منوعات

التحريم والمنع يلاحقان النساء… حتى في الجنازات!/ ميريام سويدان

المفارقة أن تونس هي دولة يحتذى بها من حيث الحقوق المدنية وحقوق المرأة، وانتقاد حمل صديقات لينا بن مهني لنعشها، ما هو إلا تأكيد على تجزيء حقوق النساء ومحارجتهن على وجودهن في أكثر الأماكن بداهة، الجنازة مثلاً.

نعشٌ محمولٌ على أكتاف نساء، زغاريدٌ تصدح، ياسمين يُنثر، فيما يعلو صوت النشيد التونسي، “حماة الحمى يا حماة الحمى، هلموا هلموا لمجد الزمن… لقد صرخت في عروقنا الدما، نموت نموت ويحيا الوطن”.

هذا المشهد الذي ودعت به تونس الناشطة الحقوقية والمدوِّنة والأستاذة الجامعية، لينا بن مهني، التي اشتهرت بنضالها من أجل حرية التعبير وبدفاعها عن حقوق المرأة في البلاد العربية، يطرح سجالاً جديداً حول العلاقة الدينية والاجتماعية بين النساء والجنازات.

لينا بن مهني

أكثر ما يلفت النظر في جنازة لينا، التي رحلت عن عمر 36 سنة بعد صراع مع المرض، مشهد نساء حملن نعشها من منزلها حتى المقبرة، وهو مشهد غير معتاد في البلاد العربية، وشكل صدمة حقيقية. أثار ذلك ردود فعل متضاربة، فالبعض اعتبر أن تحويل جنازة لينا إلى مسيرة حقوقية هو استكمال لمسيرتها النضالية بتحقيق المساواة بين الرجل والمرأة. ورأى هؤلاء في الشعارات الوطنية التي أطلقتها النساء كـ”ماناش مسامحين” و”نعم سنموت ولكننا سنقتلع الظلم من أرضنا”، و”مساواة مساواة”، جنازةً معبرةً عن ثورة بدأتها لينا بالمطالبة بالمساواة بين الجنسين، واستكملتها في مدونتها “بنيّة تونسية” التي وثقت فيها أحداث الثورة التونسية منذ عام 2011، في ظل حصار كان مفروضاً آنذاك على محافظة سيدي بوزيد، التي اندلعت منها شرارة الثورة.

من جهة أخرى، أثار هذا المشهد غضب كثيرين، إذ اعتبروا أن “للموت حرمة خاصة” تفرض صمتاً في الجنازة. كما أن استبدال الآيات القرآنية بأناشيد ثورية وهتافات، غيّب الخشوع عن مراسم الدفن وأفقدها حرمتها، وفق ما تمّ تداوله على منصات وسائل التواصل الاجتماعي. وامتلأت صفحات كثيرة بانتقادات حول حمل نساء نعش صديقتهن ورفيقة نضالهنّ، وفتح نقاش ديني حول حرمة هذا الأمر.

يضعنا هذا المشهد أمام سؤال، هل حرِّمت على المرأة المشاركة في الجنائز؟ أم أن استنكار مشاركتها هو عرف اجتماعي؟  

تواصل “درج” مع مرجعيات دينية إسلامية، أجمعت على أن سير المرأة في الجنائز “مكروه إلى حد التحريم” إسلامياً.

إذاً، فإن تحفّظ المراجع الدينية هو أقرب إلى التحريم حول مشاركة النساء في الجنائز. حتى أن التي مات زوجها، لا يجوز لها الخروج إلى الحيّز العام لحضور جنازته لأنها “معتدة”، والمعتدة تلزم بيت الزوجية، ولها أن تصلي عليه إذا حضر جثمانه إلى البيت فقط، فيما يرفض المجتمع المحافظ عموماً مشاركة النساء في الجنائز، ويراه خارجاً عن المألوف، فيُقصيها عن هذا المشهد. حتى أنّ بعض المرجعيات تحرّم على المرأة تقبيل زوجها بعد وفاته، باعتبار أنه يصبح محرّماً عليها وفق تفسيرات دينية.

في بعض الدوائر المحافظة يُمنع على المرأة التي فقدت زوجها رؤية رجال سوى بعض الأقارب، حتى أن معظم مجالس العزاء تفصل النساء عن الرجال، فالعزاء والحزن ومشاعر الحداد، كلها خاضعة أيضاً لمنطق التمييز الجنسي. 

لكن الانتفاضات العربية جعلت النساء في موقع متقدم كسر الكثير من المحظورات. وكانت مشهدية جنازة بن مهني في تونس لتثير المزيد من النقاش حول موقع المرأة في الحياة العامة والخاصة.

في هذا السياق، تقول الناشطة النسوية ناي الراعي إن المجتمعات العربية “تستخدم المرأة استنسابياً”. وتشرح أن الدول العربية تهلّل لحضور المرأة في الثورات، إلا أنها تفاوضها على تمثيلها في الحياة السياسية، أو حتى تحجب هذا الحق عنها. وهذا ما تشبهه الراعي بالمشهد في تونس، إذ حضرت المرأة في الشارع وغابت عن الحكومة. كما أن عبارة “الثورة أنثى” رافقت الانتفاضة اللبنانية منذ انطلاقتها، والتهليل استمر للوزيرات الست في الحكومة الجديدة، على رغم السجال حول اختيارهن.

إذاً، فإن حضور المرأة وفقاً للراعي، إما يكون استنسابياً لسد ثغرة، أو أنه لإظهار تقدمية في مكانٍ ما.

والمفارقة أن تونس هي دولة يحتذى بها من حيث الحقوق المدنية وحقوق المرأة، وانتقاد حمل صديقات لينا بن مهني لنعشها، ما هو إلا تأكيد على تجزيء حقوق النساء ومحارجتهن على وجودهن في أكثر الأماكن بداهة، الجنازة مثلاً.

نساء يحملن النعش: هل من سوابق؟

تذكّر جنازة لينا بنساء بارزات حظين أيضاً بجنازات غير تقليدية تكريماً لحياة عشنها بطريقة مميزة.

منهن جنازة شابة أفغانية (27 سنة)، حملت مجموعة من الناشطات الحقوقيات نعشها عام 2015، بعدما كانت تعرضت للضرب حتى الموت من قبل مجموعة من الرجال قبل إشعال النار في جسدها وإلقاء جثمانها في النهر، لاتهامهم إياها بأنها أحرقت نسخة من القرآن.

وطالبت الناشطات خلال الجنازة بالعدالة للقتيلة وتقديم الجناة للمحاكمة، وعُدّت سابقة صادمة في مجتمع يخضع لهيمنة المتشددين والذكور.

جنازة هفرين خلف

كان للسياسية السورية الكردية هفرين خلف جنازة استثنائية أيضاً. إذ تولت صديقاتها في “حزب سوريا المستقبل” حمل نعشها، بعد مقتلها في 12 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، وكان عمرها 34 سنة، على يد فصيل من الجيش السوري الحر المدعوم من تركيا، ويطلق عليه اسم “أحرار الشرقية”، وفق تحقيق أنجزته “بي بي سي”. 

يشار إلى أن مشاركة النساء في الجنائز في المناطق الكردية شمال سوريا تتساوى مع مشاركة الرجال تاريخياً. حتى أن تولي مهمة حمل نعش المرأة، إذا كانت مقاتلة وسقطت في معركة، يعتبر واجباً على رفيقاتها.

جنازة شيماء الصباغ

كما حظيت الناشطة المصرية شيماء الصباغ بجنازة شارك فيها المئات، فتحوّلت إلى تظاهرة شعبية مطلبية. وذلك بعد إصابتها بطلق ناري في الوجه على يد ضابط شرطة عشية الذكرى الرابعة لثورة 25 يناير عام 2015، أثناء مشاركتها في مسيرة نظمها التحالف الشعبي الاشتراكي قرب ميدان التحرير وسط القاهرة.

على الصعيد الفني، حظيت الفنانتان أم كلثوم وصباح بجنازتين ضخمتين. إذ قيل إن “نيلاً من البشر” خرج في جنازة أم كلثوم في 5 شباط/ فبراير عام 1975. فعدد مشيعي “كوكب الشرق” قدّر بين مليون ومليوني إنسان، واعتبر وداعها يومها من أكبر جنائز القرن العشرين.

جنازة أم كلثوم

هذا الازدحام الذي حشر رجالاً ونساء في ميدان التحرير في القاهرة، والذي امتد إلى شوارع الميدان الجانبية والجسر العلوي وشرفات المباني والأسطح المطلة على الميدان، كان مفاجئاً، إذ ليس من المعتاد أن تشهد جنازة امرأة هذا الاهتمام والحشد.

التمييز الذي لاحق النساء حتى في الموت لن ينتهي سريعاً، لكنه حتماً يشهد تغييرات كبرى، وما مشهدية جنازة لينا بن مهني سوى واحدة على هذا المسار.

درج

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى