أبحاث

عندي كلمة/ سوسن جميل حسن

 

قبل الانتفاضة الشعبية في سورية كان لسان حال الناس، كلما التقى اثنان أو أكثر يمكن أن يسرّا لبعضهما دون خوف، الحديث عن الفساد المستشري وعن تجاوزات ذوي السلطة والنفوذ وممارساتهم التي تقلد بعضها البعض من الذروة حتى القاعدة، وعن القمع والخوف والمحسوبيات وانعدام تكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية والقضائية، كان الناس يتحدثون في الشأن العام باستمرار وعن القمع الممارس عليهم وانعدام قدرتهم على التعبير أو التفكير الحر بمستقبلهم أو بتحقيق طموحاتهم وأحلامهم، يتحدثون عن ضيق العيش وعن هموم حياتهم التي كانت تبدو بلا حل منظور، لكن غالبية الأحاديث كانت تبدو وكأنها مضمخة باليأس ونبرة العاجز، فالحديث كان للحديث فقط، للشكوى والفضفضة عما في الصدور مثلما لو أن الحال هو قدر محتوم لا يملك البشري الضعيف قدرة على مواجهته، وكلما تقدم الزمن بالناس وهم يزدادون قهرًا وضيقًا، كانوا يغرقون في استنقاع ماكر فتبدو حياتهم “المستقرة” مثلما لو أنها المقدر والمقسوم والنصيب الذي لا بد من التأقلم معه، حتى وصلت الحال حد الاقتناع بأن هناك شيئًا غادر النفوس خلسة، شيئًا هو بمثابة نسغ الإحساس بإنسانية الإنسان، إنه الكرامة.

لكن الكرامة لا تموت، قد تخبو، قد تتألم، قد تصاب بالوهن والضعف، قد يطالها اليباس، لكنها أقوى من كل هذه المكائد والأهوال، تصحو فجأة وقد عاد إليها عنفوانها ونبضها القوي وتدفقت الدماء في شرايينها، فينتفض أصحابها لحظة إدراكها وإدراك ذاتهم الإنسانية معها. لكن، هل يكفي الشعور بالكرامة وأوجاعها وجروحها حتى تكون قادرة على الدفع في الاتجاه الصحيح؟ لا بد أن ردة الفعل الأولى عند الصحوة المباركة هذه هي التمرد وتكسير قيود الخوف والصراخ من أجلها حتى لو لم يعرف الموجوعة كرامته في وجه من يصرخ، فقط هو يريد الانتصار لكرامته وبعدها لكل حادث حديث.

هذا ما كان عليه حال السوريين، فما الذي حدث؟ لماذا باكرًا بدأت الاصطفافات ومعها الفرز بين أفراد الشعب؟ لماذا، حتى في بداية الحراك السلمي، لم يلتحق الكثيرون بهذا الحراك؟ ثم لماذا انزلقت الحال بسرعة نحو العنف والسلاح مدعومة بعنف في الخطاب وتطاول من شرائح الشعب بحق بعضها البعض؟ لماذا انهارت كل الصور المؤرشفة في البال عن القهر والظلم والقمع والاستعباد وانتقاص الحقوق بل الاعتداء الفاجر عليها، ونسي قسم كبير منهم مسارّاتهم وأحاديثهم التي كانت تملأ فضاء اللقاءات بالثرثرة التي لا تنتهي إلاّ بعد أن يمتلئ الفرد بشعور كاذب بأنه أفرغ ما بداخله من سموم تأكله من الداخل وارتاح؟ لماذا صارت القضية قضية وطنية وقضية سيادة وكرامة عامة، كما ادعى قسم كبير ممن وقف موقفًا صريحًا مناهضًا للحراك، أو مؤامرة تستهدف الكيان السوري، وتبين أن المؤامرة كانت حاضرة بالفعل إنما مع فارق النية والتوقيت، ولماذا في المقابل أقصت غالبية المؤيدين للحراك من صمتوا أو لم يشاركوا أو يدعموا الحراك خارج دائرة الوعد بسوريا الجديدة وسلبت منهم مصداقية الانتماء إلى سوريا وصنفتهم وفق انتماءات ضيقة؟ لماذا رفعت الحواجز بين السوريين سريعًا، فتحصنت البيوت بأقفاص الحديد، ودب الذعر والتوجس بين السوريين تجاه بعضهم البعض؟

ولماذا انقسم السوريون بين مبارك للمجازر ومندد بها بحسب موقعها الجغرافي بين منطقة تابعة للنظام وأخرى للمعارضة؟ كيف يمكن أن تبارك مجازر ترتكب بحق الإنسانية، فكيف إذا كانت الضحايا أرواحًا سورية؟ أين اختفى الشعور الإنساني؟ في أي شقوق ضاربة في عمق النفوس والضمائر غارت الرحمة والتعاطف والتعاضد الإنساني؟ كيف انهار المجتمع وانهارت القيم وانهارت المنظومات كلها، وبقي الكثيرون يرددون كالببغاوات قصائد الفخر والعزة والكرامة وغيرها مما حفظ ديوان العرب من قيم وصل الصياح بها أبواب السماء، والتغني بأمجاد بادت ولم يبقَ منها غير أطلال وذكرى؟ بينما الواقع أظهر أن أول ما انهار لدى السوريين هو الأخلاق ومنظومة القيم، زاد في تكريس منظومات مناقضة لها واقع الحرب والعنف المدجج بالإيديولوجيات والعقائد فأخذت تنمو كالطحالب من الشقوق الكبيرة لمجتمع متصدع.

لقد أظهرت الأزمة السورية مدى هشاشة المجتمع وتفككه وغربته واغترابه، يمكن القبول بأن سنوات طويلة من القمع ومصادرة المجال العام لصالح منظومة فكرية تخدم الاستبداد والحكم الشمولي، متحالفة مع آليات طغيان أخرى تضاهيها سطوة وإعاقة للإبداع الإنساني، من ديني واجتماعي وانزياح وتمسك بالموروث من دون دراسة أو نقد، وتؤسس كوادر بشرية جاهزة للمستقبل مفرغة من أية إمكانية للإبداع والابتكار إلا فيما يخدم حالة الاستقرار الكاذب التي كان يعيش فيها الشعب، مع العمل الدؤوب المخاتل لخلق مجتمع غير متجانس إلاّ تحت خيمة العناوين والشعارات العريضة المفروضة بالقوة والترهيب، أدت إلى انزلاق السوريين نحو الحروب البينية، أشكال دون مستوى الدولة وطموح الأفراد الحالمين بمجتمع إنساني.

لا يمكن ألاّ نحترم تجارب من ناضلوا ودفعوا أثمان باهظة في سبيل كلمة حق في وجه سلطان جائر، فغيبتهم السجون أو عاشوا معزولين عن الزمن منهم من فقد حياته بالواقع ومنهم من فقدها بالمجاز، لكن لا بد من نقد التجارب وسؤال التاريخ المنجز، كي يُصار إلى الإمساك بسلسلة الأخطاء من بدايتها. لماذا أظهرت الأزمة السورية هذه الهشاشة الفظيعة بالوعي لدى المجتمع؟ لماذا كان الوازع الديني بشكله العصبوي المنكفئ على نفسه وعلى الجماعة أو الطائفة أو المجموعة التي تعتنقها هو ما أينع وهو ما كان يحتفظ بقوة الحضور وفاعلية التأثير؟

الوقت هو وقت التساؤلات الكبرى والأسئلة الأكثر ضرورة، الأسئلة التي غابت أو غاب منطقها وتراجع حضورها في البرمجة الفكرية لدى غالبية السوريين في العقود الماضية، إذا لم نتعلم آلية السؤال، ونؤمن بضرورته للتأسيس المعرفي، وإذا لم نكن على مستوى الشجاعة التي يستحقها والخيال الذي يؤسس له فلن يكون هناك أمل بنهوض منظور بالنسبة للسوريين. صحيح أن المصير أفلت من يدهم باكرًا في عمر الحراك، وأن القرار لم يعد لهم، وأن المنتصر في ميدان الحرب هو السلاح، لكن السلاح لا يبني بل يدمر، السلاح لا يمنح مستقبلاً، بل يمحو الماضي والحاضر ويقتل المستقبل. المستقبل لأبناء الأرض، والمستقبل من حق أبنائنا، فحقهم علينا دين، لنبدأ السؤال من اللحظة، اللحظة التي ليس من مصلحتنا تأجيلها.

تلفزيون سوريا

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى