أبحاث

التاريخ الاجتماعي لسورية القرن العشرين مع محمد جمال باروت

بدر الدين عرودكي

حلّ الباحث السوري محمد جمال باروت المتخصص في التاريخ الاجتماعي والسياسي السوري الحديث، الخميس 2 تموز/ يوليو، ضيفًا على الحلقة الثانية من برنامج “المقهى الثقافي” الذي يعقده مركز حرمون للدراسات المعاصرة، ويديره بدر الدين عرودكي.

اشتملت الحلقة التي حملت عنوان “سورية.. قبيل الانفجار الكبير” على ثلاثة محاور، ناقش أولها مشروع سورية 2025 الذي أشرف عليه صندوق الأمم المتحدة الإنمائي، وشارك فيه وأشرف عليه 264 باحثًا سوريًا؛ وناقش المحور الثاني العقد الأخير في تاريخ سورية قبل الانفجار الكبير؛ فيما سلّط المحور الأخير الضوء على كتاب “التكون التاريخي الحديث للجزيرة السورية”.

تحدث باروت في بداية الحلقة عن مشروع سورية 2025 الذي بدأ عام 2001، وكان من المفترض أن ينتهي عام 2005 مع وضع الخطة التنموية الاقتصادية الاجتماعية العاشرة، لكن أسبابًا كثيرة حالت دون إتمامه. وخلال تلك المدة، عقد القائمون على المشروع أكثر من 40 حلقة حوارية، ضمّت مختصين من مختلف الأطياف السياسية (إسلامية، معارضة، موالية)، وتم إصدار 3 مجلدات و40 بحثًا حملت اسم “دفاتر سورية 2025“، فيما تناول المجلد الرابع التحولات الاجتماعية للتشكيلات الطبقية والاجتماعية. وذكر باروت أنه لم يُنشر أي من هذه المجلدات الأربعة بسبب الخلافات التي أثيرت على مستوى القيادة القطرية وكبار قادة الأجهزة الأمنية، بسبب إشراف الولايات المتحدة على المشروع، في الوقت الذي كان فيه ميلٌ لدى كثيرين إلى الاتحاد السوفياتي. يقول باروت: “حُجزت إنجازات هذا المشروع المسحي الأميركي الكبير في هيئة تخطيط الدولة، وقُرّر عدم نشره، وبعد استمرار النزاعات حوله مدة طويلة، نُشرت التقارير فقط على موقع هيئة تخطيط الدولة، ثم سُحبت في بداية عام 2011، مع انطلاق الثورة السورية”.

وناقش الضيف “التقرير الوطني الثاني لحالة السكان” الذي وُضع عام 2010، وتحدث عن السياسات والاتجاهات التي اتُّبعت في ربع القرن الماضي لمواجهة المشكلة السكانية في سورية، والعلاقة بين السكان والتنمية، ومؤشرات تغير معدل النمو السكاني في سورية، مشيرًا إلى أن هذه المؤشرات ترتبط بما يمكن تسميته بالسيناريوهات. وأضاف: “اعتمدنا في هذا البحث على السيناريو المرجعي أو الامتدادي، بمعنى أن استمرار الوضع على ما هو عليه في الحاضر يمنحنا دلالات حول ماهية الصورة في المستقبل، وفي حال استمرار هذا الاتجاه أو التصور، سيكون المشهد كارثيًا، إذا لم تكن هناك عملية كسر جدّي للسيناريو المرجعي باتجاه سيناريوهات تنموية متكاملة”. وبيّن باروت أن جدلًا كان سائدًا في سورية حول وجود مشكلة سكانية، حيث نفت النخبة السياسية الحاكمة إلى جانب المثقفين اليساريين وجود مشكلة سكانية، إنما هي مشكلة تنمية وسياسات، ولكن مع بدء عام 2000، بدأ الاعتراف بوجود مشكلة سكانية، حيث إن الإحصاءات تشير إلى أن عدد سكان سورية ازداد سنويًا 500 ألف نسمة، ما بين عامي 2000 و 2010، وبلغ معدل النمو السكاني في الفترة نفسها 2.45 نسمة، ويعدّ هذا الرقم من أعلى معدلات النمو السكاني في العالم، حيث كانت سورية في المرتبة 23 عالميًا في معدلات ازدياد النمو السكاني، وهذه الزيادة تضغط على الموارد والثروات”.

وذكر باروت أن أحد أسباب النمو السكاني هو اختلال التوزع الجغرافي للسكان، ما بين المدن الصغيرة والمتوسطة والكبيرة، حيث احتكرت مدينتا دمشق وحلب النسبة الأعلى من إجمالي عدد سكان سورية. وفي هذا السياق، نبّه الضيف إلى أن حركة الاحتجاجات في سورية انطلقت من المدن الصغيرة والمتوسطة الأكثر فقرًا، حيث كانت مدن المنطقة الشرقية تحديدًا تعاني الفقر المدقع. وكانت العشوائيات سببًا آخر للنمو السكاني في سورية، بسبب توسعها وامتدادها على الأراضي القابلة للاستثمار الزراعي، حيث بلغت مساحة العشوائيات عام 2008 حوالي 5000 هكتار.

وأشار باروت إلى أن الأمر الأخطر من كل الأسباب السابقة، هو تدني الخصائص النوعية للسكان وتراجع مستوى التعليم، حيث ارتفع معدل الأمية عام 2005 ووصل إلى 17 بالمئة من إجمالي عدد السكان، وأدى ذلك إلى ما يمكن تسميته بتآكل ثمار التنمية التي حققتها سورية بعد مرحلة الاستقلال.

من جانب آخر، ناقشت الندوة مؤشرات التعارض بين أدوار اللاعبين، على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، التي تخلق بدورها تناقضات ونزاعات اجتماعية ذات آثار سلبية على عملية النمو الاقتصادي والاجتماعي، على الرغم من المحاولات غير المتكاملة لتحديد هذه الأدوار. وأوضح باروت أن المقصود بـ “اللاعبين” القوى الاجتماعية والسياسية المختلفة، مشيرًا إلى وجود سلطة فعلية أو ما يُطلق عليه اليوم “الدولة الخفية” التي تتألف من سلطة أجهزة الأمن، مع مجمل العلاقات التي تبنيها مع القوى الاقتصادية والاجتماعية الأخرى، وسلطة اسمية متمثلة في الوزارات والدوائر الحكومية. ويرى باروت أن معظم الأنظمة الاستبدادية تقوم على العلاقة المتناقضة بين السلطة الفعلية والسلطة الاسمية، وبيّن أن الحالة التسلطية لدى النظام السياسي السوري تجلت في الانتقال إلى الاقتصاد الليبرالي، وإعادة إنتاج فئة جديدة من رجال الأعمال وطبقات اجتماعية جديدة.

في المحور الثاني، تمت مناقشة كتاب “العقد الأخير في تاريخ سورية: جدلية الجمود والإصلاح” الذي يعدّ من أهم الكتب لفهم وتفسير ما حدث في سورية على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وقدّم فيه الكاتب تحليلًا للأسباب التي أدت إلى اندلاع الثورة السورية في آذار/ مارس 2011.

ناقشت الحلقة كذلك إمكانية تحقيق إصلاح سياسي اجتماعي في ظل النظام السياسي السائد في سورية، وأوضح باروت أن استخدام مصطلح “التسلطية المتلبرلة” لا يعني بالضرورة أن عملية التحوّل، من الاقتصاد المركزي التخطيطي، إلى اقتصاد السوق الذي شهد توسعًا كبيرًا في سورية، ستؤدي إلى عملية انتقال وتحول ديمقراطي. وقال: “كان رهاننا على الخطة الخمسية العاشرة 2005 ـــ 2010 التي عُدّت من أهم ما صدر في مجال الأدبيات التنموية في جميع البلدان العربية، وشارك فيها عدد كبير من الخبراء وأصحاب الرأي، واستندت إلى عدد كبير من البيانات والأرقام الموثوقة، وطرحت عملية البناء المؤسسي الذي يحتاج بالضرورة إلى وجود دولة القانون، وناقشنا إمكانية تحقيق هذه الفكرة في ظل وجود نظام تسلطي، ولكن تم تجميد هذه الخطة لصالح برنامج آخر لأحد الخبراء الدوليين يقوم على جذب الاستثمارات في سورية. ومن الضرورة الإشارة إلى أن موضوع الحوكمة وإعادة النظر في بنية النظام السياسية والاجتماعية وتعديل الدستور كانت مطروحة في مشروع سورية 2025”.

وفي المحور الأخير، تطرقت الندوة إلى كتاب “التكون التاريخي الحديث للجزيرة السورية”، الذي يستعرض فيه باروت التاريخ الاجتماعي والسياسي لمنطقة الجزيرة السورية، ويتعقب هذه المنطقة بقبائلها وعشائرها وطوائفها وتحالفاتها، والهجرات إليها، والصراعات التي نشبت فيها أو على أطرافها بين القبائل المختلفة أو بين أبناء الديانات المتنافسة، والموازين الديموغرافية التي استقرت عليها.

وذكر باروت أن إقليم الجزيرة السورية كان قلب بلاد الشام الخصب والمتنوع دينيًا، ولكن الغزوات المغولية والتتارية تسببت في تدمير الجزء الأعظم من الجزيرة السورية، ومع حلول القرن الرابع عشر الميلادي، كانت الجزيرة السورية قد دُمرت وانتهت الحضارة العمرانية والمدنية فيها وانتقلت إلى البداوة. وفي عهد السلطان العثماني عبد الحميد الثاني جرت محاولة إعادة إحياء الجزيرة السورية، ونجح الأمر في القسم المتعلق بالرقة ودير الزور باتجاه بغداد، لكنه فشل في إحياء منطقة الخابور، أي محافظة الحسكة الآن.

وأشار باروت إلى أنه عندما احتل الفرنسيون سورية بعد معركة ميسلون وبدؤوا السيطرة على الجزيرة السورية، كانت البؤر البشرية العمرانية موجودة بشكل محدود في بعض المناطق العليا مثل عامودا، والباقي كان خرابًا ومجالَ عبورٍ للبدو الرحل، سواء كانوا عربًا أم أكرادًا، ولم تكن الجزيرة مأهولة بالسكان العرب أو الأكراد. وقال: “إن عملية إعادة إحياء الجزيرة السورية إبّان الانتداب الفرنسي كانت مذهلة، لا سيّما أنها تمت في أقل من عقد من الزمن، ومن المهم ذكره أنه حتى عام 1947 حصل جميع الذين قدموا إلى الجزيرة على الجنسية السورية، وهذا يدحض مزاعم أصحاب النزعة القومية الكردية المتطرفة المتعلقة بالوجود التاريخي للأكراد في المنطقة، وفي الوقت نفسه لا تتعارض هذه الحقيقة مع مطالب الأكراد التي أراها في إطار إدارة لامركزية واسعة تُمنح فيها كل الحقوق الثقافية والاجتماعية والقانونية، لا حقوق السيادة على الأرض. الشعب السوري هو مجموع الشعوب التي مرت وتمازجت فيه عبر التاريخ وشكلت العروبة بلاطه، بدليل أن 92 بالمئة من المجتمع السوري هم عرب، وبناء على ذلك؛ سيبقى اسم سورية “الجمهورية العربية السورية”، وستبقى في الدستور دولة عربية، لكن حقوق المواطنة السياسية والثقافية والإدارية هي المدخل إلى مسألة حقوق الأكراد، فنحن في سورية ليس لدينا مشكلة كردية، بالمعنى الحقيقي للمشكلة، كما في تركيا والعراق، بل هي مشكلة مصطنعة من قبل بعض القيادات”.

وفي النهاية، ذكر باروت أن التنوع السكاني الذي تتميز به سورية لم يؤثر في تكوين هوية وطنية جامعة طوال السنوات المئة الماضية، بل كان مصدرًا للثراء والتنوع، وأشار إلى أنه عندما تم تشكيل الدولة السورية الحديثة كانت جميع المكونات موجودة في إطار الحكومة، لكن الخوف الأكبر الذي يواجه سورية حاليًا هو انقراض هذا التنوع.

وفي ختام الحلقة، تم نقاش الملاحظات المطروحة حول كتاب “التكون التاريخي الحديث للجزيرة السورية”.

المقهى الثقافي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى