شهادات

حين خسرت اليقين/ وائل السوّاح

مهما قلنا في السجن يظلّ السجن أسوأ من القول. ومع ذلك، لا بدّ أنْ نفِيَ السجن حقّه من بعض الجوانب. إذا تناسينا للحظةٍ التحقيقَ وآلامه، والأشهر الأولى من تدمر وسنوات فرع التحقيق التي كان لواحدنا فيها مساحة تكفي فقط للنوم كالسيف على جنب واحد طيلة الليل، فإن للسجن بعض الحسنات. في السجن تشعر بأنك حرّ في التفكير والقول والفعل، وفي السجن عقدنا ندوات وخضنا نقاشات كنّا نخشى أن نعقدها في الخارج. ولكن في السجن أيضا وقت طويل، طويل، للتفكير والتأمّل وإعادة التقييم. ستمرّ علينا شهور وسنوات يكون لدينا من الكتب أكثر مما نستطيع أن نقرأ. وفي السجن سنعرف أن كارل ماركس كان فيلسوفا عظيما، ولكن الفلسفة لم تتوقّف عنده، وأن لينين وتروتسكي وروزا لوكسمبورغ كانوا ثوّارا أمجادا، ولكن الثورة لم تتوقّف عندهم. بل سيتاح لنا أن نسأل بعمق: ما الثورة؟ ولماذا؟ وكم من الدماء يجب أن تجري من أجل التغيير. سنتعلّم الفلسفة ليس كما وردت في كتيبات “المادية الجدلية”، بل من مؤلّفات الفلاسفة أنفسهم، وسنتعرّف على ميشيل فوكو وكيركغارد وهايدغر وهنري لوفيفر، وسنتعلّم أن نيتشه ليس شرّا مطلقا، وأن المثالية لا تعني التخلّف الفكري بالضرورة وأن المادية لا تعي التقدّم الفكري في الضرورة. سندرك أن ستالين كان أسوأ من كلّ ما قلنا عنه أو تخيّلناه. سنعيد الاعتبار للمارقين والمهرطقين من أمثال روجيه غارودي وفيلهلم رايش ولويس التوسير. ثمّ سوف ندرّب أنفسنا على تقبّل مفاهيم مثل الجنسانية والجنون والمثلية.

أهم من ذلك كلّه سوف نعيد الاعتبار لمفهومٍ احتقرته الماركسية اللينينية كثيرا: الديمقراطية. كان أسوأ ما ابتكره لينين في تطويره للماركسية مفهوم الدور المركزي للحزب العصبوي المتماسك تماسكاً حديدياً في الثورة. منذ صدور كتاب لينين «ما العمل؟» عام 1902 الذي تحول إلى إنجيل للشيوعيين في العالم، أخذت نظرية لينين عن الحزب الثوري تتكامل. لا ينبغي أن يعتمد الحزب على الكم، على الحجم، بل على “دزينة من الواعين الثوريين المحترفين” الذين يبنون علاقات جيدة مع العمال ويقودون – معهم – الثورة. ففي ظل الدولة الأوتوقراطية، “كلما كان الأعضاء مرتبطين بالنشاط الثوري بشكل محترف ومدرَّبين باحترافية على فن مراوغة البوليس السياسي، كان من الصعب الإجهاز على المنظمة”. سوف يراوغ لينين ومَن بعده مِن قادة الحركة الشيوعية العالمية مفهوم الديمقراطية ويلتفّون عليه بمفاهيم تفرغه من مضمونه، مثل الديمقراطية-الثورية والديمقراطية الاشتراكية والمركزية الديمقراطية. في السجن سنجد أنفسنا وجها لوجه أمام الديمقراطية العارية، الديمقراطية غير المقنّعة، الديمقراطية كما هي.

قد يبدو بدهيا اليوم أن ننادي بالديمقراطية، بل إن المفهوم قد استُخدم إلى حدّ الابتذال. أما في تلك الأيام، فالديمقراطية كانت مكافئا للبورجوازية التي هي بحدّ ذاتها تهمة لأي ماركسي. وثمّة من سيساعدني في مواجهة نفسي وتقبّل هذا الأمر بشجاعة. كان سالم قدّاح رجلا شجاعا بكل ما للكلمة من معنى، اعتقل سنة 1980 مع من اعتقل من قيادات الحزب الشيوعي – المكتب السياسي، وكان من القلّة الذين كان بإمكانهم أن يواجهوا زعيم الحزب رياض الترك. لا أدري كيف بدأ هو يتحوّل من الفكر الشمولي إلى تقبّل الآخر، ولكنني أذكر جلساتي معه، حين أجلس بجواره، في ضيافته، ثمّ نتحدّث بصوت خافت. لم يكن سالم يغادر عازله قطّ، يهتمّ بنظافته وترتيب عازله، يقرأ باعتدال ويتحرّك باعتدال ويتكلّم باعتدال. وبسبب تقدمه في العمر أعفيناه من خدمة السخرة الجماعية، فكان لا يبارح مكانه، وغالبا ما نأتي نحن إليه نسامره ونتعلّم منه. وعلى عازله علّم الرفاق اللغة الإنكليزية، وبين من تعلّم على يديه من أصبح اليوم مترجما محترفا.

وحين بعد سنوات سيسقط جدار برلين، ويأتي الزعيم السوفياتي غورباتشوف بفكرة البيريسترويكا، سينقسم جناحنا في سجن صيدنايا بين متحمّس للتغيير ومناهض له وسترتفع أصواتنا في مناقشات وجدالات حادة، ستكرّر من جديد مع حرب تحرير الكويت، حيث انقسمنا أيضا بين من يؤيّد الحرب ضدّ الطاغية ومن يعرضها بقوة الإيديولوجيا القديمة نفسها. أما سالم قدّاح فكان يجلس على عازله، يضع إذنه فوق الراديو الترانزستور ويسمع إلى سقوط جدار برلين بفرح طفولي كبير.

لم تكن فكرة الحريات الفردية وحرية التعبير والديمقراطية غريبة علي. كانت إحدى أهم نقاط الخلاف بيني وبين قيادة التنظيم قبل الاعتقال آرائي التي كان البعض يراها متحرّرة زيادة عن اللزوم وأيضا “بورجوازية”. ولكن قراءة الفلاسفة وعلماء الاجتماع الحداثيين ستساعدني على أن أبصر الطريق قدّامي بشكل أوضح. شخصان سيلعبان دورا في تحديد مساري السياسي النهائي: ماكس فيبر وحنا أرندت. من فيبر تعلّمتُ أن لبّ مفهوم الديمقراطيّة كونها وسيلة لاختيار أصحاب القرار، مع ضرورة وضع قيود ثقيلة تخفّف من تجاوزات أصحاب القرار هؤلاء، وتعلّمت أهمية الحرّية الفردية في حقبة عاشت

تطورات اجتماعية واقتصادية وسياسيّة هدّدت جوهر الثقافة السياسيّة الليبراليّة. وحين كان فيبر يجنح قليلا صوب تمجيد الدولة ومديح البيروقراطية، كانت أرندت تردّني صوب الاعتدال وتحذّرني من قدرة القادة السلطويين على التلاعب بعدد أكبر من الناس ونشر أكاذيبهم على نطاق أكبر، وهي جعلتني أقدّر الثورة الأمريكية (1776) وأنظر إلى الثورات ضدّ الستالينية كثورة المجر 1956 بعين مختلفة.

المشكلة أن القراءة الجديدة حرمتني من النوم. فتحت عيني على أسئلة لم أكن أسألها، وسرقت مني سرّ الراحة المطلقة: اليقين.  عرفت اليقين مرّتين في حياتي. الأولى حين كنت أختلف وأنا ولد إلى جامع حارتنا في مدينة حمص بعد العصر، فتلفحني سكينة وطمأنينة لا عهدَ لي بهما، وتجتاحني لذّة غريبة تكاد تكون شبقا. أجلس في حلقة الذكر مع حفنة من الرجال، نتلو القرآن ونذكر الله إلى أن تحين صلاة المغرب. لكم كنت أودّ لو أن جلسة العصر هذه تمتدّ إلى الأبد، تمتدّ وتمتدّ فلا تبدو لها نهاية ولا غاية. وحين يدخل شيخ عبد العزيز عيون السود الجامعَ بلحيته البيضاء، كنت أتأمله بانخطاف صوفي، وأحيانا يحلو لي أن أتخيل الله مثله، بلحية بيضاء وقامة قصيرة ووجه منير. ثمّ فقدت كلّ شيء. أفقت ذات صباح، فلم أجد الله في قلبي، غابت صورته كما تغيب الشمس في الأفق مساء، ولكن دون أن تعود في الصباح التالي.  ووجدتني أميل نحو الماركسية حتى عمّر قلبي يقين أن الشيوعية هي الحقيقة المطلقة، فاطمأنّت روحي لذلك، واجتهدتُ في قراءة المادية الجدلية والمادية التاريخية، وعجبت لمن لا يقتنع بمراحل التاريخ الخمس وبقانون التراكمات الكمية التي تؤدّي إلى التغيير النوعي وصراع الأضداد ونفي النفي. كما عجبت لمن يضيف لهذه القوانين الثلاثة رابعا، وهي ثلاثة لا شريك لها.

في السجن، ستبدأ روحي بالتأرجح، وستبدأ الأسئلة تتسارع في ذهني وتزدحم، ولا جواب عندي لأي منها.  إذا كانت الماركسية فلسفة قد خلت من قبلها الفلسفات وستعقبها فلسفات أخرى، فما جدوى من إيماني بها كما آمنت سابقا بالدين؟ وماذا لو كان في الكون خالق؟ وماذا لو كانت القوانين أربعة أو مائة أو دون عدد؟ في كلّ يوم كنت أفقد جزءا من سكينتي وراحة بالي، فتغلي روحي بالقلق والأرق والدوار.

ثمّ جاءني في المهجع رقم 1 في سجن تدمر، ذات يوم خريفي من عام 1982، نصّار يحيى.

“سأترك اللجنة المركزية،” قال لي. وفتح في القلب هوّة سحيقة وبدأ سؤال كبير جديد، سيكون مقدّمة لتغيير كبير في حياتي.

****

تلفزيون سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى