سياسة

ما الذي يجعل التغيير عصيّاً في العالم العربي؟/ برهان غليون

بعد أن أغرقت ثورات الربيع العربي بالدم، علقت الشعوب العربية التي أحبطت جميع مساعيها للتغيير آمالها من جديد على انتفاضتي السودان والجزائر اللتين استفادتا من تجارب الانتفاضات السابقة، فأظهرتا نضجا سياسيا أوحى لكثيرين من النشطاء العرب، والمتطلعين إلى حصول اختراق في نظام الوصاية والاستبداد العربي المديد، بأن حبل الإحباطات والهزائم العربية في الانتقال السياسي قد قطع، وأن تحولا سلميا نحو الديمقراطية وسيادة الشعب وحكم القانون أصبح قاب قوسين أو أدنى. ولكن استمرار النخب الحاكمة بالمناورة في انتظار فراغ صبر الحاضنة الشعبية للثورة، وربما انقسام صفوفها قبل تبرير الانقضاض عليها، كما حصل تماما في الثورات العربية الأخرى، يشير إلى أن الحظر المفروض على الديمقراطية في البلاد العربية لا يزال ساري المفعول.

هكذا، بينما يحاول جنرالات الجيش السوداني تمرير الوقت لليّ ذراع الحركة الشعبية، وتكتلاتها النقابية والسياسية، في سبيل الاحتفاظ لأنفسهم بالكلمة العليا داخل المجلس الانتقالي للحكم، يصرّ الجنرال أحمد قايد صالح في الجزائر على أن يكون الجيش هو المشرف على عملية الانتقال السياسي والمتحكّم بها، وربما بنتائجها. في وقتٍ تشهد اليمن مزيدا من الانجراف نحو حربٍ طويلةٍ ودائمة، وهو ما تسير نحوه ليبيا، وما يكاد يعيشه العراق نتيجة الفشل المتكرّر في الخروج من دوامة الفساد والطائفية والنزاعات الداخلية وامتناع الإصلاح والتغيير، وما يعبر عنه كذلك استئناف حرب الإبادة الجماعية، وتهجير السكان بالجملة، وتدمير مدنهم وقراهم وحرق مزروعاتهم، في الشمال السوري، في صراعٍ لن ينتهي على تقاسم السلطة والنفوذ بين الدول التي أصبحت اللاعب الرئيسي على أرض سورية المروية بدماء شبانها الثائرين. في المقابل، تبدو جميع المفاوضات وعروض الحوار المطروحة نوعا من المناورات السياسية الهادفة إلى تمديد أجل الحرب، وتحسين مواقف الأطراف المنخرطة فيها، وهي لا تحمل أي أمل بالحل، ولا تخلق أي فرصة لتغيير الوضع الغارق أكثر فأكثر في العنف والفوضى والدمار.

يعزّز هذا الواقع المستعصي على التغيير، وتخبط حكومات المنطقة في العثور على مخرجٍ منه

ما يجري من مساع أميركية لتمرير صفقة القرن وتصفية القضية الفلسطينية، والعرض الذي قدمه أخيرا وزير خارجية إيران لعقد اتفاقية عدم اعتداء بين بلاده ودول الخليج، بهدف تحييد الأخيرة وضمان المصالح الأميركية والغربية الرئيسية مقابل إطلاق يد إيران والحرس الثوري في باقي بلدان المشرق الضعيفة أو المتأزّمة.

لم يعد غائبا عن أحد أن تزاوجا عميقا حصل بين الصراعات الداخلية الخاصة ببلدان المنطقة والنزاعات الإقليمية والدولية زاد من تعقيد الأزمات وتأبيدها. ولكن في ما وراء ذلك، يبدو لي أن هناك ما هو أكثر من التعقيد الناجم عن تعدّد الأطراف المحلية والدولية المشاركة في الصراع، وهو انعدام فرص التوصل إلى تسوياتٍ سياسيةٍ وجيوسياسيةٍ في مرحلةٍ يبدو فيها أن الدولة الوطنية والمنظومة الدولية الممثلة بمنظمة الأمم المتحدة ومؤسساتها التابعة، تعانيان، في الوقت نفسه، من اهتلاك كبير، ليس على مستوى الممارسة فحسب، وإنما على مستوى النظرية والشروط المادية للاستمرار والبقاء، فما تعبر عنه الحرب الإيرانية المستمرّة على بلدان المشرق منذ عقود، وما تقود إليه من زعزعة الدول وتقويض بنيانها، لا يعكس ترهّل النظام الدولي وتراجع الدول عن التمسّك بمواثيقه، والدفاع عنها فحسب، ولكن أكثر من ذلك عجز الدول التي قامت على أسسه، وفي إطاره، عن الوفاء بوعودها تجاه شعوبها، والتحول بالفعل إلى دول مواطنيها، أو إلى دولٍ وطنية.

هنا تلتقي أزمتان، هما في الواقع وجهان لأزمةٍ واحدة، فقد قامت السياسة الوطنية/ المواطنية، ونجحت في تأسيس الدول، وضمان استقرارها واستمرارها على مسلمةٍ أساسيةٍ وجوهرية هي إمكانية التوصل إلى تسوياتٍ مرضيةٍ، أو متوازنة، تسمح بتوافق الأطراف المتنازعة. وهذا ما أراد مؤسسو النظام الدولي، بعد الحرب العالمية الثانية، تعميمه في مجال العلاقات بين الدول أيضا، لتجنب الحروب والنزاعات الدائمة. ولكن خيطا ما قد فقد، فالتوصل إلى تسوياتٍ متوازنةٍ أو مقبولةٍ يحتاج إلى استبطان معايير ومبادئ وتصورات مشتركة، ترجع إليها الأطراف المتنازعة، محليةً كانت أم دولية، وتكاد هذه تختفي جميعا اليوم، لتحل محلها معايير القوة والتمحور حول الذات، والبحث من دون ضوابط عن المصالح الخاصة والمباشرة، من دون اعتبار لتوازن المجتمعات أو للسلام والاستقرار العالميين، فالأسباب ذاتها التي تمنع التوصل إلى حل، أو إلى تسويةٍ بين الأطراف على الصعيد الداخلي، تمنعه على الصعيد الدولي، فعندما لا يفكر أي طرفٍ محليٍّ أو دوليٍّ إلا بتعظيم مصالحه الخاصة، ويسعى إلى تحقيقها في أقصر مدى ممكن، لا يترك لنفسه، وخصوصا لغيره من الأطراف، سوى خيار الحرب للدفاع عن مصالحه الخاصة، واليأس من المستقبل أيضا، ويلغي بذلك أسس قيام مجتمع محلي أو دولي، وأي إمكانية لاستخدام المدى الطويل، لتجاوز تناقضاتٍ لا يمكن حلها مباشرة أو في الآن.

ما نعيشه اليوم على مستوى العالم، لكن بشكل متفجر على مستوى المنطقة الشرق أوسطية، هو انهيار للنظامين، الوطني والدولي معا، أي للمبادئ التي قام عليها السلام الأهلي والسلام بين

الدول. وهذا الانهيار الذي أصاب العهدين، الوطني والدولي، اللذين أقيمت عليهما الحياة الوطنية داخل الدول، والعلاقات العابرة لها، واللذين أريد لهما أن يكونا مؤسسين لسلام وأمن جماعيين ودائمين، أهليين، كما مثلته الدولة الأمة، وقانونها الصادر عن إرادة الشعب، وعالميين كما جسّدته مواثيق الأمم المتحدة، والشرعية الدولية التي ارتبطت باسمها، وما كان يُرجى منه من تجنّب النزاعات العنيفة والتوسط لإيجاد الحلول السياسية لها، واضح اليوم، أشد الوضوح، في المشرق المنكوب من دون شك، لكن في مناطق عديدة أخرى في العالم أيضا.

لذلك لم تبدُ الأوضاع السياسية والجيوسياسية أكثر سوءا، ولا التوصل إلى حلولٍ للأزمات المستعصية أقل احتمالا في المنطقة المشرقية، في أي وقتٍ سابق، مثل ما هي عليه اليوم، ويكاد الانسداد في جميع الميادين، وعلى جميع المحاور، وفي موازاة ذلك انغلاق الآفاق الإقليمية وانعدام المبادرات التاريخية، يكون العنوان الوحيد للمرحلة.

لم يعد الاندماج الوطني، وبناء الأمة الموحدة القائمة على المواطنة المتساوية، هو الذي يلهم النخب الحاكمة أو الطامحة للحكم في البلاد العربية، وفي دول عديدة مجهضة، ويلهم خياراتها السياسية. وبالمثل، لم يعد السلام هو الذي يشكل اليوم الهدف أو التطلع الرئيسي لسياسات الدول الكبرى والقوية التي كانت وراء تأسيس النظام الدولي، ووضع مواثيقه، ردا على حربين مدمرتين، كما لم يعد تجنب الحرب والنزاعات العسكرية المحلية والدولية الدافع الرئيسي لسياساتها.

ما يسود اليوم على الصعيد الوطني في أكثر الدول هو بالعكس تقوقع القوى والنخب المتنازعة حول نفسها ومصالحها الخاصة والتمسّك بالسلطة وحرمان الآخرين منها إذا أمكن، وصرف النظر عن نتائج سياساتها الأنانية وأفعالها. وعلى الصعيد الدولي، يكفي النظر إلى السياسات الأميركية بعد انتخاب دونالد ترامب، حتى ندرك كم أصبح السعي إلى خدمة المصالح “القومية” الخاصة على حساب السلام والاستقرار العالميين والمحليين، هو معيار النجاح لدى الرؤساء الجدد، وكيف أصبح إشعال الحروب، وتمديد أجلها، وتوسيع رقعة الدمار إحدى أهم وسائل السيطرة الدولية، بل كيف تحوّلت الحرب إلى سياسة قائمة بذاتها، بل السياسة الوحيدة الناجعة، وليست امتدادا للسياسة فحسب. في ظل التباطؤ الاقتصادي للرأسمالية المعولمة والاختلالات العميقة التي أحدثتها، تنزع الدول القوية التي طوّرت مقدّرات عسكرية هائلة في العقود الماضية إلى أن تستثمرها في تحسين مواقعها وزيادة حصتها من الموارد الدولية، وعلى رأسها اليوم الولايات المتحدة الأميركية التي تكاد تعلن رسميا على لسان مسؤوليها أنها لا يهمها مصير العالم ونزاعاته، ولكن مصالحها الخاصة. ولذلك هي لا تريد أن تبذل جهودا للمساعدة على حل الأزمات والنزاعات الدولية، لكنها تجنح بالعكس إلى الاستثمار فيها، بهدف زيادة حصتها من الناتج العالمي.

عندما تسود خدمة المصلحة الخاصة بصرف النظر عن مصير الآخرين ومصالحهم، وعلى

حسابهما، ويتقدّم مبدأ “أنا ومن بعدي الطوفان” على جميع مبادئ الحق والعدل والقانون، لا يمكن أن تكون هناك تسويات، ولا أن يتحقّق سلام، ولا توجد ضماناتٌ تحمي حقوق أحد أو حتى وجوده. ومن ثم يستحيل قيام أمة أو جماعة واحدة أو مجموعة دولية مستقرّة، بينما يستدعي قيام الجماعات المتماسكة تضامنا داخليا هو الذي يكمن وراء إنتاج فكرة العدالة، بما تعنيه من احترام المصالح المتبادلة. أما في مجتمعاتنا المعاصرة فيحتاج الأمر أكثر من ذلك إلى تجاوز فكرة العدالة نحو فكرة المساواة القانونية والأخلاقية، وتقليص الفوارق الطبقية. ولا يعني غياب التفاهم على إطار قانوني وأخلاقي ينظم العلاقات بين الأفراد والجماعات والدول سوى الاستسلام وتسليم الأمور لقانون القوة، وتعميم علاقات النزاع والحرب.

مع انهيار العقد الاجتماعي، أو العهد الوطني، وتحييد الميثاق الدولي أو العهد الدولي السياسي المساعد على تجنب الحروب، أو إيجاد التسويات المتوازنة والمقبولة، لم يعد بناء الأمم هو الشاغل الرئيسي للنخب الحاكمة، ولا تجنب الحرب التطلع الأول للدول المتنافسة على الموارد ومواقع القوة والنفوذ. وما من شكٍّ في أننا نسير اليوم نحو عالمٍ مفتوحٍ على كل النزاعات. ولن نستطيع، نحن العرب، أن نجنب أنفسنا، في شروط وجودنا الراهنة، مصير الفريسة وغنيمة الحرب، أو التحوّل إلى ساحةٍ من ساحات الحرب التي يبدو أنها تنزع إلى أن تتحول إلى حرب معممة، تشمل الجميع، ولكن بمستويات وأشكال مختلفة ومتباينة، إلا إذا صنعنا من شذراتنا وكسورنا رقما صحيحا وقيمةً واحدة، وبدأنا في بناء أسس التحول إلى دول وشعوب فعالة، ولاعبة على الأقل دفاعا عن وجودها ومصالحها ومستقبل شعوبها. ولا وسيلة للوصول إلى ذلك إلا في بناء تضامننا الذاتي الذي يستدعي تقديم مصلحة الكل على مصالح الأجزاء، وتفعيل مبدأ العدالة والمساواة الذي هو اليوم المنتج الوحيد لقيم التفاهم والتعاون بين البشر، بدل مبدأ التمييز والإقصاء والتحقير المتبادل الذي بني عليه الاستبداد المديد.

خلاف ذلك، يعني ما نشهده، منذ بداية هذا القرن، من تفاقم التوترات والانتفاضات والثورات الاجتماعية، في حين يقف العالم مكتوف اليدين أمام تهديم نظم الاستبداد ومليشياته، وبشكل أكبر الدول التي تشن حروبها بالوكالة، أسس المدنية ومؤسساتها، باستباحة حياة المدنيين وحقوقهم، وتدمير المدن والأحياء، وتهجير ساكنيها، وتقويض المرافق العامة والمشافي والمدارس والمؤسسات العامة والدولة ذاتها، وحرق المحاصيل الزراعية، للقضاء على أي أملٍ بحياة اجتماعية مستقرة وآمنة، ومنع الشعوب من التقاط أنفاسها، وإعادة بناء وحدتها السياسية وإرادتها الواحدة.

لم يكن الاستبداد مكملا للسيطرة الخارجية، وجزءا من نظام الإمبريالية العالمية، والهيمنة الإسرائيلية في المشرق، كما هو اليوم، وكما سوف يكون بشكل أكبر في المستقبل. وفي المقابل، ليس للديمقراطية طريق آخر سوى استعادة روح التضامن والقيم الإنسانية التي لا يمكن من دونها قيام مجتمع ولا مدنية ولا حضارة. وهذه قضية أخرى غير قضية الاستبداد، وإن لم تكن مستقلة تماما عنه.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى