مراجعات كتب

بشارة تقلا.. إلى بيروت ودمشق أواخر أيام مدحت باشا عام 1880/ تيسير خلف

استكمالاً لمقالنا السابق عن رحلة الصحافي الفرنسي غابريال شارم إلى سورية بصحبة الصحافي بشارة تقلا؛ نقدم في ما يأتي الرحلة كما كتبها تقلا ونقل فيها انطباعاته عن أوضاع ولاية سورية في الأيام الأخيرة من ولاية مدحت باشا. وبشارة تقلا من مواليد كفرشيما في جبل لبنان في عام 1852، وهو شقيق سليم تقلا، وشريكه في تأسيس جريدة الأهرام عام 1875 في الإسكندرية. وذكر تقلا في رحلته التي نشرها في “الأهرام” على حلقات باسم “رحلة سوريا”، أنه التقى بشارم في بيروت بناءً على اتفاق مسبق بينهما.

ووصف شارم بأنه “أحد كتبة جريدة الـ”ديبا” الشهيرة إفرنسي جمهوري السياسة، وله أخوان أحدهما فرنسيس الكاتب البليغ في الجريدة عينها، ومترشح في هذه السنة لأن يكون في عضوية مجلس النواب، والثاني متوظف في نظارة المعارف”. بدأ تقلا رحلته من الإسكندرية في التاسع من نيسان (إبريل) 1880 على متن سفينة روسية كانت تعاني قلة النظافة وسوء الخدمة وعدم الانتظام، ووصل إلى بور سعيد التي يتنبأ بأنّ هذا الثغر سيبتلع أشغال الإسكندرية، لأن معدات تسهيلاته وافرة، وموقعه الجغرافي مناسب كل المناسبة، كما قال.

ثم يتحدث عن توقف السفينة في يافا لعدة ساعات، ويصف هذه المدينة الساحلية الفلسطينية بأنها “ذات مرفأ خطير، وأن نوتييها مشهورون بالمهارة في صناعتهم وبسوء معاملتهم للركاب”، ويضيف: “نزلنا إلى البر مدة وقوف الوابور ولم نتبين في داخليتها إلا أسواقاً قذرة حرجة وليس فيها جمرك لإحراز البضاعة، وترى الأهلين قد قنطوا من الحصول على الإصلاح بعد وفرة المواعيد غير المنجزة، وما يرونه من سلوك المستخدمين فإن القسم الأكبر منهم لا يسأل إلا عن مصلحته الذاتية، على أن المجلس البلدي لم ينشأ إلا ليكون اسماً بلا مسمى إذ لا يأتي بأقل فائدة، والخلاصة أن التشكي عام والحالة تقتضي الالتفات والإصلاح”.

وبعد أن يكتب سطوراً متحسرة على وضع هذا البلد الذي ينخره الفساد، يخبرنا أنه توجه إلى بيروت وكان يرى البر على يمينه مزداناً بمدن الشواطئ كحيفا وصور ورأس العين، مشيراً إلى وجود أرض مخصبة وسهولاً شاسعة جيدة التربة، ولكن فقد الأمن رفع عنها الأيدي العاملة وبدد شمل أولي الغنى.

دفاع عن التعليم بالعربية

يصل تقلا إلى بيروت، فيهبط في مينائها ويلبث هناك يومين حتى يلتحق به صديقه شارم، فيذهبان معاً إلى المدرسة الكلية، أي الجامعة الأميركية فيما بعد، حيث يقابلان رئيسها الدكتور بلس الذي أخذ يريهما أمكنة التدريس حتى وصلا إلى المرصد الفلكي حيث الدكتور فانديك، وهو رجل إفرنجي نبغ باللغة العربية، كما يقول تقلا، فأحرز فيها ما لم يحرزه غير قليل من أهلها، وقد خدم البلاد من الخدم أجلها، فألف بها الكتب العديدة في علوم متفرقة، وبالاختصار أحيا ربوع سوريا من العوم ما درسته السنون، وله فضل لا يطويه الزمن، كما يقول تقلا. ويصف لنا موقع المدرسة بأنه غاية في جوة الهواء، ومن قوانينها ونظامها أن لها حقاً شرعياً بإعطاء تلامذتها شهادة بكالوريوس عن العلوم، ودكتور عن الطب، ويستغرب ذهاب طلابها إلى عاصمة السلطنة للامتحان بعد أن ينهوا دراستهم.

ويلفت بشارة تقلا إلى أنه سمع من إدارة هذه الجامعة أن في نيتهم أن يبطلوا التعليم باللغة العربية ويستبدلونها بالإنكليزية ليتمكن التلامذة من إتقان اللغة الغربية فتجتمع فائدة الطرفين عدا ما يتناولونه من لغة القوم من الفوائد. ويعلق على ذلك بقول: “إنا نرى أن ذلك ضربة قوية على لغتنا إذا أصر الأساتذة على هذا، ولا سبيل لنا أن نعوض ما نخسره حينئذ بغير انعكاف أولئك المترشحين إلى ترجمة الكتب رويداً رويداً، غير أنه لما كانت حكومتنا لا تعضد مثل هذه المشاريع مادياً أو أدبياً فلا ننتظر إذاً غير مطلق التأخير ما تندفع الأساتذة أو التلامذة إلى طبع ما يترجم بالقسط من فضلات القوم”.

بعد ذلك يزوران المدرسة اليسوعية ومطبعتها ثم مدرسة الحكمة المارونية، ثم المدرسة اللعازرية ويختمان هذه الجولة بزيارة المدرسة البطريركية للروم الكاثوليك، حيث يلفت نظر القائمين على هذه المدرسة إلى ضرورة قصر تعليمهم على اللغة العربية، وأن يبتعدوا في تدريسهم عن الخوض في الخلافات بين الكوفيين والبصريين، ويلتفتوا إلى تدريس التلامذة في الكتب التاريخية المفيدة كابن خلدون، ويدربوهم على الخطب الارتجالية كما هو جارٍ في المدرسة الكلية (الجامعة الأميركية). ويلفت تقلا النظر إلى وجود شركتين في بيروت إحداهما فرنسية للعربات على الطريق الموصل بين بيروت ودمشق الشام، والثانية إنكليزية لتوزيع ماء نهر الكلب على المدينة، ويقول إن هاتين الشركتين حافظتا على مبادئهما المعروفة، فإن الأولى فيها كثير من المستخدمين الوطنيين، والثانية لا ترى بها غير إنكليزي واسع القباء.

 الطائفية مشكلة بيروت

ويقول: “صادف وجودنا في بيروت حادثة انتخاب المجلس البلدي واستعفاء حضرة رئيسه الهمام فخري بك الذي لم يشتغل لغير المصلحة العامة، ولم يكن فاعلاً بذلك التغيير غير روح التعصب الشرقي الذي إلى الآن لم نتمكن من أن نستعاضه بالوطنية. وقد أخبرنا مكاتبنا بأن قد رجع الرئيس إلى الرئاسة بعد الرجاء له فأملنا أن نرى بالأعضاء ما نرى بغيرهم من الالتفات إلى الوطنية والعمران لتكون نتائج الانتخابات حسنة وأن تقتدي أغنياء البلدة بالرئيس، أي أن يلتفتوا إلى ما لهم إذا لزم الأمر لتصليح حال البلدة بالرئيس، أي أن ينفقوا من مالهم إذا لزم الأمر لتصليح حال البلدة ومناخها بتزيين ساحاتها وتنظيفها ورش الطرق وأن يترك القوم حبل الترفض المذهبي الذي هو سبب اضطراب حكومات الشرق أجمع وقد زرعه رؤساء المذاهب المختلفة تأييداً للسلطة الدينية وبذره الحكام تأييداً لأغراضه في زمن لم يكن للمبادئ الحقة من نصيب، فاتصلت فروعه إلى أن صار الخلف بين الطوائف التي هي من مذهب واحد وبين الحكام الذين هم على شاكلة واحدة، فبعدت الوطنية، وانحلت العصبية في بقعة هي مملكة واحدة لم أرَ ما يجمعها إلى الوحدة غير التمسك بتلك السياسة التقليدية المذهبية السياسية”.

وبعد ذلك يتحدث تقلا عن حالة الأمن الجيدة التي هي من تنظيمات مدحت باشا، حيث إن رئيس الضابطة يدعى فوزي أفندي، أحد الشبان المتنورين، وقد أرضى الأهلين بحسن تصرفاته. ويضيف قائلاً إن في مدينة بيروت جرائد عديدة، وأهلها منصبّون على معرفة الأخبار السياسية واستطلاع مكنوناتها، ولهم إقدام على الاتجار، بحيث لم يتركوا مكاناً من العالم المتنور دون أن يكون لهم به قدم، وذلك مما يستدل به القارئ على استعداد هذا العنصر إلى التقدم والظهور مهما عاكسته النوائب ودافعته الموانع.

 في جبل لبنان

بعد الطواف على بيروت يصعد بشارة تقلا وغابريال شارم إلى جبل لبنان، وهناك، وعلى مأدبة دعا لها رستم باشا متصرف جبل لبنان، التقيا “المدعوين: قنصل جنرال فرنسا وغيره من فرنساويي بيروت، والمسيو تورشي مأمور سفارة فرنسا الحربي الذي أتى من الأستانة للتجول في أنحاء سوريا، مقابلة لمجيء المسيو لايارد، كإنذار لحكومات الشرق بأن لا تتهور بالميل إلى جهة دون أخرى، كي لا تزلّ القدم ويكون للسياسة مضمار تلعب فيه الخيول الأدبية طلائع لغيرها”.

ووصف تقلا المسيو تورشي بأن “له مزية في تفقد الأحوال واستطلاع خفايا الأميال، قوي الجأش مسموع الكلمة ومن المقربين إلى عظمة السلطان”. ويذهب رحالتنا إلى منطقة الحدث، وهي مركز المتصرفية، حيث التقيا موريل بك قائد الجيش، ويشير إلى أن “عساكر الجبل أشداء البنية حسنو الصورة تلوح على وجوههم لوائح الفراسة والشجاعة، وكان عليهم صاحب العزة سليمان بك شقير، وهو من الأذكياء النبهاء. أما الجندي فراتبه 26 فرنكاً شهرياً وهناك ضبطية منظمة كالعسكر، وراتب الواحد 20 فرنكاً شهرياً”.

ويشير إلى أن مركز المتصرفية هو بيت الدين صيفاً وساحل بيروت شتاءً، وقد أقام رستم باشا على حدود المتصرفية جنينة تقصدها عائلات بيروت تصدح فيها الموسيقى يومين في الأسبوع. ويحصي تقلا عدد المدارس في الجبل فيقول: “كانت 263 مدرسة بين تجهيزية وابتدائية تحتوي 7762 تلميذاً و598 تلميذة يدرسون مع العربية، الفرنسوية والإنكليزية عدا ما هو محدث من المدارس”. وذلك ما يدل على انتباه اللبنانيين للتخلص من الحالة السابقة والتقدم إلى معارج المعارف وليت المسألة تختتم بتعميم تعليم القراءة. وكان من نية الحاكم أن يجعل في كل قائمقامية سوقاً ترويجاً لحركة الأشغال وإيجاداً لأسباب المكسب، وهو عمل مفيد إذا قرن بإيجاد مجالس بلدية ذات قوانين محكمة لا كمجلس زحلة، فهو مغلول اليدين لا يمكنه الإتيان بعمل..”. ويلفت النظر إلى أن تجارة الجبل معظمها الحرير والزيت، فإن عليها رواج الحركة، وقد كان هذان الموسمان في هذا العام جيدين واستبشر الأهلون بإقبال موسم الحبوب أيضاً. وفيه معامل عديدة للحرير والصابون وعصر الزيتون وللأهلين نشاط في العمل، ولهم ميل غريزي إلى الأسفار والاتجار، فلا ترى منهم مكاناً خالياً، كما يقول.

في رحاب دمشق

ويصل بشارة تقلا وغابريال شارم إلى دمشق، فيكتب تقلا متغنياً بجمالها ومحاسنها: “هي دمشق جنة سوريا وعدنها، وقد ذهبنا إليها ووجدنا على مقربة من مدخلها بعض الأصحاب لنا بالانتظار، معدين لنا الركاب فنزلنا وأخذنا نخترق بطن وادٍ لا يسمع فيه غير خرير ماء وصدح بلابل، إلى أن أشرفنا على المرجة الفيحاء وهي مسرح فسيح أحاطت بجوانبه الأشجار وانسلّ فيه نهر بردى بمائه الفضي انسلال الأفعوان. ومن هنالك إلى لوكندة ديمتري، ومع أنها هي الوحيدة في دمشق، فقد أحكم صاحبها نظامها وخدمتها وترتيبها”.

ويضيف قائلاً: “بالعموم فدمشق غوطة وجنات تجري من تحتها الأنهار تنقل إليها من فاكهتها سائر الأقطار وتربتها غاية في الخصب غير أن أسواقها ضيقة، وأرضها على غير انتظام وقد كان من نية مدحت باشا فتح شارع متسع يخترق البلدة على طولها فرأى من الأهلين عدم الموافقة لما تضطر أن تخسره من أملاكها فكثرت الحرائق في داخلية البلدة وقيل إن ذلك بإيعاز”. ويشير تقلا في حديثه هذا إلى الشارع المستقيم الذي كانت تشغله الأبنية المخالفة وتغلقه بطريقة عشوائية أدت في ما أدته إلى استيطان بعض الأمراض فيه، إلى أن أُحرِق في مطلع عام 1879، ما سمح للوالي بفتح الطريق بين حيَّي باب الجابية وحيَّي باب شرقي وباب توما، وهو الشارع الذي يسمى اليوم سوق مدحت باشا.

وعرَّج تقلا في معرض وصفه لمدخل المدينة، على “جنينة الملة” التي “بدأ بإنشائها دولتلو صبحي باشا، ورممها دولتلو جودت باشا، وأحسن قيامها أبهتلو مدحت باشا، وهي جنينة متسعة تهندست على الذوق الإنكليزي، وقد حضر إلى هنالك جوق مشخصي الروايات العربية وعسى أن يتقدم هذا الفن”. وذكر أن أهالي دمشق “أميل إلى اللهو من المطالعة، وأميل إلى الانشراح من الوقوف على حقائق الأخبار، فخصصوا مثلاً يوم كذا لمكان كذا، وآخر للمنتزه الفلاني، حيث يجتمعون من الجنسين لقتل الوقت، وأما أدبياتهم فعلى جانب مهم من الظرف ورقة الطبع وطيب المعاشرة ولنسائهم من شهرة الجمال وحسن الخلق ما يقصر عنه الوصف”.

وبعد أن ذهب تقلا وشارم لزيارة الأمير عبد القادر الجزائري، وشاهدا منه فوق ما سمعاه من الدعة وقوة الجأش وسرعة الخاطر، كما يقول زارا مدرسة الصنائع التي أنشأتها اللجنة الخيرية التي أمر بتشكيلها مدحت باشا وكان بها نحو مائة تلميذ يكتسون ويأكلون وأكثرهم من الأيتام.

البيوت الدمشقية المذهلة

ثم يحدثنا تقلا عن زيارته ورفيقه لبعض البيوت المتقنة كبيت الشامي وبيت شلهوب ولزبونا وشمعايا والإسطنبولي، وهي كما يقول من أحسن بيوت الشام قد أفرغت الخزائن على نقشها بالذهب ويقول إنه شاهد من رقة أصحابها ما أكد لطف الدمشقيين. وبيت شلهوب المذكور هنا هو بيت جد الممثل عمر الشريف، أما بيت الإسطنبولي فهو بيت والد أول طبيبة سورية درست في الولايات المتحدة، وهي الدكتورة ثبات الإسطنبولي الشهيرة عن التعريف.

ويسترسل تقلا في وصف جمال النساء اللواتي صادفهن في طرقات الحيّ اليهودي، قائلاً: “أما المنظر في حارة اليهود ذلك اليوم فكانت جامعة من الحسن شقتيه، وقد برز الجنس اللطيف منتشراً بين تلك الأماكن من أفراد وعشرات يتهن بطراطق من الجمال خلنا أننا منهن في تيه، وقد عقدن على مياسمهن ألوية الدلال وتختمن بخواتم الملك على القلوب بأعين ريشها الهدب، تشق الكبود قبل الجلود، وعقارب أصداغ ليس يشفى من لسعها وأجياد لم نتبين منها عاطلاً من مطوّق. وزارهما بعد ظهيرة ذلك اليوم “عزتلو واصف أفندي مأمور بوليتيقة سوريا من قبل أبهتلو مدحت باشا”، واصطحبهما لمقابلة “صاحب الأبهة” الوالي.

وقبل أن يصلا إلى الوالي زارا الجامع الأموي بصحبة عدد من رجال البوليس فدخلاه متعجبين من إحكامه، وصعدا المئذنة فبان لهما منظر بضيق عن البيان كما يقول، شاهدا منه دمشق وضواحيها لأن الجامع في منتصف البلدة كما يقول. ويشدد على أن لدمشق مزية في صنع المنسوجات الحريرية والقطنية، وهي، كما بقول، صنعة شريفة تصحبها السعة في الرزق والبسطة في العيش لو نزع الأهلون إلى استخدامها كما تقتضي المبادئ الوطنية، ولو التفتت الحكومة إلى توسيع نطاقها وتشجيع محترفيها، إذ يستحيل نجاح أي عمل وطني ما لم تعضده الحكومة، لا سيما في بلاد ليس لها جمعيات تحث على وجوب الائتلاف واجتماع الكلمة، بل هناك مناظرات نفسانية منشؤها التشيع المذهبي الذي يفضي بصاحبه إلى التأخر التام والانحطاط الدائم. كما يقول.

انتقاد للفساد

وحول حال النظام في المدينة يقول تقلا: “أما حال الحكومة فحدث ولا حرج فالنظام فقيد، والإدارة سيئة، والرشوة سائدة يتقاضاها الموظفون تقاضي الحرفة. وللمجلس البلدي حال لا تشابهها حال، وليته يستفيد من مجلس بيروت البلدي وحضرة رئيسه مبدأة وغيرة”. ويقول: “مما شاهدناه من آثار دمشق قاعة فسيحة في منزل المرحوم عبدالله بك العظم، وإنها لقاعة أخذت الهندسة والإتقان وإحكام التفنن فيها المأخذ الأتم، وجميعه على الذوق والعربي البحت، وتاريخ ذلك نحو 130 سنة، على أن صاحب المنزل أقام بيتاً بذل آلاف الليرات في بنائه وأتى على ذوق مختلط بين تركي وإفرنجي وترك العربي، وقد كان يحسن به أن يرمم القديم، فإنه أجل وأفضل”. بعد ذلك يشير إلى أسقف الطائفة السريانية الكاثوليكية حيث يصفه بأنه “من أصدق مؤرخي الشرق، وله في فن التاريخ والعلوم الرياضية واللغات الباع الطولى، فجالسناه أكثر من مرة وعرفنا ما انطوى عليه من حسن الصفات سعة المعرفة، ولعلنا لا نخطئ إذا قلنا إنه أعلم أسقف شرقي”.

مدحت باشا اليائس

وقبل أن يبارح تقلا ورفيقه دمشق قابلا مدحت باشا مرة ثانية، ودار بينهم حديث خاص، امتنع تقلا عن نشره، ولكنه علّق بالقول: “إني مضرب صفحاً عن نشر خلاصته، ولكني لا أنكر ما لأبهته من نبالة المقاصد، وسمو المدارك، وليته سار الهوينا في خطته، فإن العجلة أوقفت الحركة”. ومن المؤكد أن بشارة تقلا لم يكتب عن كل ما يخص زيارة سورية، نظراً لحساسيات القضية، إذ إنه أجَّل نشر هذه المقالة إلى ما بعد رحيل مدحت باشا بأسبوع.

ومن المرجَّح أنه تعرف في هذه الرحلة إلى أبي خليل القباني حين زار مسرحه الصيفي في “جنينة الملة”، ولكنه لم يعلّق على هذه الزيارة إلا بكلمات تشجيعية مقتضبة. وفي اليوم التالي ودع تقلا وشارم دمشق وغوطتها النضرة، وسارت بهما المركبة تخترق السهل والحزن حتى وصلا إلى شتورة ومنها حوّلا السير صوب مدينة بعلبك، فاجتازا سهلاً مخصباً كان يسمى في أزمان الرومانيين كبد سوريا، كما يقول، وهو سهل تشقه مياه الأنهر وتخصب فيه المزدرعات، ولكن الإهمال أفقده نظامه، فالزراعة فيه ما زالت على ما كانت عليه من القدم تجري مجرى التقليد دون رعاية الإصلاحات الجديدة والمخترعات الزراعية المفيدة، وقد أنشأوا في السهل المذكور سكة للعربات تؤدي إلى بعلبك من زحلة وأنفقوا المال الوافر في إنشائها، وحمّلوا الأهلين ما لا يطيقون، وليتهم أنفقوا منها أو أتموها، كما قال. بعد ذلك يصف لنا مدينة بعلبك ثم زحلة قبل أن يعود ورفيقه إلى بيروت حيث يتوجه شارم إلى باريس وهو يعود إلى الإسكندرية.

العربي الجديد

——————-

غابرييل شارم.. فرنسي يلتقي مدحت باشا في دمشق قبيل عزله عام 1880/ تيسير خلف

في الأشهر القليلة التي سبقت إقالة والي سورية مدحت باشا من منصبه، أواسط العام 1880، زار دمشق صحافي وكاتب فرنسي مرموق يدعى غابرييل شارم (Gabriel Charmes)، كان من أهم كتاب صحيفة ديبا الشهيرة. وسبب الزيارة التي اصطحبه فيها صديقه بشارة تقلا، أحد مالكي صحيفة “الأهرام” المصرية، من الإسكندرية، هو الاطلاع على أوضاع ولاية سورية المهمة لفرنسا في عهد مدحت باشا ومعاينة طبيعة التغييرات التي أنجزها خلال العامين اللذين قضاهما في ولايته.

كتب بشارة تقلا وقائع رحلته ونشرها في جريدة الأهرام، بينما قام شارم بنشر وقائع رحلته في مقالات متسلسلة جمعت بعد وفاته عام 1886 ونشرت في كتاب تحت عنوان الرحلة إلى سورية، في العام 1891. ولم تتضمن هذه الرحلة وقائع زيارته إلى دمشق التي خصص لها مقالاً مستقلا غاية في الأهمية نشر بعد عودته إلى باريس.

ولم يدخر غابرييل شارم وقتاً، فنشر حال عودته إلى باريس، في السادس والعشرين من أيار/ مايو 1880، مقالاً غاية في الأهمية استعرض فيه خلاصة رحلته إلى سورية، وكشف بشكل مباشر وفج وضع الوالي مدحت باشا في تلك اللحظة التاريخية الحرجة، وهو ما استرعى اهتمام الباب العالي الذي قام بترجمة المقال للسلطان عبد الحميد والتعليق عليه، وهو ما سرع في إصدار قرار إقالة الوالي الإصلاحي وإبعاده عن سورية.

مبررات الرحلة

بدأ شارم رحلته إلى سورية من الإسكندرية، حيث يستذكر العامين اللذين قضاهما في مصر قائلاً: إن القيام برحلة إلى سورية أمر لا بد منه لأي دراسة جادة حول مصر، فهذان البلدان يكمل بعضهما بعضا بشكل طبيعي، ولا يمكن فهم بلد بمعزل عن الآخر، كما يقول، فهناك علاقات مادية وأخلاقية وسياسية وتاريخية بين البلدين.

ويشرح شارم أهمية سورية لفرنسا بقوله: سورية من بين جميع بلدان الشرق هي الأكثر ارتباطًا بفرنسا بالذكريات والمصالح. ويضيف: يجب أن نعود على الأقل إلى شارلمان لنكتشف أصل تأثيرنا على سورية، فمفاتيح القبر المقدس، التي أرسلها هارون الرشيد إلى الإمبراطور العظيم، لم تفتح لنا أبواب الحرم المسيحي فحسب، بل فتحت لنا أبواب الشرق كله.

ويشير شارم في كلامه هذا إلى بعض الامتيازات الدينية التي حصل عليها شارلمان في كنيسة القيامة ومنها مفتاح القبر المقدس. ويقول: “من القدس تمكنّا تدريجياً من الوصول إلى جميع مناطق الشرق، حيث أصبح اسمنا (الفرنجة) مرادفاً للأوروبي. كنت أعتقد دائماً أنه على الرغم من مصائبنا، فإن ما زرعه أجدادنا في هذه الأرض المباركة، حيث تنمو المحاصيل بوفرة غير معتادة، لا يمكن أن يذهب هباءً. لقد أثبت لي مشهد مصر بالفعل أنني لست مخطئاً. بقي أن أرى ما إذا كانت سورية ستؤكد انطباعاتي الأولى”.

ويستطرد شارم في شرحه للتنافس الفرنسي البريطاني على طرق التجارة في الشرق، مشيراً إلى حالة الوهن التي تدب في جسد السلطنة وكيف ستتعامل فرنسا مع ذلك في ظل التحالف والتنافس مع البريطانيين، مؤكداً أهمية سورية في طريق التجارة البحري وخط سكة الحديد المستقبلي الذي سيعبر، عاجلاً أم آجلاً، كما يقول، وادي الفرات ويصل إلى الخليج العربي.

ومع ذلك، كما يقول بكل عنجهية: “في سورية، لم تتمكن أي قوة، ولا حتى إنكلترا، حتى الآن من الحصول على مثل هذا التأثير القوي والدائم مثل تأثيرنا، وإذا كان احتلال قبرص من جانب الإنكليز، في السنوات الأخيرة، أدى إلى تطور في ترسيخ البعثات البروتستانتية ومشاريع الخدمة العامة الكبرى، فإن هذه الأرض لا تزال حتى الآن فرنسية تمامًا، كما قال اللورد بيكونزفيلد، هذه المصالح لا تزال محفوفة بالمخاطر لدرجة أنها لا تسبب لنا إنذارات خطيرة، فالأمر متروك لنا للحفاظ على قيادتنا المؤثرة التي ندين بها لقرون من السياسات المتسقة والذكية”.

ثم يشرح سبب قدومه إلى سورية بقوله: “هذا هو السبب الذي أوصلني إلى سورية. كنت حريصاً على دراسة أجناسها وعاداتها ومؤسساتها ووضعها الإداري والاقتصادي والصناعي والتجاري. رغم عدم تأكدي من استطاعتي القيام بذلك. وإلى جانب دراسة البلد، أنا أحب السفر”.

ويلفت النظر إلى أنه لا ينوي في هذا الوقت عرض نتيجة ملاحظاته السياسية في رحلته هذه بل سيكتفي بسرد الانطباعات الشعرية والأخلاقية عن المدن التي سيزورها. نظرا لأن الحديث بالسياسة سيؤثر على كتابة رحلته عبر واحد من أجمل البلدان في العالم والذي من بين كل تلك البلدان ستكون الرحلة إليه مليئة “بالذكريات المقدسة”، في إشارة إلى مواقع الحج المسيحية التي زارها فعلاً وتوقف عندها ملياً مستلهماً قصة يسوع من خلال الجغرافيا المسيحية.

على متن سفينة روسية

يقول شارم: “كنت أهجس بهذه الأفكار أثناء صعودي للسفينة التي ستقلني من الإسكندرية إلى يافا في 21 آذار (مارس) 1880. لكن هل سأعترف بذلك؟ كانت أفكاري تقاوم فكرة الابتعاد عن مصر. عندما غادرت هذا البلد الجميل، شعرت بألم القلب الذي يشعر به المرء عادة عندما يترك وطنه وراءه. شعرت بحنين كبير وأنا أرى جدران الإسكندرية البيضاء تختفي شيئًا فشيئًا في الأفق، وتخيلت نفسي وأنا أختفي أيضاً في الضوء الأفريقي المبهر. مآذن القاهرة وجبل المقطم أصبحا بعيدين عن ناظري. حاولت عبثًا التحديق في الفضاء علني أرى المدينة التي أغادرها بحزن عميق”.

ويضيف: “من أهم الأشياء الرائعة في حياتي هذه هو المكان الذي عشت فيه، وبدا لي، وأنا أغادر مصر، أن جزءًا من خيالي وقلبي قد انتزعا مني.. ساحل مصر منخفض للغاية بحيث لا يمكن رؤيته لفترة طويلة؛ المآذن الأخيرة، منارة الإسكندرية، تنحدر تدريجياً إلى الأمواج؛ السماء لا تزال مشرقة مع تألق عجيب، وتحدث المسافر الحزين عن هذا البلد الذي يغيب ويختفي”.

عرب وأتراك وسيمون

يلفت شارم إلى أن السفينة التي حملته هي سفينة روسية غير مريحة، ولكن سطحها كان يوفر مشاهد مثيرة ومتنوعة. كانت غالبية الركاب من الحجاج الروس الذين تغطي رؤوسهم قبعات ثقيلة وأجسادهم ملفوفة بمعاطف متسخة من جلود الغنم، فيما اختفت أقدامهم داخل أحذية ضخمة يقطر منها الزيت والشحوم ومياه البحر، مشيراً إلى أن النساء، اللواتي يرتدين أحذية كبيرة، كنَّ أهدأ من الرجال.

ويشير إلى مشهد مناقض لمشهد الحجاج الروس البائس وهو وجود العديد من الركاب العرب الوسيمين، والأتراك الفخورين، والشباب السوريين برؤوسهم المزينة بكوفيات متعددة الألوان، حيث أظهروا أناقتهم وجمالهم جنبًا إلى جنب مع غرابة موسكو وتجهمها.

ويقول: “عند مغادرتهم الإسكندرية، جلس الحجاج الروس على الأرض، وبدأوا بضرب صدورهم، والركوع، ورسم علامات الصليب بحماسة. كان يجب أن ترى كيف أن الشرقيين، وهم مستلقون على سجاد رائع، ملفوفون بثيابهم البراقة، يلقون نظرة ازدراء على هذه المومياوات غير المحببة. كان من المستحيل التفكير في مشهد يعطي فكرة أكثر دقة عن تناقض الشرق والغرب”.

ويستطرد قائلاً: “حتى في الصلاة، يبدي الشرقيون نعمة وكرامة فريدين. ينحنون ببطء وينهضون باتجاه مكة، دون أدنى تسرع.. وعلى العكس من ذلك، كان الحجاج الروس يؤدون على عجل، من خلال حركات متشنجة مليئة بالتفاهات، عباداتهم التي لا نهاية لها. بعد بضع ساعات، تكدس المسيحيون والمسلمون والروس والعرب بعضهم فوق بعض، ممزوجين بدرجات اللون الرمادي مع التنويعات القرمزية، ورائحة دهن الغنم، وعلامات الصليب والسجود في سبيل الله..”.

ربان ثرثار

يشير شارم إلى أن ربان السفينة الذي كان يتكلم الفرنسية كان ثرثاراً للغاية، واصفاً إياه بالفولتيري المسعور، حيث أخذ على عاتقه أن يخبر شارم بأن معظم مواطنيه الذين رآهم أمام عينيه كانوا حمقى مدفوعين بالتعصب الأعمى للحج إلى فلسطين. حيث أتوا إلى ميناء أوديسا على البحر الأسود بعدما اجتازوا روسيا سيراً على الأقدام من جانب إلى آخر، في حالة يرثى لها من التعب والإرهاق.

ويقول إنهم أتوا من بلاد الثلج إلى أشعة الشمس المصرية التي التهمتهم. وهذا لم يمنعهم من الصلاة، أو رسم علامات الصليب، أو الترانيم. ويشرح شارم أن مهنة الحج تنتشر في روسيا على نطاق واسع، حيث يكتسب المرء هناك سمعة القداسة القادرة على محو المعاناة ونسيان الكثير من الآلام.

لكن لا يمكن للجميع متابعتها لأنها باهظة الثمن. ويؤكد شارم أن المسافة من الإسكندرية إلى يافا قصيرة جدًا؛ ومن الممكن أن تكون أكثر خطورة إذا لم تتوقف عند بورسعيد، التي يصفها بأنها مدينة فريدة من نوعها، حيث رأى ميناء وورش شركة السويس، والحي العربي المبني من الألواح الخشبية، مشيراً إلى وجود متاجر صغيرة وملاه ليلية قد تثير اهتمام القبطان الروسي، ولكن لم يكن لها التأثير نفسه عليه هو.

ويروي رحالتنا وجود رفيق له في السفر هو شاب فرنسي يعمل في إدارة مصرية بدأ يتحدث العربية بطلاقة. وخلال النهار يتعرّف إلى سوري شجاع في سن متقدمة إلى حد ما كان قد صعد على متن السفينة في بورسعيد وكان ذاهبًا إلى بيروت مع ابنته، وهي امرأة سمراء ذات عيون جميلة، مرتدية الطراز الأوروبي، ولكن ملامحها، وصوتها، وبشرتها، ومشيها، ولهجتها، كانت شرقية، كما يقول.

ويشير إلى أنها كانت تتحدث الفرنسية بطلاقة وكانت تدعى روزا. ويبدو أن هذه الفتاة روت له قصة حياتها، إذ نشأت مثل جميع الفتيات الصغيرات في بيروت تقريباً في دير راهبات الناصرة، وقد تلقت تعليماً فرنسياً. وكانت تعزف على البيانو، وقد قرأت الشعراء والروائيين الفرنسيين.

ويقول إن هذه الفتاة من خلال “قضبان قفصها الشرقي” (!)، أعطته لمحة عن عالم جديد بالكامل مليء بالجاذبية التي تأتي من المجهول. ويبدو أن والدها أراد تزويجها لابن عم لها اكتسب ثروة كبيرة في مصر، لكن روزا لم تتقبله بسبب دمامته فعادت مع والدها إلى بيروت.

في الصباح التالي، عند الفجر، وجد شارم نفسه عند يافا، ويقول: “إن ساحل سورية ليس أعلى بكثير من مصر. يمكن رؤية بعض الارتفاعات هناك فقط في اتجاه أبولونيا وقيصرية”. ويضيف: “منظر يافا جميل جدا. أجد عمومًا أن المسافرين قساة للغاية بالنسبة لهذه المدينة، التي يصورونها على أنها قبيحة وخالية من المناظر الخلابة”.

بعد ذلك يزور شارم مدينة القدس وبيت لحم وجميع مزاراتهما المسيحية، قبل أن ينتقل إلى طبريا والجليل على خطى المسيح، قبل أن يتوجه إلى بيروت، حيث يلتقي صديقه بشارة تقلا ويتوجهان لزيارة دمشق، حيث يلتقيان بالوالي مدحت باشا في لقاء طويل عكس فيه إحباطه من مسيرة الإصلاحات التي كان ينوي أنجازها في سورية.

في دمشق

لم يدخر غابرييل شارم وقتاً، فكتب حال عودته إلى باريس، بعدما ودّع صديقه تقلا في بيروت، مقالاً في صحيفة الـ”ديبا”، في السادس والعشرين من أيار/ مايو 1880، استعرض فيه خلاصة رحلته إلى دمشق، وكشف بشكل مباشر وفج وضع الوالي مدحت باشا في تلك اللحظة التاريخية الحرجة .

وقد سخر شارم من الأوهام التي علقتها بريطانيا، أو ادعتها، بأن حملة إصلاحات كبيرة وجوهرية سوف تشهدها سورية.

وقال: “يبدو أن السلطنة العثمانية قد تظاهرت بعد اجتماع مع المملكة المتحدة في جزيرة قبرض بأنها سوف تتعاون مع التطلعات الإنكليزية، والتي تحدث عنها سفير بريطانيا كما لو أنها كانت سوف تقلب وجه سورية تماماً”.

وأضاف شارم أن “الحقيقة تبدو وكأن السلطنة قد ساهمت بشكل مقصود، أو غير مقصود، بتضخيم الأوهام البريطانية وآمال السوريين بتعيينها مدحت باشا، الليبرالي المقرب من لندن، ليكون واليا على سورية، وخاصة أن سمعته قد صدحت في أوروبا والأستانة، وهو كان محاطاً بمجموعة من الاصلاحيين المحدثين الذين أبعدهم الباب العالي عن الأستانة”.

وكشف شارم أن مبعوث مدحت باشا الذي حمل خطته الإصلاحية لموافقة الباب العالي، عاد خائب الرجاء بعدما رفضتها السلطات العثمانية تماماً. وسخر “من صمت إنكلترا عن مساندة وتوفير الدعم لحليفها وصديقها”، متسائلاً عن “سبب عجز قوة تجارية وعسكرية كبريطانيا عن دعم حليفها؟”. وقلل شارم من شأن “خطط الإصلاح الكبيرة التي وعد بها مدحت باشا”، والتي “اقتصرت على أعمال بنية تحتية تمثلت بشق طرق لم يكن هناك من حاجة إليها”، منتقداً “عملية توسيع الطرقات هذه، والتي دمرت أجمل ما في دمشق من بازارات وحارات”.

ومن الواضح أن الكاتب يشير إلى حريق شهر آذار/ مارس 1879، وما نتج عنه من تجديد للطريق المستقيم، وهي مبالغة من الكاتب، تهدف إلى الحط من شأن مدحت باشا، فالأسواق العشوائية التي احترقت كانت في حقيقة الأمر أكبر تشوه عمراني في دمشق القديمة، بالإضافة إلى أنها كانت منبعاً للكثير من الأمراض والأوبئة المتوطنة؛ كداء السل والتراخوما والجرب بسبب قذارتها وعدم وصول الشمس إليها.

ولم يفوِّت الكاتب الفرنسي فرصة لإبداء رأيه بالعروض المسرحية العربية والتركية التي شاهدها في دمشق، فقال: “أما المسارح فقد قامت بترجمة رديئة لتراجيديات كورني وموليير إلى كل من العربية والتركية لتصبح مهازل سيئة هابطة المستوى”. وفي هذا الخبر تأكيد على أن أبا خليل، في تلك الفترة، قدم أعمالاً فرنسية مترجمة، والمقصود هنا، على الأرجح مسرحية “متريدات” للكاتب الفرنسي جان راسين، و”ناكر الجميل” المقتبسة بإعداد كبير عن “تابع الكذاب” لكورني.

التنافس مع الإنكليز

تناول شارم زيارة السفير لايارد الى سورية، وجولته في كافة أرجاء البلاد من دون أن يعلن عن صفته الرسمية أو يكون مصحوباً بالحاشية الرسمية، زاعماً أن “لايارد اختار هذه الطريقة، ليتمكن من الاستمتاع بـ(المتع) التي يوفرها الشرق بعيداً عن الأعين، والتي يبدو أنها كانت تنتظره في كل محطة من محطاته”.

ورأى أن “زيارة لايارد كانت قد أحيت الآمال بأن إنكلترا سوف تتحرك لدعم مشروع الإصلاح من جديد. ولكن الآمال خابت مرة أخرى”. ويؤكد شارم أن “سورية عاشت على هذه الأوهام لمدة 18 شهراً. لم ينفك مدحت باشا خلالها من الشكوى ومراسلة الباب العالي.

وفي كل مرة يتم سؤاله عما أنجزه منذ وصوله يكون جوابه دائماً بأنه مقيد اليدين، ولا يزال ينتظر أن يمنح حرية التصرف، وأنه لا يمتلك سلطة حقيقية على الجيش والهيئة القضائية، وأنه في مراسلاته قد طالب بمزيد من الاستقلالية عن الباب العالي لأن لامركزية واسعة، تبدأ من سورية، هي الإجراء الوحيد الكفيل بإنقاذ السلطة العثمانية”.

ويوافق الكاتب الفرنسي على طروحات مدحت باشا، ولكنه يرى أن الوالي “يضلل نفسه باعتقاده أن الباب العالي سوف يوافق على طروحاته. ففي كل مرة يتم تولية أحد الباشاوات على إقليم من الأقاليم، ويمنح سلطات واسعة، تظهر طموحات الاستقلال لديه”.

ويقول: “إن السلطان ليس بحاجة لجواسيس لينقلوا له ما يتم تداوله وكتابته في سورية”، في إشارة إلى نشاط جهاز الخفية، ويشير إلى حادثة حسبت ضد الباشا تمثلت في كتابة على إحدى الإصلاحيات تقول إنها شيدت بأمر من “مدحت باشا خديوي سورية” .

وقصة “خديوي سورية” رواها الوجيه الدمشقي عبد العزيز العظمة بقوله: “إن مدحت باشا أنشأ مدرسة الصنائع لتعليم صناعات الحياكة والحدادة والنجارة والخياطة وغيرها، فكتب المكتوبجي بهاء بك تاريخاً بالتركية ضمن البيت الأول منه ما تعريبه: “إن مدحت باشا هو خديوي سورية”، فكانت هذه العبارة مدعاة لرفع حجر التاريخ عن باب المدرسة والحذر من مدحت باشا..” .

ويرى غابرييل شارم أن مدحت باشا “إن كان يريد السلطة فالأجدر به أن يأخذها لا أن يطلبها”، مشيراً إلى قيامه “بتأسيس جمعيات عبر سورية على الطراز “الماسوني”، مهمتها دعم مشروعه الإصلاحي وتأجيج الاحتجاجات العامة المطالبة بالإصلاح الوطني. حتى أنها ذهبت إلى حد تأسيس محكمة وطنية إلى جانب المحكمة الرسمية التابعة للباب العالي”.

ويخلص شارم إلى القول إن مدحت باشا محتار بين أن ينفصل بدعم الإنكليز للقيام بالإصلاحات المناسبة، وبين ولائه التركي للدولة، مؤكداً أن “سورية في نهاية المطاف عربية، ولا يروق لها أن تحكم سوى من قائد عربي” . ويبدو أن أصداء المقال كانت كبيرة في “المابين الهمايوني”، إذ طالعنا عنه تقارير عديدة في الأرشيف العثماني، مصدرها سفارة السلطنة في باريس تعلق على كل فقرة وردت فيه.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى