أبحاث

ما جرى يوم 30 مارس 2011/ وائل السواح

مساء 29 مارس/ آذار 2011، زارني في بيتي في دمشق صديق صحافي، له علاقات واسعة بمصادر القرار في دمشق. أمضينا سهرة كاملة نتحدّث عن الحدث الذي طال انتظاره: الرئيس بشار الأسد سيلقي خطابا في اليوم التالي. كانت الانتفاضة السورية ضدّ نظام الأسد قد بدأت، وتحوّلت في مدينة درعا إلى مجزرة بحقّ المدنيين، أشرف عليها ابن خالة بشار الأسد، عاطف نجيب، الرجل الذي كان عذّب أطفال درعا واقتلع أظفارهم، وطلب من أهلهم أن ينسوهم، وأن يرسلوا إليه نساءهم كي يساعد في إنجاب غيرهم. قبل أسبوع، كان اعتصام الجامع العمري في درعا قد فضّته قوات الجيش والمخابرات، ودخل عاطف نجيب نفسه حرم الجامع، وأطلق عدّة أمشاط من بندقيته، ما أدى إلى مقتل ستة أشخاص على الأقل.

كان رجل الأعمال السوري المهاجر، موفق القدّاح، قد أمضى ليلة 22 – 23 مارس/ آذار في الجامع يتفاوض مع المعتصمين، وبعيد منتصف الليل توصّل معهم إلى تسوية، يتمّ إطلاق المعتقلين منذ 18 مارس/ آذار، ويتمّ الكشف عن مصير المختفين، بينما تخضع المطالب الأخرى لمناقشات لاحقة. خرج قدّاح وصحبه من الجامع مسرورا، ليخبر ممثلي النظام بإنجازه، ولكنه ما كاد يغيب عن الأنظار بموكبه في الساعة الواحدة فجرا حتى تمّ قطع الكهرباء ووسائل الاتصالات عن مدينة درعا، وانهمر الرصاص على الجامع كزخّات المطر، وبدأ اقتحام مسجد العمري بواسطة ما قدّره معتصمون بألوف العناصر الأمنية والعسكرية، واستمرّ إطلاق النار حتى الخامسة فجرا.

في الأيام التالية، ستطفو عل السطح قصص مفادها بأن الأسد مستاء مما جرى في درعا، وإنه سيلقي خطابا يوضّح فيه الأمور، ويعلن عن إصلاحات كبيرة. جاءت هذه القصص على لسان مسؤولين كبار كانوا على تواصل مع قادة الحراك المدني في تلك الأيام. مستشار الأسد للشؤون الأمنية، محمد ناصيف، أخرج الناشط الحقوقي، مازن درويش، من زنزانته في الفرع 215، حيث كان قد اعتقل قبل أيام، وأحضره إلى بيته في قرى الأسد ليعلمه بذلك. نائب الرئيس فاروق الشرع اجتمع بآخرين، بينهم لؤي حسين، وأبلغهم بذلك، وكذلك فعل العميد في الحرس الجمهوري، الصديق الشخصي لبعض الناشطين المعارضين، والذي سينشق بعد أشهر، مناف طلاس.

ورفعت مستشارة الرئيس للشؤون السياسية والإعلامية، بثينة شعبان، من سقف التوقّعات أكثر من الآخرين، عندما أعلنت، في مؤتمر صحافي، بعيد اجتماع لقيادة حزب البعث، تعهّد الأسد بإنهاء حالة الطوارئ، وبحث صياغة قوانين متعلقة بمنح مزيد من الحريات السياسية والإعلامية ورفع مستوى المعيشة. وأضافت شعبان أن جميع معتقلي مدينة درعا الذين اعتقلوا خلال الأحداث الأخيرة سوف يطلق سراحهم، وهو المطلب الرئيس لأهالي المدينة. بل إن الأسد أرسل صديقه اللبناني، ميشال سماحة، إلى باريس ليطمئن الحكومة الفرنسية التي كانت قد نشلته قبل ثلاث سنوات فقط من ورطته في حكاية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق، رفيق الحريري، بأن ما جرى في درعا كان حادثةً منعزلة. وأخبر سماحة الفرنسيين أن الأسد سوف يلقي “خطاباً مهماً”، يعلن فيه عن إصلاحاتٍ كبرى. وقال لموفد الرئيس الفرنسي ساركوزي للعلاقات مع سورية، كلود غيّان، إن الأسد أوفده “لأؤكّد لكم أن كلّ شيء سيكون على ما يرام”، وفقاً لرواية سام داغر في كتابه “الأسد أو نحرق البلد”.

سألني صديقي الصحافي الذي زارني مساء 29 مارس/ آذار: “ما النقاط التي تتوقّع أن يثيرها الرئيس غدا؟” ثمّ أردف: “ما الذي تتمنّى أن يقوله الرئيس غدا؟” فكّرت قليلا: أولا أن يعتذر لأبناء مدينة درعا ويعزّيهم في أبنائهم، وأن يأمر بإطلاق سراح جميع معتقلي الرأي، ويلغي حالة الطوارئ ويسمح بالتجمع السلمي ويرخّص للأحزاب والجمعيات ويلغي المادة 8 من الدستور التي تقول إن حزب البعث هو قائد المجتمع الدولة، ويلغي القانون رقم 49 (1980) والمرسوم 49 (2008) المتعلّق بالمناطق ذات الأغلبية الكردية. نظر صديقي في عينيّ بثبات وقال بما يشبه التحدّي: وماذا لو ذهب أبعد من ذلك؟… كان صديقي واثقا أن الأسد سوف يلقي خطابا تاريخيا يعيد فيه موضعة كلّ المفاصل الرئيسية للدولة، ويستجيب لمطالب السوريين الذين خرجوا إلى الشارع، في سابقة أولى في دول الربيع العربي آنذاك.

يوم 30 مارس/ آذار، امتلأت شوارع دمشق القريبة من البرلمان بمئات الشبّيحة المؤيّدين لبشار الأسد، يهتفون: “شبيحة للأبد.. كرمى لعينك يا أسد.” وحين ترجّل الأسد من سيارته انفجرت الجماهير بهتافات شقّت عنان السماء، ومثلها في الداخل تحت القبّة، حيث تحوّل نوّاب الأمة أنفسهم إلى شبّيحة يهتفون بحياة الأسد: “بالروح، بالدم، نفديك يا بشار”. وهتف أحد النواب عن محافظة حماة، أن “الوطن العربي قليل عليك وأنت لازم تقود العالم يا سيادة الرئيس”. ثمّ بدأ الرئيس كلمته.

كنت في البيت، وبين يدي قلم وكدسة من الأوراق البيضاء، لأكتب أهم النقاط التي سيقولها. ولفتت انتباهي الضحكات الفاجرة التي كان يطلقها، وكأن الأمّة لا تمرّ بواحدة من أسوأ لحظاتها. قال بشار كلّ شيء ولم يقل شيئا. ملخّص خطابه الذي استمر طويلا كان أن “سورية تتعرّض لمؤامرة كبيرة، خيوطها تمتد من دول بعيدة ودول قريبة، ولها بعض الخيوط داخل الوطن”. وأضاف أن هدف المؤامرة هو “أن تسقط وتزال آخر عقبة من وجه المخطط الإسرائيلي”. حين سمعته يقول: “والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته” صعقت. كنت أتخيّل أن كلّ ما قاله مقدّمة فقط لنقاط عملية سيقترحها، ولكن شيئا من ذلك لم يحدث.

ما الذي جرى تماما؟ لن يستطيع أحد أن يجيب عن هذا السؤال. هل كان الأسد فعلا ميالا للمصالحة، وأن أطرافا أخرى أوقفته؟ أم أنه كان هو من يريد الحلّ العنفي منذ البداية؟ ومن هي تلك الأطراف؟ أهو أخوه ماهر وأبناء خاله وخالته؟ أهي إيران؟ أميل إلى الاعتقاد أن بشّار كان دوما يريد الحلّ العنيف، لكي يزيل عنه صورة القائد الضعيف. وأميل إلى الاعتقاد أنه كان يتلاعب بمن حوله من الذين كانوا يؤْثِرون الحلّ السلمي والتفاوض وتقديم بعض التنازلات. ومستوى الدم والعنف والإجرام الذي سيصل إليه بعد أشهر دليل على ذلك.

مهما يكن، في اليوم التالي للخطاب، اتصلت بصديقي الصحافي فلم يجب، واختفى ثلاثة أسابيع، وحين سألته بعدها، ابتسم ولم يجب. وفي اليوم التالي أيضاً، اتصل محمد ناصيف بمازن درويش وقال له: “أعرف أنك لست سعيدا، ولكن لا شيء قد تغيّر، وحين تلتقي الرئيس غدا سيشرح لك كلّ شيء”. “لا ضرورة لذلك، لقد أعلن الرئيس الحرب للتوّ، والحرب ليست مهنتي”، أجاب مازن، ثمّ دفع ثلاث سنوات من حياته في الجحيم لقاء ذلك.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى