الناس

على ضفاف الفرات… نساء يغسلن سواد “داعش” للأبد/ أروى الباشا

من ارتفاع شاهق وبكامل جمالها الربيعي تطلّ سيدة من محافظة الرقة – شمال شرق سوريا- على أبناء مدينتها، من خلال لوحة صممتها التشكيلية السورية سلافة حجازي، ورسمها التشكيلي السوري موفق الزين، على جدار أحد الأبنية الناجية من الحرب التي أسفرت عن مقتل الآلاف من أبناء المدينة، وتشريد معظم سكانها.

في اللوحة ينساب الماء والحنان من بين يدي هذه السيدة ، تضع في الهواء الطلق وعاءها، مذكرة المارّة بتراثهم العذب، يوم كانت النساء يغسلن الثياب بأيديهن على ضفاف نهر الفرات، قبل ظهور الغسالات الكهربائية، هذا التراث الذي سجّل عودة قسرية اليوم مع الانقطاع الدائم للتيار الكهربائي، وقلة المياه، حيث اضطرت المرأة للعودة إلى أيام الجدات والغسيل اليدوي.

(وبنيّة عند عبيد حلوة ورفيعة، من تغسل الماعون تضوي الشّريعة) يدندن الفنان السوري موفق الزين هذه الأهزوجة الفراتية، بينما يقوم بإضفاء لمساته الأخيرة على اللوحة، نسأله عن معناها فيقول، إنها تتغنى بجمال النساء ممشوقات القوام، اللاتي كنّ ينزلن إلى نهر الفرات لغسل الثياب، وما أن تمس أيديهن المياه حتى يغطي النور جدول الماء.

الكثير من الأغاني الفلكلورية كانت ترافق طقس الغسيل اليدوي، ضمن أجواء يسودها الفرح، حيث كانت نسوة العائلة الواحدة يجتمعن مع جاراتهن، ويذهبن في مجموعات إلى النهر بما يشبه الرحلة، يشمرّن عن الأيدي والأرجل، التي عادة ما تكون مزيّنة بصيغة العرس الذهبية، وهناك يبدأن بفرك الصوف والثياب وأواني الطعام، وسرد الحكايات، وتفاصيل الحياة اليومية.

هذه اللوحة بالإضافة إلى 6 لوحات جدارية في مدن دير الزور والرقة والطبقة وأريافها، تنفذها حملة «نحن أهلها» بالتعاون مع منظمة الشارع للإعلام، في محاولة «لاستعادة الفضاء العام الذي سرق من المجتمع السوري مرات عديدة، من خلال تلوين ما تبقى من جدران لم تهدمها الحرب، واستعادة الوجه الحقيقي للمجتمع» كما تشير الحملة في بيانها. وكانت مجموعة من منظمات المجتمع المدني المستقلة والعاملة في محافظتي الرقة ودير الزور شمال شرق سوريا، أطلقت حملة «نحن أهلها» في أكتوبر/تشرين الأول 2019، لدعم مبادرات المجتمع المدني والعاملين في منظماته. (تمثّل اللوحة محاولةً لغسل جدران المدينة التعبة بعد الحرب، بفعل يدوي وإنساني، قد يكون متعباً لكنه ينطوي على الكثير من الحب ويوحي بالتطهير والخلاص)، هكذا تقول الفنانة حجازي المقيمة في ألمانيا، التي قامت بتصميم اللوحة، أبدت حماساً شديداً للمشروع، عنــــــدما عرض عليها واســــتهوتها فكرة أن تـــكون الجداريــــات جزءاً من فضاء المديــــنة، تعبّر عن الهوية الثقافــــية والتراثيــــة المحلية لسكان المدينة، وأن تساهم في إعادة الثقة فيها بعد أن جرت محاولات طمسها من قبل العديد من القوى والأيديولوجيات المقحمة خلال الحرب.

من المفارقة أن تنظيم»داعش» حاول صبغ المدينة باللون الأسود. فالتراث الرقاوي غني جداً بالألوان والزخارف، خاصة في ثياب النساء. تضيف حجازي (من المحزن أن الرقة أصبحت في نشرات الأخبار»معقل داعش» حتى السنة الماضية، وأن تكون صورة الدمار بعد الحرب هي ما يعبر عن المدينة. ولعل تلك الجداريات الملونة الكبيرة تعطي للمدينة طابعاً جمالياً مختلفاً، خاصة أن شخوص هذه الصور هم من السكان المحليين بمختلف أعمارهم وأزيائهم ومهنهم. لا تعبّر الجداريات عن أي شخصيات سياسية أو قادة ولا تمجّد السلطة، فهي تعبر عن الإنسان).

لازم الظلام مدينة الرقة لسنوات، في ظل «داعش»، خبا نور المرأة حينها، وكان لزاماً عليها أن ترتدي الأسود، فضلاً عن التقييد الهائل في حركتها وحريتها، أما اليوم وبعد انتهاء حكمهم عادت المرأة لتشرق من جديد، بأزيائها التراثية المشبعة بألوان الحياة والفرح، يقول حسين الأحمد الذي عاد منذ فترة قريبة إلى مدينته، بعد أن كان نازحاً في حلب (في ظل داعش أصبحت المرأة تخاف من ارتداء لباسها الرقاوي التقليدي، كان ممنوعاً عليها، اللوحات الجدارية تعطينا أمل كبير، لقد لونت المدينة بألوان الحياة والتفاؤل، أتمنى أن يعود أهل الرقة اليها ليروا كيف أصبحت، بعد أن كان الدمار والركام يملأ شوارعها). أما محمد العلي وهو من أهل الرقة، فيقول (اللوحات هي رسالة حضارية باسم أهل الرقة تقول إننا مازلنا موجودين، والحياة مستمرة، الجدران خلال الحرب كانت تروي مأساة من خلال الدمار الذي أصابها، أما الآن فهي تروي حكاية أخرى، بأننا قادرون من جديد على البناء والعودة إلى الحياة.

تعتبر الفنانة حجازي أن الحرب كرست الكثير من الصور الجمعية، التي يرتبط فيها الإنسان بالسلاح، وبفعل الحرب نفسه.

أما في جدارياتها فقد اختارت تفاصيل بسيطة من الحياة، تركز هذه التفاصيل على مفهوم العيش بدل التركيز على مفهوم الموت، وتضيف (هناك غنى في النماذج الزخرفية وألوانها، سواء في الملابس أو في تفاصيل مفروشات المنازل. العمل على النماذج الزخرفية وارتباطها بمرجعياتها البيئية والثقافية هو أمر يستهويني بشكل خاص.

تميزت المرأة الرقاوية في المجال الزراعي، فكانت جنباً إلى جنب مع الرجل في الزراعة والحراثة والري والقطاف، كما تميزت في بيتها كسيدة كادحة يُعتمد عليها، يقول الفنان الزين (أحببنا أن نعبر عن ذلك من خلال اللوحة الجدارية، التي رسمت بارتفاع ثلاثة عشر متراً، ما لاحظته هو شعور الناس صغارأ وكباراً، نساءً ورجالاً بالدهشة والفرح عندما مشاهدتهم للوحة، نفوس الناس بدأت تتغير وتعود لطبيعتها، هذا الأمر أعطاني دفعة معنوية للاستمرار برسم اللوحات). ربما فقد الناس شعور الفرح بعد الحرب، ولكن هذا الإحساس بدأ يعود تدريجياً، اليوم مع بعض الفعاليات الفنية التي تحاول إحياء وجه المدينة، فلوحة المرأة التي تغسل الثياب بيديها على بساطتها عادت بالناس وبالذاكرة الى رائحة المحبة ودفء المكان، وذاك الحنان الذي كان يسيل من بين يديها.

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى