سياسة

"مثقفون، وطائفة، وجيش وطني"/ بسام يوسف

منذ البداية، كان حافظ الأسد شديد الوضوح فيما ينبغي أن يكون واضحاً، لقد كان واضحاً في توضيح معنى المعارضة: لنفسه أولاً، ولغيره ثانياً؛ إذ قدم -منذ اليوم الأول لانقلابه- عرضاً حياً لقمع شديد وسافر ومكشوف، ثم أبلغ الذين في آذانهم وقر معادلة حكمه سوريا، وهي المعادلة التي حكمت صيغة المعارضة ومعناها طوال فترة حكمه، وهي المعادلة المختصرة الواضحة: إن المعارضة – حالها كحال غيرها- محكومة بالشروط التي أضعها لا بشروط الدستور والقانون.

وعليها فقد وضع المعارضين السوريين أمام المعادلة الآتية:

هل أنت معارض؟ وهل تريد أن تبقى معارضاً؟ لا بأس، كن كما تظن أنك تشاء! ولكنك ستظل أمام احتمالين لا ثالث لهما: إما أن تبحث عما يناسبك من أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية التي يديرها حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي تديره المخابرات، وتنظم شؤونه وتشرف على خططه، أو أن تدخل السجن.

وعندما تحرّج بعضهم من ضيق هذه الخيارات؛ تكرم السيد الرئيس، وطلب من أجهزة أمنه غض النظر عن مسرب ثالث، هو: لا ضير من تسويق نفسك كمعارض، ولا من أن تتحدث بما يشي بمعارضتك، لكن الضير كل الضير في أن تهجس بتجاوز أحد خطين أحمرين واضحين: أولهما هو أن الرئيس وعائلته خط أحمر، الخط الذي لا قبله ولا بعده ولا فوقه ولا تحته؛ إنه المقدس الذي يسكن في فراغ، وثانيهما ألّا تنخرط في أي عمل منظم، وألّا تفكر في الانخراط، وألّا تحلم في ذلك، ولا فيما يماثله.

هكذا نشأت في سوريا الظاهرة التي عرفها السوريون وعرفوا الكثير من شخصياتها، أولئك المثقفون، أو أشباههم من: أدباء، وفنانين، وأطباء، ومهندسين، ومحامين…إلخ، أولئك الذين لا ينضوون ضمن أحزاب معارضة، ولكنهم “معارضون”؛ الأمر الذي ألزمهم بحل هذا التناقض؛ فكان لا بد لهذه الشريحة من أن تفسر غيابها عن الأحزاب السياسية المعارضة، فراحت تتحدث عن التباين العميق والاختلاف الجذري مع هذه الأحزاب المنفعلة غير الفاعلة والطفولية والمغامرة…إلخ.

ومن آثار هذه الحكمة المدمرة أن عرفت معظم المدن السورية هذه الظاهرة، ظاهرة الشرائح التي تصنف نفسها ضمن المعارضة، لكنها لا تذهب إلى أي فعل معارض منظم؛ لأنها أوسع رؤية، وأعلى منزلة… وعلى هذا فإن أقصى ما تفعله، هو: لقاءات تتناسل من لقاءات، ونقاشات تتراكم على نقاشات، وحوارات تنام على وسائد حوارات، وهي لقاءات ونقاشات وحوارات مرصودة ومحروسة ومرعية غالباً من أجهزة المخابرات.

وكما في المدن السورية، فقد نشأت في اللاذقية ظاهرة الندوات واللقاءات الأسبوعية التي تنتدي وتلتقي في أحد المطاعم، الذي تذهب إليه غالباً الشريحة المقتدرة مالياً؛ أي تلك التي تلتقي فيه وتنتدي، وهي الشريحة ذات الأعمال الخاصة أو الأكاديمية المعروفة كالأطباء والمهندسين ومدرسي الجامعة والمحامين…إلخ.

وعند هذا الحد لابد من الإشارة إلى أن العلاقة بين هذه التجمعات والأجهزة الأمنية لم تكن ودية دائماً؛ فكان لابد من رسالة توجه بين الفينة والأخرى إلى هذه التجمعات، أو من استدعاء لأحد ما من أطرافها، أو من تنبيه إلى صاحب المطعم…إلخ، ولقد كانت بعض هذه التنبيهات كافية لتجميد اللقاء نهائياً، وبعضها كاف لإعادة اختيار عناصره؛ فيتم استبعاد من يُظن- محض ظن- أن الأمن يرى فيه تعكيراً لما هو مسموح به…

ومع ذلك، وبالرغم من ذلك فإن الأمر قد اختلف بعد انفجار الثورة السورية؛ إذ إن التفاصيل اليومية للحدث لا يمكن مقاربتها بأحاديث عامة بلا أي محددات، ما دامت هي ماثلة بكل فجورها: ثمة دم يسفك، وثمة اعتقالات، وثمة مظاهرات، وثمة جيش يجتاح البيوت… وعليه كان لا بد من مقاربة أخرى، وهي مقاربة دفعت أبطال هذه التجمعات إلى الانزلاق في أحد ثلاث خيارات:

    قسم قرر أن يغادر المساحة الرمادية المفروضة، وأن يذهب إلى الخيار الواضح في معارضته، وبالتالي إلى مساندة الثورة بوضوح.

    وقسم آثر الصمت؛ فهو غير مقتنع بآليات عمل أطراف الثورة، أو غير قادر على دفع ثمن خيار المعارضة.

    وقسم لم يتقبل فكرة الصمت، ولا يمكنه دفع ثمن خيار المعارضة، وبالتالي لابد من حل التناقض الذي يواجهه بين الثورة والسلطة؛ فتبنى شيطنة الثورة؛ كي يبرر عدم التحاقه بها. وقد ذهب بعض هذه الفئة إلى تأييد السلطة علانية، وإلى اعتبار تأييده لها خياراً وطنياً، وليس جبناً أو انتهازية كما هو في حقيقته.

لقد كان القسم الثالث هو الأكثر انتشاراً بين “أنتلجينسيا” اللاذقية، وقد ساعد في زيادة عدد هذا القسم انتقال الانتماء الطائفي عند قسم كبير منهم إلى واجهة خياراتهم ودوافعهم؛ وهذا ما يفسر حجم العداء الشديد للثورة الذي غلف خطاب عدد كبير منهم، وهو ما يفسر الدفاع السخيف عن الجيش السوري، وهو ما يفسر رؤيتهم لهذا الجيش على أنه المنقذ والمخلص، في الوقت الذي يعرفون فيه جيداً: أن هذا الجيش لم يعد إلا ميليشيا تتبع عائلة حاكمة وتخدمها، وأنه ليس أكثر من ميليشيا تسرق وتدمر بيوت السوريين وأملاكهم؛ فهو بالتالي ليس جيش دولة، ولا جيش وطن.

هكذا لم يعد “النظام” قادراً على الاستمرار في شروط لعبته السابقة، وما عاد قادراً على ادعاء حرص تعوّد على إنعاشه بالخوف، وعلى تجميله بالكذب؛ فتخفف من هذا الحرص الثقيل عليه، فلم يعد يخجل من عريه الكامل، ولا من صفقاته المعلنة مع أي طرف يمكنه أن يساعد في بقائه على كرسي الحكم، سواء أكان إسرائيل أم تركيا أم أمريكا… ولم يعد يخجل، أو يتردد، من أن سوريا وشعبها ليسوا سوى أدوات مساومة من أجل هذا البقاء.

إذاً، في ضوء عري النظام السوري الفاضح: ما الذي يجبره على إبقاء ورقة توت، كانت تساعد الشرائح الرمادية على التستر بها…؟

لقد اختلفت المعادلة … هذا منطوق النظام بالفم الملآن: هكذا نحن بكامل عرينا… هكذا كنا، وهكذا سنكون، وهكذا سنحكم سوريا شئتم أم أبيتم، فمن يريد أن يقف معنا؛ فعليه أن يتعرى…ومن لا، فلا مكان بيننا لنصف الموقف. إن شروط اللعبة كلها قد اختلفت.

إذاً، بعد أن تختفي شماعة الثورة: على أي شماعة سيعلق هؤلاء المتباكون على الوطن الضائع موقفهم الداعم للنظام الذي دمر الوطن؟ وكيف سيبررون كل هذا الدمار؟ وكيف سيبررون كل هذا التفاوت الطبقي الهائل الذي أنتجته الحرب؟ وكيف سيبررون تسيّد العصابات والميليشيات على كامل الحياة الاقتصادية والثقافية والاجتماعية؟ وكيف سيبررون فصام لغة، وانتهازية مواقف، ورخاوة أرواح.

تلفزيون سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى