مقالات ونصوص سينمائية

عامْ الأُوسكار السوريّ؟/ مها حسن

ظلّت عبارات بابلو سالاس ترنّ في رأسي طويلاً، وأنا أستعيد مراراً في ذاكرتي، صور الأرشيف الهائل الذي بناه هذا الرجل بمفرده، إيماناً منه بأهمية الصورة في حفظ الذاكرة.

تحويل الذاكرة الشخصية إلى ذاكرة جماعية ليس مستحيلاً.. أعتقد أنني سمعت هذه الجملة في الفيلم، أو أنها وردت في مكان ما، تعليقاً على فيلم باتريسيو جوزمان، ومهما كان موقعها، فقد احتلّت مكاناً مهماً في ذاكرتي، لأقارن بين دور الصورة في تشيلي، في هذا الفيلم، وفي الأفلام السورية التي وصلت إلى أماكن لم يحلم بها صنّاعها.

رغم أنني، وبعد مشاهدتي لتحفة باتريسيو جوزمان” كورديليرا الأحلام”، قررت التوقف عن المقارنة بين عذابات الشعوب، لكنني لم أتمكن من رفض فكرة المقارنة بين الخبرات، وكيف يمكن لهذه الشعوب، أن تستفيد من تجارب بعضها، ربما هذا هو دور الفن في الأزمات: مساعدة العالم على فهم أزماته، ومنحه الأمل بالنجاة، استناداً على تجارب الناجين من قبل.

في بداية الفيلم، وجدتني كعادتي وأنا القادمة من منطقة تشتعل بالثورات والإحتجاجات والحروب، أقارن بين القمع الذي يعرضه الفيلم، الذي يتحدث عن تشيلي، وبين ما تتعرض له شعوب منطقتنا، إلى أن استطاع جوزمان بحرفيته، أن يُدخلني في حكايات شعبه، ليجعلني أتعاطف مع ما يحدث أمامي في الشاشة، متخفّفة بالتدريج، من صور قمع الانتفاضات في سورية ولبنان والعراق.

وجدتني أغرق تدريجياً في جمال الصورة، وأعيش هذا التناقض، بين سحر الطبيعة، وبين عنف النظام في ساحات التظاهر ضد المدنيين.

بمزيج من عرض جمالي لسلسلة جبال الأنديز الممتدة على حدود تشيلي، والفظائع التي ارتكبت ضد المتظاهرين إثر انقلاب بينوشيه، ينوس الفيلم بين الصورة والواقع، بين التوثيقي والجمالي البصري، ليحاول كشف أسرار لغة حجارة الجبال الشاهدة على القتل والدم والتعذيب.

توقفت طويلاً أمام شخصية بابلو، أحد أهم عناصر الفيلم، الذي لولاه، لضاع جزء كبير من الذاكرة. وضعني بابلو أمام أسئلة قاسية، حول المنفى، وحول إمكانية التشبث بالأرض، حفاظاً على الذاكرة.

بابلو سالاس الذي ظل يوثق كل ما تمكن من تصويره خلال أربعين عاماً في تشيلي، رافضاً مغادرة بلده بعد الانقلاب، ليؤسّس أرشيفه الخاص، الذي يحوي أعداداً كبيرة من أشرطة الفيديو، والتي ظهرت متكدّسة في الفيلم، يوثّق فيها إحتجاجات الطلاب وانتهاكات العسكر ضدهم.

بفضل أفلامه، نقل جوزمان معاناة شعبه إلى العالم. وهكذا، سأقع مجدداً في المقارنات، واستخراج العبر، لأجدني أحتفي بطريقة ما، بوصول فيلمين سوريين هذا العام، إلى لائحة الأوسكار، ليبدو الأمر وكأن هذا العام هو عام الفيلم السوري، كما وصفه السينمائي أسامة محمد في صفحته على الفيسبوك “عامْ الأُوسكار السوريّ، فيلمان دَفعة واحِدة”.

هكذا أعلنت أكاديمية فنون وعلوم الصور المتحركة، في شهر كانون الثاني/يناير الحالي، عن القائمة النهائية للأعمال المرشحة للفوز بجائزة “أوسكار” في دورتها الـ92، ليكون فيلما فراس فياض “الكهف” و”من أجل سما” لوعد الخطيب، بين الأفلام المتنافسة للحصول على جائزة أفضل فيلم وثائقي طويل.

“من أجل سما”

تدور أحداث فيلم وعد الخطيب في مدينة حلب، لتروي حكاية الدمار والحصار والعنف الذي يطحن البشر والحجر، وهي تمرّ من الشخصي إلى العام، موثّقة حكايتها الخاصة: تعرّفها على الطبيب حمزة الخطيب، زواجهما، حملها، إنجابها لسما، التي تصنع الفيلم من أجلها.

(سما، عملت هالفيلم مشانك، بدّي ياكي تفهمي)- هكذا تمهّد الخطيب في فيلمها، كأنها تضغط على أهم زر في تكوين البشر؛ “الطفولة”، فيبدو كأنها تحوّل المشاهد بغتة إلى ذلك الطفل، تضعه مكان الصغيرة سما، لتقدم له الحكاية دون سيناريو مسبق، ودون أية أجندة سياسية.

(لسه عم صوّر، وهاد الشي اللي عم يخلّي معنى لوجودي)- تقول وعد داخل الفيلم، لتقدم للمشاهد درساً جديداً في أهمية الفن أثناء الحروب، وأهمية الذاكرة في منحنا القدرة على الاستمرار، بغية النجاة، ونحن نخلط بين الخاص والعام: فيلم عن الحياة الشخصية في الحرب، دون سيناريو مكتوب، دون خطة عمل، دون تمثيل، دون إكسسوارات. كل هذه التلقائية، تتحول إلى حكاية بلد برمته، يعيش في الحرب، وكما تقول وعد في مقابلاتها التالية، بعد إنجاز الفيلم، ومغادرتها لحلب، فإن ما حدث في حلب، التي كانت مركز الفيلم، يحدث لاحقاً، في إدلب هذه الأثناء، وربما يتكرر في مدن تالية.

“الكهف”

أما فيلم فراس فياض “الكهف”، الذي تدور أحداثه حول مشفى تحت الأرض في منطقة الغوطة الشرقية، فهو عمل فني لمخرج محترف، سبق أن قدم عدة أفلام أثناء الحرب السورية، منها “آخر الرجال في حلب” الذي رُشّح أيضاً لجائزة الأوسكار في عام 2018.

أبطال فيلم فياض هم أطباء وطبيبات مشفى “الكهف” الذين يحاولون إنقاذ حياة الأطفال والنساء والرجال، الذين يتعرضون للقصف المتواصل من قبل النظام.

عبر “أماني”، الطبيبة الشابة، التي اُنتخبت لتدير شؤون المشفى وتكون مسؤولة عن الأطباء والمرضى، يقود فراس فيلمه، ليقدم صورة مقاربة للواقع الكابوسي الذي يحياه المدنيون في الغوطة.

في المقاطع المتوفرة عبر الإنترنت، نلاحظ هذا التناقض المخيف، بين دور الطبيب في إنقاذ حياة الآخرين، وبين الخطر الذي يتعرض له هذا الطبيب، في فقدان حياته، أثناء أداء واجبه، في إنقاذ غيره. أن نرى أماني مثلاً، تُجري عملية جراحية، أو تنهمك في معالجة جروح طفل ممدّد أمامها، فتسمع صوت قصف، ترتجف من الخوف، وتتابع عملها.

أثناء أداء واجبهم المهني، والإنساني معاً، فقد الكثير من السوريين حياتهم في هذه الحرب الطاحنة، التي تبدو وكأنه لا نهاية لها، ولهذا تأتي السينما الوثائقية، وهكذا أفلام، بمثابة تكريم لأرواح هؤلاء الذين لا يعرف الكثيرون عنهم، ولا تُعرف أسماؤهم، وقصصهم، وبطولاتهم.

بين وعد الخطيب، الصحافية التي كانت تعيش في حلب، وفراس فياض، المولود في قرية داديخ، التابعة لمحافظة حلب، يلتمع اسم حلب، بل اسم سورية، لا بل اسم الشعب السوري ونضاله اليومي، في صراعه صوب النجاة، على شاشات العالم.

ستقرر أكاديمية فنون وعلوم الصور المتحركة الفيلم الفائز بالأوسكار، في شهر شباط/فبراير، حيث يأمل الكثير من السوريين على الأخص، والمؤمنون بعدالة مطالب الشعب السوري في العموم، ببعض العدالة على الشاشة، طالما أن العدالة على الأرض لا تزال بعيدة عن متناول السوريين، أولئك الذين فقدت غالبيتهم أحلامها وأمانها وبيوتها وعائلاتها.

هل تمنح أوسكار العدالة لسورية عبر الفن، وهل ستنجو حكاياتنا، فلطالما مات الكثيرون منّا دفاعاً عن جمالية، وشرعية، وأحقّية هذه الحكايات؟  

هل سيتفرج العالم على السينما السورية، توثّق آلام هذا الشعب، أم أنه، كما تحدث القصص غير العادلة، سيطوي كل مشاهد، صفحة المخيلة الآنية، ويعود إلى حياته الطبيعية، معتبراً أن الحروب والموت وقتل الأطفال، أمر عادي، عرفه التاريخ مراراً في أحداث تتكرر.

هكذا قالت إحدى شخصيات الفيلم الوثائقي السوري “صرخة مكتومة”، إن المشاهد سيتأثر بالفيلم، ثم يتم نسياننا، لنتابع عيش آلامنا ومصائبنا وحدنا.. وهذا ما حدث فعلاً، لنساء ذلك الفيلم، بعد الهجوم والنبذ والتأنيب الذي تعرضن له، تابعت كل منهن، معاناتها بمفردها.

في جميع الأحوال، ليست الأوسكار هي التي ستمنح الشعب السوري شرعية نضاله، لكنها، في حال منح الجائزة لأحد الفيلمين، ستكون أوسكار ذاتها، قد وضعت اسمها وسمعتها، في خانة العدالة، والوقوف مع الحكايات الجميلة، في الزمن القبيح.

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى