مقالات

في تحية سلمى الخضراء الجيوسي/ صبحي حديدي

تتوفر اليوم، عن دار النشر Routledge في نيويورك، الطبعة الإلكترونية من «أدب الجزيرة العربية الحديثة: أنطولوجيا»، المجلد الضخم (560 صفحة) الذي حرّرته سلمى الخضراء الجيوسي، وصدرت طبعته الأولى سنة 1988 عن Kegan Paul، لندن. وهذا السفر الفريد يضمّ ترجمات مختارة، شعراً ومسرحاً وقصة قصيرة، لـ95 كاتبة وكاتباً من بلدان الخليج العربي، بالإضافة إلى اليمن؛ والطبعة هذه تقترح بعض أبرز الخدمات التي باتت قرينة الإصدرات الإلكترونية، مثل التحويل من النصّ إلى الجهر الصوتي، والطباعة الميسّرة التي تريح البصر، وشرح الكلمات الصعبة أو النادرة.

كذلك باتت تتوفر طبعة إلكترونية من مجلد الجيوسي المكمّل «قصص عربية كلاسيكية»، الذي صدر عن منشورات جامعة كولومبيا سنة 2010، وضمّ نصوصاً سردية كُتبت في أطوار مختلفة من تاريخ الأدب العربي، ابتداء من أحقاب ما قبل الإسلام؛ مصنّفة حسب موضوعات مشتركة، مثل حكايا السلاطين والحكام، والمخاطر والحروب، والقصص الدينية، ونوادر جحا، وطرائف أخرى ساخرة، والغرائب والخوارق، وقصص الحبّ. والمرء ينتظر، بشغف، صدور طبعات إلكترونية مماثلة لأعمال أخرى ليست البتة أقلّ أهمية، أشرفت الجيوسي على تحريرها: «حقوق الإنسان في الفكر العربي»، «المدينة في العالم الإسلامي»، «القصة العربية الحديثة»، «مسرحيات عربية قصيرة»، «تراث إسبانيا المسلمة»، «الدراما العربية الحديثة»، «أنطولوجيا الأدب الفلسطيني الحديث»، «الشعر العربي الحديث: أنطولوجيا».

هي، إذن، مناسبة لتحية الناقدة والشاعرة والمترجمة الفلسطينية، محرّرة هذه الأعمال المرجعية بالغة الأهمية، ذات الفاعلية الثقافية والعلمية والتربوية والموسوعية الفريدة حقاً؛ والتي تتبارى مع أعمالها النقدية المعمقة (خصوصاً كتابها الموسوعي «الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث»، الذي صدر بالإنكليزية أوّلاً، ثم ترجمه الدكتور عبد الواحد لؤلؤة إلى العربية)؛ حيث يرتدي التباري طابع التكامل الأقصى بين النصوص الإبداعية، والحقول البحثية، والأنظمة الدراسية، والسجالات المعرفية التي تتوخى التدقيق والتصويب والمساءلة.

ولست أتوقف عند منجز الجيوسي النقدي إلا وتحضرني مسألة أولى مركزية، بين مسائل أخرى حيوية وعالية القيمة؛ هي نقاش الشعر والنثر، الذي أرى، اليوم أيضاً وأكثر من ذي قبل، أنه يظلّ أحد ألمع إنجازاتها النقدية، وأرفعها بصيرة وبُعد نظر. ذلك أنها كرّست قسطاً واسعاً من كتاباتها لمناقشة قصيدة النثر، وتأطير علاقة هذا الشكل الشعري الوليد بحركات الحداثة والتحديث في الشعر العربي المعاصر، فضلاً عن تدقيق المصطلح ذاته. وكانت، وتظلّ، في طليعة قلّة قليلة تجاوزت التنظير النقدي الغائم، والتهويم اللفظي، والتأتأة الإنشائية، والهروب من مواجهة المشكلات الفنية الفعلية الخاصة بهذه المغامرة الشكلية. وفي الآن ذاته أفلحت الجيوسي في الإفلات من مطحنة المصطلحات المتشابكة، العائمة المتدافعة (مثل «الحدس»، و»التوهج»، و»الكثافة»، و»الموسيقى الداخلية»…)؛ المستقاة، في معظمها، من تنظيرات غربية (فرنسية، أساساً) يُعاد إنتاجها: مقلوبة على رأسها، غالباً!

مواقف الجيوسي اتخذت صفة تركيبية وجدلية منذ البدء، فهي من جهة أولى حضرت في قلب حركة التحديث الإجمالية، وكانت تكتب الشعر الحرّ، أو قصيدة التفعيلة في مصطلحات زماننا؛ ولكنها، من جهة ثانية، لم تكن بعيدة عن مجموعة (وأيضاً: حركة) مجلة «شعر». ولم يكن هذا الموقع وسطياً قلقاً في انتمائه إلى أحد طرفَيْ معادلة التحديث الخمسينية (مجلة «الآداب» وشــعر الالتزام، أو مجلة «شعر» وقصيدة النثر)؛ وكانــــت مواقفها مهادنة ومتسامحة وتعددية، وديمقراطية بهذا المعنى، أتاحت لها أن تتفادى الانضواء في أيّ من الأقصيَيْن: نبذ الشكل الجديد، ورفضه، أو حتى تخوينه سياسياً؛ أو نعي عروض الخليل جملة وتفصيلاً، وإهدار الثروة الوزنية والإيقاعية العربية بأسرها.

ولا يظنّن أحد أنّ هذا الموقف المتوازن، المتزن، كان يسيراً متاحاً في تلك الأحقاب العاصفة الصاخبة، حين كان التيّار الجمالي ينقلب سريعاً إلى حزب وعصبة وعصبية، وإلى برنامج فلسفي وروحي وجمالي وسياسي كونيّ أو يكاد؛ لا يجبّ ما قبله فقط، بل يحاربه ويحرّمه ويُبطله أيضاً. خذوا، مثلاً، ما كتبه أدونيس سنة 1960: «لا يمكن لأيّ عربي أن يعتبر، بعد الآن، شعراً ذا قيمة إلا إذا كان داخلاً بشكل أو بآخر في مجال هذه الرؤيا [أي تنظيرات مجلة «شعر»]، داخلاً بعمق وشخصانية. هذه الرؤيا غذاء، وسيكون خاوياً كلّ شعر عربي مقبل لا يأخذ نصيبه منه»!

كيف كانت الجيوسي تردّ؟ هنا مثال واحد بليغ: «إصدار الأحكام المطلقة في الفنّ مسألة بالغة الخطورة، ولكننا نعرف أنّ أية ثورة كفيلة بدفع أبطالها إلى الحدود القصوى. أوزان الشعر ليست مسألة سهلة وفي متناول الجميع، والعديد من أصحاب الهوى الشعري لا يفلحون في امتلاكها والتمكن منها. ولكن، في المقابل، لا ينبغي لأيّ شيء أن يمنعهم من التعبير عن أنفسهم في الوسيط الوحيد المتبقي لديهم: النثر. ومن المُفقر لأيّ فنّ أن يحصر فضاء تعبيره».

«القابضة على الجمر»، كتبتُ ذات يوم أصف الجيوسي، ضمن ملفّ خصصته لها مجلة «الكاتبة»، في أيلول (سبتمبر) 1994؛ وكنت أستوحي تلك الجمرات/ الصراعات المبكّرة التي خاضــــتها آنذاك هذه السيدة/ المؤسسة الثقافية، وكأنها لم تكن تعيش اليوم وحده، بل تستشرف الغد أيضاً، وتستبصر السنوات والعقود. وأخال أنّ المناسبات كثيرة، متنوعة ومتعاقبة، حيث يُتاح لتلامذة الجيوسي أن يكرّموا منجزها الرفيع، ويتمنوا لها العطاء الثرّ والعافية المستدامة.

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى