في جوهرها محو لأثر سابقاتها، ومن ثَمّ فلا غرو من عمليات التشذيب والتهذيب والتعديل التي يقوم بها كل من يمارس هذه اللعنة الجميلة، من الشعراء والأدباء والنقاد وغيرهم، باعتبار أن النص الإبداعي حينما يتخلق فلا بد أن يحمل في ثناياه آثار النصوص المتسربة إليه بوعي أو دون وعي من المبدع، الأمر الذي يكون دافعا حقيقيا إلى ضرورة إزالة هذه البصمات، رغم أنها تظل مندسّة في شرايين النص. هذه العملية – التشذيب والتحكيك- ضاربة جذورها منذ أن بدأ الإنسان يكتب ويبدع، فلا يخلو عمل إبداعي لم يتعرّض لها، والمتأمّل في التراث الشعري العربي يدرك أن الكتابة تحتاج إلى إعادة الكتابة، أي إلى محو جديد لخلق أثر متجدّد هو الآخر، فشعراء الحوليات مثلا مارسوا هذه العملية، من خلال العناية بنصوصهم حتى تغدو أكثر متانة لغة وصورة وتركيبا، ولا ينبغي القول هنا إن في هذا نوعا من الصنعة والتكلف، بل على العكس هو سبيل أنجع للحفاظ على وهج وتوهج العمل، حتى يبقى أكثر إبداعية. فكل مبدع يكون هاجسه الأول والأخير ابتداع النص الذي يعتقد أنه اكتمل وخرج من حالة النقصان إلى حالة الرشد الإبداعي إن صح التعبير، لذا يروم هذا المبدع التمزيق أحيانا للتخلص من النسخة الأولى، ثم الكتابة كنسخة ثانية، وبعدها يعمل على التنقيح والتعديل مرة ثالثة، وهي صفة إيجابية لا تنقص من قيمة العمل المُبدَع، ولنا في بعض الشعراء والأدباء سواء مشرقا أو مغربا أسوة – في اعتقادي- حسنة لا تبخس جهدهم في صوغ النص صياغة منسوجة نسجا يليق به. بل الأكثر من هذا نجد مبدعين قد سعوا إلى التّملّص من أعمالهم الأولى التي رأوها غير ناضجة، لكن يبدو في الأمر شيئا غير سليم، ولا يستقيم، لأن العمل الإبداعي – كيفما كان لونه الأدبي- عندما يخرج للعموم، ليس من حق الشاعر أو الروائي أو القاص أو الأديب أو الناقد المطالبة بإلغائه، لأنه لم يعد ملكا له، وإنما أصبح ملكا للقارئ، ولعلّ في حالة محمود درويش دليل على عدم سلامة طرحه، حين أعلن عن رغبته في إعدام ديوانه الأول. إن الذين يقومون بالتشذيب والتعديل لأعمال صدرت ليس من حقهم شريطة إذا تخلّلت أخطاء في العمل، فآنذاك له الصلاحية في تصحيح ما وقع فيه الخطأ، لأن الأمر هنا لا يندرج ضمن التحكيك، بقدر ما هو تجاوز للأعطاب التي قد تلحق العمل الأدبي. لماذا؟ لأن العمل الأدبي في صيغته الأولى يحمل رؤية وتصورا قد لا يرضي مبدعَه، وفي المحو الثاني تكون هذه الرؤية قد تغيرت بتغير التجربة، وفي هذا جَوْر وإجحاف للأولى، وهكذا دواليك حتى يفقد العمل ماءه بدخول مياه أخرى قد تفسد حلاوته وإبداعيته.

أما إذا كان التشذيب والتهذيب في النص قبل نشره، فمن حقّ كاتبه أن يقوم بما يراه مناسبا، حتى يرتقي النص إلى ما يبتغيه له صاحبه، لأن أي نص لا يحقق كينونته النّصيّة، إلا بعد مروره من مراحل عديدة من طور المسودة الأولى، والتي تكون ناقصة بحكم حرارة لحظة الكتابة، أو تبدو بملامح مشوَّهة ومشوِّهة للمعاني النابضة فيه، وهنا لا بد من التدخّل للتعديل ثم التثبيت، فاكتمال النص بتمام بنائه ودلالته. هذا من حافّة. ومن حافّة أخرى لا بد من الإشارة إلى أن التغيير قد يطال المؤلفات الفكرية، التي من الممكن لكاتبها أن يبدّل فيها ما يناسب اللحظة المعبَّر عنها، غير أن الأمر مفارق ومناقض، ولا يصحّ إذا تعلّق الأمر بالنص الإبداعي.

انطلاقا مما سبق من الضروري والحتمي أن تسود علاقة الحوار والتفاعل بين النصوص، لا لطمس معالمها وملامحها الأولى، والقضاء على فطرية هذه الكتابة، ولكن من أجل تجويدها وتطعيمها وشحنها عن طريق المحو حتى تحقّق كيانها النصي، قبل تحوّلها إلى ملكية في يد القارئ. هذه الملكية التي تمنع وَارِثَهَا الحقيقي من تبديلها، أو إضافة إضافات عليها بحكم القارئ الذي يمتلك ناصية الحق في النص.

مؤمن سمير (شاعر وباحث/ مصر): لماذا يظن الكاتب أن القارئ سيكون متساهلاً؟

كانت أعمال أدونيس المنقحة، التي قال عنها ما يعني أنه ما دام على قيد الحياة فليس هناك ما يمنع من إعادة تشذيب القصائد أو إعادة ترتيبها: القصائد الطوال معاً والقصار معاً.. إلخ، إذ أنها فرصة لن تعود للشاعر بعد أن يموت- كانت هذه الأعمال ومقارناتنا بين الطبعات المختلفة متعة نمسك بها في فترة الجامعة إذ يستتبع المقارنة اختلاف ونقاش حيوي حول مدى توفيق الشاعر أو إذا كان من الأجدى تركه النص أو ترتيب الأعمال الكاملة على ما كانت عليه.. كنا ننظر للأمر بغير قليل من الحسد لأنها بالفعل فرصة لن تتأتى بعد فناء الكاتب وانتهاء نصه الكبير، وسرح كل منا ورأى نفسه يفعل ذلك، لكن الواقعي فينا قال فجأة: ولماذا يظن الكاتب أن القارئ سيكون متساهلاً ويعطي وقته لنفس المؤلف ويسعى إلى اقتناء تجليات كل مرحلة من مراحله الإبداعية وينفق الساعات في المقارنة، اللهم إلا إذا كان متخصصاً في نصوصه بشكل أكاديمي أو غيره؟ ومرت الأيام وأصدرت كتباً وفوجئت بأن الرعب يتملكني من العودة لقراءتها كي لا أفتح على نفسي طاقة توتر لا تنتهي حيث أني بالتأكيد ودون ريب سأندم على صياغة ما كتبته في موضع ما وأفكر في صياغة أخرى أرى ساعتها أنها الأوفق أو حتى سأندم على جملة أو فقرة أو حتى نصٍّ كامل أرى أنه يبتعد بمسافة عن تناغم أجزاء الكتاب معاً.. هذه النتوءات ستكون سبباً في نزول قطرات عَرَقٍ واضطرابٍ في ضغط الدم سيستمر حتماً كلما هلت ذكراه، لهذا أعدو بعيداً عن كل كتاب صدر وتغير انتماؤه من الخفاء للعلن.. لكن الأمر لا يخلو من الكارثة إذا طلب منك مثلاً أن تجهز مختارات من كتبك السابقة، ستكون المأساة ساعتها واضحة وجلية ولها وقع الفضيحة.. انقسم المبدعون حول هذا الأمر، فالبعض رأى أن الإبقاء على النصوص كما كانت وفق مرحلة الوعي والفنية التي أُنتجت فيها أقرب إلى الصدق الفني وإلى ملاحظة تطور واختلاف توجهات ومفردات وصياغات وأولويات كل مرحلة مقارنة بالمرحلة التالية، بينما البعض يتعامل مع الأمر ببساطة فيرى أن الفرصة إذا كانت متاحة اليوم – خاصةً أن توفّر فرصة للنشر في بلادنا تعني غالباً نشر كتاب جديد وليس إعادة النظر في كتاب فات- فالأولى أن نتمسك بها في محاولة منا لتقديم وعينا اليوم لقارئ ماكر ومتسع ويجيد المقارنة بين الكُتَّاب كما يجيد التعالي والتجاهل ببساطة وإعلان الملل بإزاء مشاريع كان يظن أصحابها أنها أقرب للاكتما..

رسول محمد رسول (كاتب وباحث أكاديمي/العراق): عدّلت عناوين بعض كتبي بعد سنين من نشرها

مع بداية عام 2019، انداح اهتمامي صوب كتابة أرشيفي، وأنا الذي بدأتُ نشر ما أكتبُ منذ شهر كانون الأول/ديسمبر 1986، بمعنى مضت على رحلتي في الكتابة نحو 36 سنة كان أرشيفي خلالها محفوظاً في عبوات كارتونية صانته من عوائد التلف أو الحرق أو الضياع وأنا الذي أودعتها في بغداد منذ تلك الفترة، وسافرت هائماً في بلداننا العربية من أجل لقمة العيش.

وضعت خارطة طريق لذلك، وبدأت، لكني اكتشفت أن بعض مقالاتي التي تعود إلى مرحلة ثمانينات القرن العشرين مفقودة، فكانت معاناتي مشوبة بالألم والشعور بالحيف المزدان بالإحباط، فكان طريقي إلى الأرشيف في بعض المؤسسات المعنية بتلك المرحلة حتى وجدتها مفقودة لديها أيضاً؛ فما جرى بالعراق، وفي ضوء التناحر الأيديولوجي المحتدم، راح الأرشيف يُغيّب ذلك الخاص بالمرحلة قبل سقوط نظام الدولة البعثية في نيسان/أبريل 2003. لكني، وحتى اللحظة، ما زلت أبحثُ عن مقالاتي الخاصّة بتلك الفترة رغم أنها قليلة جداً.

مع ذلك، صرتُ أمضي إلى إحياء المتوفر بتؤدة وصبر وإخراجه من ظلام الدرج إلى واضحة النور كي يُتاح للقارئ، فبدأت العمل، ولم أجد أيّ دواعٍ للمحو، ولا الشطب كلّما هيّأت مقالة كي أبث فيها الروح إلا ما ندر، وما يتعلّق بالهمزات رغم أن المنشور في الصحافة ومنافذ أخرى يُفترض أنه مصحّح لكن الصحافة غالباً ما لا تهتم بوضع الهمزات على الكلمات.

كان تجديد النص المنشور يتطلّب تحديثاً في المعلومات، لا سيّما عندما تتحدّث المقالات عن أشخاص رحلوا من عالمنا، فكان من الضروري الإشارة إلى ذلك. من جهتي لا أؤمن بالشطب في المكتوب أو المدوّن لأن ذلك يعني التلاعب بموجودية التاريخ، فما كان قيل يكتسب أهميته الوجودية، ولأنه يمثل مرحلة لا بد من تقديرها واحترامها فهي تعبر عن وعي مررتُ به، وعوّدت نفسي على احترام وعيي في كُل مرحلة، واحترام تاريخ اللحظة التي مرّت كي تبقى سنداً للذي أتى بعدها. وتراني ماضياً في هذا السبيل.

في تعاملي مع غير المفقود، تفرّغت إلى إعادة طبع مؤلّفات سبق لها أن صدرت لكنها اليوم مفقودة في السوق العربية والمحلية، وما كان نهجي في إعادة نشرها يتطلّب محواً؛ بل إضافات معلوماتية، وإشارة إلى نمو مصطلحاتي الخاصّة بي، وكان ذلك بالإشارة إلى تأريخ استخدامي للمصطلح في الكتب المُعاد نشرها من جديد، لكنني اضطررت إلى تعديل بعض عناوين الكتب، فكان الشطب تعديلاً؛ إذ قد غيّرت عنوان كتابي (المعرفة النقدية.. مدخل إلى نظرية المعرفة في الفلسفة)، وهو أطروحتي للماجستير لعام 1994 كنتُ نشرتها في عام 2001، غيّرته إلى عنوان جديد هو (التفلسف النقدي.. إيمانويل كانط والمعرفة النقدية)، وصدر في عام 2016.

ولي تجربة أخرى في هذا السبيل، وهي تغيير عنوان كتابي (ما الفيلسوف.. إنسان التنوير ومفكّر صباح الغد؟) إلى عنوان جديد هو (الفيلسوف.. إنسان التنوير ومفكّر صباح الغد)، ما يعني أن الشطب ذهب إلى إلغاء حرف “ما”، وصدر في عام 2019.

كذلك الأمر مع كتابي (الحضور والتمركز.. قراءة في نقد العقل الميتافيزيائي الحديث)، وهو أطروحتي للدكتوراه في الفلسفة لعام 1997 كنتُ نشرته في عام 2000؛ ليصبح عنوانه الجديد (نقد العقل الميتافيزيقي)، وقد صدر في عام 2019.

هكذا بدا الأمر لي نسبياً في الشطب ما يتعلّق بعناوين الكتب، فلا وجود لشطب كُلي إنما تعديل جزئي يتوافق مع القصد في كل كتاب، أما البطن الداخلي في هذه الكتب فقد بقي هو نفسه.

وفائي ليلا (شاعر سوري/ستوكهولم): يمكن الحذف والإضافة في كتب علمية وتاريخية ولا أستطيع تصورهما في الشعر

سأتحدث عن هذه القضية من منظوري الخاص ومن خلال تجربتي الذاتية والخاصة.

بداية أنا لا أستطيع أن أتصور أن المرء يمكن له أن يتدخل في نص سبق أن نشره إضافة أو حذفاً كون المشاعر الإنسانية والأحاسيس ومجمل الظروف التي أنتجت ذاك النص قد اختفت إلى الأبد وبالتالي فأي محاولة للإضافة أو الحذف ستكون عاملاً دخيلاً وجسماً غريباً. ولكن بما أن المرء يكبر ويتغير وبالتالي تتغير مفاهيمه وفقاً للسن والتجربة فإنني أجد أن هذا الأمر هو بمثابة اعتداء صارخ على هوية كائن ما كان هناك وأنتج ذاك الذي رسمه أولاً، حتى ولو كان بخطوط “ركيكة” لم تعد ترضي صاحب النص فيما بعد.

غير أنني لا أجد أن الأمر خاطئ تماماً فيما لو أحب الشاعر أن يعيد طباعة نتاجه مرة أخرى كمجموعة كاملة أو مجموعة منتخبة لنصوص محددة وهذا ما قد أفعله يوماً، وأقصد تحديداً حذف نصوص لم تعد جديرة أو تستحق.

أفهم هذا التعديل أو الإضافة أو الحذف في الكتب ذات البعد التحليلي، أو البعد التاريخي، أو العلمي، وما إلى ذلك ولكن لا أستطيع أن أتصوره في الشعر، كون ذاك الأخير ينطلق من أحاسيس ومشاعر غاية في الخصوصية وغير قابلة للتعديل، وإلا كان ذاك تزييفاً فجاً مهما كانت حرفته عالية.

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى