ثقافة وفكر

“المجال العام”: ما حدث في مصر، وتدقيقٌ في التعريفات/ علي الرجّال

(1)

المجال العام ليس محل “تمنّي”، ولا شيء ينتج عن مجرد رغبة سياسية في خلق مجال عام، ولا حتى أنه يتسنّى له الوجود بمجرد إقرار التنوع والاختلاف والاحتفاء بهما.

“نريد إعادة فتح المجال العام”، “يجب الاهتمام بتأسيس المجال العام”، “المجال العام هو ضمانةٌ الديمقراطية”… ارتبطت ثورات الربيع العربي، باستثناء الثورات التي انتقلت إلى حروب أهلية وإقليمية مثل سوريا واليمن وليبيا، بنقاشٍ واسع حول المجال العام. وتجلى هذا في احتلال الميادين العامة وفتحها للنقاش والاحتشاد والاحتفال والرقص، وربما لكافة الأنشطة الإنسانية. وحتى الثورات التي انقلبت إلى حروب أهلية، سنجد بداخلها نماذجَ مختلفة لمجموعات متنوعة حاولت وما زالت تحاول التأسيس لمجالٍ عام ديمقراطي وتشاركي.

كانت الرغبة في الاستحواذ على الفضاءات العامة والمجال العام عارمة من قبل الجميع في مصر. فالإسلاميون حاولوا احتلالها بحضورهم الجسدي والرمزي، ولإظهارها كفضاءٍعام إسلاميٍّ صافٍ وأصيل. وهم خاضوا حرباً شديدة لتحقيق هذا الشأن ضد الأقباط، والمسلمين الشيعة، والصوفيين وتجليات طقوسهم (مثل الموالد)، وضد النساء المختلفات معهم في شكل حضور المرأة في الحيز العام وحدوده. كما أنهم اتهموا القوى الثورية الأخرى بالتخريب ومحاولة إسقاط الدولة ونشر الفوضى. وهذه كانت تحتل جزءاً من المجال العام بأشكال مختلفة من الحضور، كالاحتشاد، والتجمع، واللقاءات بالميادين، والاستيلاء الرمزي على الجدران من خلال الجرافيتي. الجماعات الأثنو- سياسية هي الأخرى حاولت الحضور بكثافة في المجال العام، مثل النوبيين والأمازيغ، أو ممثلي المجتمعات المحلية المختلفة في سيناءَ جنوباً وشمالاً.

معركة الاستيلاء على المجال العام

العسكر والأجهزة الأمنية بدورهم، ومنذ اليوم الأول، شنوا حرباً محمومة متفاوتة الوتيرة على المجال العام والفضاءات العامة، سواء بالحضور المادي عبر المنع والاحتلال، أو بكثافة الحضور الرمزي والمعنوي مثل نشر الصور والشعارات الممجدة للجيش وقوات الأمن،والمشيدة بدورهم الوطني الحامي للبلاد. أما الحضور المادي المباشر فتم عبر القواتوالمدرعات لاحتلال الميادين العامة وغلقها أو لمحاصرتها. صارت المعركة على المجال العام مع السلطة كأنها معركةٌ ضد استعمار أو قوة احتلال. ومن هنا يمكن فهم الصراع بين الأمن والجموع على الميادين وعلى المدينة نفسها. إذ كان على أحد الطرفين طردُ الآخر.

كما استعانت السلطة وأجهزة الأمن ورجال الأعمال التابعين لهم(الذين طلب منهم التمويل)، بأذرعتهم الرثة، المتمثلة بالبلطجية والمجموعات مدفوعة الأجر، وذلك للاستحواذ على المجال العام، أو تفخيخه أو إخلائه من الجموع المختلفة.

تجلى أيضاً ذلك الصراع في معارك الدولة بجلالة قدرها على الجرافيتي ومحاولة منعه. وفي المقابل استماتة الثوار على رسمه حتى على جدران مؤسسات الدولة الكبرى مثل وزراة الدفاع أو المنطقة الشمالية بالإسكندرية.

لا يلخّصُ كل ذلك شكل وحضور القوى المختلفة إلى المجال العام والفضاءات العامة. فقد استغل أبناء القبائل والعائلات في الريف والمناطق الصحراوية والساحلية المختلفة، فرصة الثورة، وصعود نجم وسائل الاتصال والتشبيك، للحضور بأشكال جديدة في الفضاءات العامة، وحيازة التأثير داخل العائلة أو القبيلة، أو التأثير في الفضاءات العامة التي تخص حيّزهم الجغرافي والاجتماعي. ويمكن القول بلا مجازفة أنَّ هذا الأمر تحقق في عموم مصر، من الساحل الغربي والشمالي، إلى سيناء، إلى الواحات المختلفة وأبرزها سيوة، إلى النوبة، إلى تجمعات محلية مختلفة في الدلتا والصعيد.

وعلى جانب آخر، خرج إلى المجال العام الشباب المهمّشُ داخل المدن، وكان هناك إصرار منهم على حضورهم الجسدي، حاملين معهم، وبصخب شديد، الكثير من الرمزيات الشعبية التي تخص مناطقهم.. مثل حضورهم إلى الميادين والتجمعات باستعراض “الموتوسيكلات” التابعة لهم، والرقص الشعبي بأشكاله وأنماطه المختلفة، ولغتهم المحلية التي تخص مناطقهم وحاراتهم، وحتى افتعال الشجار لإثبات الحضور، سواء مع أبناء طبقتهم نفسها من مناطقَ مختلفة، أو مع أشكال أخرى من الجموع التي حضرت في المجال العام.

وامتدَّ الأمر إلى زوايا اجتماعية أصغر،ولكنها هي الأخرى عبّرت عن التطلع إلى – أوالرغبة الكبيرة في – نقاشِ كلِّ ما هو عام أو مشترك، أو حتى إعادة خلق العام من خلال إعادة بعث وإحياء المشترك، مثل مجموعات الواتس آب (الغروبات) لقاطني البنايات، سواء لمناقشة أمور البناية بشكل يومي، أو لتبادل الأخبار والآراء. كذلك الحال مع مجموعات من المدارس المختلفة، أو تجمعات للمدارس الفرانكفونيّة مثلاً، والكثير سواها..

الجميع إذاً حضرَ إلى الفضاء العام، حاملاً أوهاماً وأحلاماً وتطلعاتٍ وهواجسَ. والجميع أيضاً قد اندهش من الجميع. فأبناءُ الوادي كانوا يندهشون من حضور النوبيين، وأبناءُ الطبقة البرجوازية اندهشوا، وتخوّفوا من حضور أبناء المناطق الشعبية، والإسلاميّون، والمحافظون من أبناء الطبقة الوسطى اندهشوا من حضور العلمانيين والشباب ذوي الشعر الكثيف والطويل، والنساء السافرات، والرقص والزمر، والعلمانيّون والكثير من أبناء الطبقات المختلفة، اندهشوا من الحضور الإسلامي،وطغيان رمزيّتهِ وشعاراتهِ ودلائل حضورهِ الجسدي من الزيِّ إلى اللغة واللحية والطقوس. ومثلما سعت قطاعاتٌ مختلفة للحضور إلى – والتأثير في – هذا الشيء المسمّى بالمجال العام، سعت قطاعات اجتماعية مختلفة، والدولة المصرية، إلى إغلاقه بكل قوة ممكنة.

ولكن، لماذا بدت الأمور سهلة، وغير معقدة في الثمانيةِ عشرَ يوماً الشهيرة (من 25 كانون الثاني / يناير إلى 11 شباط/ فبراير 2011 حين أُعلن عن تنحّي حسني مبارك)؟ ولماذا بدا الجميع مُرحِّباً بالجميع، فالصلوات والترانيم بجانب بعضهما البعض، والمنَقبّات بجانب السافرات، وأبناء المناطق الشعبية بجانب البرجوزايين، وبجانب حضور النوبيين والأمازيغَ وبعض الخيم للعديد من المحافظات؟ الإجابة ببساطة تكمن في:

1- الحرب السلمية التي شنّتها الجموع على نظام مبارك، والتوحّد حول الهدف، والخوف من الفضّ، أو من انقضاض الأمن أو البلطجية على المتظاهرين أو المعتصمين.

2- كانت هذه اللحظة الثورية تتويجاً للاحتفاء بوحدة متوهّمَة حول “الشعب”، ولذلك وجب القبول بتنوعه في داخل توحده.

3- لم يكن هناك أيّةُ ضرورة تستوجب التعامل مع الاختلافات والتباينات القائمة بالفعل داخل الميدان. كان مجالاً مفترضاً، متحققاً في بقعة أرض لهدف مشروط، أي أن الصراعات بداخله لم تكن كبيرة، وكانت لا تتطلب أكثر من مهارة بعض الشباب في التفاوض السريع، ونزع فتيل التعارك بالأيدي على الأمور البسيطة، والتذكير بسمو الهدف الذي يستدعي وحدة الجميع. كما أن الصراع على السلطة غاب في داخل الميدان، وغاب أيضاً عن الميدان نفسه. فلم يكن الميدان يصارع من أجل الحصول على السلطة، ولكنه كان يصارع ضدها، ومن أجل تنحّي مبارك وزمرته. بينما لم يكن الصراع الاجتماعي قد تجذّر بعد في تلك الفترة.

على كلٍّ، انتهى المجال العام في مصر. ونجحت السلطة بقيادة العسكر والأجهزة الأمنية في الإجهاز عليه ومحاصرته. والدرس القاسي من الثورة المصرية، هو أن المجال العام ليس محض مجالٍ احتفالي، ولا يرتبط استمراره وقوته وفاعليته في القدرة على الاحتشاد في الفضاء العام فحسب، وأن “الجرافيتي” لا ديمومة له إذا تمت السيطرة على الجدار نفسه. كما أننا تعلمنا أنه مهما تمّ ضخ أموال لصالح المجتمع المدني ومنظماته، فهي وحدها غير قادرة على تأسيس مجال عام تشاركي وديمقراطي مستدام. وأن حرية الإعلام والنقاش والتعبير، ما لم تجد أسساً مجتمعية وطبقية، وبنية سياسية وتشريعية لترتكز عليها، فهي يمكن أن تقتلعها السلطة بسهولة أو تبتلعها. حتى المجال الافتراضي بكل تأثيراته على الواقع من خلال الحملات المختلفة والجدل العام، فهو الآخر قابل للأمننة أو التهميش والمحاصرة والتضييق عليه.

المجال العام ليس محل “تمنّي”، ولا شيء ينتج عن مجرد رغبة سياسية في خلق مجال عام، ولا حتى أنه يتسنّى له الوجود بمجرد إقرار التنوع والاختلاف والاحتفاء بهما. فالمجال العام يتشكل تاريخياً من خلال مؤسسات وطبقات وتأطير سلمي للصراع الاجتماعي والسياسي، وقدرة على إنتاج ما هو عام، والاشتباك حوله بطرق سلمية ومنتجة.

المجال العام: محاولة مختزلة للفهم والتعريف

المجال العام هو مجال افتراضي، ولكنه ذو تجليات مادية واضحة. هو افتراضيٌّ من حيث أنّه مساحة متخيَلة من الجدل والنقاش والتنافس المجتمعي حول القضايا العامة. وهو مادي بمعنى تجلي هذا النقاش عبر جماعاتٍ ومطابعَ ودورِ نشر وإعلام وصحف ومؤسسات مجتمع مدني وحركات اجتماعية وأحزاب سياسية وكنائس ومساجد ومسارح ومقاهٍ واحتشاد وتجمع بالميادين والأماكن العامة.

ويعد المجال العام أوسع من المجال السياسي من حيث أنه لا يقتصر على حيّزِ المنافسة على السلطة وطرح برامج للحكم وللسياسات، وهو توسيعٌ لنطاق الديموقراطية التشاركية في مواجهة الديموقراطية التمثيلية التي تقتصر حدودها على البرلمان وعلى الأحزاب السياسية. وهو مفهومٌ حداثي في المقام الأول، حيث يرتكز في تصوره وتجسيده على كلٍّ من تطور الرأسمالية والدولة الحديثة. فمفهوم المجال العام عند “يورغن هابرماس” مثلاً (الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني المعاصر) قائمٌ على العقلنة والترشيد. حيث يقوم الفاعلون المستقلون ومن يمثلون مصالح خاصة بعيدة عن الدولة، بالتجمع والنقاش بما يخص المجتمع ومصالحه في مواجهة الدولة، ويضطلعون بالمشاركة في الشأن العام حتى لا تُترك الأمور بالكلية في يد الدولة ونخبتها الحاكمة.أي أن يكون من حق قطاعاتٍ أوسع المشاركة في عمليات اتخاذ القرار، وهو كان مساحة خاضعة لسيادة جهاز الدولة والحكام. ويرى هابرماس: “أن المجال العام يتكون ويتشكل من أفراد خاصة” مستقلة يأتي استقلالها من امتلاكها لأملاكٍ خاصة. وتعد نقطة العقلانية والرشادة أهم مرتكزات المجال العام في هذا التصور، حيث يتخلص الأفراد فيه (أو ينبغي عليهم التحرر) من الأشكال اللاعقلانية في عملية الحوار، مثل الأبعاد الدينية والطائفية والعاطفية. وعبْر هذه العقلانية، يمكن للأفراد الخاصة الوصول إلى ما يسميه الفيلسوف بالتوافق (Consensus ، والبعض يستخدم مصطلح “الإجماع”)، لأن المحاجّة أو الحوار الرشيد قادرٌ على الوصول بالأطراف المتنازعة إلى التوافق على أمر يتعلق بما هو عام ولا يكون في حيّز التنافس السياسي المباشر.

تعرض المفهوم لنقد واسع من مدارس مختلفة. وتمحور جزء من نقد الفيلسوفة البلجيكية “شانتال مووف” (Chantal Mouffe) على فكرة إمكانية تحقيق إجماع من خلال العقلنة والترشيد. وتساءلت عما هو خارجَ الإجماع، وجادلت بأنه لا وجود لإجماع بدون تهميش. كما أن نقدها ينطلق من نقد الفكرة الحداثيّة ذاتها عن إمكانية حل المشكلات من خلال العقلانية والعقل كحقيقةٍ مطلقة. وترى “مووف” أن مثل هذا التصور يغفل دور الشغف والرغبة في العلاقات والتطلعات الاجتماعية، كما يغفل عناصر الصراع. وظهرت مدارس أخرى تنقد المفهوم من حيث عدم إمكانية تحققه في ظل هيمنة الرأسمالية على إيقاع الحياة، وجهاز الدولة، وعزل الطبقات الاجتماعية بشكل يحول دون تلاقي أفرادها بشكل جمعيٍّ لمناقشة الشأن العام بما يتجاوز طبقاتهم الاجتماعية، والاندماج في حوار عقلاني يخص عمليات اتخاذ القرار لشرائح واسعة في المجتمع. كما ظهر في عديد من الأدبيات حديثٌ عن “الفضاءات” و”الحقول الاجتماعية” بدلاً من المجال العام، وأن كل حقل لديه تقاليده وأعرافه وآليات النقاش واتخاذ القرار بداخله، ثم يتفاعل كل حقل مع الحقول الأخرى سواء من خلال الصراع أو التفاوض أو التحالف.

هناك فرقٌ بين المجال العام والفضاءات العامة. فالمقصود،ومحل النقاش هنا، هو المجال العام بشكله الواسع على مستوى الدولة ككل أو المدن. أما الفضاء العام فيمكن إحالته على النماذج الأصغر، مثل إدارة شارع أو حارة صغيرة، أو حيز مشترك، تتفاعل فيه قوى اجتماعية مختلفة مع الدولة. كما أنه يمكن للمجال الخاص أن يحوي بداخله فضاءً عاماً ضيقاً، مثل القبيلة والعائلات، أو الفضاءات المشتركة مثل البنايات أو المجتمعات المسيّجة (Compounds). والفضاء العام المقصود هنا هو المشترك العام الذي يجمع أبناء هذا الحيّز الضيق، فيصبح عاماً ويدور فيه النقاش والتفاوض والصراع. ويكون المأمولُ من هذه العمليات هو القدرة على تغيير صناعة القرار أو المشاركة فيه.

**

ما الذي واجه الثورة المصرية، وحالَ دون بناء مجال عام قوي ومستدام وديمقراطي؟ هناك ثلاثةُ مستويات مشكِّلة لأزمة المجال العام في مصر:

1- الطبقة.

2- الأيديولوجيات الوطنية والإسلامية، بما فيهما من جوانبَ قانونية مقيدة للمجال العام، أو رافضة له.

3- توحش وهيمنة الأمننة والإدارة البوليسية للمدينة والفضاءات العامة المختلفة، في ظل كل من رأسمالية الدولة التي تجسدت في الحقبة الناصرية، أو في ظل الهيمنة النيوليبرالية في عهد مبارك.

 (2)

حتى الآن، عجز الفكر والخيال السياسيان في بلداننا عن تحديد مسألة أساسية بما يخص المجال العام (وسواه) تتعلق بكيفية إنتاج السلطة، وبالعلاقة العضوية بين السلطة والثروة، وهو نمط مستند إلى تاريخ طويل ومتراكم، يضاف إليه اليوم تعيين موقع بلداننا، التي صارت مستقلة ولم تعد تخضع لوطأة الاستعمار القديم، موقعها في المنظومة الشاملة والمعولمة للرأسمالية.

ارتكز تخيّل المجال العام، المستديم والفعال، في الفكر الغربي الحديث، على وجود طبقات تتسم بقدر من الاستقلال في مواجهة الدولة. ولا يجدي في تناول المجال العام والديمقراطية الاعتداد بما هو ثقافي وليبرالي وقانوني فحسب. استقرار ورسوخ الديموقراطية يتم من خلال تفعيل دائم للنقاش والجدل، وعقلنة الأمور، وإتاحة الفرصة للصراع الاجتماعي حتى تتم بلورة أفكار القوى المتصارعة، وحتى يمكن لها أن تصحح أفكارها ورؤيتها لما هو عام. وهذا يفترض إمكانية إعادة توزيع الثروة والموارد، ما يحدد أدوار وأوزان القوى الاجتماعية والطبقية المختلفة، ويتيح مشاركة أغلبية السكان في الفضاءات العامة والمجال العام بحيث يصبح هناك مشترك يمكن الجدل فيه. فالمشترك أو العام ليس محض تصور أخلاقي أو جدل فكري.

وفي حالة مصر، فالأوليغارشية الحاكمة تحتوي ما هو عام، ولا تسمح بمناقشته إلا في الغرف المغلقة العائدة لها. وفي حقيقة الأمر فما هو عامٌ ليس بعام، ولا يخص العوام الذين لا يعتبرون ذواتاً منوطة بالتأثير، أو تغيير مسار الأمور.

حتى الآن، عجز الفكر والخيال السياسيان في بلداننا عن تحديد مسألة أساسية بما يخص المجال العام (وسواه) تتعلق بكيفية إنتاج السلطة، وبالعلاقة العضوية بين السلطة والثروة، وهو نمط مستند إلى تاريخ طويل ومتراكم، يضاف إليه اليوم تعيين موقع بلداننا التي صارت مستقلة ولم تعد تخضع لوطأة الاستعمار القديم، موقعها في المنظومة الشاملة والمعولمة للرأسمالية.

عبد الناصر، نموذج صاف

وتخلتف درجات طرح الأمور للنقاش باختلاف طبيعة الأنظمة. فمثلاً نظام عبد الناصر هو أكثر النظم التي “تحدثت” إلى المجتمع. ولكن المنطلق هو احتكار الدولة لما هو عام، ولا يوجد عامٌ غير الذي تطرحه الدولة. وبالتالي كانت الأمور تُطرح على الجمهور وهي مؤطرة مسبقاً، أي أن ما يعرض ليس من باب النقاش، ولكن من باب الإعلام بخطة وتوجه الدولة، ومن ثم تبعية الجمهور لما تمليه من توجهات. وكثرة العرض العام من قبل الدولة في ذلك الوقت كان مرتبطاً بطبيعة نظام يمتلك مشروعاً يحاول فرضه على المجتمع، ويرى في نفسه شرعية ثورية، وشرعية مادية لاحقاً لإنجازه مشروعات كبرى. وكذلك فإن هذا النظام كان يريد أن تكون الجماهير خلفه ومعه ولكن طبقاً لما يمليه هو، في عملية كثيراً ما جرت الإشارة إليها في أواخر عمره ب”الاستدعاء السياسي”. كان المجال العام مؤمماً من قبل الدولة وأبنية النظام المختلفة.

أما الشرائحُ التي كان يمكن لها حمل ركائز مجال عام مستقل فكانت بأغلبها إما في السجون أو تحت وطأة التهديد الأمني، أو كانت مستوعَبَة في ماكينة الدولة، سواء في الجهاز البيروقراطي أو الثقافي، حيث تم تأميم أغلب الإنتاج الفكري والأدبي داخل أروقة وزارة الثقافة، في ظل سيطرة نظام يحمل أيديولوجيا قوية آنذاك، هي الناصرية، باختلاف مراحل تبلورها، من 1956 إلى 1966.

وبحلول 1954، كان عبد الناصر والعسكر قد نجحوا في تحطيم النوافذ التعبيرية المختلفة، من أحزاب وجرائد ودور نشر ومجلات، وحُسم الجدل داخل مجلس قيادة الثورة حول الديمقراطية لصالح ديكتاتورية عسكرية تقوم بمهمة مقدسة وهي التحديث وتصحيح مسار ومسيرة الشعب والوصاية عليه. وبحلول معركة السويس 1956، أصبح خطاب التخوين، وأنّ مصر مستهدفة من قبل القوى الاستعمارية وإسرائيل، وأنْ لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، أصبح له القدرة على سحق أية خطابات أخرى، وأمننة النقاش العام بسهولة.

كما أن شريحة التجار لم تكن في وضع يسمح لها بتكوين شبكات قوية ومستقلة عن الدولة وقادرة على طرح مشكلات على المجال العام، وذلك لسيطرة الدولة على حركة السوق بالكامل الممسكة بها بيد أمنية قوية. وكان العمال تحت هيمنة اتحاد النقابات العامة التابع للدولة، وكان المثقفون داخل وزارة الثقافة، وكان أغلب الطبقة الوسطى داخل الجهاز البيروقراطي، وكانت النقابات المهنية أيضاً مؤممة داخل الدولة وتحت هيمنة وزاراتها. ولم يكن ما يجري هو تطويرٌ وتحديث للبنية الإنتاجية الرأسمالية في المجتمع. وبعد تفكيك ملكية الأرض، استوعب عبد الناصر أغلبَ القادمين من الريف في جهاز الدولة البيروقراطي بشقيه المدني والعسكري. ولم تكن البنية الصناعية قوية بما يسمح باستعياب جموع أكبر في داخلها، ولذلك ظل حتى يومنا هذا عمالُ “غزل المحلة” و”كفر الدوار” هم الأكثر قدرة على بلورة مطالب عامة تخص المجتمع من خلال قطاع إنتاجي حقيقي، قادرٍ على تشكيل “طبقة” أو شريحة طبقية مستقلة معنية بجانب من إنتاج الثروة في البلاد.

وبسبب هذا البنيان، ظل فعل المطالبة هو الأمر الأصيل في أغلب القطاعات، وهو يتمثل خصوصاً في “العلاوة”. وكان من الصعب تخيّل شيء آخر في ظل تلك العلاقة حيث ما هو عامٌ ويمكن مناقشته لن يخرج خارج بنية المطالبة من الدولة الراعية ومن بداخلها. ولم تستطع أغلب الحركات الاجتماعية التي ظهرت على استحياء من حين لآخر الدخول في علاقة قائمة على مناقشة السياسات والأمور العامة والتأثير في مصائر عملية اتخاذ القرار.

والمميز في عهد عبد الناصر وعلاقته بالمجال العام، هو تلك الحركة “البندوليّة” (كرقاص الساعة) بين إفساح المجال العام في الظاهر، بدخول فاعلين جدد ضمن إدارة السلطة، الذي يمكن بأن يُفهم كتوسعٍ في المجال العام، وكمشاركة في الثروة وفي اتخاذ القرار. إلا أنه وفي الحركة نفسها وفي داخلها كان هناك احتواءٌ واستيعاب وتطويع لهؤلاء، وإعادة موضعة لهم في خانة الحشود المهللة لقرارات الزعيم. فمثلما حقق عبد الناصر الكثير من مطالب الحركة العمالية، وهي شهدت قدراً من الازدهار الاجتماعي في عهده، فهو قضى على أية إمكانية لها للاستقلال خارج عباءة الدولة، وقام بقمعها عدة مرات وسيطر على قادتها. وكذلك جرى استعياب قطاع واسع من الجمهور في الجهاز البيروقراطي والأمني (جيش وداخلية) حيث تضخمت تلك القطاعات بشكل كبير في عهده حتى صارت عبئاً على الدولة، تود التخلص منه اقتصادياً، ولكنها تحتاجه في دعم شرعيتها وبقائها سياسياً واجتماعياً. وبالتالي فإمكانية خلق مجال عام قوي دُكّت دكاً باستحواذ الدولة عليه واستعيابه داخل أروقتها.

السادات، النسخة المختلة

أسفرت هزيمة 1967 عن نتائجَ مهمة تخص موضوعي المجال العام والديمقراطية: اعتراف عبد الناصر بفساد دولة المخابرات وانحرافها عن مسارها. ولكن، ومثلما مثّلت الهزيمة نقداً كبيراً للدولة الناصرية، فهي في الوقت نفسه أتاحت لعبد الناصر فرصة تاريخية لتصفية صراعات الأجنحة (عبد الحكيم عامر مثالاً) وإحكام سيطرته بالكامل على جميع أجهزة الدولة.

كما أن القبضة الأمنية التي كانت تُمسك بزمام الأمور في داخل البلاد لم تُمس. فالجيش ظل الكيانَ المهيمن على الحكم، كما أن كلاً من المخابرات العسكرية والمباحث العامة، الجهتان اللتان كانتا تديران عمليات القمع الداخلي ظلتاعلى حالهما. أما تداعيات الهزيمة فقد طالت المخابرات العامة وبعض قيادات الطيران.

وجاء المشهد الأول ليؤكد بأن شيئاً لم يتغير. فالجماهير خرجت رافضة لتنحي عبد الناصر وطالبته باستكمال دوره في قيادة مصر. وعلى ذلك، فلم تمض بضعة أشهر حتى انفجرت انتفاضة الطلبة في 1968، وكانت أهم مطالبها هي الديمقراطية. وعلى الرغم من توحّش القمع البوليسي على أساس يومي، والعودة للتوسع الشرطي مرة أخرى في مواجهة الناس، وإعادة بناء قوات الأمن المركزي في 1968، إلا أن الدولة لم تنجح في قمع ظهور الحركات اليسارية مرة أخرى، وبداية تجذرها في كل من القطاعين الطلابي والعمالي. أعادت هذه الانتفاضة، بعد الهزيمة العسكرية بسبب فساد الأجهزة الأمنية، الحيوية مرة أخرى للمجال العام. وكان لهذا التشبيك النشط بين الطلبة والعمال أثراً كبيراً في عودة النضال السياسي ضد الاستبداد والسلطوية. ولكن كلمة الحرب كانت هي الأعلى. ونجح عبد الناصر في الخروج من الهزيمة بأقل تضحياتٍ ممكنة، أو تغييرات جذرية في بنية المؤسسات الحاكمة. وأما نجاحه في توحيد أجهزة الدولة خلفه، فلم يضعفها، بل زادقوتها وهيمنتها وشكّلت ما يعرف ب”مراكز القوى”.

جاء السادات إذاً على إثر هزيمة عسكرية ثقيلة، وشارعٍ منفجر، ومراكز قوى أقوى منه ومتحكمة بصنع القرار. نجح السادات في حسم صراعه مع مراكز القوى، وقام بتقوية الداخلية وجعلها ذراعهُ الأيمن. وفي مواجهة قوى اليسار الصاعدة، والتي كانت تنجح شيئاً فشيئاً في التجذر وسط العمال وفي الجامعات، أطلق السادات العنان للإسلام السياسي وتحديداً للإخوان المسلمين.

وعلى الرغم من أن بدايات عهد السادات مثَّلها مشهد حرق سجل تسجيلات المراقبة والتجسس بمبنى المباحث العامة، وحل الجهاز، أو بمعنى أدق تغيير اسمه من المباحث العامة إلى جهاز مباحث أمن الدولة، فهو قام بالمقابل، وعلى مراحل مختلفة، بتطوير وتدعيم الداخلية المصرية، والاستثمار في قوات الأمن المركزي وأمن الدولة، وذلك لسببين: 1- لمعادلة كفة الجيش وتشكيل قوى موازية له، ولاؤها المباشر لرئيس الجمهورية 2- ولاستمرار القدرة على السيطرة على القوى السياسية والاجتماعية المختلفة وضبطها.

ونجح الساداتُ في استيعاب القوى الاجتماعية التي ورثها من “الاتحاد الاشتراكي” من خلال إعادة إنتاجها في “الحزب الوطني”. كذلك نجح في توسيع وإدماج الطبقات التي تمكنت في تكوين ثروات مالية عبر السوق السوداء، والقرب من الأجهزة الأمنية في عهد عبد الناصر. وهي بالأساس طبقاتٌ طفيلية في تكونها وتشكلها، ومن ثمَّ فإن التصاقها بالسلطة كان أمراً محسوماً.

كما أنه وعلى عكس ما هو سائدٌ كفكرة، لم تتقلص الدولة والبيرواقرطية في عهد السادات، بل توسعت وتضخمت مرتين على الأقل بالمقارنة مع عهد عبد الناصر. كذلك ضم السادات القوى المختلفة التي نجحت في أن تنجو من الإصلاح الزراعي والتأميم، أو أن تخبئ ثرواتها، وهي القوى التي سوف تشكّل العماد “الرأسمالي” الجديد لفترة “الانفتاح، الذي سيكون مدخلاً مهماً لإدماج هذه الشرائح، وخلق مزيد من الفئات الطفيلية التي ستزدهر مع التوسع الجديد للسوق وعلاقات التجارة، والاستيراد تحديداً.

شهدت فترة السادات عودة الزخم مرة أخرى للمجال العام، الذي تأسست له منابر ثلاثة، اليسار والوسط واليمين، ولكن دون ترسّخ. بل أن القوى التي سيطرت على المجال العام، واحتكرته لعقود طويلة هي من ستترسخ في هذه الفترة، أي “الحزب الوطني” وشبكاته الزبائنية، و”الداخلية” وسيطرتها على مصر كلها عبر سيطرتها على شبكات الحزب الوطني، وتحكمها بقوى الإسلام السياسي، ضبطها وقمعها أو ترك مساحات اجتماعية وفكرية لها، حسب الحاجة.

نحن أمام ثلاثة أجهزة كبيرة هي الداخلية وتحديداً أمن الدولة، والمباحث الجنائية، الحزب الوطني، وبعض تنويعات الإسلام السياسي.. أجهزة بمفهوم الفيلسوف الإيطالي “جورجيو أغامبين”: أي أجهزة تحمل تصوراً معرفياً، ومنغمسة في علاقات قوى، ولها استراتيجيات تعمل على تحقيقها، وتتحكم في اللغة والخطاب، وتحاول التحكم في الواقع من خلال شبكات مختلفة. بجانب هذه القوى التي ستعمل على خلق هيمنة جديدة للنظام، سيكون هناك القمع السياسي واليومي للمواطنين. وقد شهدت حقبة السادات صداماتٍ عدة بين العمال والطلبة والأمن المركزي. أبرزها مظاهرات 1975 والتي تعامل السادات معها بمنتهى العنف، وبالطبع “انتفاضة يناير ” 1977 المعروفة ب”انتفاضة الخبز”.

وعلى الرغم من الانفتاح السياسي النسبي الذي شهده عصر السادات، إلا أن القوى الاجتماعية التي شكلت عماد نظامه هي قوى معادية للمجال العام بالكلية. فإذا كانت الدولة احتكرت تمثيل كل ما هو عام ومشترك في عهد عبد الناصر، فنظام السادات عمل على تفكيك ما هو عام من الأساس. فموجة الانفتاح وسياساته ستعزّز قيم الفردية، والازدهار الشخصي على حساب المجتمع، وقيم السمسرة وما عرف ب”التهليب”. وسيكون الهم الأول لقطاعات كبيرة هو الثراء السريع. وستشكل مجمل هذه القيم والممارسات بناءً أيديولوجياً كاملاً للنظام الجديد، تغلغل في المجتمع وأصبح رؤية للعالم وللذات وللمجتمع المصري.

بجانب هذا عملت قوى الإسلام السياسي على أمرين: محاولة تنميط المجتمع المصري وفرض الصبغة الإسلامية عليه، وتعزيز قيم الخلاص الفردي من منظور ديني. وهي بطبيعتها ممارساتٌ ضد التنوع والتداول الحر للمعلومات والأفكار والسجال والاختلاف. كذلك عملت الداخلية، من خلال جهاز أمن الدولة تحديداً، وتحكمه في قطاع الإعلام والشبكات الزبائنية للحزب الوطني، على تعزيز قيم الفردية والاهتمام بالشأن الخاص وشيطنة القوى اليسارية.

وهكذا انتهى المطاف بدولة يوليو التي أنشأها عبد الناصر،إلى العمل ضد القيم والمكاسب الاجتماعية التي خلقتها هي نفسها.

باحث في علم الاجتماع السياسي متخصص في الدراسات الأمنية، من مصر

السفير العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى