مراجعات كتب

“بيتنا مشتعل”.. مسيرة عظيمة لفتاة صغيرة/ سناء عبد العزيز

في كتابها الأخير “بيتنا مشتعل: مشاهد لأسرة وكوكب في أزمة”، تكشف ميلينا إرنمان، مغنية الأوبرا وعضو الأكاديمية السويدية للموسيقى، عن فترة انتقالية عصيبة في حياة ابنتها غريتا تونبرغ، من فتاة تعاني من التوحد، لا تستطيع الكلام ولا حتى تناول الطعام، إلى أصغر ناشطة في العالم وأيقونة في مجال المناخ.  

غريتا تونبرغ .. شخصية العام

ولدت غريتا في يناير/كانون الثاني 2003، والدتها هي مغنية الأوبرا السويدية ميلينا إرنمان ووالدها هو الممثل سفانتي تونبرغ، وفي 2018 ذاعت شهرتها بسبب الإضراب المدرسي الأول للمناخ حين واصلت الجلوس أمام مبنى البرلمان الأوروبي في بروكسل خلال ساعات الدوام المدرسي رافعة شعار “إضراب المدارس للمناخ”. كانت مطالب غريتا واضحة جدا تكشف عن تغلبها التام على مرضها وسلامة صحتها النفسية، فقد انتبهت أننا البشر نواجه أزمة وجودية بسبب التغير المناخي، وأن المسؤول عن تلك الأزمة هو الجيل الحالي من البالغين، وأن التغير المناخي سيكون له تأثير متباين على الشباب. ولهذا دعت تونبرغ السياسيين وصانعي القرار إلى الاستماع إلى العلماء والحد من انبعاثات الكربون وفقا لاتفاقية باريس، فالتفتت إليها الأنظار، وألهمت غيرها من الطلاب للمشاركة في الإضرابات الطلابية في جميع أنحاء العالم. واعتباراً من ديسمبر/كانون الأول 2018، قام أكثر من 20 ألف طالب بتنظيم إضرابات في 270 مدينة على الأقل. كما ألقت كلمة أمام مؤتمر الأمم المتحدة المعني بتغير المناخ ودعيت في يناير/كانون الثاني 2019 للتحدث في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، وفي نفس العام اختارتها مجلة التايمز الأميركية شخصية العام بعد أن تحولت إلى مصدر إلهام لملايين الأطفال والشباب حول العالم والانخراط في الدفاع عن كوكب الأرض. وبهذا أصبحت غريتا أصغر شخصية تختارها المجلة كشخصية للعام منذ أن بدأت هذا التقليد عام 1927.

عقل جميل

تحكي الأم في كتابها الذي نُشر جزء منه في صحيفة الغارديان البريطانية ونال إعجاب القراء حول العالم والذي سيصدر خلال أيام، عن مرحلة استشفاء ابنتها لتصبح ما هي عليه:

“في إحدى أمسيات خريف عام 2014، جلست أنا وسفانتي على أرضية الحمام في ستوكهولم. كان الوقت متأخراً والطفلان كانا نائمين. وكل شيء من حولنا بدأ ينهار.

كانت غريتا في الحادية عشرة من عمرها، وقد بدأت للتو الصف الخامس ولم تكن على ما يرام. تبكي في الليل وهي نائمة، تبكي في طريقها إلى المدرسة، تبكي في الفصل وأثناء فترات الراحة، ويتصل المدرسون بالمنزل كل يوم تقريباً. فيهرع إليها سفانتي ويعيدها إلى المنزل.

لقد كانت تختفي ببطء في نوع من الظلام وشيئاً فشيئاً، بدا أنها توقفت عن العمل. توقفت عن العزف على البيانو. توقفت عن الضحك. توقفت عن الكلام. وتوقفت عن الطعام. جلسنا هناك على أرضية الفسيفساء الصلبة، نعرف بالضبط ما سنفعله. سنغير كل شيء. سنجد طريق العودة إلى غريتا، بغض النظر عن التكلفة. الوضع يستدعي أكثر من الكلمات والمشاعر”.

وهنا قرر الوالدان إنهاء التزاماتهما وفسخ عقودهما وأخذ قسط من الراحة.

الطريق إلى غريتا

في “بيتنا مشتعل” تقول إرنمان:

“تلتقط غريتا الفطيرة وتشمها. تجلس هناك ممسكة بها، تحاول فتح فمها، لكنها… لا تستطيع. ندرك أن هذا لن ينجح. “كلي من فضلك”، ننطق أنا وسفانتي معا في كورس. بهدوء، في البداية. ثم بحزم أكبر. ثم مع كل أوقية من الإحباط المكبوت والعجز.

كانت درجة حرارة جسدها منخفضة ويشير نبضها وضغط الدم بوضوح إلى علامات الجوع. لقد ظللنا حتى النهاية نصرخ، محررين كل خوفنا ويأسنا. “كلي! عليك أن تأكلي، أليس كذلك؟ عليك أن تأكلي الآن وإلا ستموتين!”. فجأة تنطلق غريتا في أول نوبة صراخ مفزعة. كانت تصدر صوتاً لم نسمعه من قبل، أبداً. لقد أطلقت عواءً سحرياً استمر لأكثر من 40 دقيقة، لم نسمع صراخها منذ أن كانت طفلة.

هدهدتها بين ذراعي، وكلبنا مستلق جوارها، أنفه الرطب مضغوط برأسها. وغريتا تسأل، “هل سأتحسن مرة أخرى؟”

“طبعا ستتحسنين”.

“متى؟”

“أنا لا أعرف الآن”.

علاج طويل الأمد

“على ورقة بيضاء مثبتة على الحائط، أخذنا ندون كل شيء تأكله غريتا والمدة التي تستغرقها في أكلها. كانت الكميات ضئيلة وتستغرق وقتا طويلا. لكن وحدة الطوارئ بمركز ستوكهولم لاضطرابات الطعام تقول إن لهذه الطريقة معدل نجاح طويل الأجل. أنت تسجل ما تأكله وجبة بوجبة، ثم تدرج كل ما يمكنك تناوله، والأشياء التي ترغب في تناولها، والأشياء التي ترغب في أن تكون قادراً على تناولها. إنها قائمة قصيرة. الأرز والأفوكادو والجنوكتشي. ستبدأ المدرسة خلال خمس دقائق. لكن لن تكون هناك مدرسة اليوم. لن تكون هناك أي مدرسة طوال هذا الأسبوع. تلقيت أمس أنا وسفانتي بريدا إلكترونيا آخر تعرب فيه المدرسة عن “قلقها” إزاء عدم حضور غريتا، على الرغم من حقيقة أن لديهم عدة خطابات من أطباء وعلماء نفس يشرحون فيها حالتها. مرة أخرى، أبلغ مكتب المدرسة بوضعنا، فيردون عليه بأنهم يأملون أن تذهب غريتا إلى المدرسة كالمعتاد يوم الاثنين حتى يمكن معالجة “هذه المشكلة”. لكن غريتا لن تكون في المدرسة يوم الاثنين. لأنه ما لم يحدث تغيير دراماتيكي مفاجئ، فلا بد من إدخالها إلى مستشفى Sachsska للأطفال الأسبوع القادم. سفانتي يغلي الجنوكتشي. من المهم للغاية أن يكون القوام مثاليا، وإلا فلن يؤكل. نضع عدداً محدداً من الجنوكتشي في طبقها. إنها مسألة موازنة دقيقة؛ إذا قدمنا عدداً أكثر من اللازم، فلن تأكل ابنتنا شيئاً، وإذا قدمنا عدداً أقل من اللازم، فلن تحصل على ما يكفي. من الواضح أن كل ما تبتلعه قليل للغاية، لكن كل لقمة صغيرة لها أهمية ولا يمكننا أن نضيّع واحدة. ثم تجلس غريتا هناك تفرز الجنوكتشي. تقلب كل واحدة منها وتضغط عليها ثم تقوم بذلك مرة بعد مرة. بعد 20 دقيقة تبدأ في الأكل. تلعق وتمص وتمضغ: قضمات صغيرة جدا ولكنها تستغرق وقتا طويلا للغاية.

تقول فجأة “شبعت”. “لا أستطيع أن آكل أكثر من ذلك”.

سفانتي وأنا نتجنب النظر إلى بعضنا البعض. علينا أن نكبح إحباطنا، فقد بدأنا ندرك أن هذا هو الشيء الوحيد الناجح. لقد جربنا جميع التكتيكات الأخرى، كل طريقة أخرى يمكن تصورها، أمرناها بحسم، صرخنا وضحكنا وهددنا وتوسلنا وبكينا وقدمنا كل رشوة يمكن تخيلها، لكن يبدو أن هذا هو الأفضل.

يصعد سفانتي إلى الورقة المثبتة على الحائط ويكتب: الغداء: 5 جنوكتشي. الوقت: ساعتان و10 دقائق. عدم تناول الطعام يمكن أن يعني أشياء كثيرة. السؤال هو ماذا. السؤال هو لماذا. أنا وسفانتي نبحث عن الإجابات. أقضي الأمسيات في قراءة كل شيء يمكن أن أجده على الإنترنت حول مرض فقدان الشهية واضطرابات الطعام، رغم معرفتي بأن ما تعانيه ليس اضطرابات الطعام، أتحدث إلى ما لا نهاية إلى خدمة الطب النفسي للأطفال (BUP)، وخدمة معلومات الرعاية الصحية، والأطباء، وعلماء النفس، وكل مصدر معلومات يمكن أن يكون قادرا على تقديم أقل قدر من المعرفة أو التوجيه. في مدرسة غريتا، طبيبة لديها خبرة في مرض التوحد. كانت تتحدث مع كلينا على الهاتف وتقول إنه لا يزال يتعين إجراء تحقيق دقيق، ولكن في عينيها – وخارج السجل – تظهر غريتا علامات واضحة على وجودها في طيف التوحد”.

تم تشخيص مرض غريتا بمتلازمة أسبرجر، والوسواس القهري والطفرات الانتقائية. وبعد أن فقدت من وزنها حوالي 22 رطلاً في غضون شهرين، نقلت إلى المستشفى.

وعندما عادت إلى المدرسة، تعرضت للتنمر من قبل زملائها في الفصل، ولم يكن مسؤولو المدرسة متعاطفين، وفقا لما ورد في الكتاب. فهمهم للوضع مختلف “إنه خطأ غريتا، هذا ما اعتقدته المدرسة”.

هكذا تروي إرنمان عن ابنتها المعجزة البالغة الآن من العمر 17 عاماً، والتي أصبحت بين يوم وليلة مهتمة بقضايا المناخ وأيقونة إنقاذ الكوكب؛ “لقد رأت ما لم يرد الباقون رؤيته. كان الأمر كما لو كانت تستطيع رؤية انبعاثات ثاني أكسيد الكربون من عينيها المجردتين”.

حصلت غريتا على عدة جوائز لجهودها في إنقاذ الكوكب، فضلاً عن اختيارها شخصية العام 2019، منها جائزة سفير الضمير المرموقة، جائزة رايت ليفيلهوود، دكتوراة فخرية، 100 امرأة على بي بي سي 2019.

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى