وجها لوجه

ألبرتو سافيولي.. النظام السوري لا يقبل التغيير

Alberto Savioli

بدأ الخطاب الديني بعد عسكرة الثورة

يروي ألبرتو من خلال كتابه “الله، سوريا، بشار وبس؟” خلاصة تجربته في سوريا لمدة تقارب ١٥ عاماً، ويعود بالقارئ إلى ما قبل فترة الانتفاضة السورية ليضعه في صورة الوضع الحياتي السياسي والاجتماعي والثقافي في البلاد وصولاً إلى لحظة اندلاع الثورة. “حكاية ما انحكت” التقت بالكاتب في منزله في مدينة أوديني الإيطالية، وكان لنا معه الحوار التالي الذي أجراه غيث الحلاق، والذي امتد لنقاش مسائل الثورة السورية والتسلح وطبيعة النظام السوري وموقف الغرب على تنوعه من سورية، إضافة إلى مسائل أخرى كثيرة.

ألبرتو سافيولي، عالم آثار وباحث إيطالي بدأ عمله في سوريا في عام ١٩٩٧ كعالم آثار ثم تخصص في حياة القبائل البدوية في منطقة الجزيرة والبادية السورية. غادر سوريا في عام ٢٠١٠ وعاد ليعمل في جامعة أوديني الإيطالية كباحث متخصص في مجال الآثار.

يروي ألبرتو من خلال كتابه “الله، سوريا، بشار وبس؟، Allah, la Siria, Bashar e basta?” خلاصة تجربته في سوريا لمدة تقارب ١٥ عاماً، ويعود بالقارئ إلى ما قبل فترة الانتفاضة السورية ليضعه في صورة الوضع الحياتي السياسي والاجتماعي والثقافي في البلاد وصولاً إلى لحظة اندلاع الثورة.

“حكاية ما انحكت” التقت بالكاتب في منزله في مدينة أوديني الإيطالية، وكان لنا معه الحوار التالي الذي أجراه غيث الحلاق.

(1): بدايةً، ما الذي دفعك للكتابة حول الشأن السوري؟

لقد عشت وعملتُ في سوريا لمدة أربعة عشر عاماً، ثم غادرتها ولم أتمكن من العودة إليها بعد اندلاع الثورة السورية. عملتُ بعد ذلك في بيروت مع زميل إيطالي في الفترة التي تلت انطلاق الثورة على توثيق الأحداث اليومية للحراك السوري وتفاصيله وأخباره في موقع الكتروني. حياتي في سوريا، ومن ثم عملي في الشأن السوري، كوّنا لدي قاعدة واسعة ومعرفة كبيرة بالوضع السوري، سياسياً واجتماعياً، وأحسست بضرورة جمع تلك المعلومات، خصوصاً عندما لاحظت التقصير في تغطية الثورة السورية إعلامياً منذ البدايات.

هنا في إيطاليا، كان الناس يسمعون ويشاهدون الأخبار عن ثورةٍ في سوريا دون معرفة الأسباب والدوافع التي دفعت الشعب السوري للتحرك والمتمثلة بالفساد والظلم والاستبداد وقمع الحريات، لهذا اعتمدت الأسلوب الروائي في الكتاب بشكل أشبه بالحديث عن تجربة حياتية أو شخصية في سوريا، إلا أنّ هذه التجربة تشرح بشكل موّسع وتفصيلي المسألة السورية لمن لا يعرف تفاصيلها.

دور المثقف

(2): اخترتَ عنواناُ مثيراً للجدل للكتاب “الله، سوريا، بشار وبس؟”. هلا شرحت لنا سبب هذا الاختيار؟

العنوان كان بصيغة التساؤل. وبمعنى آخر: “هل سوريا حقاً كذلك؟”. يتم تصوير سوريا حالياً كبلد يحتوي على طرفين رئيسيين فقط. الأول هو الإسلام المتطرف والثاني هو النظام العلماني. وقد اتخذت من هذا العنوان مدخلاً لنقض هذه النظرية والوصول إلى نتيجة مفادها أن سوريا ليست كذلك.

(3): ما هو دور المثقف الغربي في إيصال الواقع العربي إلى مجتمعه الذي ابتعد مؤخراً عن الاهتمام بثورات الربيع العربي؟ وكيف يمكن سد هذه الهوة من الطرفين؟

سأتحدث عن إيطاليا حيث أعيش، وحيث يوجد نقص كبير في المعلومات حول سوريا. أتذكر جيدا في السنوات الأولى من الثورة السورية كمية المقالات المترجمة التي كانت تُنشر في ألمانيا وفرنسا ودول أخرى عن كتاب ومفكرين سوريين. كانت مقالات متعمقة ومهمة في تقديم الواقع السوري بشكل دقيق للقراء. الوضع في إيطاليا مختلف تماماً. ما يُنشر عن سوريا في إيطاليا لا يتعدى أخبار المعارك والقصف اليومي. أستطيع القول أن سبب هذا النقص المعرفي الكبير في المجتمع الإيطالي فيما يتعلق بالوضع في سوريا هو المستوى الثقافي للبلاد، ولا أقصد هنا المستوى التعليمي، بل أقصد سيطرة أقلام معينة على الكتابة عن مواضيع معينة، وخير مثال هو ما ينشر عن الوضع السوري. من يكتب اليوم في الصحف والمدونات الشهيرة عن واقع الحال في سوريا هم كتاب غير معنيين بالشأن السوري، ولا يتابعونه بشكل كاف بل يعتمدون على نقل الأخبار بشكل آلي وليس على التحليل والتعمق. أضف إلى ذلك، أن التلفاز والصحافة ووسائل الإعلام الإيطالية لا تعتبر اليوم أدوات كافية لتقديم المعلومة للقارئ والمتابع الإيطالي. وبذلك، يصبح الأنترنت هو الملاذ الأخير المتبقي لمن يرغب بمعرفة ما يحصل في سوريا، والشبكة العنكبوتية تحتوي على الكثير من المصادر والمراجع التي لا يمكن التوثق منها جميعها، وهذا يعيدنا إلى نفس النقطة، وهي النقص المعرفي الناتج عن المستوى الثقافي غير المتطور نسبياً في البلاد. هناك عدد كبير من الصحفيين المتميزين المتابعين للشأن السوري، لكن هناك عوائق كثيرة تمنعهم من الكتابة بشكل وافٍ ومحيط بالوضع السوري، ولعل أهم تلك العوائق هي المسافة وصعوبة التواصل مع أناس في الداخل السوري لأسباب ترجع إلى اللغة ولصعوبة الحصول على تصريح عمل في الداخل السوري.

هناك مشكلة أخرى رئيسية تواجهنا كمثقفين وباحثين، وهي تراجع الاهتمام يوماً بعد يوم بالشأن السوري، وقد واجهت شخصياً الكثير من المتاعب بسبب ذلك خصوصاً على وسائل التواصل الاجتماعي حيث تم شتمي في بعض الأحيان واتهامي بأنني صديق للقاعدة، وهذا يحصل مع آخرين أيضاً، ويجب أن أعترف أنه من الصعب على الجميع مواجهة ذلك أو تحمله بشكل مستمر. ومع ذلك أقول: أنه ينبغي على الملم بالشأن السوري أن يتابع الحديث والكتابة عن هذا الشأن حتى ولو قرأ كتاباته عشرة أشخاص فقط لأن الباحث المطلع بشكل جيد هو أداة رئيسية لنقل الواقع والصورة لمجتمعه. لقد تم توجيه التغطية الإعلامية الغربية للصراع السوري بشكل ممنهج أدى لنشر أفكار عامة وخاطئة يحتاج تغييرها لدى المواطنين في الغرب إلى جهد كبير. وقد لمسنا ذلك في الماضي بعد مجزرة حماه في عام ١٩٨٢. لم يكن أحد ليعرف ما جرى في هذه المدينة لو لم يكتب روبرت فيسك عن الأمر. التعتيم الإعلامي كان موجوداً ولا يزال على كثير من القضايا المتعلقة بالشرق الأوسط.

بحثا عن الأمل

(4): تحدثتَ مطولاً في الكتاب عن معايشتك للأمل الذي وجد لدى الشعب السوري في التغيير عند استلام بشار الأسد سدة الحكم في سوريا عام ٢٠٠٠. برأيك الشخصي، ومما شهدتَهُ في تلك الفترة، هل كان هناك ما يبرّر هذا الأمل؟ هل كانت هناك أية بوادر تدل على أن الرئيس الجديد لديه نية في تغيير الواقع السوري فعلا وتجعل الشارع الغربي يعتقد بذلك؟ كيف كانت نظرة المجتمع الأوروبي والمواطن الغربي للواقع السوري والأسد الابن في تلك المرحلة؟

لقد اعتقل حافظ الأسد خلال فترة حكمه التي دامت لثلاثين عاماً العديد من المثقفين ورجال السياسة الذين انخرطوا في أحزاب أو تجمعات مناهضة له، وتخلص من كافة خصومه، سواء بالنفي أو الاغتيال أو السجن.

وما حدث في بداية حكم بشار الأسد هو أن تلك الطبقة من المثقفين والسياسيين قد وجدت ما يمكن تسميته مساحة ضئيلة للكلام والتعبير، لم تكن موجودة في عهد الأسد الأب، وأتحدث هنا عن الأشهر الأولى القليلة من حكم الأسد الابن. أتذكر جيداً مرحلة ظهور المنتديات السياسية التي كانت أمراً غير مألوف، سواء بالنسبة للسوريين أو حتى بالنسبة لي كمواطن أجنبي يقيم في سوريا، ويعرف جيداً الطبيعة السياسية والأمنية لهذا البلد. كانت الصورة التي يتناقلها الناس هنا في أوروبا حول بشار الأسد هي صورة الرجل العصري الذي أدخل الأنترنت والهواتف المحمولة إلى بلده، وأفسح المجال لمزيد من حرية التعبير بين أوساط شعبه، وهو أمر غير صحيح بالتأكيد، إلا أن السبب الأول والأساسي لانتشار هذه الفكرة في الغرب هي المقارنة المستمرة ما بين الابن والأب، والتي ستجعل الكفة تميل دون شك للابن الذي يتكلم الإنكليزية بطلاقة، والذي درس في لندن ثم عاد حاملاً ثقافة وتطور الغرب إلى بلده. وأتحدث هنا من منظور شخص يتابع الوضع من الخارج، ولم يختبره بنفسه كما حدث معي. في عام ٢٠١١، كانت قناعة كثير من الإيطاليين، أنّ الأسد غير مسؤول عن عمليات القمع والاعتقال والتعذيب التي تلت التظاهرات في أشهرها الأولى، بل إن المسؤول عن كل ذلك هم الأشخاص المقربون من العائلة الحاكمة، والذين يسيطرون على مراكز القوة وأفرع المخابرات، وقد كانت نظرتنا خاطئة كلياً، فقد ثبت أنّ نظاماً من هذا النوع لا يمكن أن يقبل التغيير، وأن يكون منفتحاً بأي شكل من الأشكال. الأنظمة القمعية لا يمكن أن تسمح للناس بالتكلم والنشر والكتابة كما يشاؤون، لأن قوتهم قائمة أساساً على القمع والسيطرة المطلقة. لقد مات حافظ الأسد، ولم يغير ابنه بشار رموز النظام والحكم في سوريا (طلاس، مخلوف، شاليش، مملوك…)، وهو ما كان كافياً لإعطاء صورة واضحة ربما عن طريقة تفكير هذا الرئيس الجديد للبلاد في عام ٢٠٠٠، ربما كان التفسير الوحيد الذي خلق هذا الشعور العام بالأمل، هو أن هناك إحساساً بأن شيئاً ما قد يتغير، وهذا الشعور كان مرده الوحيد هو انعدام البديل على أرض الواقع في تلك المرحلة بفعل السلطة الأمنية المطلقة والنظام القوي الذي ورثه الأب عن ابنه والذي سمح له أن يقدم نفسه كحاكم جديد للبلاد دون أي منافس.

الأسد والغرب

(5): رغم تقرير المنظمة الدولية لحقوق الإنسان حول سوريا عام ٢٠١٠، والذي ذكر استمرار قمع الحريات العامة في سوريا. إلا أنك أكدت في الفصل العاشر من كتابك أن نظام الأسد الابن كان قد تمكن من الخروج من عزلته الدولية والانفتاح على الغرب منذ عام ٢٠٠١، العام الذي شهد زيارة مسؤولين أوروبيين لسوريا. كيف تفسر هذا الانفتاح الغربي رغم استمرار سياسة القمع في الداخل السوري؟

أستطيع أن أرجع أسباب ذلك الانفتاح إلى عاملين، الأول استراتيجي يتعلق بموقع سوريا المهم كواحدة من دول المتوسط، وكدولة مجاورة لعدة دول شرق أوسطية شهدت صراعات كبيرة في التسعينات ولعل أهمها العراق. بعد حرب العراق، عاد الكثيرون ممن شاركوا في حرب العراق إلى سوريا واعتقلوا جميعاً ما بين عامي ٢٠٠٤ و٢٠٠٦ بتهم الانتماء إلى منظمات جهادية. لقد قدمت تلك المرحلة النظام السوري للغرب على أنه محارب ضد التطرف الإسلامي.

العامل الثاني كان سياسياً يتعلق بالخطط التي أعلن عنها النظام السوري في تلك المرحلة بخصوص إتاحة المزيد من الحريات ومحاربة الفساد، وهو أمر لقي صدى إيجابياً على ما يبدو لدى الكثير من الحكومات الغربية على الرغم من تقرير المنظمة الدولية لحقوق الإنسان، حيث كانت تلك الحكومات تبحث عن أية ذريعة لإعادة العلاقات الطبيعية مع سوريا. لقد حاول نظام الأسد الابن تقديم نفسه للغرب كنظام مختلف عن سابقه، ديمقراطي وأكثر انفتاحاً. إلا أن استجابته لاحتجاجات ٢٠١١ بذلك الشكل أكدت أنه ما هو إلا استمرار للنظام الذي حكم البلاد ثلاثين عاماً من قبله.

الثورة وإشكالية “الله أكبر”

(6): تحدثتَ عن استعمال عبارة “الله أكبر” لأول مرة في مظاهرات حمص. ووصفت العبارة بأنها أول عبارة تسمع في المظاهرات وتكون ذات مدلول طائفي ديني. وهنا، خالفك كثيرون الرأي بالقول إن هذه العبارة استعملت في البدايات لتقوية المتظاهرين وبث الإيمان في نفوسهم للصمود في وجه قوات الأمن ولم يكن الغرض طائفياً منها. هل يمكنك إيضاح ما استندت عليه في وصفك لهذه العبارة بالعبارة ذات المدلول الديني؟

لقد حاولت إيضاح فكرة مفادها أن هذه العبارة لا تستخدم دائماً بغرض ديني. على سبيل المثال، كنت أسمع أنصار نادي برشلونة من العلويين والأقليات الأخرى يصيحون “الله أكبر” عندما يحرز فريقهم هدفاً في إحدى المباريات. العبارة اذاً تستخدم في كثير من الأحيان للتعبير عن الفرح أو الحماس. ما كتبتهُ هو أن هذه العبارة اتخذت في مرحلة معينة طابعاً دينياً، ولم أقصد أن كل من يصيح بهذه العبارة لديه دافع ديني.

(7): إذاً، هل أنت من أنصار نظرية أن الثورة في سوريا قامت لغرض ديني؟

بالتأكيد لا، الثورة ضمّت شرائح مختلفة من الناس، طلاب وفلاحين وعمال من مختلف الانتماءات الدينية، وخصوصاً في أشهرها الأولى. أناس كثر في المجتمعات الأوروبية لديهم هذا التصوّر عن حراك ديني في سوريا بسبب ما كان يصلهم عبر وسائل الإعلام، خصوصاً صور التظاهرات التي كانت تنطلق من الجوامع وبالتحديد في أيام الجمعة. لكن كثير من هؤلاء لا يدركون طبيعة الوضع السوري والتركيبة الأمنية السورية، والتي تجعل من الصعب وجود أي تجمع إلا في دور العبادة. الناس الذين كنت أقابلهم في تلك الفترة كانوا ناشطين ومثقفين وشباباً حالمين بالديمقراطية. لم تكن لديهم أية خلفيات دينية. إلا أن هذا المكون لم يكن المكون الوحيد للثورة، لقد كان القسم الأكبر من الناس في الشوارع يطالبون بحياة أفضل ويتظاهرون بسبب انعدام فرص العمل والفقر. لا أستطيع أن أقول أن كل من نزل للشارع كان يتحدث عن الديمقراطية والحرية في بداية الثورة. المزارعون الفقراء على سبيل المثال في حمص والرقة كانوا يطالبون بحقوقهم وينتفضون في وجه الفقر ولم يكن هدفهم الديمقراطية بحد ذاتها. لقد لعب العامل الاقتصادي والظروف المعيشية دوراً جوهرياً في انتفاضة هؤلاء. لقد بدأ الخطاب الديني واضحاً بشكل أكبر عندما تمت عسكرة الحراك الشعبي. وقد كان هذا الخطاب سبب توقف العديد من الدول الغربية عن دعم كثير من الجماعات المسلحة.

ثورة ديمقراطية أم دينية؟

(8): وما الذي ساهم في نشر فكرة الثورة الدينية أو الحراك الديني السوري في أوساط المجتمع الأوروبي؟

عندما أتحدث عن الثورة السورية، فأنا أعني عامي ٢٠١١ و٢٠١٢، أي قبل دخول الثورة إلى مرحلة الحرب الأهلية. لسوء الحظ، وبعد أن بدأت الجماعات المتطرفة بالظهور بعد ذلك، كانت السياسة التي اتبعها النظام مفيدة جداً له في تقديم نفسه كمدافع عن الأقليات السورية بشكل عام وعن المسيحيين بشكل خاص، وهذا الأمر له تأثير كبير إلى حد ما في أوروبا عموماً، وفي إيطاليا على وجه الخصوص.

في بلدة الغسانية مثلا في الشمال السوري، وهي قرية ذات أغلبية مسيحية، دخلت جماعات تابعة للنصرة ودمرت الكثير من المقدسات الدينية الموجودة في البلدة وأجبرت الأهالي على النزوح. المواطن الغربي ينظر إلى واقعة كهذه على أنها تطرف معادٍ للدين المسيحي كون المجموعة المعارضة في تلك الفترة، والتي قامت بتلك الأفعال كانت مجموعة متطرفة هي النصرة. هناك لوم كبير أيضاً على الإعلام الذي يقوم بالتركيز على وقائع معينة دون غيرها، ما يساهم بشكل كبير في تقديم صورة غير دقيقة عن الوضع، وهو ما حصل في تقديم الثورة السورية كحراك ديني متطرف من خلال التركيز على أحداث معينة متعلقة بالممارسات المتطرفة والتغاضي عن الحديث عن الحراك السلمي أو الحراك المسلح المعتدل. الصحافة اليوم لا تنشر آراء مثقفين سوريين عايشوا الحراك السوري بكل مراحله. على سبيل المثال، قلائل في إيطاليا من سمعوا باسم ياسين الحاج صالح على سبيل المثال، بينما شاهدنا في فترة من الفترات عشرات المقالات التي كانت تنشر يومياً نقلاً عن تصاريح قادة أو عناصر في جيش الإسلام.

الإعلام السوري المعارض يتحمل مسؤولية كبيرة أيضاً في عدم قدرته على مواجهة ونفي الكثير من المفاهيم الخاطئة التي تصل إلى المواطن الغربي. عندما ظهرت عبارة “المسيحي عبيروت والعلوي عالتابوب” ونسبت إلى إحدى التظاهرات في منطقة الخالدية في حمص، بحثتُ كثيراً عبر الأنترنت ولم أجد تسجيلاً واحداً يوثق هذه العبارة. كل ما وجدته كان تأكيدا على لسان إعلامية لبنانية ادّعت أنها سمعت العبارة بنفسها. ومع ذلك، بدأ الناس يصدقون الأمر لعدم وجود النفي لها لا أكثر.

ثورة أم حرب أهلية؟

(9): إذن فأنت تقول أن الثورة السورية كانت فقط في عامي ٢٠١١ و٢٠١٢، وبعد ذلك تحولت لحرب أهلية؟

لقد استخدمت في كتابي مصطلح الانتفاضة السورية. الثورة تعني حراك ضد النظام يؤدي إلى سقوط وتغيير النظام الحاكم وهو ما لم يحصل في سوريا، وهذا ما جعلني أستخدم مصطلح الانتفاضة. اليوم يمكن القول أن الوضع أقرب إلى حرب أهلية أو صراع مصالح في سوريا أكثر من كونه ثورة. حسب رأيي، لقد تم القضاء على الثورة منذ أن دخلت مرحلة التسلح. أعلم جيداً أن الأمر كان أقوى من إرادة السوريين، وأن التسلح كان خيارا اضطرارياً لدى كثيرين، لكن استحالة الاستمرار السلمي للحراك الشعبي أوصل الثورة للتسلح، وتلك كانت نقطة التحول. التمويل الخارجي من دول مختلفة لمجموعات مختلفة من المعارضة السورية أوصل الأمر إلى ما يمكننا تسميته صراع مصالح.

البيئة البدوية.. البيت الثاني

(10): وصفت البيئة البدوية في الفصل الثاني من الكتاب ببيتك الثاني. كباحث متخصص في القبائل البدوية العربية ومن خلال معرفتك بالمجتمع البدوي عن كثب ومعيشتك بينهم لفترة ليست بالقصيرة. أين ترى أبناء المجتمع البدوي في البادية السورية مما يحصل اليوم؟ وما هو تقييمك لدورهم في المشهد السوري؟

عرفتُ البدو قبل الثورة السورية أناساً متنقلين باحثين عن رزقهم في المساحات ما بين دير الزور وتدمر. وعندما بدأت المعارك بين النظام السوري وداعش في تدمر وما حولها، اضطرت الكثير من القبائل البدوية إلى ترك المنطقة والرحيل عنها.

عندما بدأت الثورة في عام ٢٠١١ في ساحات المدن الرئيسية في سوريا، كانت مشاركة البدو خجولة وشبه منعدمة، والأمر يرجع حسب رأيي إلى ضعف المعرفة السياسية والمتابعة للأحداث لديهم. لقد كانوا بعيدين جغرافياً وسياسياً إلى حد ما عن الأحداث الرئيسية منشغلين بالسعي وراء رزقهم في الصحراء. البدو الذين شاركوا في المظاهرات، هم أولئك الذين تحضروا وانتقلوا للعيش في المدن أي مَن هم من أصول بدوية. في الرقة وحمص مثلاً، شارك البدو في كثير من المظاهرات، وكان جميعهم من أولئك الذين تركوا حياة الرعي واندمجوا في حياة المدينة. يجب ألا نغفل أيضاً أن العدد الأكبر منهم شاركوا في المظاهرات بسبب الفقر وبدافع اقتصادي وليس سياسي. كانت مشاركة البدو أبطأ في مدن أخرى، وخصوصاً في دير الزور. ومع ذلك، سببت هذه المشاركة قلقاً كبيراً لدى النظام لمعرفته بالعلاقات وصلات القربى التي تربط القبائل البدوية في مختلف أصقاع سوريا، مما قد يؤدي إلى اتساع مشاركتهم وانتشارها بشكل قد لا يمكن السيطرة عليه. في الماضي، وقفت كثير من القبائل البدوية إلى جانب النظام، الحدادون مثلاً دعموا النظام في حلب وحماه في أحداث الإخوان المسلمين عام ١٩٨٢. وعلى العكس تماماً، عندما تحول النزاع إلى نزاع مسلح بعد الثورة السورية، كان البدو ركيزة أساسية من ركائز تكوين الجيش السوري الحر، خصوصاً في الشمال السوري. لدي أصدقاء كثر من قبيلة طي في جرابلس وما حولها انضموا جميعاً إلى الجيش الحر. عند ظهور الدولة الإسلامية، لم يكن خيار الكثيرين من البدو الانضمام إلى صفوفها وهو ما دفع داعش إلى إعدام أكثر من ٦٠٠ شخص على مراحل من عشيرة العقيدات في دير الزور ممن رفضوا الانضمام إلى صفوفها انتقاماً منهم ولإخافة بقية القبائل وإجبارهم على الانضمام إلى صفوفها وهو ما حصل.

في الوقت نفسه، حاربت عدد من القبائل البدوية داعش وحصلت عدة معارك بينهم في ٢٠١٤. على جانب آخر، انضم آخرون إلى جيش النظام وفصائله المسلحة وتم زجهم في المعارك مع قوات سوريا الديمقراطية. أستطيع القول، وتلخيص الأمر بأن القبائل البدوية قد تم استخدامها والاستفادة من انتشارها الجغرافي في مناطق البادية والجزيرة السورية وبأساليب وأجندات مختلفة.

سردية الغرب.. اللاجئون والإرهاب

(11): سردية محاربة الإرهاب وداعش والموقف من اللاجئين باتت تحتل الأولوية في أوروبا والغرب أكثر من الثورات العربية؟ كيف تفسر هذا الأمر؟

بالنظر للوضع السوري، الخوف من الإرهاب كان العامل الأساسي الذي ساهم في تقديم الأسد بشكل إيجابي لدى كثيرين. هناك طبقة سياسية تعمل على خلق وتقوية هذه الأولوية المتمثلة بمحاربة الإرهاب والحد من ظاهرة اللجوء.  لقد سمعنا في السنوات الماضية عن لاجئين تم القبض عليهم في السويد وألمانيا بعدما تم التأكد من أنهم مقاتلين سابق في صفوف داعش. خبر كهذا، هو خبر دسم لكثير من الفئات السياسية التي تعمل على تصوير الوضع بأكمله بهذا الشكل وتحاول خلق ونشر فكرة مفادها أن غالبية اللاجئين هم كهؤلاء. الرأي العام يرتبط برأي الأحزاب السياسية والعكس صحيح. يتحمل اللاجئون جزءاً من هذه المسؤولية أيضاً، فالكثير منهم يعيش في حالة من العزلة وعدم الاختلاط، وهو ما يجعل فهم ظروفهم وخلفياتهم وأسباب قدومهم صعباً على المجتمع المضيف ويخلق المزيد من الحواجز بين الطرفين. هناك لاجئون عانوا وذاقوا الكثير من نظام الأسد لكنهم يرفضون الحديث عن الأمر هنا لأسباب قد تتعلق بالخوف وربما لأسباب أخرى نجهلها. أظن أن اللاجئين أنفسهم يستطيعون تصحيح الموقف السلبي منهم في المجتمعات الغربية، لكننا لا نشاهد ذلك على أرض الواقع.

بالنسبة لمسألة محاربة الإرهاب، فقد لعب كثير من المثقفين الغربيين إلى جانب الإعلام الغربي الدور الأسوأ في هذا الاتجاه من خلال نقل المشهد السوري على أنه صراع بين العلمانية والتطرف وليس بين ظالم ومظلوم. لا أحد يتكلم اليوم عن أولئك الناس الذين خرجوا يطالبون بالحرية والديمقراطية والعدالة في سوريا. المتطرفون يتصدرون المشهد دوماً. لا يعرض على الشاشات اليوم سوى أصحاب اللحى والرايات السود، وهذا يجعل معاداة الأنظمة المستبدة صعبة على المواطنين في دول الغرب.

الأسد.. دعم اليسار واليمين

(12): كثير من المثقفين العرب يعتقدون اليوم أن الغرب قدّم مصالحه على حساب قيمه (الديمقراطية، حقوق الإنسان…) فيما يتعلق بالمقاربة تجاه الربيع العربي، هل تتفق مع ذلك؟ خاصة أن السردية الغربية في قسم لا بأس به، منها، اليوم، تذهب نحو القبول بالسيء (الاستبداد) كخيارٍ أفضل من الأسوأ (الإرهاب)؟

عندما نتحدث عن الغرب فإننا نستخدم هذا المصطلح بصورة عامة. لا بد من التوضيح أن مستوى الوعي بالقضية السورية يختلف من بلد أوروبي لآخر. ما يتم نشره عن سوريا في ألمانيا مختلف عما ينشر في فرنسا ويختلف بدوره عما ينشر في إنكلترا، والأمر يرجع إلى تنوع مصادر المعلومات. الرغبة في المعرفة مختلفة أيضاً. هناك مقالات مهمة تنشر في فرنسا وألمانيا عن الوضع السوري. ليس فقط تقارير إخبارية بل أيضاً مقالات رأي وتحليلات مهمة، وهو ما نفتقره في إيطاليا. هناك كثيرون حتى اليوم لا يعرفون أي شيء عما يجري في سوريا رغم مرور تسع سنوات على الصراع هناك. كل ما يتم التركيز عليه في الصحافة الإيطالية هو الوضع العسكري وما يتعلق بالهجمات الكيميائية أو الغارات الجوية الإسرائيلية المتكررة على دمشق أو الحملة التي يشنها النظام السوري على إدلب، فيما لا نجد أية مقالات تحليلية تناقش بشكل علمي أو سياسي فحوى الوضع السوري.

الأنظمة العربية أنظمة ديكتاتورية لكنها ومع ذلك تمثل الاستقرار بالنسبة للغرب ويشمل ذلك نظام الأسد قبل عام ٢٠١١. بالنسبة لسوريا، فقد دعم الغرب الثورة السورية منذ البدايات. إلا أن التراجع بدأ في المرحلة التي تلت تشكيل الجيش السوري الحر، وأقصد هنا تشكل الجماعات ذات التوجه المتطرف. حصل الأمر نفسه في مصر حين توقف الغرب عن دعم الثورة المصرية مباشرةً بعد أن قدم الإخوان المسلمون أنفسهم كرعاة لهذه الثورة. إن فهم جوهر وعمق الصراعات في المنطقة العربية، هو أمر معقد بالنسبة لكثيرين هنا. لقد ظهرت مواقف مختلفة هنا في الدول الأوروبية منذ بدايات الثورات العربية ما بين مؤيد ومتعاطف ومعارض لهذه الثورات، إلا أن التطرف الإسلامي الراديكالي الذي أصبح عنصراً مؤثرا في هذه الثورات قد وحّد الموقف الأوروبي إلى حد كبير على التعامل بحذر وعدم الانخراط بشكل أكبر في تلك الثورات. وللأسف، لم يتم أخذ عنف النظام ضد الشارع السوري بمختلف أطيافه ومكوناته بالاعتبار. الإدراك والوعي بالظواهر الاجتماعية التي رافقت الثورة السورية محدود للغاية في أوساط الرأي العام الأوروبي.

لقد تغير العالم منذ أواخر القرن الماضي. أتذكر جيدا الحرب الأمريكية على العراق ونظام صدام حسين. كان الجميع يتحدث عن ديكتاتورية صدام حسين في ذلك الوقت لكن الشارع الأمريكي كان ضد التدخل رغم ذلك، وعدّ هذا التدخل فيما بعد أحد الأخطاء الاستراتيجية في تاريخ السياسة الأمريكية. في إيطاليا اليوم، نشاهد توحد كل من اليمين واليسار على تأييد الأسد. لقد شاهدنا كثير من الايطاليين الذين يؤيدون الأسد في كثير من التظاهرات في إيطاليا. لا يتعلق الأمر بمسألة الإرهاب فقط بل بفكر سياسي قديم يتم تداوله حتى اليوم، فاليسار الإيطالي الذي يفترض أن يقف بجانب ثورات الشعوب قام بدعم الأسد من منطلق أن الأسد يمثل مصالح روسيا في وجه الإمبريالية العالمية والأمريكية وتحت هذه الذريعة تم تجاوز مبادئ الديمقراطية وحقوق الانسان والشعوب. أما اليمين، فلا يزال يرى في الأسد محارباً للإرهاب والتطرف في بلده ويجب دعمه على هذا الأساس. الأفكار والمذاهب السياسية تحتاج ثورة حقيقة اليوم، ثورة تتناسب مع معطيات الأحداث في العالم بأكمله. الجميع يرون في سوريا اليوم صراعاً عسكرياً، ولا أحد يأبه بالتعمق في هذا الصراع وأسبابه وخلفيات أطرافه.

(12): على الهامش، سمعنا مؤخراً عدة تصريحات لوزير الداخلية الإيطالي السابق، ماتيو سالفيني، يتحدث عن ثورة إسلامية وعن الهجمات الكيميائية في سوريا واصفاً اياها بالمسرحية. كمواطن إيطالي اليوم. ما رأيك في تقارب الحكومة الايطالية اليمينية الصبغة من النظام السوري؟ ما أسباب هذا التقارب وما نتائجه برأيك على المستوى البعيد؟

كثير من مواقف السياسيين نابعة عن شرخ عميق في السياسة الخارجية على المستويين الأوروبي والدولي. هناك علاقة قوية بين الأحزاب الحاكمة الرئيسية في الحكومة وبين نظام بوتين والإدارة الروسية، وقد بدأت إيطاليا بإعادة العلاقات الطبيعية تدريجياً مع روسيا بشكل يخالف ما أقره الاتحاد الأوروبي. لا أجد الأمر غريباً، أن يتم تبني الخطاب الروسي من قبل سياسيين إيطاليين فيما يخص الهجمات الكيميائية على سبيل المثال. سمعنا أيضاً الكثير من الأصوات في الحكومة تطالب بإعادة فتح السفارة الإيطالية في دمشق، وتحاول الترويج لنظام الأسد كمحارب للإرهاب، وقد أرسل حزب الخمس نجوم اليميني وفوداً ديبلوماسية بشكل مستمر إلى دمشق في السنوات الأخيرة في سعي لإبقاء طريق صالح لعودة العلاقات مستقبلاً مع نظام الأسد. ومع ذلك، أظن أن الأمر لا يتعدى كونه خطاباً سياسياً من الصعب تطبيقه على الأرض. ولا أعتقد أن إيطاليا ستقف بمفردها في وجه العقوبات الأوروبية التي اتخذت بحق نظام الأسد بالرغم من إصرار الأحزاب اليمينة المتطرفة على الأمر.

حكاية ما انحكت

—————

وردت الإشارة في هذا الحوار الى المقالات التالية:

—————————

لعنة الجغرافيا السورية ومقترحات لتجاوزها/ طريف الخياط

في زحمة المؤتمرات والمنصات، والتدخلات الإقليمية والدولية في الشأن السوري، نحتاج أن نبتعد قليلًا عن الحدث المباشر، وأن نتناول الأزمة السورية من أحد جوانبها الجوهرية، ولا يمكن التنعّم بها إلا عبر توسيع المجال الزمني التاريخي الذي نناقش ضمنه الحالة السورية، بما هو سابق لتاريخ انطلاق الثورة، بل وحتى لتشكل الدولة السورية بحدودها الراهنة والمعترف بها دوليًا.

لا تملك سورية، الدولة التي نعرفها اليوم، جذرًا ضاربًا في التاريخ، بوصفها كيانًا سياسيًا مستقلًا، على الرغم من عراقة شعبها، ونتاجه الحضاري والثقافي الغني الذي أثرى الإرث الإنساني عبر مراحل متعددة من تاريخه. يعود الأمر -من وجهة نظر جيوسياسية- إلى عدم توفر أحد أهم الشروط اللازمة لتشكل دولة في الحيز الجغرافي الذي يصطلح عليه بـ “سوريا الكبرى”، ويشمل سورية ولبنان والأردن وفلسطين التاريخية، وذلك؛ بسبب عدم توفر حدود طبيعية تردع الغزوات الخارجية، وتسمح بتكون هوية واضحة المعالم للشعب السوري الموجود في هذا الإطار الجغرافي، من حيث أن النضال المشترك في مواجهة عدو خارجي يسهم في بلورة وعي جمعي هوياتي لسكان حيز جغرافي ما، على العكس من ذلك، فإن التاريخ السوري حافل بدويلات تدور في فلك امبراطوريات أوسع، أو في مراحل كانت سورية الكبرى ملحقة أو خاضعة كليًا لإمبراطوريات كبرى، كالرومانية أو العربية الإسلامية، أو العثمانية، يضاف إلى ذلك أن الموقع الجغرافي لسورية، يتموضع بين قوى إقليمية تاريخية متصارعة تفوقها قوة، وقد أسهم ذلك بدوره في منع تشكلها، بوصفها دولة، إذ طالما كانت أرضًا متنازعًا عليها، سعت تلك القوى إلى إخضاعها، وإلحاقها كليًا أو جزئيًا لمجالات نفوذها، وساهمت جيوش غازية من مناطق بعيدة، وتقصد وجهات أخرى، بتدمير المناطق الحضرية السورية في مراحل تاريخية متعددة، بواقع أن الأراضي السورية نقطة وصل بين قارات العالم القديم، آسيا وأوروبا وأفريقية. وفي النتيجة، يمكننا الحديث في سوريا الكبرى عن حالة سورية، تجمع بينها مشتركات ثقافية متعددة، لكن ليس عن شعب يملك تعريفًا واضحًا لنفسه.

لا تقل المعضلات التي تواجه الدولة السورية المعاصرة بحدودها الحالية عن مشكلة سورية الكبرى الجغرافية، بل إنها حتى تزيد من تعقيدها وتجعلها أكثر قلقا على وحدتها الوطنية، وهو ما دفع بالنخب السورية في القرن الماضي إلى محاولات إعادة تعريف الهوية السورية في كيانات أوسع، تتجاوز حدود سايكس بيكو وتتسق مع فكرة أن سوريا الكبرى في كليتها أو أجزائها كانت دائمًا ملحقة بكيانات أوسع، فسواء أكان ذلك عبر اللجوء إلى إطار قومي عربي، مثلما فعل البعثيون، أو عبر إطار قومي سوري يشمل سوريا الكبرى، مثلما ذهب القوميون السوريون، كان واضحا أن السوريين عملوا دائمًا على إنكار ذاتهم لصالح الخارج، ولا تخرج المشروعات الإسلامية السنية الحالية، بنسخها المتعددة في سورية، عن هذا الإطار، مع فارق واضح بأن المشروعات السابقة كان من الممكن لها أن تجمع السوريين -إلى حد ما- في ما بينهم، أما المشروع الإسلامي، فإنه يتسبب بانقسام الشعب السوري على نفسه.

كما أسلفنا، كانت سورية -عبر تاريخها- أرضًا متنازعًا عليها بين حكام فارس والأناضول ومصر، وكانت في صدر الإسلام الوجهة الأولى للقبائل العربية التي “غزتها” مبشرة بالإسلام، بعد أن تمكنت تلك القبائل من التوحد خلف لوائه. لا يختلف اليوم عن الأمس؛ فالقوى الإقليمية الفاعلة في سورية، هي ذاتها، وما يمنع القاهرة عن الاضطلاع بدور أوسع في سورية انشغالها بمشكلاتها الداخلية.

ضمن محددات رئيسة تتمثل في ضعف الهوية السورية، وواقع سورية الراهن وموقعها الجغرافي بين قوى إقليمية تتجاوزها حجمًا وقوة وإمكانات، يصبح من الصعب الحديث عن إمكانية بناء دولة مستقرة، دون التطرق إلى شكل الحكم والقوى السياسية التي تسعى للتربع على رأس أعلى هرم السلطة في البلاد.

من البديهي أن القوى الإقليمية الفاعلة في سورية، ستبقى كما كانت عبر تاريخها، مؤثرة في هذا البلد، وهو ما يعني أن أي شكل من أشكال الديمقراطية الطائفية التمثيلية، كما هو الحال في لبنان، أو “الفدرلة”، كما هو الحال في العراق، سيمنح تلك القوى المداخل الملائمة لاستمرار نفوذها في هذا البلد، وهو ما يسعى إليه عمليًا اللاعبون الإقليميون في توافقاتهم المشتركة حول سورية، أي تشريح الجسد السوري وتقاسمه في ما بينهم. إضافة إلى ذلك، فإن الصراعات البينية بين تلك القوى، وتشكل سورية إحدى ساحاتها، ستستمر بأشكال مختلفة، ويشكل ذلك أحد أهم المعوقات في وجه استقرار الدولة السورية المقبلة؛ من هذه الزاوية بالذات، فإن المشروعات الخارجية التوافقية لأي حل في سورية خطِرة ومشبوهة، ويجب على الدولة المقبلة؛ كي تضمن استقرارها أن تسعى إلى نظام يدمج بين المركزية الصارمة، واللامركزية الموسعة، بمعنى أنه يجب الحفاظ على سورية دولةً يشرف مركزها على السياسة الخارجية، وتمتلك جيشًا وطنيًا، تعاد هيكلته على أسس احترافية، ويدخل ضمن صلاحياتها تقرير الموازنة العامة، وتوزيعها على إدارات محلية بسلطات واسعة قانونية وإدارية، ومن الممكن تجاوز مشكلة التمثيل للمكونات السورية المتعددة، عبر نظام برلماني يضمن إشراك الجميع من خلال توزيع مدروس بعناية للدوائر الانتخابية.

المشكلة الأخرى هي أن تلك القوى في صراعها الشرق الأوسطي الأوسع، تعتمد على شحذ الغرائز الدينية، وهو أمر استغله -بانتهازية- كل من النظام والمعارضة، مع تحميل النظام المسؤولية بالدرجة الأولى للعب على هذا الوتر الخطِر، في سعيهم لاستمالة حواضن شعبية على أسس عرقية وطائفية؛ ما فاقم المشكلة السورية، وتسبب بانقسام شعبها على نفسه، وكان من نتائج ذلك أيضًا أن تنوعت الولاءات الخارجية السورية، شعبيًا وعسكريًا وسياسيًا، على دول خارجية تسعى نحو تحقيق مصالحها المباشرة فحسب، ومن ثَمّ، فإن ضمان إعادة بناء الدولة السورية المقبلة يتطلب التخلص من تلك الولاءات وتأثيرها، عبر إعادة تعريف المصالح الوطنية تعريفًا واضحًا، ووضع تصور عقلاني وواقعي لشكل العلاقة المقبلة مع كل من تركيا وإيران والخليج ومصر، مع التأكيد المستمر على أن تلك القوى لا تسعى إلا إلى مصالحها، وأن على سورية أن تكافح -في المقابل- لتحقيق مصالحها والدفاع عنها، وقد تتطابق أو تتباعد مع مصالح أولئك اللاعبين. تجدر الإشارة -هنا- إلى أن التركيز على القوى الإقليمية لا يعني التقليل من نفوذ ومصالح قوى دولية، كروسيا بالدرجة الأولى، وكذلك الولايات المتحدة الأميركية، لكن تلك القوى لا ترتبط مباشرة بحال الاستقطاب المجتمعي الحاصل في سورية؛ بسبب الخصائص الثقافية المتقاربة التي تتمتع بها القوى الإقليمية، ويهدد تدخلها باستمرار تفتيت النسيج المجتمعي السوري لأجيال مقبلة.

من المهم -أيضًا- على الأحزاب السياسية التي ستضطلع بمهمة العمل السياسي في الدولة المقبلة أن تتشكل على أسس وطنية جامعة، بحيث تتوجه في خطابها إلى الطيف السوري عبر التركيز على المصالح المشتركة والأمن الوطني العام، وتراعي تمددها أفقيًا على كل الخريطة الجغرافية والديمغرافية، وأن تعمل على إعادة تشكيل الهوية السورية ضمن هذا السياق، مع العلم أن هذا الشأن -بالذات- يجب العمل عليه مبكرًا، ويجب إيلاؤه أهمية قصوى في أثناء صوغ الدستور السوري للدولة المقبلة، ومن المفترض أن ينص على مبادئ فوق دستورية، وقانونية، تقدم الضمانات الكافية لجميع المكونات السورية.

إن المعوقات في وجه هذا المشروع الوطني كثيرة وكبيرة، ولعل أهمها النفوذ الذي باتت تملكه القوى الإقليمية الفاعلة في سورية، وتسعى إلى تعزيزه على المدى البعيد عبر اتفاقات اقتصادية وتجارية واستثمارات، مثلما تفعل إيران، أو عبر توافقاتها البينية، مثلما يحصل في أستانا، إضافة إلى أن قوى الأمر الواقع الفاعلة في سورية، سواء أكانت من المعارضة أم النظام، وسواء أكانت الفصائل الإسلامية المتشددة أم الميليشيات الشيعية المدعومة إيرانيًا، ستشكل أحد أهم العقبات في بلورة مشروع وطني سوري، ويضاف إلى ذلك استمرار الشحن الطائفي في المنطقة الذي يتجاوز الساحة السورية المحلية، والدم السوري الذي جرى تجييره واستغلاله لصالح رؤى مشبوهة تختصر الحرب السورية والثورة السورية في صراع طائفي، ولا تضعه ضمن إطاره الوطني التحرري الأوسع. يعني ذلك أن سورية المستقبل، يجب أن تكافح ليس لإسقاط النظام فحسب، بل لإسقاط المعارضات أيضًا، السياسية والعسكرية، ذات الولاءات الخارجية، إذ باتت مكشوفة اليوم لطيف واسع من الشعب السوري.

لقد تعاملت الثورة ونخبها ببراغماتية مع قوى الأمر الواقع، العسكرية المعارضة، وكان الهدف من ذلك الضغط على النظام، ودفعه لتقديم التنازلات المطلوبة، وحل عقدة الأسد، خطوةً أولى ولازمة؛ للبدء بإعادة بناء الدولة السورية في مرحلة لاحقة. اليوم، وبعد أن بات هذا التصور سرابًا بحكم التدخلات الخارجية الروسية والإيرانية لصالح النظام، فإن المتاح أمام المعارضة هو إعادة تشكيل نفسها على أساس مشروع وطني، والبدء بعمل سياسي تفاوضي جاد؛ لتحقيق الممكن من المكتسبات، مستفيدة من الفرصة التي تتيحها الهدنة الهشة القائمة التي أخمدت نسبيًا صوت السلاح، لكن دون أن تقلل من تأثيره وأو تضع حدًا لنفوذ أمراء الحرب الذين أفرزتهم المذبحة السورية. تبدو المهمة شائكة، وقد يراها بعضهم مستحيلة؛ لأسباب كثيرة، تطرقنا لها في هذا المقال، ويضاف إليها عزم النظام، ومن خلفه إيران على الاستمرار في الحل العسكري، وسعيه لإعادة إخضاع سورية تحت قبضته المهشمة، لكن في المقابل، فإن التشاؤم المفرط الذي يعيق العمل البراغماتي والعقلاني والواقعي، لن يسهم أيضًا في حل محتمل، وسيترك الساحة لانتهازيين ومأجورين؛ كي يستمروا في تفتيت سورية، والاستمرار في استغلال آلام وجراح شعبها.

جيرون

———————————–

كيف تواطأ نظام الأسد مع تنظيم القاعدة؟/ روي غوتمان

ترجمة وتحرير نون بوست

تضمنت أول التصريحات التي أطلقها الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب إثر فوزه، تلميحًا إلى أن السياسة الأمريكية فيما يتعلق بالحرب في سوريا، ستشهد تحولاً من مساندة المعارضة المعتدلة إلى الوقوف في صف بشار الأسد، كما صرح ترامب في هذا الإطار أن “سوريا تقوم بمحاربة تنظيم الدولة، وعلى الولايات المتحدة الأمريكية أيضًا التخلص منه”.

أما فيما يتعلق بالمعارضة السورية التي حظيت بدعم الولايات المتحدة الأمريكية طول الثلاث سنوات الفارطة، قال ترامب: “ليس لدينا أدنى فكرة عن هوية هؤلاء الأشخاص”، ومن خلال هذا التصريح، بدا أن الرئيس المنتخب، ليست له دراية بالدور الرئيسي الذي لعبه بشار الأسد في تأسيس تنظيم الدولة.

وفي هذه السلسلة التي تتكون من ثلاثة أجزاء، للصحفي روي غوتمان، المتحصل على جائزة بوليتزر، وثق الكاتب أدلة على مشاركة الديكتاتور السوري في خلق الإرهاب في سوريا والمنطقة.

وبيّن غوتمان أن الأسد حاول جاهدًا كسب دعم القادة الغربيين وذلك من خلال إظهاره أن الانتفاضة السورية هي ثورة تُحاك ضده تقودها مجموعة من الإرهابيين، ولكن عندما فشل في هذه المهمة أطلق سراح المتطرفين الموجودين في السجون السورية، وقد شاركت هذه المجموعات في القتال ضد قوات الولايات المتحدة الأمريكية في حرب العراق.

ومن ثم، شنّت القوات التابعة للأسد هجمات مزيفة ضد المنشآت الحكومية، وادعت فيما بعد أن هذه المجموعات الإرهابية هي المسؤولة عنها، وبعيدًا عن دحر تنظيم الدولة، قام الأسد بغض الطرف عن إنشائها لدولة داخل دولة أخرى واتخاذها للرقة عاصمة لها، وبعد ذلك، ترك مهمة محاربة المتطرفين للولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من الدول.

وتجدر الإشارة إلى أنه عندما اندلعت الثورة السورية في آذار/ مارس سنة 2011، كان الجنرال عوض العلي مسؤولاً عن التحقيقات الجنائية في العاصمة السورية، وغداة سنة واحدة، أصبح أكثر رجل معروف في البلاد.

ويذكر أنه استهدفت سلسة من التفجيرات الانتحارية منشآت أمنية كبرى في كل من دمشق وحلب، أكبر المدن السورية، ومنذ أواخر شهر كانون الأول/ ديسمبر سنة 2011، تسلل الخوف في نفس العلي وأصبح يتوقع أنه سيكون الهدف المقبل لبطش الأسد، ولذلك قام باتخاذ جميع الاحتياطات اللازمة من خلال إغلاق الشارع القريب من مكتبه.

لكن في مرحلة لاحقة، تبيّن أن التهديد الحقيقي لم يكن من طرف “الإرهابيين” الذين تم اتهامهم بالضلوع وراء هذه التفجيرات الانتحارية، بل توصّل إلى أن النظام في حد ذاته، هو الذي يمثل التهديد الحقيقي.

وأول دليل يثبت وقوف النظام وراء هذه التفجيرات، كان عندما طلب مكتب العلي من أحد العسكريين الكبار لبشار الأسد وهو الجنرال سالم العلي مساعد الأسد الخاص لشؤون دمشق والذي لا تربطه أية علاقة بعوض العلي، التثبت من تدابيره الأمنية.

وفيما بعد، اتصل سالم العلي يوم الجمعة 16 آذار/ مارس، بعوض العلي من القصر الجمهوري، مقر رئاسة الأسد وأنذره بأنه “يجب إعادة فتح الشارع الذي أُغلق وأن ذلك أمر من الرئيس بشار الأسد”.

لم يحرك عوض العلي ساكنًا وأبقى على الحواجز، ولكن بعد يوم واحد هاجم انتحاريان بسيارتين مفخّختين منشآت أمنية في دمشق وأخرى في حي التضامن جنوب العاصمة، وهو ما يكشف أن المستهدف الحقيقي هو عوض العلي.

كما صرح العلي أنه في ذلك الوقت، لو اتبع الأوامر التي تلقاها، للقي حتفه هو وأصدقاؤه، وفي مقابلة حصرية أجراها مع صحيفة الدايلي بيست، صرح العلي أنه عضو في الائتلاف الوطني السوري ووزير للداخلية ووزيرا للدفاع بالوكالة.

وبعد هذه الأحداث، تأكد العلي من أن بشار الأسد كان يقف وراء سلسلة التفجيرات الانتحارية التي بدأت قبل ثلاثة أشهر، وذلك بغية التأكيد على صحة القصة التي تقول إن الإرهاب يحدق بالدولة.

وزادت القصة الذي اختلقها الأسد، من حدة المشاكل التي يواجهها القادة الغربيون، إذ إن مهمة مواجهة الجماعات المتطرفة بما في ذلك تنظيم الدولة قد أوكلت إليهم، وفي تشرين الأول/ أكتوبر سنة 2015، تبنت هذه الجماعات عملية إسقاط طائرة ركاب روسية، وفي تشرين الثاني/ نوفمبر سنة 2015 تبنت مقتل 130 شخصًا إثر هجمات باريس، كما أنه خلال آذار/ مارس من نفس السنة قتل 32 مدنيًا في بروكسل، ويضاف إلى هذه الهجمات عدد من الاعتداءات التي جدت في إسطنبول وبغداد وبنغلاديش،

ففي هذه الحالة، هل يجب على القوى الغربية أن تتعاون مع الحكومة السورية وروسيا لمحاربة الجماعات المتطرفة في سوريا؟

كما أنه وفقًا لتصريحات القيادات رفيعة المستوى وأعوان الأمن المنشقين، فإنه خلال سلسلة التفجيرات الغامضة التي جدت داخل سوريا أواخر سنة 2011، لم يشارك النظام في محاربة المتطرفين وإنما روّج لهم، ولذلك يجب الأخذ بعين الاعتبار ما توصل إليه عوض العلي الذي ساندته عدّة قيادات رفيعة المستوى والمنشقة عن نظام الأسد.

ويذكر أنه عندما وجهت الولايات المتحدة الأمريكية، أصابع الاتهام لتنظيم القاعدة بوقوفه وراء هذه التفجيرات، رفضت وكالة الاستخبارات المركزية التعليق وذلك لأن المخابرات الأمريكية لم تستجوب أبدًا العلي.

كما أنه خلال الأشهر الـ18 الأولى من انشقاقه، دعا مسؤولون أمريكيون العلي لمناقشة كيفية إعداد الشرطة في المرحلة التي ستعقب بشار الأسد ولكنهم لم يسألوه أبدًا عن المعلومات التي يعرفها عن نظام الأسد.

وعمومًا، أثبتت التحقيقات التي تواصلت على مدار سنتين، أن المخابرات الأمريكية غضت الطرف عن العديد من المنشقين عن النظام، وأمام هذه اللامبالاة، أوصى هادي البحرة الذي درس بالولايات المتحدة الأمريكية، وهو رئيس الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، العلي بأن يقوم بهذا التقرير باعتباره المسؤول السابق الذي يملك دراية شاملة بالبنية الأمنية التابعة لنظام بشار الأسد، حيث استمرت المقابلة التي أجريت في أحد مقاهي إسطنبول ست ساعات متواصلة.

ووفقًا للعلي، عادة ما تتزامن سلسلة التفجيرات مع وصول أحد وفود الدبلوماسيين أو الصحفيين أو الشخصيات البارزة، وفي كل مرة يتهم النظام الإرهابيين بالوقوف وراء هذه العمليات، إلا أنه لم يتم إثبات أي تهمة ضد النظام، لأنه يتم إبعاد العلي المسؤول عن التحقيقات، في كل مرة عن مسرح الجريمة.

وفي هذا الإطار، صرح أحد المسؤولين في النظام السابق والمتابع عن كثب للشأن السوري أن التفجيرات غالبًا ما تأتي مع إنذار مسبق على غرار الانفجار الأول الذي جد في 23 من كانون الأول/ ديسمبر سنة 2011. 

وقال الضابط الذي تمت مقابلته في منطقة دير الزور شرق سوريا، في تموز/ يوليو سنة 2013 والذي طلب عدم الكشف عن هويته ومناداته فقط باسم أبو سيف إنه كان يعمل في القطاع الأمني وتلقى هذا الأسبوع جملة من التقارير، التي يبلغ عددها نحو 3018.

وأضاف الضابط “كانت توجد رسالة كتب فيها “سيقوم إرهابي بتفجير ضد النظام يوم الجمعة أو يوم السبت”، وقال أبو سيف إن الرسالة التي تلقاها كانت من طرف وكالة المخابرات العامة، التي تعد جزءًا أساسيًا من شبكة نظام الأسد، ولكن الغريب في الأمر هو أن هذه الوكالة هي الأخرى مستهدفة.

وأشار أبو سيف إلى أنه في اليوم التالي، جدت عمليات انتحارية استهدفت مبنييْن أمنيّيْن في حي كفرسوسة وهما مبنى إدارة أمن الدولة الذي يضم جهاز المخابرات العامة، ومجمع الأمن العسكري، وتعليقًا على هذه الأحداث، قال وزير الداخلية: “هذه العملية أفرزت مقتل 44 شخصًا وإصابة 166″، وصرح علي، الشخص الذي أرسل المحققين إلى مسرح الجريمة، أن “انفجارًا واحدًا حدث بالفعل”.

وأضاف العلي أن “أحد ضباطه اكتشف أن الشاحنة التي استعملت في التفجير قد بيعت من قبل أحد أفراد الأجهزة الأمنية لشخص مجهول وذلك قبل أيام معدودة من الانفجار، كما علم أن الشاحنة دخلت المبنى عن طريق ممر تحت الأرض يتم استخدامه من قبل الموظفين الأقل رتبة”.

ومن بين الأدلة التي قدمها العلي، كانت فيديو نُشر على اليوتيوب رصد فيه اعتراف أحد المنشقين العسكريين، والذي يدعى الملازم عبد القادر الخطيب الذي صرح بدوره أن أمن الدولة طالب بتوفير سبعة جثث حتى يتم وضعها في مكان الانفجار الأول، وفي الفيديو يعرض الخطيب وثيقة قال إنها مطلب يفيد بأخذ جثث من مستشفى تشرين العسكري في دمشق يوم الانفجار، وأعرب العلي الذي مازال يحتفظ بالوثيقة إلى الآن، أن الفيديو حقيقي ولكن الجهود المبذولة لتحديد مكان الخطيب لم تكلل بالنجاح.

ويتمثل الدليل الآخر الذي يثبت أن التفجيرات كانت مخطط لها مسبقًا، على حد قول أنصار المعارضة، في سرعة تغطية التليفزيون الحكومي للانفجار وإلقاء اللوم على تنظيم القاعدة حيث حدث ذلك في غضون دقيقة واحدة.

ويُذكر أنه في وقت لاحق من ذلك اليوم، عرضت القناة الرسمية برنامجًا خاصًا لمدة 45 دقيقة أجرى فيه حوارًا مع 40 شهود مزعومين، أو مواطنين غاضبين، كما رصدت أيضًا القناة الرسمية المظاهرات التي شملت جميع أنحاء سوريا التي ندد فيها المتظاهرون بالإرهاب، وأشار البرنامج إلى أن عددًا هامًا من السوريين تبرعوا بالدم لصالح الجرحى.

وصرح بسام بربندي الديبلوماسي السوري السابق والمقرب من المعارضة والذي يقطن الآن بواشنطن كلاجئ سياسي أن “التلفزيون السوري يقوم برصد كل تفجير على عين المكان، كما أن التليفزيون السوري دائمًا متأهب كما لو أنه جالس ينتظر حدوث الانفجار”.

أما التفجير الانتحاري الثاني الذي استهدف دمشق في 6 من كانون الثاني/ يناير سنة 2012، حدث عشية اجتماع جامعة الدول العربية، وعلّق العلي على هذه الحادثة قائلاً: “لا بد أن تكون مجرد مزحة بين أعوان الشرطة، حيث إن كل زيارة يقوم بها مسؤول عربي أو دولي أو حتى وفود إعلامية، تفضي حتمًا إلى حدوث انفجار”.

وفي هذا الهجوم الانتحاري الذي استهدف حافلة للشرطة في حي الميدان، وهي منطقة تطوقها حواجز النظام، قدّرت الحكومة عدد الضحايا بحوالي 25 قتيلا و46 جريحا. ووفقا للعلي، كان أحد المراسلين على عين المكان وقام بتوثيق الحادثة ورصد كيفية نقل الجثث.

أما الانفجار التالي، فقد جد في 10 من شباط/ فبراير في حلب، في قلب مجمع المخابرات العسكرية المحمي بعدة نقاط تفتيش، والذي صرح النظام أنه أسفر عن مقتل 28 شخصًا وإصابة 235، بيد أن الأرقام الفعلية كانت أقل بكثير.

وصرح عبد الله الحكواتي، الناشط الذي ساعد في تنظيم احتجاجات مناهضة للحكومة في حلب، أن أحد المسؤولين في المخابرات الحكومية أخبره أن الانفجار كان مدبرًا، وقد كشف الحكواتي عن اسم الضابط، لكن لم يتم التوصل له للتثبت من مدى صحة المعلومة.

وقال خالد شهاب الدين، وهو قاض سابق والمتحدث باسم إحدى فصائل المعارضة المعتدلة: “الإرهابيين كانوا في عقر دارنا”، كما قال إنه قد علم من قبل ضباط المخابرات السورية بأنه يتم إعداد المتفجرات في فرع المخابرات العسكرية، “لكن هؤلاء الجنود المساكين لم يكونوا على علم بما كنا نخطط له”.

وفي ذلك الوقت، كانت الولايات المتحدة الأمريكية قد صرحت أن التفجير الأول قد جد على مقربة من مقر السفارة الأمريكية في دمشق، ولذلك أرسل السفير روبرت فورد، أطرافًا أمنية للبت في القضية، وتوصل إلى أن “التفجيرات الانتحارية تشبه إلى حد كبير نوعية العمليات التي تقوم بها جماعة تنظيم القاعدة في العراق”، ولكن هذا لا يعطيه الحق في اتهام جهة أو أخرى.

وبعد تفجيرات 6 من كانون الثاني/ يناير في دمشق و10 من شباط/ فبراير 2011 في حلب، أعلم مدير الاستخبارات القومية جيمس كلابر، في منتصف فبراير/ شباط، الكونغرس أن كل الأدلة تؤكد ضلوع تنظيم القاعدة في هذه التفجيرات، ولذلك فإننا نعتقد أن تنظيم القاعدة قام بتوسيع نطاق عمله وتمكن من الانتشار في سوريا.

وكانت هذه هي المرة الأولى التي يَتّهم فيها مسؤول أمريكي رفيع المستوى بشكل علني تنظيم القاعدة في العراق بتورطه في تنظيم مؤامرة ضد نظام بشار الأسد، كما يعارض هذا التقييم تمامًا الفرضية التي قدمتها المعارضة والتي تقول إن الأسد هو الذي يقف وراء هذه التفجيرات.

وأشار أنصار المعارضة إلى أنه في ذلك الوقت لم تعلن جبهة النصرة وجودها في سوريا، فقد أعلنت عن وجودها في سوريا بعد شهر كامل من حدوث التفجيرات، وعلى الرغم من أن جبهة النصرة أعلنت ضلوعها في انفجار 10 من شباط/ فبراير، إلا أن العلي نفى أن تكون هناك أية أدلة تثبت إدانتها.

وقال العلي وهو مسؤول أمني بارز سابقا ويساند الآن المعارضة، إنهم لم يسمعوا أبدًا اعترافًا من جبهة النصرة يؤكد ضلوعهم في مثل هذه التفجيرات، ناهيك عن أنها غير قادرة على القيام بمثل هذه العمليات، كما أكدوا على أن التفجيرات دائمًا ما تتزامن مع الزيارات الدبلوماسية وذلك بهدف دعم إدعاءات الأسد.

في الهجوم الأول الذي شُنّ على دمشق في 23 من كانون الأول/ ديسمبر تم اصطحاب وفد من كبار الدبلوماسيين التابعين للجامعة العربية ليشاهدوا الضرر الذي تكبده النظام.

وقد صرح محمد نور خلوف، الذي كان في ذلك الوقت لواءً في الجيش السوري التابع لوزارة الدفاع وحتى وقت قريب كان يشغل منصب وزير الدفاع المكلف بالحكومة السورية المؤقتة، أن “النظام السوري لطالما حمّل تنظيم القاعدة مسؤولية التفجيرات”.

أما الانفجار الذي جد في مطلع كانون الثاني/ يناير سنة 2012، تزامن مع اجتماع للجامعة العربية، كما تزامنت أيضًا محاولة تفجير الشارع الذي يقع فيه مقر مكتب العلي مع زيارة وفد مشترك بين الأمم المتحدة ومنظمة التعاون الإسلامي.

وعن التفجير الذي أثار جدلاً كبيرًا في 18 من تموز/ يوليو والذي استهدف الوفد المرافق للأسد الذي كان في زيارة إلى مبنى الأمن القومي الخاضع يخضع لحراسة مشددة، أعلنت جماعة متطرفة تعرف باسم لواء الإسلام، تبنيها للانفجار، وقد كان من بين القتلى كبار أعضاء مجموعة الأزمات التابعة للأسد على غرار وزير الدفاع الجنرال داود راجحة ونائبه عساف شوكت شقيق الأسد، ووزير الدفاع الأسبق الجنرال حسن تركماني.

وتوافق تبني هذه المجموعة لهذا التفجير مع ادعاءات الجيش السوري الحر، قبل أن يتراجع فيما بعد عن هذه الاتهامات، في المقابل، يظن خلوف أن “إيران هي التي تقف في الحقيقة وراء هذا التفجير”.

وصرح خلوف أنه لم يكن في مكان الحادث، ولكنه وفقًا لمصادره فإن النظام السوري قد غيّر توقيت ومكان الانفجار، فمن المعتاد أن يُقام هذا الاجتماع في مكتب تركماني، لكن في يوم الأربعاء أعلم الأعضاء بأن هناك عطب في مكيّف الهواء مما استوجب تغيير مكان الاجتماع.

وخلال هذا الاجتماع، توجه وزير الداخلية محمد إبراهيم الشعار، نحو مكتب هشام اختيار رئيس جهاز المخابرات والأمن الوطني، وعندما دخل كان يحمل حقيبة قام بوضعها بجانب الجدار وذهب ليغسل يديه، وفي ذلك الوقت؛ انفجرت الحقيبة وقتلت أو بالأحرى شوهت جميع الرجال الذين كانوا ملتفين حول الطاولة”.

كان خلوف من بين الذين هرعوا إلى مكان الحادث لنقل الجرحى إلى المستشفى حيث قال إن وزير الدفاع توفي على الفور، بينما فارق شوكت الحياة قبل وصول سيارة الإسعاف، أما تركماني فمات بعد يومين متأثرًا بجراحه ولم ينج من هذا الانفجار إلا أمين حزب البعث.

وأفاد خلوف أنه على اقتناع تام أن المسؤولين الإيرانيين ضغطوا على الأسد ليقوم بتصفية ثلة من كبار مساعديه المسؤولين عن العلاقات الدولية، فداوود راجحة مسيحي وكانت تربطه علاقات وطيدة مع الدول الغربية، في حين أن علاقات شوكت كانت مع فرنسا. كما كانت تربط تركماني علاقة وطيدة بتركيا.

كما صرح خلوف للمراسل أن الأسد تم إعلامه بأنهم كانوا يخططون لانقلاب ضده، ولذلك عقب الانفجار، قال إن لا أحد يستحق منحه ثقته إلا إيران.

كما وجّه بربندي، الدبلوماسي السوري السابق الذي يعيش حاليًا في واشنطن، أصابع الاتهام إلى إيران وقال “الإيرانيون يكرهون شوكت، شقيق الأسد، وذلك لأنهم يعتقدون أنه كان مسؤولاً عن موت عماد مغنية، وهو شخصية بارزة في حزب الله اللبناني اغتيل في دمشق سنة 2008 في عملية يقال إن كلاً من الولايات المتحدة وإسرائيل قاموا بالتخطيط لها”.

كما صرح بربندي أن الإيرانيين يخشون من أن كبار مساعدي الأسد كانوا بصدد دراسة الاقتراح التركي الذي يقضي بإعادة النظر في هيكلة السلطة وبالتالي تخلي الأسد عن منصبه كرئيس ليصبح رئيس وزراء، ويواصل بربندي قائلاً: “الإيرانيون يعتقدون أنه إذا تم اعتماد هذا المقترح، فإنهم سيفقدون السيطرة على الأسد”.

ويفيد تفسير آخر لما حصل، بين الوفد المرافق للأسد، إن أفرادًا من عائلته قالوا: “مجموعة الأزمات اقترحت على الأسد الإقدام على خطوة تقوم على مبدأ التصالح وذلك بهدف إطفاء فتيل الانتفاضة”.

ونقلت الصحيفة عن مصدر مقرب من العائلة في القصر الجمهوري، ناصر، وهو مسؤول استخباراتي رفيع سابق في رأس العين، شمال سوريا، أن كلا من “شوكت ورفاقه حثوا الأسد على الذهاب إلى درعا، التي تعدّ مهد الانتفاضة والاعتذار عن قتل المتظاهرين الشبان، لكن الأسد “تشاور مع اللجنة الأمنية الخاصة به المتكونة من والدته وشقيقه وعلي مملوك، وهو أمني بارز في المخابرات وأحد المقربين السابقين من والده حافظ الأسد، بشأن هذه الخطوة”.

كما صرح ناصر أنهم أعلموه بأن “انقلابًا سيحدث، وأنه لا ينبغي عليه أن يضحي بهيبة العائلة”، كما أخبروه أنه لو كان حافظ الأسد مكانه، لما كان ليقدم على مثل هذا الفعل، كما نوه ناصر إلى أن مملوك كان من المقربين من إيران وغداة موت شوكت ترأس مملوك جهاز المخابرات بأكمله.

ووفقًا لكل من مخلوف والعلي، فإن “مساعدي الأسد مَنَعوا إجراء أي تحقيق عن التفجير”، وصرح العلي قائلاً “لقد أرسلت ضابطين من وحدتي ليشاركوا في التحقيق، لكن لم يسمح لهم بالحصول على أي وثيقة”، ويذكر أنه على غير المعتاد، أجرت المديرية العامة للأمن بالتعاون مع وكالة الاستخبارات التحقيقات، برئاسة حافظ مخلوف، أحد أبناء عم الأسد وإلى الآن لم يتم التصريح بأية نتائج.

كما صرح روبرت فورد السفير الأمريكي السابق في سوريا “القصف لا يزال لغزًا محيرًا، وأنا لا أظن بأننا نعلم كيف تم تنفيذه”، ومن بين كل التفجيرات التي حدثت في عهده، تمكن العلي من جمع الأدلة اللازمة حول مؤامرة اغتيال وحيدة، إلا أنه تم اعتباره فيما بعد أحد المشتبه فيهم عن نفس القضية.

وفي تلك الليلة من شهر آذار/ مارس سنة 2012، وإثر تجاهل العلي للأوامر التي تطالبه بالتوقف في الحاجز المنصوب أمام مقر قيادته، جدت ثلاث عمليات انتحارية ما بين الساعة6:40  و7:30 صباحًا، ولم يلحظ العلي أي شيء، ليستفيق على اتصال وزير الداخلية الذي كان يستفسر عما يحصل.

وفي وقت لاحق من صباح ذلك اليوم، وعند توجّه العلي إلى مقر الأمن الجنائي بهدف التحقيق في الانفجار، توجه له أحد مساعدي الأسد، والذي ينتمي إلى الطائفة العلوية من بلدة الأسد، القرداحة، وهمس له في أذنه، وتجدر الإشارة إلى أن الذعر والخوف دبّ في قلوب عائلة الشاب بعد أن قرأوا على الإنترنت خبر تدمير مكتب العلي.

كما حضر أيضًا في مقر الأمن الجنائي الجنرال سالم علي وهو الذي أمر العلي بفتح الشارع، وصرح العلي أنه عندما قابله سأله بسخرية “هل ما زال سيتوجّب عليّ فتح الشارع المغلق؟”، بدا سالم علي محرجًا وأجابه “كانت تلك أوامر الرئيس”.

واختتم العلي المقابلة بقوله: “الشخص الذي قام بالعملية الانتحارية الثالثة كان فلسطينيًا وقد تم الإفراج عنه من سجن صيدنايا، وتم إحباط عمليته من قبل حاجز أمني بالقرب من مبنى الأمن الجنائي ولذلك فجر نفسه في حي التضامن”.

كما قال: “أظن أنه تلقى الأوامر ليذهب إلى الجنة عن طريق تفجير نفسه، ومن أعطاه الأوامر، والذي لا أعرفه، إما شيخ أو قائد ديني له علاقات مع المخابرات”.

المصدر: الدايلي بيست

روي غوتمان

صحفي مستقل مخضرم حائز على جائزة البوليتزر يكتب من اسطنبول والمدير السابق لمكتب وكالة ماكلاتشي في الشرق الأوسط

—————————————-

هل ما في سوريا اليوم ثورة أم حرب أهلية؟/ غياث بلال

    الثورة المضادة وكيفية مواجهتها

    أين تتجه سوريا؟

    حول آثار سوريا ومقاماتها

    عناوين المأساة في سوريا

    سوريا تودع السلاح

تستخدم وسائل الإعلام مصطلح “الحرب الأهلية” لوصف ما يحدث في سوريا, فيما تعمل وسائل الإعلام الغربية -في كثير من الأحيان- على تسليط الضوء على تصرفات المتطرفين العاملين تحت عباءة ما يسمى “دولة العراق والشام” بشكل خاص.

وهذا ما ترك انطباعا لدى الكثير من المتابعين -وخاصة في الدول الغربية- بأن هناك معارضة تضم متطرفين وتتصارع على السلطة مع الحكومة, وبالتالي كلا الطرفين يتساويان في السوء، أو في أحسن الأحوال: هناك حرب أهلية بين طرفين، وبالتالي فليحلوا مشاكلهم بعيدا عنا.

ولكن، ماذا يجري هناك في الحقيقة؟ هل هي حرب أهلية أم ثورة من ثورات الربيع العربي التي تسعى للحرية والكرامة الإنسانية؟

قد ينطبق توصيف الحرب الأهلية على ما يجري اليوم في سوريا في سياق وجود أطراف سورية متصارعة في حرب فيما بينها، ولكن لا بد من الإشارة إلى أن الشعب السوري خرج في مظاهرات سلمية كانت تطالب بالإصلاحات والحريات في بلد يحكمه نظام ديكتاتوري منذ خمسة عقود من الزمن.

بقيت المظاهرات سلمية طوال ستة أشهر رغم عنف النظام وسقوط العديد من القتلى، ثم تطورت أحداث الثورة إلى حرب بين نظام يمتلك قوة الدولة وجميع أنواع الأسلحة، وبين مجموعات شعبية موزعة متفرقة على معظم الأراضي السورية لم تحمل السلاح إلا بهدف الدفاع عن النفس حبا في الحياة وإصرارا على الاستمرار في مشوار التغيير حتى آخره.

لم تمتلك هذه المجموعات سوى أسلحة فردية بسيطة في البداية، ومع مرور الوقت استطاعت بعض المجموعات الحصول على أسلحة ثقيلة بشكل أساسي من النظام نفسه.

حتى اليوم لا يمكن النظر للحرب الدائرة على أنها حرب بين طرفين متساويين في القوة أو التنظيم، هي حرب بين نظام ديكتاتوري اختطف الدولة ومعه شريحة من الشعب, التي ترى مصالحها معه من جهة, وبين مجموعة كبيرة من الشعب السوري.

ظاهرة التطرف يمكن رؤيتها لدى النظام ولدى جزء من المعارضة, حيث يمكن تتبعها لدى النظام وحلفائه كممارسة ممنهجة ومدعومة رسميا.

أما لدى المعارضة، فتظهر تلك الظاهرة كممارسات عشوائية من بعض المكونات، ويتم النظر إليها كممارسات مرفوضة من المجتمع الحاضن لهذه المعارضة ومنبوذة كفكر.

وما يعنينا في هذا المقال هو الإجابة عن السؤال: هل يعني ما تقدم أن الثورة في سوريا تحولت إلى حرب وانتهت بذلك الثورة الشعبية؟

كثيرا ما نسمع من النخبة المثقفة اليوم أن الثورة في سوريا انتهت وأن ما يجري اليوم هو حرب مصالح خالصة.

إن المتتبع لأحوال الثورات على مدار القرنين الأخيرين سيجد أن العلاقة بين الثورات والحروب كانت دائما علاقة متداخلة, متكاملة ومتشابكة, فغالبا ما تتحول الثورات إلى حروب تحرير كما حدث في حرب التحرير الأميركية التي بدأت بثورة على بريطانيا, وقد تؤدي إلى حروب خارجية كما في الثورة الفرنسية وقصتها مع نابليون.

كما أن الحروب الخارجية قد تؤدي في حال الهزيمة إلى ثورات داخلية كما حصل في ألمانيا بعد هزيمة الحرب العالمية الأولى حيث أنهت الثورة النظام الملكي القيصري وأنتجت النظام الجمهوري.

وفي جميع الأحوال، من الصعب تصور الثورات الكبرى بدون الحروب وبدون عنف أي بدون التحول إلى العمل المسلح. ثورات شرق أوروبا السلمية التي شاهدناها في السنوات الأخيرة كانت الاستثناء في سلميتها وسرعة مضيها, كما أنها من حيث النتيجة لم تستطع صناعة التغيير الذي خرجت لأجله, حيث خطفتها الردهات السياسية وحولت مطالبها إلى نوع من المنافسات الحزبية والسياسية, أي أنها تحولت إلى برنامج إصلاحي بطيء وفقدت تألقها الثوري.

أما ثورة مصر السلمية في ٢٠١٠، فكانت سريعة وخاطفة لدرجة أنها لم تتمخض إلا عن تغيير بعض الوجوه في رأس هرم الدولة، ولم تستطع إنجاز أي تغيير جذري في البنية الحقيقية للسلطة والمجتمع، مما أدى بالضرورة لإعادة اندفاعها مرة أخرى إلى الساحات بعد ثلاث سنوات ولكن بشكل أكثر عنفا ودموية، وكأنها تسعى لاستدراك ما فاتها من عنف في ٢٠١٠.

لعل أهم الفروق التي تميز بين الحروب الأهلية والثورات هي مطلب التغيير الجذري الذي تحمله الثورات والذي يمنحها بدوره الحيوية والاندفاع.

الثورة في سوريا بدأت بمطالب التغيير للواقع السياسي والاجتماعي ولم تكن موجهة ضد أي فئة أو طائفة أو طبقة محددة، بل على العكس من ذلك كانت شعارات الثورة تعج بقيم المواطنة والوحدة بين أبناء الشعب الواحد.

أدى تحول الثورة للعمل المسلح اليوم إلى تراجع شعارات ومطالب التغيير بعض الخطوات إلى الوراء لصالح ما تحتاجه الحرب من شعارات وإيديولوجيا تساعدها على الحشد والاستمرار.

ولكن المتتبع لتفاصيل الحياة في ظروف تلك الحرب سيلحظ أن مطالب وأحلام التغيير الشامل لا تزال حية وموجودة بقوة في نفوس وأحلام الغالبية من الشعب السوري، وإن تراجعت في الخطاب اليومي نتيجة اختلاف ترتيب الأولويات لصالح تأمين الاحتياجات الأساسية في ظروف الحصار والتشريد.

أحلام التغيير التي يحملها السوريون اليوم هي الحامل المعنوي الذي يمنح المدنيين والعسكريين الأمل في الحياة والقدرة على الاستمرار رغم كل هذا الكم من الكوارث, مما يدعونا بقوة لوصف ما يحدث في سوريا بخليط من ثورة لأجل الحرية وحرب لأجل تحقيق التغيير والدفع به إلى غاياته, وإن شابتها صراعات النفوذ والمصالح, والتي تعد ملازمة دائما للحروب والاقتصاد الذي تولده حولها.

صناعة التغيير ليست قرارا بمرسوم جمهوري أو حدثا عابرا, وإنما مسيرة مؤلمة من الأحداث التي قد تستغرق جيلين كي تصل إلى مبتغاها.

فتغيير التوازنات المستقرة للنفوذ والسلطة في المجتمع بشكل مستدام يتطلب تغييرا موازيا في تركيبة المجتمع وطرائق تفكير وحياة الإنسان فيه، ولهذا السبب كانت مهمة تغيير المجتمعات على الدوام من نصيب الأنبياء أولي البأس، والعظماء الذين خلد التاريخ ذكراهم.

المصدر : الجزيرة

———————————–

مسيحيو ريف إدلب: لا عيد هذه السنة أيضاً/ سليم العمر

في هذا العام أيضاً، لن يستطيع مسيحيو ريف إدلب الاحتفال، بحسب أبو سركيس الأرمني، من قرية الجديدة في ريف إدلب، وهو الأرمني الكاثوليكي الذي لم يترك قريته، رغم استيلاء “دار القضاء” التابعة لـ”جبهة فتح الشام” على منزله، واضطراره للعيش في منزل أبيه القديم، حيث يأكل مما تنتجه أرضه الصغيرة في الجوار. وكانت “دار القضاء في دركوش” قد استولت على الجزء الأكبر من أملاك أبو سركيس، وأملاك أبيه، وحولتها إلى وقف اسلامي، بسبب تواجد إخوته في مدينة اللاذقية التي يسيطر عليها النظام.

ظهور التنظيمات الإسلامية المتشددة وممارساتها، أسهما في تحيّيد السوريين من أبناء الأقليات من الاستمرار في دعم الثورة. إلا أن “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” وثّقت اعتقال 450 ناشطاً مسيحياً في سجون نظام الرئيس السوري بشار الأسد، منذ اندلاع الثورة، منهم 19 سيدة، على خلفية مشاركتهم في التظاهرات ضد النظام. وانخرط العديد من النشطاء المسيحيين، في حمل السلاح ضد النظام، مثل حنا توتنجي من أبناء اللاذقية، الذي شارك في معركة برج القصب في أيلول/سبتمبر 2012، وشاركه رفاقه من الجيش الحر في إسعاف مواطنه مطيع الحايك. توتنجي أوصل العديد من العائلات إلى الحدود التركية، بسبب استحالة العيش في قريته، التي أصبحت هدفاً مباشراً لقوات النظام.

حدث ذلك، بينما تعرضت بعض مجتمعات المسيحيين في قرى ريف إدلب إلى التّهجير عقب خروجها عن سيطرة النظام، وأصبحت تحت رحمة المتشددين وقصف قوات النظام. الأمر الذي حدث مع أهالي قرية الغسانية في ريف إدلب، حيث نزحوا عنها في تشرين الأول/أكتوبر 2012 تحت وطأة القصف الجوي والمدفعي من قبل قوات النظام. ومع استمرار تقدم المعارضة المسلحة وسيطرتها على قرى مسيحية مثل حلوز، المجاورة للغسانية، اتبع النظام الأسلوب ذاته في تهجير أهلها. فغادر آلاف المسيحيون قراهم إلى مناطق سيطرة النظام أو إلى تركيا، خوفاً من الزوار الجدد ومن انتقام النظام. وسط استخدام النظام لبروباغاندا تركز على دور “الإرهابيين” في تهجير المسيحيين.

ظهور “داعش” و”القاعدة” في سوريا أعطى النظام مزيداً من الأدلة لدعم روايته عن تهجير “الإرهابيين” للمسيحيين، مدللاً على ذلك بإقامة “الإمارات الإسلامية” وتحويل الكنائس إلى مقرات عسكرية أو سجون أو مقابر جماعية.

عدنان لطيف الدليمي المعروف بـ”أبو أيمن العراقي”، من تنظيم “الدولة الإسلامية”، كان قد حوّل كنيسة الروم الأرثوذكس في قرية الغسانية في كانون الأول/ديسمبر 2013 إلى معتقل جماعي، وعندما غادر البلدة في شباط/فبراير 2014 تبيّن أن الكنيسة تحوّلت إلى مقبرة جماعية وجدت فيها أكثر من 20 جثة لمقاتلي الجيش الحر. كنيسة السيدة العذراء في مدينة إدلب، كانت قد تعرضت للنهب بعد سيطرة المعارضة على المدينة في آذار/مارس 2015. حينها نهب “جند الاقصى” الكنيسة واختفت معظم مقتنياتها الأثرية، قبل أن يتم اكتشافها مؤخراً في مدينة سرمين، بعد حلّ “جند الأقصى”. الأب إبراهيم فرح، حاول البقاء في إدلب، لكنه تعرض للتهديد أكثر من مرة، ليُجبَرَ في نهاية المطاف على مغادرة المدينة مطلع العام 2016 ليستقر في مدينة غازي عنتاب التركية.

بعد وصول المعارضة إلى الشريط الحدودي مع تركيا عام 2013، توفر للنازحين العديد من المناطق الآمنة هناك، فرفضت أكثر من 75 عائلة مسيحية الخروج من قرى الجديدة والقنية واليعقوبية والاسحاقية، من أصل آلاف العائلات التي كانت تقطن تلك القرى. لكن سيطرة “جبهة النصرة” على تلك المناطق حرمت العائلات المتبقية من أبسط حقوقها. عيد القديسة بربارا ورأس السنة الميلادية وعيد الميلاد، مرّوا تباعاً على تلك العائلات من دون أن تقيم احتفالاتها، حتى داخل بيوتها، خشية من سطوة المتشددين، فلم تدق أجراس الكنائس ولم يسمح بشجرة الميلاد.

الأمر ذاته، حدث مع ناديا خوري، من الجديدة، رغم تدخل “المحكمة الاسلامية” في بداما، لإعادة أملاكها، إلا أن عناصر “فتح الشام” سيطروا على بستان أبيها البالغ مساحته 60 دونماً، بحجة “عدم التوريث”. ناديا تعيش اليوم في بيت متواضع مع شقيقتها المريضة، وتستقبل كل من يزورها بحفاوة كبيرة.

أمام “المحكمة الاسلامية” الآن 13 قضية مشابهة، لم تستطع التدخل لحلها، بسبب تواجد “دار القضاء” التي تتبع بشكل مباشر إلى “جبهة فتح الشام”. “دار القضاء” حوّلت منازل المسيحيين الغائبين إلى وقف إسلامي، ووزعته على نازحين آخرين، بعضهم من قيادات “فتح الشام”.

سلمى يعقوب، تبلغ من العمر 71 عاماً، تعيش تحت سقف منزلها المهترئ، من دون أن تتلقى مساعدة من أحد، وسط رفضها الانتقال إلى مكان آخر. أبو سركيس وناديا والسيدة سلمى، يعيشون بجوار بعضهم البعض، يجتمعون في آيام الآحاد بصمت، ليقيموا القداس في غرفة مغلقة، أشبه ما تكون بالمعتقل.

ولا يتلقى أبو سركيس وناديا وسلمى، أي دعم إغاثي أو إنساني، فمعظم الجمعيات العاملة في المنطقة تخشى من رد فعل الإسلاميين إذا ما حصلت تلك العائلات على سلة إغاثية. والحجة دوماً “وجود مسلمين يستحقون المساعدة أكثر منهم”.

المدن

————————————-

الحراك السلمي السوري

“الحراك السلمي السوري”  مجموعةٌ من الشباب السوري المؤمن بالفعل السلمي والمقاومة المدنيَّة، لتحقيق التغيير ليس فقط على الصعيد السياسي، وإنمَّا الاجتماعي والثقافي أيضاً.

تأسست المجموعة في شهر نيسان من عام 2011، أي بعد أسابيعٍ قليلة من انطلاق الانتفاضة، وكانَ الهاجسُ الأساسيُّ من التأسيس المشاركة في الحراك الشعبي، ودعمه من خلال أطروحَات ومَبادئ المقاومة المدنيَّة، معزَّزة بأمثلة عن أساليبٍ لا عنفيَّة من التاريخ، إذ أكَّدت المجموعة على “بناء مجتمعٍ تعدُّدي تسوده قيم العدالة والحرية والكرامة، ويتساوى فيه جميعُ المواطنين على أساس المواطنيَّة”، كما يقول أحد نشطاء التجمع لموقعنا سيريا أنتولد syria untold.

التواصل بين أعضاء مجموعة الحراك السلمي السوري لا يعودُ تاريخَّهُ إلى بداية الانتفاضة السورية، بل كانت المراسلات جاريَّة بين أعضاء المجموعة المؤسَّسين وهم سوريون في الداخل والخارج، حيثُ كانَ التشبيك بينهم جارياً قبل بدء هبَّة “الربيع العربي”، وقد استطاع موقعنا سيرياأنتولد Syrianuntold أن يصلَ لأحد الناشطين في المجموعة حيث يقول “جمعتْنَا نحن أعضاء المجموعة مُراسلات لمدَّةٍ تزيد عن خمسة سنوات، كانت تعتمد على وجوب العمل على الفكر لتغيير ما في الأنُفس، وعندما انطلقت الثورة كنَّا من أوائل من انضموا إليها”، ومن الجدير بالذكر أن بعض أعضاء المنظمة في الداخل، شاركوا بوقفة أمامَ وزارة الداخليَّة في ساحة المرجة بدمشق في بدايات الانتفاضة يوم 16 آذار عام 2011، وشارك البعض الآخر في نشاطات سبقت الثورة بسنوات فيما عُرِف بمجموعة شباب داريا، وتركَّزت النشاطات في حينها على مكافحة الفساد وتنظيف الشوارع في المدينة، وذلك لخلق حالة من تغيير للواقع الاجتماعي في مدينة داريا، وفي العمق انقلاب مدني بطيئ على الاستبداد الحاكم.

يكمل الناشط قائلاً “جميع السوريين مدعوون للانضمام إلى المنظمة في حال وجدوا فيها ما يمثل أفكارهم ووجدوا في أهدافنا ما يحقق تصوراتهم عن مستقبل سوريا”.

وقد قامت مجموعة الحراك السلمي بفعاليات مختلفة منذ بدء الحراك، كفعاليات العصيان المدني السلمي، حيث امتازت مشاريع المجموعة بطابع الدعوة إلى عصيان بوقت مبكر جداً من الثورة, مثل حملة “خليك بالبيت” أو حملة “خبي قرشك الأبيض ليسقط نظامك الأسود”.

بدأت حملة “خليك بالبيت” بالاعتماد على المبدأ الأساسي الذي أخذته المجموعة بالحسبان، ألا وهو تسهيل وتبسيط انخراط المواطنين في الحراك  قدر الإمكان لكسر حاجز الخوف وإيصال صوت الشعب الرافض لممارسات النظام، دون إلحاق الضرر بالمشاركين في الفعالية من جهة الملاحقات الأمنية وتبعاتها. ولتحقيق تلك الأهداف مجتمعة فقد اقترحت المجموعة أن يكون الإضراب لبضع ساعات فقط، مساء يوم الخميس حيث لا يبقى الناس عادة في بيوتهم وكانت تلك أول دعوة إضراب أطلقت خلال الثورة، وقد كانت بالطبع أولى دعوات المجموعة إلى العصيان المدني.

ومن أوائل مشاريع العصيان المدني الاقتصادي، حملة “خبي قرشك الأبيض ليسقط نظامك الأسود”، الفكرة من هذه الحملة كانت تأخير دفع الفواتير أو الامتناع عن دفعها ليتوقف الإمداد المالي للنظام من خلال المواطنين، ولعل من أبرز الإعلانات التي ظهرت ضمن تلك الحملة صورة لشواهد قبور مكتوبة عليها “راح بفاتورة مي”، ولاقت هذه الحملة حماساً أقل من غيرها في وقتها لأسباب “شخصية” حيث” طيبة الشعب –حتى الشريحة الثائرة منه- و حرصهم على الاقتصاد الوطني، ولم تدرك الأغلبيَّة العُظمى من المواطنين حينها أنَّ النِظَام يجرُّنا إلى ما هو أبشَعْ من الخَراب الاقتصادي”.

ومن أهم المشاريع الموجَّهة للخارج في مجموعة الحراك السلمي السوري والتي أقيمت في أكثر من عشرين دولة خارجيَّة، مشروع “اليوم العالمي لسوريا-أنقذوا أطفال سوريا”، ومشروع “صلّوا من أجل سوريا”. بالإضافة إلى مشاريع توعويَّة كثيرة قامت بها المجموعة مثل مشروع “شخابيط ثورية”، و مشروع “قصاصات ورقيَّة”، و مشروع “قرآن من أجل الثورة”، ومشروع “أنجيل من أجل الثورة”.

ازديادُ وتيرَةُ الصراع المسلح وتبعَاتَهُ من قَصْفٍ وتَشْريد، وارتفاعُ وتيرَةُ العُنف والطائفية، والعوائق التي تواجه المجتمع والثورة ككل تعتبرُ من أهم الصعوبات التي تواجه المجموعات المدنيَّة. أمَّا حول الصعوبات في تمويل نشاط مجموعة الحراك السلمي، فإنَّ شأنهم في ذلك شأن باقي مجموعات العمل المدني الأخرى، إذْ كان التمويل ذاتيَّاً لفترةٍ طويلة إلا أنَّ المجموعة بدأت بالتعاون وفتح قنوات اتصال مع مؤسَّسات غير ربحية عالمية، تشارك أهداف المجموعة في وقف العنف وتحقيق السلام والتصدي لاستغلال الطفولة.

في مدرسة الشهيد مصطفى قرمان

ولأنَّ إضراب الكرامة قد حقَّقَ نسبة استجابةٍ كبيرة فاقَت كلّ التوقُّعات، فإنَّ جميع أعضاء المجموعَة يتَّفقون على أنَّ أهم لحظة تاريخيَّة مرَّت على المجموعة خلال الثورة، كانت أوَّل أيام “إضراب الكرامة”، حيثُ يكمل الناشط:” الفرح كان مرتبطاً بإعجابنا الشديد بقدرة الشعب على الإبداع و الاستجابة للفكر المدني”.

أمَّا لحظة استشهاد الناشط غياث مطر واعتقال يحيى الشربجي وهما عضوان من أعضاء المجموعة، بالإضافة إلى استشهاد المخرج باسل شحادة الذي تعاون مع الحراك على إنتاج فيلم “أغاني الثورة” و”مشروع نقود الحرية” تحت مظلّة أيّام الحرية، تلاه استشهاد عضوين من أعضاء الحراك في داريا الجريحة، الشهيدان “محمد قريطم” مؤسَّس جريدة “عنب بلدي” و “محمد شحادة” أحد مدرائها، حيث كان الشهيدان من أعضاء الحراك الفاعلين و المميزين، كانت هذه اللحظات من أصعب اللحظات صعوبة في تاريخ المجموعة.

يؤمن الفاعلون في مجموعة الحراك السلمي السوري, بأنّ كل تغيير يبدأ من النفس والفكر، وبأنّ الثورات هي فرصة لإعادة السؤال حول مفاهيم خاطئة مرسَّخة عند الشعب لفترة طويلة، لذلك فإنَّ أهمية الثورة في أن تكون ثورة ثقافية وفكريَّة أيضاً، ويرى الفاعلون في المجموعة بأنَّ العسكرة واقعٌ فرض قسراً، وعلى الناشطين التعايش معه وإدارته، حيثُ أنَّ كثيرٌ من العسكريين الذين التقوا بهم أعضاءٌ من المجموعة أبدوا الدعم والاهتمام، وأثنوا على جهود الشباب في مواجهة العنفيين فكريَّاً، وكثيرٌ منهم يترحَّم على أيام السلمية، حتى إنَّ بعض الكتائب قامت بحماية مشاريع المجموعة إيماناً بأهميَّة الحراك السلمي والمدني”.

تؤمن مجموعة الحراك السلمي بشكل مطلق على أن العمل المدني هو السبيل الأنجع لتأسيس الدول على أسس قوية اقتصادياً واجتماعياً وأخلاقياً وأنه أحد أقوى ضمانات الديمقراطية، هناك مئات المشاريع المدنية المبدعة في مختلف مناطق سورية، جميع هذه المشاريع هي نواة المجتمع المدني السوري الراشد إن أحسنت رعايتها وخرج السياسيون من الخلافات الفكرية الضيقة إلى أفق الحرية والكرامة الذي يتسع للجميع.

—————————————–

الإعلام السوري البديل: إلى أين؟/ محمد ديبو

بعد اندلاع الثورة السورية (آذار 2011) وجد المتظاهرون والأحرار أنفسهم أمام آلة إعلام النظام الكاذبة التي اتهمتهم بالسلفية والجهادية وحمل السلاح وتلقي الأموال من الخارج، الأمر الذي استدعى البحث عن آليات لخطاب إعلامي معارض يفند إجراءات السلطة، فتم الاعتماد على الكتابة على صفحات الفيسبوك والمعلومات التي ينقلها ناشطون ومعارضون معرفون على صفحاتهم، بالتوازي مع ظهور “شاهد العيان” الذي كانت تستضيفه قنوات الإعلام العربية، ما زاد الأمر غموضا وتشكيكا وأتاح للنظام استثمار الأمر على الأقل بالنسبة لمؤيديه ) خاصة أن اسم شاهد العيان بقي مغفلا)، الأمر الذي دفع النشطاء مرة أخرى للبحث عن بدائل توصل آراءهم وأخبارهم، فتم تأسيس عدد من الصحف والإذاعات والمواقع الأخبارية المتخصصة بما يحدث في سوريا، كل من جانب، بالتوازي مع تشكل غرف إعلامية أو فرق إعلامية في الداخل السوري، بعضها يعمل بشكل مستقل، وبعضها الآخر يعمل لصالح مؤسسات أو مجالس محلية، ليتشكل ما يسمى اليوم الإعلام البديل في سوريا، حيث أصبح لدينا عدد كبير من الوسائل الإعلامية، بعضها توقف وبعضها لا زال يواصل المسيرة، لأسباب كثيرة تتعلق بالدعم ومواقف النشطاء وأوضاع الأرض المتبدلة ما بين ليلة وضحاها.

أغلب الإعلام السوري البديل ولد في رحم الثورة السورية، ما يعني أنه تشكل كإعلام ذو أجندة ثورية في أغلبه، محددا أهدافه بالتسليط على جرائم النظام واستبداده، ومتطلعا لدولة مدنية. إلا أن تعقد الصراع السوري ودخول الكتائب الجهادية المصنفة على لوائح الإرهاب العالمي (داعش، جبهة النصرة) على خط الثورة، وتزايد انتهاكات الفصائل العسكرية الأخرى، وضع هذا الإعلام أمام مسؤولية الانحياز للحقيقة، والخروج من بوتقة الثورة إلى بوتقة الإعلام، وهو الانتقال الذي نجح حينا وتعثر في أحايين كثيرة.

عن واقع الإعلام السوري اليوم، وعما إذا كان حقق شيئا من أجندته، التقى “حكاية ما انحكت” عددا من المختصين والمهتمين والمطلعين على واقع الإعلام السوري الجديد، وصحفيون يعملون في هذا الحقل الإعلامي الجديد، في محاولة للبحث عن واقع هذا الإعلام، وعما إذا كان يشكل إعلاما حقا أم أنه زال يرواح في نقطة التأسيس.

هل يوجد إعلام بديل حقا؟

من سؤال التشكيك، انطلقنا، عبر طرح سؤال: هل يمكن القول أن هناك إعلام بديل حقا، ولم نكن نعني بالتشكيك نفي وجود هذا الإعلام، بل محاولة معرفة مدى ما أُسس وعُمّق في تربة الاستبداد، وعما إذا كان تمكن من أن يكون إعلاما وليس مجرد “نشرات ثورية” أو بيانات عابرة، فهل تخطى تلك الإشكالية؟

مؤسسة سمير قصير المهتمة بواقع الإعلام في العالم العربي والشريك لبعض المؤسسات الإعلامية السورية ( منها حكاية ما انحكت)، والمتابعة لواقع الإعلام وانتهاكاته من خلال البرامج التي تقدمها والمشاريع التي تعمل عليها، تعتبر من المؤسسات القادرة على إعطاء بعد نقدي ما عن واقع هذا الإعلام، كونها مؤسسة غير سورية ما يبعدها عن “العاطفية” التي قد يقع بها السوريون، وكونها مهتمة ومدركة للكثير من التفاصيل الدقيقة الخاصة بالحالة السورية بسبب قيامها بتوثيق الانتهاكات التي تقع بحق الإعلاميين فيها، ما جعل المدير التنفيذي للمؤسسة “أيمن مهنا” يقول أن “هناك إعلام جديد في سوريا، بدون أي شك. بغض النظر عن تقييمنا لهذه التجارب، لكن يجب أن نعترف أن العدد الكبير للمواقع والمطبوعات والإذاعات أتاح المجال لأصوات وأقلام جديدة، وهناك من سيستمر في العمل الصحافي والإعلامي في السنوات المقبلة، أياً يكن تطور الاوضاع السياسية والامنية في سوريا. أما كلمة “بديل” فتحتمل النقاش. هل هذا الاعلام بديل عن إعلام النظام؟ نعم. هل هذا الاعلام بديل عن الطريقة التقليدية في النظر إلى الصحافة؟ لا أزال أشك بذلك إلا في بعض الحالات الاستثنائية”، وهو ما يوافقه به الباحث والكاتب “عبد الله الحلاق” الذي أصدر مؤخرا كتابا بحثيا بعنوان “الصحافة السورية بين خلافتين” إذ قال: “بالتأكيد هناك وسائل إعلام بديل، إذاعات، فضائيات، صحف ومجلات… خلقها السوريون بفعل الهامش الكبير الذي أتاحته لهم الثورة السورية. موضوع التمييز بين الغث والثمين في وسائل الإعلام هذه موضوع آخر، وبالتأكيد أمام هذا العدد الكبير من وسائل الإعلام البديل ومنشوراته ثمة تمايز تبعاً للتوجه، الإيديولوجيا الملحوظة في الكثير منها “المنشورات والمطبوعات الإسلامية تحديداً”، ومستوى المهنية. لكن، ثمة جدار تم اختراقه بعد الثورة وهذا الخرق يرشّح وجود وسائل إعلام قادرة على إثبات نفسها مستقبلاً”.

الصحفي “إياد كلاس” وأحد المدراء في إذاعة سوريالي” يعتقد أيضا أنه “بمقارنة الوضع بين آذار 2011، يبدو أن الإيجابيات وصفات الاقتراب إلى سمات الاعلام البديل القويم تزداد طرداً مقارنةً بالسلبيات”، ما يعني أننا بتنا على المستوى الظاهري أمام إعلام بديل في سوريا، إلا أن ثمة شك لا زال موجودا حتى اللحظة، إن كان هذا الإعلام البديل قد تمكن أن يتمثل صفته تلك بالمعنى العميق للكلمة، فما يميزه عن إعلام النظام ( وفق كلاس) أنه  منفصل “عن وسائل الاعلام الرئيسية كإعلام السلطة والتابع للمصالح الرأسمالية، التركيز على القضايا المهمّشة،  رفد جهود المجتمع المدني)”، مؤكدا افتقاده بذات الوقت إلى “الاستقلال التام، اكتمال الفهم لمعايير الصحافة المستقلة الأخلاقية، دمقرطة وشمولية الآراء المطروحة، عدم الحياز السياسي”، في حين يعتقد عبد الله الحلاق أنه لدينا في سوريا نوعين من الإعلام البديل ” بعضها يقدم نفسه كإعلام ثوري – معارض، وبعضها الآخر كإعلام مستقل. أشك شخصياً بوجود إعلام مستقل بالمعنى الحرفي للكلمة، خاصة في ظل ظروف بالغة التعقيد وبالغة الدموية كالحال السوري. وبرأيي أن ذلك مفهوم بالطبع، وإن كان لا يبرر التوجهات الكارثية في بعض وسائل الإعلام هذه”، الأمر الذي يضع مهنية هذا الإعلام على المحك، خاصة إذا عرفنا أن أحد الأسباب التي كانت سببا لولادة هذا الإعلام هو البحث عن مهنية إعلامية بعيدا عن إعلام النظام الكاذب، فهل هذا هذه المهنية متوفرة اليوم؟ وبأي حد؟

المهنية والموثوقية: شرطان لم يتحققا بعد

حول مهنية الإعلام السوري الجديد يقول مهنا أن “غالبية التجارب اعتنقت منذ البدء عقيدة تأييد الثورة ومعارضة النظام. إن الموقف السياسي مشروع في العمل الصحافي، لكن يجب ألا يحول ذلك دون التدقيق بالمعلومات واعتماد المهنية في التغطية. وهنا الضعف الحقيقي للإعلام السوري الجديد. فالظروف الأمنية والسياسية، وضرورة العمل من خارج سوريا، والضغوط، تحتم على الوسائل الإعلامية الجديدة التأقلم مع قوى الأمر الواقع. بالإضافة إلى ذلك، ما زال الاعلام الجديد بغالبيته، قديماً في شكله وإن اعتمد الانترنت، بسبب اعتماده الكبير على مقالات الرأي، وضعف جانب التحقيق الاستقصائي والصحافة التفاعلية عن صفحاته. سبب ذلك الظروف الأمنية من جهة، ومن جهة أخرى ضعف معرفة القيمين على هذه التجربة بما هو فعلاً حديث في مجال الصحافة”.

ويعترف “كلاس” وهو الذي يعمل في وسيلة إعلام بديل أيضا، بأن الإعلام الجديد يعاني من “مشاكل مهنية، مادية، وسياسواجتماعية”، وإن برر الأمر بأنه يعود إلى “مشاكل متعلقة بالوضع الراهن الذي يصعب فيه فصل الموقف السياسي بحياد كامل، وبالأخص أن نشأة هذا الاعلام كانت على أيدِ نشطاء وصحفيين مرتبطين بالحراك السياسي والثوري”، مؤكدا بذات الوقت أنه رغم كل الصعوبات “يقدم صورة أفضل، أكثر استقلالاً وأقرب إلى الموضوعية والحياد، خصوصاً في السنة الأخيرة من عمر النزاع في سوريا بالرغم من ازدياد أطراف هذا النزاع”.

وإذا كان هناك معيار يمكن أن نقيس من خلاله مهنية الإعلام السوري ومدى ما حقق، قد يكون في البحث عن مدى اعتماده مصدرا للمعلومة حول وعن سوريا من قبل الجمهور أولا ووسائل الإعلام العالمية، إذ يقول عبد الله الحلاق حول هذا الأمر أن الأمر يختلف بين وسيلة وأخرى، فعلى “المستوى السوري العام، بالتاكيد الإعلام البديل ليس مصدراً إلا في حالات قليلة ربما”، في حين أنه قد يكون كذلك فيما يتعلق بالإعلام المناطقي كما في داريا والزبداني فهو “على علاقة بتفاصيل يومية مهمة جداً ومصدر رئيسي في اكتشاف وفهم ما يحدث في تلك المناطق”، في حين يرى كلاس أن “الكثير من وسائل الاعلام تعتمد الإعلام السوري البديل كمصدر مهم للمعلومات، وقد يكون السبب هو صعوبة الحصول على المعلومات في سوريا بأي طرق أخرى، لكن لا يُقدّم هذا الاعلام كمصدر موثوق 100% بسبب صعوبة التحقق من المعلومات، وهي مشكلة يعاني منها الاعلام السوري البديل بسبب صعوبة توثيق الكثير من الحالات في الداخل”.

“مهنا” يرى أن الأمر ليس في موضوع الموثوقية فحسب، فهناك وسائل إعلام سورية “موثوقة وأصبحت مصدراً للمعلومات”، إلا أن المشكلة تكمن بعدم وجود “مصدر سوري معتمد كمصدر وحيد للإعلام الدولي. المؤسسات الدولية لا تزال تبحث عن مصادر إضافية لتأكيد ما يحصل على الأرض في سوريا. وما هو غياب هذه المصادر إلا أحب الأسباب الأساسية لتضاؤل المساحة المخصصة للحدث السوري في الإعلام الدولي”، الأمر الذي يدفع للبحث في مشاكل الإعلام السوري الجديد.

ما هي مشاكل الإعلام الجديد؟

تختلف المشاكل والأولويات من جهة إلى أخرى وتتعدد وفقا لزاوية النظر التي يتخذها المرء، فـ”مهنا” يرى أن “المشكلة الأساس تتحدد بعدم معرفة الإعلام لجمهوره”، إذ “لم تجرِ حتى الآن دراسة جدية لمدى معرفة الجمهور السوري بهذه الوسائل: من يقرؤها؟ من يستمع للاذاعات الجديدة؟ في أي أمكنة؟ ما هي البرامج أو المقالات التي تثير الاهتمام؟ هل يعرف اللاجئون السوريون عن هذه الوسائل؟ فطالما لا نحصل على إجابات جدية عن هذه الأسئلة، ستبقى وسائل الاعلام الجديدة تتخبط”، في حين يحدد المشكلة الثانية بالتمويل، لأن “تكاثر هذه الوسائل هو نتيجة للتمويل الدولي الكبير والعشوائي الذي كان متوفراً ومن ثم اختفى. لم تخطط الوسائل الإعلامية الجديدة للاستدامة المالية لكي تتخطى المشاريع الممولة دولياً والخاضعة لقرارات في عواصم هذه الدول لا يمكن التأثير بها من قبلنا”.

وإذا كان كلاس يحدد المشاكل بـ”غياب الاستقلالية التامة ومصاعب الاستمرارية من الناحية المادية واللوجستية”، فإن صاحب كتاب “الصحافة بين خلافتين” يقسم المشاكل إلى ذاتية وموضوعية، إذ يرى أن الموضوعي يتعلق “بالواقع السياسي والأمني في بلدنا. نحن عانينا كسوريين وإعلاميين وكتّاب سوريين “بالعموم” من سلطة الحزب الواحد التي ابتدات عام 1963، وفرغت معنى العمل الصحافي والفكري من رسالته عبر احتكار وسائل الإعلام، وبعد الثورة استكمل القمع بأساليب أكثر عنفاً، على يد النظام الذي لم يتوقف عن القمع منذ خمسين عاماً، إلى جانب جماعات تكفيرية معادية للحريات والديمقراطية والتعددية”، في حين يحدد الذاتي بأنه يتعلق “بتكاثر المنابر بشكل كبير مقابل أهمية المضمون ونوعيته ومهنيته… يلفتني غياب هوية واضحة لمنابر كثيرة يمكن أن تكون عموداً فقرياً لذلك المنبر ورسالته وهذه مسألة تتعلق بالصحافيين واستعدادهم لحمل رسالة أساساً. إلى جانب سؤال الاستمرارية والتمويل وكيفيتها”.

مستقبل الإعلام:

إذا كان الإعلام السوري البديل تخطى مرحلة إثبات الوجود، ولم يتخطى بعد مسألة تكريس المصداقية والمهنية، فإن السؤال الذي يطرح نفسه، يتعلق بمدى قدرة هذا الإعلام على أن يستمر اليوم وغدا، ليثبت أنه غير مرتبط بالثورة فقط، بل بحاجة سوريا له فعلا، إذ يتوقع كلاس أن يشهد الإعلام البديل “تطور في الخبرات وفي الرؤية، واقتراب أكثر من حاجات الجمهور، والاتجاه بشكل أكبر للعب دور الرقيب والسلطة الرابعة”، إضافة إلى توقعه أن يتوجه هذا الإعلام إلى “تشكيل اتحادات وعناقيد ومجموعات عمل متشابكة بشكل أفضل بضمان عدم تكرار العمل والاستفادة من الجهود الجمعية”، في حين يعتقد عبد الله الحلاق أن مستقبل الإعلام شبيه بمستقبل سوريا نفسه، أي “نجاح بعض التجارب وفشل بعضها مع الفوضى المستمرة، لكن سوريا بصحفها الثلاثة ومحطتيها التلفزيونيتين الوحيدتين لن تعود أبداً، وهذه بداية يراهن عليها مستقبلا للإعلام السوري ولسوريا عموماً”، في حين يرى “مهنا” أن “الأقوى سيبقى موجوداً والعدد الأكبر سيختفي. أما مستقبل قدرته التأثيرية فيعتمد على المهنية في تحديد الجمهور المستهدف وحجمه ونوعه، والمهنية في الإدارة المالية، وتطوير مفهوم العمل الصحافي تماشياً مع ما يحدث في هذا القطاع حول العالم”.

Allah, la Siria, Bashar e basta? Vent’anni di vita custoditi in un racconto (Italian) Paperback – May 16, 2018
by Alberto Savioli

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى