سياسة

صورة سوريا الغائمة في تقاطع الحرائق/ موفق نيربية

في مارس/آذار الماضي، قال تقرير لمجموعة الأزمات الدولية أنه «لا يشكل تجنب مواجهة عسكرية كارثية في إدلب، واحتواء مسلحي المنطقة حلاً دائماً. لكن حتى الآن، يشكل ذلك أفضل خيار متوفر يحمي حياة السكان». وكل الأخبار والصور التي تأتينا من هناك حالياً، تعبّر بقوة عن أن هنالك عدم مبالاة وبروداً قاتلاً في موقف القوى الفاعلة على الأرض، أمام الأخطار الهائلة على حياة السكان، التي رأينا الكثير منها، وما زالت مفتوحة على احتمالات أسوأ بكثير مما حدث .

ولكن، رغم المخاطر التي تعصف بإدلب، وريف حلب الغربي والجنوبي، والضحايا وقوافل الرحيل العاجل بعشرات الآلاف الذي علّق على صوره الفاجعة، أحد كبار لصوص النظام في الشمال السوري قائلاً: «إدلب الخضراء تتطهر من قذارة البيئة الحاضنة للإرهاب، التي قررت الهروب إلى تركيا.. مخيمات النجاسة تليق بكم». رغم ذلك، تغيب صورة سوريا عن الأضواء بشكل لافت، وتخيّم على مجازرها ونزوح أهلها غيمةٌ ثقيلة قاسية.

كانت القضية السورية وتضحيات السوريين، قد تركت بصماتها العميقة على المنطقة كلها، فاستفادت الشعوب، في دعم وتقويم طموحاتها، واستفادت القوى الرجعية الطائفية النهّابة من تلك البصمات، وما تعنيه أيضاً في إعادة تمركز وتجميع وتسليح قواها.

في العراق مثلاً، حدّد الشبان موقعهم وأهدافهم واستراتيجيتهم بدقة وتجديدٍ وجرأة: هم مظلومون من قبل نظام فاسد حتى العظم، ابتلع المسؤولون فيه ثروات البلاد، وتركوها في حالة حرمان وخراب لا يليق بالغنى المعروف عن البلاد، وكان الجشع والشراهة شاملين ومتوافقاً عليهما. وصاغت تلك النخبة من الفاسدين نظاماً انتخابياً، ووقائع معقدة صعبة على الاختراق ومحاولات الإصلاح، وحمت ذلك كله بميليشيات نمت وتوسعت تحت غطاء محاربة إرهاب «داعش»، وفي ذلك كله كانت أذرع إيران تتغلغل عميقاً، وتقوم بالسيطرة على المفاصل المهمة، مستفيدةً من تلك الأرضية أيضاً في تعبيد وتشغيل طريق دمشق لنقل المقاتلين والعتاد والدعاة. فحملت انتفاضة العراقيين شعارات التغيير، وإنهاء الفساد وتشكيلة الأحزاب الفاسدة (رسمياً: ضاعت على العراق بالفساد 500 مليار دولار) والنظام الانتخابي السيئ، في حراك سلميّ مصمم على سلميته وعناده وشجاعته معاً. ذلك درس من ثورة شباب سوريا في عامها الأول، ظهر مع بعض إيقاعاته في بغداد والناصرية والبصرة والنجف وكل مكان. وحفظت القوى المضادة «درسها السوري» أيضاً، فاشتغلت على القوة والعنف، واغتالت زهرة الناشطين وما زالت، وحرضت على إنعاش الطائفية، والتفّت على الموضوع، وأخذت تضيع الوقت، ريثما تنبت نباتات سامة مختلفة.. حوّلت «التقية» أيضاً إلى كذبٍ صريح مجرّد في استراتيجيتها.

وفي لبنان، كانت الآثار السورية قد تعرضت لنكسة قوية في السابق، إلا في مجال الفساد، واستمرار الدور الأسود الذي يلعبه حزب الله، أو إيران عموماً. ولكن ذلك تعرض لارتداد مهم مع «التسوية» التي حملتها الانتخابات النيابية والرئاسية الماضية، وضمن حزب الله لنفسه مركزاً قيادياً يحكم فيه من وراء ستار، ومن أمامه أحياناً؛ وابتدأ «اللبنانيون- السوريون» بالظهور على السطح، وإعادة ترتيب أوضاعهم، وعاد بعض أهم رجالهم على الإطلاق إلى الواجهة السياسية. وأمام تفاقم الحالة المعيشية والفساد، انتفض اللبنانيون، وتغيّرت الصورة، حتى ابتدأ الجميع بتملّق الحراك وادّعاء ملكيته جزئياً أو كلياً. رفع اللبنانيون شعارات سلمية أيضاً، بالتركيز على الفساد وسوء الأحوال المعيشية، وعمومية الحراك خارج الطوائف، وبشكل جامع لها محصّن ضد الفرقة والتفريق، وقاموا من جهة أخرى بتحييد مسألة اللاجئين السوريين، لقطع الطريق على الطرف الآخر، والإصرار على حكومة من المستقلين خارج النخبة السياسية المعروفة، وعلى برنامج إصلاحي جذري، حصين على الاحتيال والتفخيخ المعتادين.

كذلك ظهرت البصمات السورية الأخرى، وبشكل أكثر صراحة ووضوحاً، ليس من طريق جبران باسيل وحسن نصرالله وحدهما، بل كذلك من خلال تقدم «السوريين» ليلعبوا دوراً مهما للمرة الأولى منذ زمن في تشكيل حكومة حسان دياب العتيدة. ظهرت البصمات السوداء كذلك في طريقة وخبرات استدراج المنتفضين للعنف، وأيضاً في الإرهاب المقنّع الذي يمارس وظيفته بالحرائق والقمع السافر وتفريق الناس، بالترغيب والترهيب، وبالخداع أيضاً. كلّ ذلك، والسوريون في لبنان وكلّ مكان، يضعون أيديهم على قلوبهم، من الحرص والرجاء والخوف، وخشية التأثير السالب على قضيتهم وحالهم.

بعد سيطرة النظام من جديد على مدينة حلب في أواخر عام 2016، ابتدأ مسار آستانة بتحقيق شطره العميق، الذي يربط بين الدول الثلاث المعنية به، وفي سبتمبر/أيلول2017 ظهرت الصورة التاريخية التي تجمع كلاً من رؤساء روسيا وتركيا وإيران وقد اشتبكت أيديهم معلنين ما سُمّي باتفاق خفض التصعيد. وبعد ذلك بقليل: في يناير/كانون الثاني 2018 ابتدأت عملية غصن الزيتون، التي اجتاحت فيها تركيا منطقة عفرين الكردية شمال غرب سوريا، وفي فبراير/شباط قام النظام تحت غطاء روسي بإطلاق قذائف الغاز السام على دوما، لتستسلم القوى المسيطرة في الغوطة الشرقية بعدها كما هو متوقع، ثم انتهى وجود المعارضة المسلحة شمال حمص في مايو/أيار، وتمّت المصالحة بعد تفاوض بين الروس والمعارضة في درعا، لتنتهي بذلك ثلاث مناطق من الأربع التي كان اتفاق خفض التصعيد المزعوم، يهدف إلى تهدئتها بسلام. ولتبقى إدلب وحدها من بين «مناطق خفض التصعيد» بعد ذلك مكشوفةً على احتمالات العواصف، ضمن سياقها المعقد والصعب.

منذ فترة ليست بالقصيرة قبل ذللك الاتفاق، ظهر الاهتمام التركي مركزاً على الخطر الكردي على الأمن القومي، وتراجع الاهتمام بالقضية السورية، بعد فشل المعارضة بتحقيق مكاسب جوهرية تعد بقيام نظام «صديق» في دمشق، ليصبح الهم الكردي وحده محط ذلك الاهتمام وتلك المتابعة، مع الانشغال أيضاً بمسألة اللاجئين، من حيث المبدأ والحمولة والمخاطر اللاحقة على الحاضر الانتخابي والاقتصادي والأيديولوجي، وعلى المستقبل عموماً. أما تركيا وروسيا، فتنشغلان بالقضية السورية على هواهما المشترك، أو هوى كل منهما على انفراد، مع هارموني غامض الملامح. قال أردوغان للصحافيين الذين يرافقونه على الطائرة منذ أيام: «في حال التزمت روسيا باتفاقي سوتشي وأستانة، فإن تركيا سوف تواصل الالتزام بهما. روسيا لم تلتزم حتى الآن بالاتفاقيتين. لم يبق شيء اسمه مسار أستانة. نقول للروس: أوقفوا هذه الهجمات، وإلا فإن صبرنا بدأ ينفد، وسنقوم بما يلزم».

حققت تركيا ما تريد تحقيقه في الشمال شرقه وغربه، وكذلك فعلت روسيا، خصوصاً في الغرب في الساحل وعلى سفح الجبل، وبانتظار استقرار الحال وتكريس الحصاد، هنالك مشاغل أخرى معقدة للطرفين، مع عجز عن مواجهة مشكلة إدلب بشكل حاسم، واكتفاء لم تتبلور عوامله الضامنة بتسهيل فتح طريق دمشق- حلب. وما يجرى على الأرض شمالاً في إدلب وحلب فظيع ومريع، تتقطع له قلوب السوريين على أخوتهم، لا يملكون من الوقود ما ينقلهم وأطفالهم إلى أرض أكثر ثباتاً وأماناً، وأقرب إلى الحدود التركية الموصدة. وما يجري هنالك كفيل بتوليد الإرهاب لأكثر من جيلٍ واحدٍ في الزمن المقبل. في ظلال تلك المأساة الخانقة، وضياع سوريا وزلازل المنطقة، التي خلقت معادلة جديدة بهمة الأسد وشركاه و»خصومه»، تقدم ترامب بما يراه صفقة القرن، مستفيداً وصهره من كلّ خبرتهما الطويلة في بناء وتجارة العقارات، وسمسرة العقارات!

كاتب سوري

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى