أبحاث

أيديولوجيات الزنازين السورية/ طلال المصطفى


عاد الحديث مؤخرًا عن العلمانية والإسلام، في مواقع التواصل الاجتماعي، من قبل بعض العاملين في الحقل السياسي والثقافي السوري، من تعريفِ بعض الإسلاميين السياسيين للعلمانية بأنها نظام الأسد والقذافي، ومن ربطِ حجاب المرأة بالتخلف وغياب العقل والظاهرة غير الحضارية، وجعلِ (داعش) و(النصرة) ممثلين للإسلام، وغير ذلك من قبل بعض العلمانيين.

هذه أمثلة عن نماذج من النقاشات التي تنطلق من خلفية أيديولوجية مسيجة بأسلاك شائكة على نفسها، وعلى الأخريات مسبقًا، وهي عبارة عن أسئلة مكررة من عشرينيات القرن العشرين في سورية وربما من قبل، وكانت مبررة في تلك المرحلة التاريخية: هل العلمانية عدو للدين في نسقه الديني؟ أم أنها تعمل على إزاحته من النسق السياسي أي عن النظام السياسي؟ وهل دعت إلى الإلحاد والكفر؟ أم عملت على إبعاد الدين من التشريع فحسب؟ وهل العلمانية أيديولوجيا واحدة قي دول العالم، كما يتحدث بعض الإسلاميين، أم أن هناك علمانيات متعددة؟ وهل الدين عامل تفكيك ونبذ في المجتمع السوري، كما يدعي بعض العلمانيين؟ أم يمكن أن يكون عامل تضامن وتماسك مجتمعي؟ وهل الإسلام هو (داعش) و(النصرة) و(القاعدة) و(جيش الإسلام)… إلخ؟ أم هو غير ذلك؟ وهل يمكن أن يكون الإسلام دينًا ودولة، كما يرغب بعض ممثلي الإسلام السياسي؟

للإجابة على هذه الأسئلة؛ نحتاج إلى أبحاث ودراسات ومراجع موثقة لا مجال لها في هذا المقال، وبالتالي يمكن تكثيف الإجابة بداية بالقول إن العلمانية في أوروبا وصلت إلى النسق السياسي (الدولة) نتيجة الصراع الدموي بين الكنيسة (النسق الديني) والعلمانيين (النسق السياسي والثقافي). وبعد حروب دينية متعددة وطويلة الأمد؛ تمّ التوصل إلى حل تاريخي على الصعيد الأوروبي، وهو قبول الفصل بين الكنيسة والدولة، أي إبعاد النسق الديني عن النسق السياسي في المجتمعات الأوروبية كافة.

أما في الدول العربية عامة، وسورية خاصة، فقد برزت بعض الأفكار العلمانية القادمة من أوروبا التي لم تخض حروبًا حقيقية مع الدين كما حدث قي أوروبا، ولم تتبنَ تياراتها السياسية الرئيسية، التي برزت في سورية بعد انهيار الدولة الإسلامية العثمانية، الأفكارَ العلمانية الأوروبية بتفاصيلها، وفي الوقت نفسه كانت أيديولوجياتها عابرة للحدود السورية، فالبعث هرب من مواجهة المتطلبات الوطنية السورية، إلى الدعوة السياسية لبناء وطن وهمي (وطن عربي اشتراكي موحد) وكذلك الأمر بالنسبة إلى الحزب القومي الاجتماعي السوري الذي توجه إلى بناء دولة (سورية الطبيعية) وكذلك الشيوعي إلى وطن اشتراكي، وهو يطمح إلى الاندماج في دولة اشتراكية عالمية أممية. وكذلك التيار الإسلامي تطلع إلى بناء أمة إسلامية تجمع مسلمي العالم كافة، بما يكفل العودة إلى أمجاد الخلافة الإسلامية الأولى.

الجامع لهذه الأيديولوجيات أنها عابرة لسورية الوطن، جغرافيًا وسياسيًا، وفي الوقت ذاته مسيجة نفسها بأسلاك شائكة تجاه الأخرى، إضافة إلى نزعتها الشمولية الاستبدادية للسيطرة على أنساق الحياة الاجتماعية كافة: (السياسي، الديني، الاقتصادي، الاجتماعي، التعليمي، الثقافي، الفني، الأخلاقي، حتى ثقافة الطعام واللباس… إلخ).

أما مصدر جاذبية هذه الأيديولوجيات الاستبدادية للمواطنين، كما جاء في كتاب حنة أرنت (أصول الاستبداد) عام 1951، فهو عقيدتها التي توفر إجابات واحدة ومريحة، لكل أسرار الماضي والحاضر والمستقبل.

فالآخر السوري المختلف مع البعث الحاكم في سورية هو: (الإمبريالي، الصهيوني، العميل للخارج، الرجعي، موهن نفسية الأمة العربية، الانفصالي، الطائفي، الإقليمي، العشائري، الإخونجي، وأخيرًا الداعشي الإرهابي) وبالنسبة إلى الشيوعي التقليدي، وبخاصة الجبهوي السوري، الآخر السوري هو: الرأسمالي الليبرالي المتوحش، الانتهازي، التحريفي، المرتد، اللاوطني، العميل الخائن المتخلف الرجعي… إلخ. وبالنسبة إلى الإسلامي السياسي السني والشيعي معًا، وخاصة الجهادي السوري، الآخر السوري هو: (الكافر، المارق، الرافضي، المنافق، المشرك، الملحد، المخالف، وأخيرًا العلماني).

أما الليبرالي فهو الوحيد الذي قبل التعايش، بين مختلف التيارات الأيديولوجية والسياسية، وقد كان مصيره الاجتثاث بانقلاب البعث 1963 بموافقة الأيديولوجيات الاستبدادية السابقة الذكر كافة.

يبني الفكر الاستبدادي، بحسب كارل بوبر، نفسه في النسق الاجتماعي على مسلّمة أساسية، لا بدّ من توفرها من أجل تحقيق سيادة الاستبداد وتأييده، وهي تتمثل في سحق أي إمكانية لانبثاق الفرد بفردانيته الثقافية والسياسية وحتى الشخصية، وذلك من أجل إنتاج أفراد مدجنين يسهل قيادتهم في الاتجاه المناسب للسلطة.

عودة إلى العلمانية التي فهمها البعض على أنها نقيض الدين عامة والإسلامي السني خاصة، وممارستها تقتضي اجتثاث الدين الإسلامي من الوجود الفيزيقي، كما حاولت علمانية الاتحاد السوفيتي سابقًا، استنادًا إلى اعتبار لينين الأيديولوجيا الماركسية سلاحًا عقائديًا تتسلح به الطبقة العاملة، وفشلت في ذلك. أو التي تتجسد بنظام حكم الأسد والقذافي، كما فهمها بعض الإسلاميين السياسيين، وهنا لا بد من التذكير بأن العلمانية لم تكن واحدة في أوروبا والعالم، فالعلمانية الفرنسية فصلت بين الدين والدولة بالمطلق، أما في الولايات المتحدة الأميركية فقد فصلت بين الدين والدولة إداريًا فحسب، وعلى أرض الواقع المعاش لا فصل بين القيم الدينية والحياة السياسية، بينما العلمانية في بريطانيا تم الاعتراف الرسمي بالكنيسة، كدور رمزي في عمل الدولة، وتمارس شعائر دين الدولة في المدارس الحكومية. وهناك العلمانية التركية، التي عملت على بناء علاقات من التعاون بين النسق السياسي والنسق الديني، وبخاصة في مرحلة حكم العدالة والتنمية، وعلمانية الدولة الهندية التي جعلت الدولة حيادية، تجاه أديان وعقائد مواطنيها، وفي الوقت ذاته قدمت الدولة الدعم المتساوي للأديان الموجودة في الهند كافة، أي وقفت الدولة على مسافة واحدة من الأديان كافة.

ما يلحظ من هذه العلمانيات المتعددة، التي صعدت كل واحدة منها ضمن سياق تاريخي اجتماعي وسياسي محدد لكل مجتمع، وما يجمعهما، أنها لا تعطي للدين دورًا أساسًا في النسق السياسي للدولة، إضافة إلى سيادة القانون المدني بشكل متساو على المواطنين كافة. ربما هذا هو المطلوب من العلمانية السورية مستقبلًا.

أما حديث بعض الإسلام السياسي عن علمانية النظام السوري (الأسد الأب والأبن) ففيه شيء من الجهل بفهم العلمانية، أو الإساءة إلى المعارضة السورية الحالية التي لا تتبنى الإسلام السياسي والجهادي في سورية المستقبل.

ربما استند من قال بعلمانية النظام السوري إلى بعض المظاهر الحياتية العامة للمواطن السوري من السماح لمحال بيع الكحول وعدم التدخل بلباس النساء، والسماح بتناول الطعام والتدخين في الأماكن العامة في رمضان… إلخ. أما في مضمون الدستور وقانون الأحوال الشخصية، فإننا نجده بعيدًا كل البعد من العلمانية. من حصر المواطنة الشكلية بالعروبة والإسلام، كما جاء في أدبيات البعث “إن العروبة والإسلام يتكاملان كالجسد والروح، في إطار المواطنة التي ننتمي إليها جميعًا” إلى منع السوري المسيحي من الترشح وتولي منصب الرئيس لسورية، كما جاء في المادة الثالثة في الدستور التي تقول إن دين رئيس الدولة هو الإسلام، وكذلك الأمر بالنسبة إلى قانون الأحزاب الذي يمنع ترخيص أحزاب على أساس ديني أو عرقي أو طائفي، بينما هناك تشريعات أخرى، تسمح بإنشاء مدارس ومعاهد وجامعات وجمعيات، على أساس ديني ومذهبي وطائفي، وخاصة بعد ثورة 2011، حيث مئات الجمعيات المذهبية الشيعية التي انتشرت في كل المدن السورية، التي تقوم بوظيفة أخطر من وجود أحزاب سياسية دينية وطائفية. وبالتالي يمكن توصيف النظام السوري بأنه نظام استبدادي، فحسب، لا هو علماني ولا إسلامي سياسيًا. أيديولوجيته ودستوره الحذاء العسكري فقط.

عبّرت ثورة 2011 السورية عن إرهاصات باتجاه بلورة ثقافة سياسية سورية بحتة، وتكون في الوقت نفسه ذات توجه ديمقراطي يتقبل الآخر بشعارات معروفة للجميع (حرية، كرامة، عدالة، الشعب السوري واحد) بعيدة كل البعد من الأيديولوجيات الشمولية (القومية، الاشتراكية، الإسلامية السياسية) ومن الطوائف والإثنيات والبنى الاجتماعية ما قبل الوطنية، لذلك شعر النظام السوري، والمتضررون من وجود ثقافة وطنية ديمقراطية، بخطورة الثورة، فأسرعوا إلى دعشنتها من خلال وصمها بالأيديولوجيا الجهادية الإرهابية (داعش، النصرة، جيش الإسلام وغيرهم من تنظيمات إسلامية أخرى) وإظهارها كعامل تفكيكي للوطن السوري الواحد، بينما قام هذا النظام ذاته بتأسيس ميليشيات دينية ومذهبية وطائفية (مسيحية، شيعية، علوية، درزية، إسماعيلية… الخ) دفاعًا عمّا يسمى وحدة سورية وعلمانيتها الأسدية.

أخيرًا، لا بد من العودة والتأكيد على شعارات الثورة السورية في أشهرها الأولى، والاعتراف بالآخر السوري (أيديولوجيًا، سياسيًا، دينيًا، قوميًا… الخ) وتأصيلها في ثقافة دولة المواطنة والقانون، من دون إقصاء أحد، فالإشكالية الحقيقية في سورية هي هيمنة الثقافة الاستبدادية في الأنساق الاجتماعية كافة، وليست في الإسلام والعلمانية. جيرون

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى