الناس

صور متناقضة للصحافيين السوريين/ فايز سارة

ينشغل قسم رئيسي من «رابطة الصحافيين السوريين» منذ أشهر بمشكلات الرابطة، وهي تنظيم نقابي أسسه صحافيون بعد ثورة 2011 لجمع شتاتهم، وتنظيم صفوفهم للدفاع عن أنفسهم وحقوقهم في الواقع الجديد، وتعبيراً عن تمايزهم عن «اتحاد الصحافيين» بدمشق الذي لم يتجاوز منذ تأسيسه قبل أكثر من أربعين عاماً، أن يكون بوقاً لنظام البعث وأداة سيطرة وتدجين لحملة الأقلام الحرة وأصحاب الضمائر من الصحافيين.

مشكلات الرابطة معقدة ومركبة، ودخلت عليها وإليها تفاعلات متعددة بحيث صار من الصعب الفصل بين الحق والباطل وبين الصحيح والخطأ، وكان ذلك نتيجة التباس أساسه اختلاط السياسي والنقابي عند أعضاء الرابطة، وسط ضعف وتدني مستويات العمل الجماعي عندهم وفي وعي السوريين عموماً، وزاد على ما سبق في أسباب ما يحدث صراع على استقلالية الرابطة في علاقاتها مع مكونات سياسية سورية من جهة؛ وربطها بعلاقات مع دول متدخلة بالقضية السورية من جهة أخرى، ثم أضيفت تفاصيل وحيثيات ووقائع عن قصد وعن غير قصد، بنوايا سيئة وأخرى حسنة إلى مسائل الخلاف الأساسية، فأخذت الأمور أشكالها الأكثر تعقيداً، وصار علاجها أكثر صعوبة، مما قد يسبب تفكيك الرابطة، إذا لم يحدث ما يشبه المعجزة، ويدخل الفعالون والمشاركون في أزمة الرابطة بوابة حل للمشكلات، ويعالجوها بصورة تجنب الرابطة التفكك، وتستعيدها إلى أعضائها ومهامها مجدداً.

وقد يكون من باب المساعدة في استعادة الرابطة إلى وضعها الطبيعي إلقاء نظرة سريعة على واقع الاصطفافات داخل الرابطة؛ حيث ينقسم الأعضاء إلى ثلاثة أقسام تكاد تكون متقاربة في عددها أو في نسبتها من الأعضاء؛ القسم الأول هم المنخرطون في صراعات الرابطة؛ وفيهم فريقان: فريق يؤازر ما تبقى من المكتب التنفيذي، وفريق يدعو إلى حجب الثقة، وفي كل واحد من الفريقين أشخاص من ذوي الرؤوس الحامية الراغبين في إلحاق الهزيمة بالفريق الآخر أياً كانت الوسيلة ومهما كانت النتائج، وإنْ كان بعضهم لا يتصور أن النتائج قد تودي بالرابطة كلها، ويحيط بهؤلاء على الجانبين مؤيدون وأنصار، أسمح لنفسي بالقول إن حضورهم في الصراع سوف يغيب إذا توقف تحريض قادتهم وسكتت أصواتهم لسبب ما، ومنه الوصول إلى تسوية في خلافات الرابطة؛ الأمر الذي قد يكون عاملاً إيجابياً كامناً في واقع أزمة الرابطة.

القسم أو الثلث الثاني من الأعضاء، قسم ميال إلى معالجة مشكلات الرابطة والخلاص من سلوك «القيل والقال»؛ على حد وصف أحد الزملاء، ودفع الرابطة نحو العمل على مهامها في رعاية شؤون أعضائها وحماية مصالحهم وتحسين أوضاعهم سواء من خلال التدريب ورفع القدرات المهنية بحيث يتحولون إلى قوة عمل منافسة في سوق العمل، ومن خلال السعي نحو مشاريع تشغيلية، يمكن أن تقدم كثيراً من فرص العمل لأعضاء الرابطة ومن هم خارجها، وقد سمعت وناقشت مع أعضاء من هؤلاء في أوقات متعددة مثل تلك الأفكار، التي تجعل منهم أكثر الأعضاء حملاً لهموم الرابطة وزملائهم فيها، ليس لجهة تفكيرهم في حل المشكلات الماثلة، بل بفتح أفق أوسع في تحسين أوضاع أعضاء الرابطة، الذي لا بد من أن يعكس إيجاباً، ويتحسن معه وضع الرابطة، وتتعزز مكانتها في المستويات المختلفة وتأثيرها في حياة السوريين.

ويتألف القسم الثالث من أعضاء الرابطة من الصامتين، وهو أمر لا يعني عدم المبالاة – وقد تكون هناك قلة من هؤلاء – بل إن الصمت يعود لأسباب مختلفة؛ منها عدم الرغبة في الدخول على خط الخلافات والغرق فيها، ومنها انشغال البعض الشديد بمشكلات أكثر تأثيراً بالنسبة له، وفي كل الأحوال؛ فإن مثل هذه الحالة أمر طبيعي في منظمات المجتمع المدني، وفي النقابات بشكل خاص؛ لأن الأمور تترك، على الأكثر، للناشطين ذوي الإمكانات والقدرات الأكبر.

واقع المشكلات المحيطة بالرابطة يعطي صوراً متناقضة، وغالبها سلبي، عن الرابطة وقسم رئيسي من الصحافيين السوريين، في وقت يعرف فيه الجميع أن ثمة حاجة، بل ضرورة، متزايدة لدور إيجابي للرابطة وللصحافيين أيضاً في ظل ما يحيط بالسوريين وقضيتهم من أوضاع صعبة، ومأساوية وصلت إلى حد الكارثة، الأهم في خلاصاتها استمرار الصراع المسلح حيث لا حل، بل تواصل مسار القتل والتدمير والتهجير الذي تتابعه قوى الأمر الواقع، واستمرار وقائع الانقسام السوري سياسياً وبشرياً وجغرافياً، وتكريس كيانات يحلم بعض صناعها بتحويلها إلى كيانات نهائية، ويجري غض النظر عن قضايا مهمة وملحة أو تجاهلها، مثل قضية المعتقلين والمختفين قسراً، وقضية عودة اللاجئين إلى مدنهم وقراهم وأملاكهم، ووقف سياسة إفقار وتجويع السوريين، وكلها قضايا تحتاج إلى جهد وطاقة الصحافيين السوريين لبيان خطرها وإعادة تقديمها إلى الرأي العام وتحشيده من أجل معالجتها بما يخدم القضية السورية، بعد كل ما لحق بها من تأثيرات سلبية في الأعوام الأخيرة، جعلتها تتراجع في سلم الاهتمامات الدولية والإقليمية.

إن انقسامات الصحافيين وانشغالاتهم بالصراعات في الرابطة؛ وعوامل أخرى، منعت تحشيد جهودهم في خدمة القضية السورية على النحو المنظم والمجدي في آن معاً، لكن صورة التقصير العام الذي بلغ مستوى الفشل في موضوعات وأماكن كثيرة، لم تمنع صحافيين سوريين من تقديم جهود استثنائية في موضوعات وأماكن مختلفة، لعل بين أبرزها ما يفعله صحافيو الداخل السوري في تغطية الأحداث ومتابعتها رغم كل الظروف الصعبة السائدة في مناطق سيطرة نظام الأسد والمناطق الخارجة عن سيطرته في شمال شرقي سوريا حيث تسيطر «قوات سوريا الديمقراطية (قسد)» التي تدعمها الولايات المتحدة، أو في الشمال الغربي حيث تتقاسم السيطرة هناك تركيا والميليشيات الحليفة لها من جهة؛ و«هيئة تحرير الشام» وشقيقاتها من جماعات التطرف مثل «حراس الدين» وغيرها، من جهة أخرى، وتتشارك سلطات الأمر الواقع جميعها في اضطهاد الصحافيين، مما جعل سوريا تحتل للعام الثاني على التوالي المركز الـ 174 من أصل 180 بلداً، حسب التصنيف العالمي لحرية الصحافة لعام 2020. وحسب كثير من التقارير، فإن أكثر الانتهاكات، خصوصاً ضد النساء، حدثت في مناطق سيطرة جماعات التطرف، لكنها جميعاً لم تمنع الصحافيين هناك من حمل عبء مهنتهم معظم الوقت وفي أغلب المناطق والموضوعات، وكان أحد تعبيرات ذلك فوز الصحافية السورية يقين بيدو بجائزة الشجاعة الصحافية من «المؤسسة الدولية للإعلام النسائي» مؤخراً لدورها في تغطية الأحداث، خصوصاً الغارات الجوية والهجمات على إدلب.

وإذا كانت صعوبات الوضع في الداخل، لم تمنع العمل الصحافي والتميز فيه هناك، فإن أوضاع الشتات الصعبة، لم تمنع نشاطات ومساهمات مميزة في العمل الصحافي السوري، لعل أحد تعبيراتها البارزة ما قامت به الصحافية والحقوقية وفاء مصطفى، التي ألقت مداخلة أمام مجلس الأمن الدولي أواخر يوليو (تموز) الماضي، تناولت واحداً من أكثر الموضوعات حساسية في القضية السورية، وهو موضوع المعتقلين، وركزت فيه على ما يحيط بأوضاعهم من تغطية متعمدة، وما يرتكب في حقهم من جرائم؛ بينها القتل تحت التعذيب وإساءة المعاملة، وسوء الأوضاع الصحية والمعيشية، والتي يتشاركها النظام مع الجماعات المسلحة الأخرى، وطالبت مجلس الأمن الدولي بتحمل مسؤولياته في معالجة موضوع المعتقلين.

لقد آن للصحافيين السوريين في ظل ما يحيط بقضيتهم من ظروف واحتمالات، وما يحيط بصورهم من تناقض، والمكانة التي تتمتع بها مهنتهم ومسؤوليتهم، أن يعيدوا ترتيب أوضاعهم وأولوياتهم، وأن يوحدوا صفوفهم، وأن ينخرطوا في نشاط عملي مكثف وفعال لدعم ومعالجة القضايا والموضوعات ذات الأهمية في مستوياتها المختلفة، خصوصاً أن الترديات وصلت إلى عمق بيتهم، واستقرت في نقابتهم التي ينبغي ألا يكون هناك خلاف فيها وعليها.

الشرق الأوسط

كاتب وصحفي سوري

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى